حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

مصارع الأصحاب

٢٠١
٢٠٢

وتدافعت جيوش الباطل والضلال وهي مدججة بالسلاح في صفوف كأنها السيل نحو اولئك الصفوة الأحرار الذين وهبوا حياتهم للّه فلم يشغلهم شاغل عن نصرة الحق وازهاق الباطل وقد صمدوا بصبر واخلاص أمام تلك الوحوش الكاسرة فلم ترهبهم كثرتها ، وما تتمتع به من آلات الحرب والقتال ، وقد أبدوا من البسالة والشجاعة مما يدعو إلى الزهو والافتخار ... ونعرض الى مجريات القتال وما رافقها من شهادة اولئك الأبرار.

الهجوم العام :

وشنت قوات ابن سعد هجوما عاما واسع النطاق على اصحاب الامام وخاضوا معهم معركة رهيبة ، وهذه هي الحملة الأولى التي خاضها أصحاب الامام وهي حملة جماعية ضاربة اشترك فيها معسكر الكوفة بكامل قطعاته وقد خاض اصحاب الحسين تلك المعركة بعزم يستمد من العقيدة ، ويشتق من نفس مفطورة على الاخلاص والتضحية دفاعا عن الاسلام وجهادا في سبيل اللّه ، وقد برزت معنويتهم العسكرية للعيان فكانوا يهزمون الجمع ويخترقون الجيش ، وقد اخترقوا جيش ابن سعد عدة مرات بقلوب أقوى من الصخر (١) وقد استشهد نصفهم في هذه الحملة (٢).

__________________

(١) مع الحسين في نهضته (ص ٢٢٠)

(٢) جاء في بحار الأنوار ان عدد المستشهدين من أصحاب الامام في الحملة الأولى خمسون رجلا.

٢٠٣

عدد الضحايا من أصحاب الامام :

أما عدد الضحايا من أصحاب الامام في الحملة الأولى فكانوا واحدا واربعين شهيدا ـ حسبما نص عليه ابن شهر اشوب ـ وهم : نعيم بن عجلان عمران بن كعب بن حارث الأشجعى ، حنظلة بن عمرو الشيباني ، قاسط ابن زهير ، كنانة بن عتيق ، عمرو بن مشيعة ، ضرغامة بن مالك ، عامر ابن مسلم ، سيف بن مالك النميري ، عبد الرحمن الدرجي ، مجمع العائذي حباب بن الحارث ، عمرو الجندعي ، الحلاس بن عمرو الراسبي ، سوار ابن أبي عمير الفهمي ، عمار بن أبي سلامة الدالاني ، النعمان بن عمرو الراسبي ، زاهر بن عمرو مولى بن الحمق ، جبلة بن علي ، مسعود بن الحجاج ، عبد اللّه بن عروة الغفاري ، زهير بن سليم ، عبد اللّه وعبيد اللّه ابنا زيد البصري ، وعشرة من موالي الحسين ومواليان للامام علي (١)

المبارزة بين المعسكرين :

وبدأت المبارزة بين المعسكرين بعد الحملة الأولى فقد برز يسار مولى زياد ، وسالم مولى عبيد اللّه بن زياد ، وطلبا من أصحاب الامام الخروج لمبارزتهما فوثب إليهما حبيب بن مظاهر وبرير فلم يأذن لهما الامام ، وانبرى إليهما البطل الشهم عبد اللّه بن عمير الكلبي (٢) وكان شجاعا شديد المراس فقال الحسين (ع) : احسبه للاقران قتالا ، ولما مثل امامهما سألاه عن نسبه فأخبرهما به فزهدا فيه ، وقالا له : لا نعرفك

__________________

(١) المناقب ٤ / ١١٣

(٢) قيل ان عبد اللّه بن عمير استشهد في الحملة الأولى

٢٠٤

ليخرج إلينا زهير أو حبيب أو برير فثار البطل ، وصاح بيسار :

«يا ابن الزانية أوبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس لا يخرج أحد الا وهو خير منك ..».

وما أروع قوله : «لا يخرج أحد الا وهو خير منك» ان أي أحد من أصحاب الامام هو خير منه ومن ذلك الجيش لانه انما يقاتل على بصيرة من أمره ، وهم يقاتلون ـ على يقين بضلالة قصدهم وانحرافهم عن الطريق القويم.

وحمل الكلبي على يسار فاراده صريعا يتخبط بدمه ، وحمل عليه سالم فلم يعبأ به فضربه الكلبي على بده فاطارت اصابع كفه اليسرى ، ثم اجهز عليه فقتله ، وذعر العسكر من هذه البطولة النادرة ، وبينما هو يقاتل اذ خفت إليه السيدة زوجته أم وهب (١) وفد أخذت بيدها عمودا وهي تشجعه على الحرب قائلة له :

«فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد (ص)».

لقد اشتد انصار الحسين في رعاية الامام وحمايته من دون فرق بين الرجل والمرأة والصغير والكبير.

لقد استبسلوا للقتال بعواطفهم الملتهبة وهاموا بحب الامام والاخلاص له.

ولما رأى الكلبي زوجته تهرول خلفه أمرها بالرجوع الى خيم النساء فأبت عليه ، وبصر بها الامام فاسرع إليها قائلا :

«جزيتم من اهل بيت خيرا ارجعي رحمك اللّه ليس الجهاد على النساء ..».

__________________

(١) السيدة أم وهب هي ابنة عبد اللّه من النمر بن قاسط استشهدت بعد قتل زوجها.

٢٠٥

ورجعت أم وهب الى خيمة النساء وجعل الكلبي يرتجز :

إن تنكروني فأنا ابن الكلب

اني امرؤ ذو مرة وعضب

ولست بالخوار عند النكب (١)

وعرف نفسه بهذا الرجز فهو من بني كلب احدى قبائل قضاعة (٢) كما دلل على بسالته الفائقة وشجاعته النادرة ، وحصافة رأيه ، وصلابة منطقه فهو ليس بخوار ولا بضعيف عند ما تعصف الفتن وانما يقف منها موقف الحازم اليقظ ، وبذلك فقد حدد أبعاد شخصيته الكريمة التي هي في القمة من الأحرار.

هجوم فاشل :

وشنت قوات ابن سعد هجوما شاملا على مخيم أصحاب الامام فتصدوا لها على قلتهم وجثوا لها على الركب وشرعوا لها الرماح فلم تتمكن الخيل على اقتحامهم ، وولت منهزمة ، فرشقهم أصحاب الامام بالنبل فصرعوا رجالا ، وجرحوا آخرين (٣) ومنيت قوات ابن سعد بخسائر فادحة ولم تحقق أي نصر لها.

__________________

(١) المرة : القوة في العقل والدين ، العضب : قوة المنطق وصلابته.

(٢) قضاعة : من قبائل اليمن التي نزحت الى الكوفة

(٣) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٩ ، الارشاد (ص ٢٦٤)

٢٠٦

مباهلة برير ليزيد :

واشتد يزيد بن معقل حليف بني عبد القيس نحو معسكر الامام حتى اذا دنا منه ، رفع صوته ينادي برير بن خضير الهمداني :

«يا برير كيف ترى صنع اللّه بك؟»

فاجابه برير بكل ثقة وايمان :

«واللّه لقد صنع بي خيرا ، وصنع بك شرا ..

أجل لقد صنع للّه ببرير الخير حيث هداه إلى الحق وجعله من انصار ريحانة رسول اللّه (ص) وأما خصمه الباغي اللئيم فأضله وجعله من قتلة أولاد النبيين ، ورد هذا الجلف على برير قائلا :

«كذبت وقبل اليوم ما كنت كذابا ، وأنا اشهد انك من الضالين»

لقد اعترف هذا الدعي بصدق برير قبل هذا اليوم الذي انتصر فيه للحق وفيه ـ حصب ما يزعم ـ يكون كذابا ، ودعاه برير الى المباهلة قائلا :

«هل لك أن أبا هلك أن يلعن اللّه الكاذب منا ويقتل المبطل»

فاستجاب له يزيد ، وتباهلا أمام المعسكرين ثم برز كل منهما للآخر فضرب يزيد بريرا ضربة لم تعمل فيه شيئا ، وانعطف عليه برير فضربه ضربة منكرة قدت المغفر وبلغت الدماغ فسقط الرجس الخبيث صريعا يتخبط بدمه والسيف في رأسه ، ولم يلبث الا قليلا حتى هلك (١) وحمل برير على معسكر ابن سعد وهو مثلوج القلب باستجابة دعائه ، وقد تطلع العسكر بجميع فصائله إلى هذه البطولة النادرة فجعل برير يرتجز :

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٩

٢٠٧

أنا برير وابي خضير

ليس يروع الأسد عند الزأر

يعرف فينا الخير أهل الخير

أضربكم ولا أرى من ضر

وذاك فعل الحر من برير (١)

لقد عرف نفسه الى معسكر ابن سعد كما عرفهم بشجاعته الفذة وانه كالأسد لا يروعه الزأر ، وانما يشتد بها بأسه ، وانه إذ ينزل بهم الضربات القاسية فانه لا يرى في ذلك بأسا ولا اثما.

مصرع برير :

وأخذ برير يقاتل قتال الابطال المستميتين قد امتلأت نفسه ايمانا وعزما وتصميما على الدفاع عن ريحانة رسول اللّه (ص) وهو يهتف بمعسكر ابن سعد قائلا :

«اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا مني يا قتلة ابن بنت رسول رب العالمين» (٢).

وحمل عليه الرجس رضي بن منقذ العبدى فاعتنقه واعترك معه ساعة فتمكن منه برير فجلس على صدره وبينما هو مشغول في الاجهاز عليه إذ حمل عليه الوغد الخبيث كعب بن جابر الأزدي من الخلف لأنه لم يستطع مواجهته فطعنه في ظهره ولما أحسن بالألم هوى على العبدى فعض انفه وقطع طرفه وشد عليه كعب فقتله (٣) وانتهت بذلك حياة هذا المؤمن

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٨٦

(٢) الفتوح ٥ / ١٨٧

(٣) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٢٠٨

العظيم الذي كان من خيار الكوفة وسيد القراء فيها ، وقد عيب على القاتل واحتقره الناس حتى نفرت منه زوجته وحرمت على نفسها الكلام معه وقالت له :

«اعنت على ابن فاطمة وقتلت بريرا سيد القراء ، واللّه لا اكلمك أبدا ..» (١).

ونقم عليه ابن عمه عبيد اللّه بن جابر فقال له : ويلك قتلت بريرا فبأي وجه تلقى اللّه ، وقد ندم الخبيث كأشد ما يكون الندم ، وقد نظم ابياتا ذكر فيها اسفه وحزنه على اقترافه لهذه الجريمة وقد ذكرناها في البحوث السابقة.

شهادة عمرو الأنصاري :

وانبرى إلى ساحات الجهاد والشرف عمرو بن قرظة الأنصاري وهو من افذاذ الأنصار وأحرارهم ، وقد خاض في استبسال معركة الفداء والايمان فجعل يحصد الرءوس ، وينزل الدمار والموت بالأعداء وهو يرتجز :

قد علمت كتيبة الأنصار

اني سأحمي حوزة الذمار

ضرب غلام غير نكس شار

دون حسين مهجتي ودار (٢)

ودلل بهذا الرجز على أنه من حماة الذمار ، واصحاب الامام كلهم موصوفون بهذه الظاهرة فهم نخبة المسلمين في حماية الذمار والحفاظ على العهد ، وأعلن لهم أنه سينزل بهم الضربات القاسية ويحاربهم ببسالة

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٩

(٢) النكس : المنقلب على رأسه ، الشار : المخاصم

٢٠٩

وشجاعة ليذب عن سيده الحسين ويفديه بنفسه ومهجته ، وجعل يقاتل بنية صادقة وعزم ثابت حتى استشهد وسمت روحه الى الرفيق الأعلى ، وكان له أخ من الضالين مع ابن سعد فلما رأى اخاه قتيلا دنا من معسكر الامام واندفع يصيح :

«يا حسين ، يا كذاب ابن الكذاب اضللت أخي حتى قتلته»

ورد عليه الامام.

«ان اللّه لم يضل أخاك ، ولكنه هداه واضلك» (١)

لقد هدى اللّه عمروا وعمّر قلبه بالايمان فجاهد حتى استشهد عن اقدس قضية في الاسلام ، وأما اخوه فقد اضله اللّه وازاغ قلبه فاشترك في أخطر جريمة يقترفها الأشقياء.

رفض الجيش الأموي للمبارزة :

وضاق المعسكر الأموي ذرعا من المبارزة فقد رسم أصحاب الامام صورا رائعة للبطولات ، وقد ضج الجيش من الخسائر الفادحة التي مني بها ، وقد رأى عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من الأعضاء البارزين في قيادة جيش ابن سعد أن الاستمرار في المبارزة سيؤدي إلى هلاك جيشه وذلك لشدة بأس أصحاب الامام وقوة يقينهم واستهانتهم بالموت ، فهتف بجيشه ينهاهم عن المبارزة قائلا :

«يا حمقاء أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر وقوما مستقلين مستميتين ، فلا يبرزن لهم منكم أحد إلا قتلوه. واللّه لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم» (٢).

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٢١٠

ووضعت هذه الكلمات اليد على السمات البارزة من صفات أصحاب الامام واتجاهاتهم وهي :

أ ـ إنهم فرسان اهل المصر بما يملكون من البطولات النادرة وقوة الارادة التي لم تتوفر في جيش ابن سعد.

ب ـ انهم اهل البصائر الذين وعوا الحق وفهموا القيم النبيلة التي رفع شعارها الامام وناضل من اجلها ، فهم يقاتلون على بصيرة وبينة من امرهم ، وليسوا كخصومهم الذين تردوا في الغواية وماجوا في الباطل والضلال.

ج ـ انهم مستميتون في دفاعهم عن الامام (ع) ولا أمل لهم في الحياة.

لقد توفرت فيهم جميع فضائل الانسان من العقل الراجح ، والشجاعة الفائقة والشرف الرفيع والايمان العميق.

يقول المؤرخون : ان ابن سعد قد استصوب رأي ابن الحجاج فاصدر اوامره الى جميع قواته بترك المبارزة مع اصحاب الامام (١).

هجوم عمرو بن الحجاج :

وشن عمرو بن الحجاج هجوما عاما على اصحاب الامام ، والتحموا معهم التحاما رهيبا ، واشتد للقتال كأشد ما يكون القتال عنفا ، وقد تكبد كلا الفريقين بخسائر كبيرة في الأرواح.

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١

٢١١

مصرع مسلم بن عوسجة :

وسقط في المعركة صريعا علم من أصحاب الامام وفذ لامع من انصاره مسلم بن عوسجة ، ومشى لمصرعه الامام ، وكان مسلم يعالج سكرات الموت فدنا منه وقال له :

«رحمك اللّه يا مسلم ، فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ..».

واقترب منه زميله وأخوه في الجهاد حبيب بن مظاهر ، فقال له :

«عزّ علي مصرعك ، يا مسلم ابشر بالجنة»

فقال مسلم بصوت خافت :

«بشرك اللّه بخير»

وانبرى حبيب فقال له :

«لو لا اني اعلم أني في أثرك لا حببت أن توصي إلي بما أهمك»

وعهد إليه مسلم بأعز واخلص ما عنده قائلا :

«أوصيك بهذا ـ وأشار الى الامام ـ ان تموت دونه»

وكانت هذه الكلمات آخر ما تلفظ به (١) لقد كانت هذه هي العظمة حقا بما تحمل من معاني السمو والشرف لدى أصحاب الامام ، لقد كان كل واحد منهم يمثل شرف الانسانية في جميع عصورها ومواطنها.

انه الوفاء الذي ينبض بالايمان الذي لا حد له ، فلم يفكر في تلك اللحظة من حياته بأهله ، أو بأي شأن من شئون الدنيا ، وانما استوعب فكره الحسين فقد اخلص في حبه حتى النفس الأخير من حياته.

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٨٢

٢١٢

وتنفس معسكر ابن سعد بمقتل البطل العظيم مسلم فجعلوا يتباشرون وهم ينادون في شماتة ظاهرة.

«قتلنا مسلما».

وثقل ذلك على شبث بن ربعي فقد كان يعرف مسلما ، ويقدر فضله فخاطب من حوله بتأثر.

«ثكلتكم امهاتكم ، انما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلون أنفسكم لغيركم ، أتفرحون بقتل مثل مسلم؟!! اما والذي اسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين ، فقد رأيته يوم سلق اذربيجان قتل ستة من المشركين قبل ان تنام خيول المسلمين ، أفيقتل مثله وتفرحون؟» (١).

ان اولئك الممسوخين الذين قتلوا هذا البطل العظيم ، انما قتلوا نفوسهم لأنه انما قتل دفاعا عن مصالحهم وحقوقهم التي استهترت بها السلطة الأموية

ويقول المؤرخون : ان مسلما قتل جماعة من عيون المعسكر الأموي منهم ابن عبد اللّه الضبابي وعبد الرحمن بن ابي خشكارة البجلي (٢).

هجوم الشمر :

وهجم الأبرص الخبيث شمر بن ذي الجوشن مع مفرزة من جيشه على ميسرة اصحاب الامام وكانوا اثنين وثلاثين فارسا وقد قاتلوا بضراوة وصبر ، وانزلوا باعدائهم افدح الخسائر فلم يحملوا على جانب من خيل اهل الكوفة الا كشفوه (٣).

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٠ ، تأريخ الطبري ٦ / ٢٤٩

(٢) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٠

(٣) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٠

٢١٣

مصرع عبد اللّه الكلبي :

وجاهد عبد اللّه بن عمير الكلبي جهاد الأبطال ، فكان يضرب بسيفه ذات اليمين واليسار ، وقد قتل فيما يقول المؤرخون تسعة عشر فارسا ، واثني عشر راجلا (١) وقد أصابته جراحات كثيرة فشد عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حي التميمي فقاتلاه (٢) وانتهت بذلك حياة هذا البطل الذي وهب حياته للّه وتفانى في الولاء والاخلاص لريحانة رسول اللّه (ص) وقد انطلقت زوجته السيدة أم وهب تبحث عنه بين جثث القتلى فلما عثرت عليه جلست الى جانبه وهي تبارك له شهادته بايمان واخلاص قائلة :

«هنيئا لك الجنة ، اسأل اللّه الذي رزقك الجنة ان يصحبني معك»

وأخذت تتضرع الى اللّه ان يحشرها معه في الفردوس الأعلى ، وبصر بها الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن الذي يحمل رجس أهل الأرض فأوعز إلى غلامه رستم بقتلها ، فغافلها العبد من الخلف وهشم رأسها بعمود ، فماتت شهيدة في المعركة ، ويقول المؤرخون إنها أول امرأة قتلت من أصحاب الحسين (٣) ومعنى ذلك ان هناك نساء أخرى من نساء أصحاب الامام قد استشهدن في المعركة ، وقد انتهكت بذلك سنن القتال التي كانت سائدة في الجاهلية والاسلام من تحريم قتل النساء والأطفال.

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب ٤ / ٢١٧

(٢) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٠

(٣) تأريخ الطبري ٦ / ٢٥١

٢١٤

استنجاد عروة :

وعروة بن قيس من القادة البارزين في معسكر ابن سعد ، وكان ممن يديرون عمليات الحرب وقد ذهل من بسالة أصحاب الامام وما انزلوه بالجيش من الأضرار البالغة فاستنجد بابن سعد ليمده بالرماة والرجال قائلا :

«ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة ابعث إليهم الرجال والرماة ..».

وطلب ابن سعد من شبث بن ربعي القيام بنجدته فأبى وقال :

«سبحان اللّه شيخ مضر واهل المصر عامة تبعثه في الرماة لم تجد لهذا غيري!!».

وكان شبث بن ربعي يشعر بوخز في ضميره من الخوض في هذه المعركة ، وقد صرح بذلك غير مرة قائلا :

«لا يعطى اللّه أهل هذا المصر خيرا أبدا ، ولا يسددهم لرشد الا تعجبون انا قاتلنا خير اهل الأرض ، نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ضلال يا لك من ضلال ..».

ولما سمع ذلك منه ابن سعد دعا الحصين بن نمير فبعث معه المجففة وخمسمائة من الرماة فأمرهم برشق أصحاب الامام بالسهام ، فسددوا إليهم سهامهم فاصابوا خيولهم فعقروها فصاروا كلهم رجالة ، ولكن لم تزدهم هذه الخسارة الجسيمة إلا استبسالا في القتال واستهانة بالموت فثبتوا كالجبال الشامخات ولم يتراجعوا خطوة واحدة ، وقد قاتل معهم الحر بن يزيد الرياحي راجلا ، واستمر القتال كاعنف وأشد ما يكون ضراوة ، ووصفه المؤرخون بأنه أشد قتال خلقه اللّه ، وقد استمر حتى انتصف النهار (١).

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩١ ، تأريخ الطبري ٦ / ٢٥٠

٢١٥

فتح جبهة ثانية :

ورأى ابن سعد أن وحدة الجبهة في القتال ستكبد جيشه أفدح الخسائر ، وتقضي بطول الوقت وامتداد الحرب ، فرأى أن يفتح جبهة ثانية حتى يسهل القضاء على البقية الباقية من أصحاب الامام فأوعز بتقويض مضارب الامام وبيوته التي كانت محيطة بأصحابه يمينا وشمالا حتى يشتغلوا بالدفاع عنها ، وتضعف بذلك جبهتهم ، وهجمت جنوده فجعلوا يقوضونها فكمن لهم بعض اصحاب الامام فجعلوا يقتلونهم ويعقرون خيولهم ، وباءت هذه الخطة بالفشل الذريع ، ولم تحقق أى نصر لها ، وامر ابن سعد ثانيا بخرق الخيام حتى تهجم خيله عليهم وحاول اصحاب الامام منعهم عن ذلك فنهاهم الامام وقال : دعوهم ليحرقوها فاذا احرقوها فلا يستطيعون أن يجوزوا إليكم ، فكان الأمر كما قال : فقد حالت النار بينهم وبين اصحاب الامام ، وبقيت جبهة القتال واحدة (١).

محاولة الشمر لاحراق حرائر الوحي :

وحمل الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن على فسطاط الامام الذي يضم السيدات من عقائل النبوة وحرائر الوحي ونادى الوغد رافعا عقيرته :

«علي بالنار لأحرقه على اهله»

لقد تردي هذا الانسان الممسوخ في متاهات سحيقة من الخبث واللؤم ومن المؤكد انه ليس في مجرمي الحروب وشذاذ الآفاق مثل هذا المجرم

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩١

٢١٦

في خبث الطوية ولؤم العنصر وخساسة الطبع.

واختطف الرعب قلوب بنات رسول اللّه (ص) وسرت الرعدة بأوصالهن فخرجن من الخيام مذعورات ، وارتفعت اصواتهن بالبكاء ، وخلفهن الصبية والأطفال وهم يعجون بالبكاء ، فكان هول منظرهم مما تذيب له النفوس أسى وحسرات ، والتاع الامام الحسين ، فصاح بالخبيث الدنس :

«أنت تحرق بيتي على اهلي؟ احرقك اللّه بالنار» (١)

ولم ينثن الرجس عن عزمه ، وظل يهتف بجنوده ليوفوه بقبس من النار ليحرق خيام اهل البيت.

انكار حميد بن مسلم :

وانكر على الشمر حميد بن مسلم ، فقد خف إليه بعد ما رأى الذعر والخوف قد استولى على بنات رسول اللّه فقال له :

«ان هذا لا يصلح لك ، أتريد ان تجمع على نفسك خصلتين ، تعذب بعذاب اللّه ، وتقتل الولدان والنساء ، واللّه ان في قتل الرجال لما يرضى به أميرك».

فصاح به الشمر :

«من أنت؟»

وخشي حميد بن مسلم أن يعرفه بنفسه فيوشي به عند ابن زياد فقال له :

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩١

٢١٧

«لا اخبرك من أنا» (١)

وظل الباغي اللئيم مصرا على غيه ليضيف إلى موبقاته جرائم أخرى

توبيخ شبث بن ربعي :

وأسرع إليه شبث بن ربعي فوبخه ، ونهاه فاستجاب له الأثيم على كره وولى ليرجع فحمل عليه زهير بن القين مع عشرة من اصحابه فارغموه على الرجوع ، وقد التحموا مع جنده فقتلوا أبا عزرة الضبابي ، وهو من اسرة الشمر ، وتكاثرت الجيوش على اصحاب الامام فكان إذا قتل احد منهم بان ذلك فيهم لقلتهم الا انه اذا قتل احد من اصحاب ابن سعد لا يبين ذلك فيهم لكثرة عددهم (٢).

انتصاف النهار :

وانتصف النهار وجاء ميقات صلاة الظهر فوقف المؤمن المجاهد ابو ثمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنه ينتظر أعز شيء عنده وهي الصلاة فلما رأى الشمس قد زالت التفت الى الامام قائلا :

«نفسي لنفسك الفداء أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، واللّه لا تقتل حتى اقتل دونك واحب أن القى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها ..».

لقد كان الموت منه على قاب قوسين او ادنى وهو لم يغافل عن

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٨٣

(٢) تأريخ ابن الاثير ٣ / ٢٩١

٢١٨

ذكر ربه ، ولا عن اداء فريضة دينية ، وجميع اصحاب الامام كانوا على هذا الطراز ايمانا باللّه وتفانيا في أداء فرائضه.

ورفع الامام رأسه الى السماء فجعل يتأمل في الوقت فرأى أنه قد حان اداء الفريضة ، فقال لأبي ثمامة :

«ذكرت الصلاة جعلك اللّه من المصلين الذاكرين ، نعم هذا اول وقتها ..».

وامر الامام اصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد ان يكفوا عنهم القتال ليصلوا لربهم ، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلا :

«انها لا تقبل»

فقال له حبيب بن مظاهر بسخرية :

«زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول اللّه (ص) وتقبل منك يا حمار ..»

وحمل عليه الحصين ، فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشبت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه اصحابه فاستنقذوه (١) واستمر القتال ، وقبل ان يؤدي الامام الصلاة قتل جماعة من حماة اصحابه ثم بعد ذلك ادى الفريضة كما سنذكره.

مصرع حبيب :

وحبيب بن مظاهر من المع اصحاب الامام واشدهم اندفاعا في الذود عنه ، فكان عضده وساعده وكان حبيب ممن زكا نفسه وغذاها بالحكمة

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩١

٢١٩

والصواب ، وهو من اصحاب الامام امير المؤمنين ومن شرطة الخميس (١) وكان نافذ البصيرة صلب الايمان ، ويقول المؤرخون : انه كان يوم الطف من اشد اصحاب الامام سرورا وغبطة بما يصير إليه من الشهادة بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص) وقد برز فجعل يقاتل قتال المشتاقين الى مصرعه وهو يرتجز :

انا حبيب وأبي مظهر

فارس هيجاء وحرب تسعر

وانتم منا لعمري اكثر

ونحن اوفى منكم واصبر

ونحن أعلى حجة واظهر

حقا وابقى منكم واعذر (٢)

لقد عرفهم بنفسه الكريمة وبما يتمتع به من الصفات الرفيعة فهو بطل الحرب والفارس المعلم الذي لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، واعلن انه بالرغم من كثافة عدد جيش ابن سعد الا ان اصحاب الامام على قلتهم يمتازون عليهم بالوفاء والصبر وعلو الحجة ، وظهور الحق فيهم فهم بهذه الصفات احق بالخلود واجدر بالبقاء.

وقاتل حبيب قتالا اهونه الشديد ، فقد قتل منهم على شيخوخته فيما يقول بعض المؤرخين اثنين وستين رجلا ، وحمل عليه الرجس الخبيث بديل بن صريم فضربه بسيفه ، وطعنه وغد آخر من تميم برمحه فهوى إلى الأرض ، ورام ان يقوم ليستأنف الجهاد فبادر إليه الحصين بن نمير فعلا رأسه الشريف بالسيف فسقط الى الأرض ونزل التميمي فاحتز رأسه وصعدت تلك الروح الطاهرة الى ربها راضية مرضية وقد هدّ مقتله الحسين ، فوقف على الجثمان العظيم وهو يصعد آهاته واحزانه ويقول :

__________________

(١) معجم رجال الحديث للامام الخوئي ٤ / ٢٢٧

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٢٢٠