حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

الى العراق

٤١
٤٢

أف لهذه الدنيا ، وبعدا لهذه الحياة مثل ابن رسول اللّه (ص) وريحانته تضيق عليه الدنيا ، وتتقاذفه أمواج من الهموم فلا يدري إلى أين مسراه ومولجه ، فقد وافته الأنباء أن الطاغية يزيد قد عهد إلى شرطته باغتياله ، ولو كان متعلقا باستار الكعبة.

لقد أيقن سبط رسول اللّه (ص) أن يزيد لا يتركه وشأنه ، ولا بد أن يسفك دمه وينتهك حرمته وقد أدلى بذلك في كثير من المواطن ، وكان منها :

١ ـ ما رواه جعفر بن سليمان الضبعي انه (ع) قال : «واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة ـ وأشار إلى قلبه الشريف ـ من جوفي فاذا فعلوا ذلك سلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم (١) الأمة.» (٢).

٢ ـ قال (ع) لأخيه محمد بن الحنفية : «لو دخلت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني» (٣).

٣ ـ ما رواه معاوية بن قرة قال : قال الحسين : «واللّه ليعتدن علي كما اعتدت بنو اسرائيل في السبت» (٤).

واستولت الحيرة على الامام واحاطت به موجات من الأسى والشجون وتلبد أمامه الجو بالمشاكل الرهيبة والأحداث المفزعة فهو إن بقي في مكة يخش من الاغتيال وان ذهب إلى العراق فانه غير مطمئن من أهل الكوفة وانهم سيغدرون به ، وقد أدلى بذلك لبعض من شاهده في الطريق

__________________

(١) فرم الأمة : هي خرقة الحيض التي تلقيها النساء.

(٢) تأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٩ ، تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٣

(٣) البحار

(٤) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٣ ، تأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٩

٤٣

حسبما يرويه عنه يزيد الرشك يقول : حدثني من شافه الحسين قال : إني رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض فقلت :

«لمن هذه؟»

«هذه للحسين»

فأتيته ، فاذا شيخ يقرأ القرآن ، والدموع تسيل على خديه ولحيته قلت له : بأبي وأمي يا ابن بنت رسول اللّه ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟ فقال : هذه كتب أهل الكوفة إلي ، ولا أراهم الا قاتلي ، فاذا فعلوا ذلك لم يدعوا للّه حرمة إلا انتهكوها ، فيسلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة (١).

لقد كان متشائما من اهل الكوفة فهو يعلم غدرهم وعدم وفائهم ، وانهم سيكونون إلبا عليه ، ويدا لأعدائه.

وعلى أي حال فانا نعرض لبعض الأحداث التي جرت على الامام في مكة قبل سفره منها ، ونتبين دوافع هجرته إلى العراق وما جرى له فى أثناء سفره.

رسالته لبني هاشم :

ولما صمم الامام على مغادرة مكة إلى العراق كتب هذه الرسالة لبني هاشم ، وقد جاء فيها بعد البسملة :

«من الحسين بن علي إلى أخيه محمد ، ومن قبله من بني هاشم ،

__________________

(١) تأريخ الاسلام للذهبي ٢ / ٣٤٥ ، تأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٩ تذهيب التهذيب ١ / ١٥٦ ، تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٣ ، الدر النظيم (ص ١٦٧).

٤٤

أما بعد : فانه من لحق بي منكم استشهد ، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام.» (١).

لقد أخبر (ع) الأسرة النبوية بأن من لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة ومن لم يلحق به فانه لا ينال الفتح فأي فتح هذا الذي عناه الامام؟

انه الفتح الذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وابطال التأريخ ، فقد انتصرت مبادئه ، وانتصرت قيمه وتألقت الدنيا بتضحيته ، وأصبح اسمه رمزا للحق والعدل ، واصبحت شخصيته العظيمة ليست ملكا لأمة دون امة ولا لطائفة دون أخرى ، وانما هي ملك للانسانية الفذة في كل زمان ومكان فأي فتح أعظم من هذا الفتح ، وأي نصر أسمى من هذا النصر؟

التحاق بني هاشم به :

ولما وردت رسالة الامام إلى بني هاشم في يثرب بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص) وكان فيهم أبناء عمومته واخوته (٢) كما سافر معهم محمد بن الحنفية ليصد الامام عن السفر إلى العراق إلا انه لم يستجب له ، وقد ذكرنا حديثه في البحوث السابقة.

__________________

(١) كامل الزيارات (ص ٧٥) دلائل الامامة (ص ٧٧)

(٢) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧١ من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين.

٤٥

أسباب الهجرة من مكة :

أما بواعث هجرة الامام من مكة ، وخروجه إلى العراق بهذه السرعة فهي ـ فيما نحسب تعود إلى ما يلي :

١ ـ الحفاظ على الحرم

وخاف الامام على انتهاك بيت اللّه الحرام الذي من دخله كان آمنا فان بني أمية كانوا لا يرون له حرمة فقد عهد يزيد الى عمرو بن سعيد الأشدق أن يناجز الامام الحرب ، وان عجز عن ذلك اغتاله ، وقدم الأشدق في جند مكثف إلى مكة ، فلما علم الامام خرج منها (١) فلم يعتصم بالبيت الحرام حفظا على قداسته يقول (ع) : «لأن أقتل خارجا منها ـ أي من مكة ـ بشبر أحب إلي» ويقول (ع) لابن الزبير :

«لئن أقتل بمكان كذا وكذا احب إلي من أن تستحل ـ يعني مكة ـ» (٢) وقد كشفت الأيام عدم تقديس الأمويين لهذا البيت العظيم ، فقد قذفوه بالمنجنيق وأشعلوا فيه النار عند ما حاربوا ابن الزبير ، كما استباحوا المدينة قبل ذلك .. لقد تحرج الامام كأشد ما يكون التحرج على قداسة بيت اللّه من أن تنتهك حرمته ، فنزح عنه لئلا تسفك فيه الدماء.

٢ ـ الخوف من الاغتيال

وخاف الامام من الاغتيال في مكة أو يقع غنيمة باردة بايدي الأمويين

__________________

(١) مرآة الزمان (ص ٦٧) من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين.

(٢) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٦

٤٦

فقد دس إليه يزيد شرطته لاغتياله ، يقول عبد اللّه بن عباس في رسالته ليزيد : «وما انس من الأشياء فلست بناس اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللّه (ص) إلى حرم اللّه ودسك إليه الرجال تغتاله فاشخصته من حرم اللّه إلى الكوفة فخرج منها خائفا يترقب وقد كان أعز أهل البطحاء بالبطحاء قديما واعز أهلها بها حديثا ، واطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالا» (١).

٣ ـ رسالة مسلم

ومما دعا الامام إلى الخروج من مكة رسالة سفيره مسلم بن عقيل التي تحثه على السفر إلى العراق ، وقد جاء فيها أن جميع أهل الكوفة معه وان عدد المبايعين له يربو على ثمانية عشر الفا ... هذه بعض الأسباب التي حفزت الامام على الخروج الى العراق ، وان من أوهى الأقوال القول بأن خروجه من مكة كان راجعا إلى وجود ابن الزبير فيها ، فان ابن الزبير لم تكن له أية أهمية حتى يخرج الامام منها ، وانما الأسباب التي ألمعنا إليها فقد أصبحت مكة لا تصلح لأن تكون مركزا للحركات السياسية بعد أن أصبحت مهددة بغزو الجيوش الأموية لها.

خطابه في مكة :

ولما عزم الامام على مغادرة الحجاز والتوجه الى العراق أمر بجمع الناس ليلقي عليهم خطابه التاريخي ، وقد اجتمع إليه خلق كثير في المسجد الحرام من الحجاج وأهالي مكة فقام فيهم خطيبا فاستهل خطابه بقوله :

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٢١

٤٧

«الحمد للّه وما شاء اللّه ، ولا قوة إلا باللّه ، وصلى اللّه على رسوله خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى اسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة (١) بين النواويس وكربلا ، فيملأن مني اكراشا جوفا ، واجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضا اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ، ويوفينا أجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول اللّه (ص) لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقربهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان فينا باذلا مهجته ، موطنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فاني راحل مصبحا ان شاء اللّه تعالى» (٢).

لا أعرف خطابا ابلغ ولا اروع من هذا الخطاب فقد حفل بالدعوة إلى الحق والاستهانة بالحياة في سبيل اللّه ، وقد جاء فيه هذه النقاط :

١ ـ انه نعى نفسه ، ورحب بالموت ، واعتبره زينة للانسان كالقلادة التي تتزين بها جيد الفتاة ، وهذا التشبيه من اروع وابدع ما جاء في الكلام العربي. ومن الطبيعي ان الموت الذي يتحلى به الانسان انما هو الموت في سبيل اللّه والحق.

٢ ـ انه اعرب عن شوقه البالغ إلى اسلافه الطيبين الذين استشهدوا في سبيل اللّه ، وقد كان شوقه إليهم كاشتياق يعقوب إلى يوسف حسب ما يقول :

٣ ـ انه اخبر ان اللّه تعالى قد اختار له الشهادة الكريمة ، والميتة المشرفة دفاعا عن الحق وذودا عن الاسلام.

__________________

(١) عسلان الفلاة : ذئاب الفلاة.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١١٧ ، مفتاح الافكار (ص ١٤٨) كشف الغمة ٢ / ٢٤١.

٤٨

٤ ـ انه اعلن عن البقعة الطيبة التي يسفك على صعيدها دمه الزاكي وهي ما بين النواويس وكربلا ، فبها تتقطع اوصاله ، وتتناهب الرماح جسمه الشريف.

٥ ـ انه اخبر ان الذئاب الكاسرة من وحوش بني أميّة واذنابهم لا يقر لهم قرار حتى تمتلئ اكراشهم من لحمه ودمه ، وهو كناية عن تسلطهم على الأمة بعد قتله ، فيمنعون في نهب ثروات الأمة وخيراتها.

٦ ـ واخبر عليه السلام ان ما يجرى عليه من الخطوب والأهوال امر لا محيص عنه ، فقد خط عليه بالقلم وجرى في علم اللّه ، وليس من الممكن بأي حال من الأحوال تبديل او تغيير ما كتبه اللّه عليه.

٧ ـ أعلن ان اللّه تعالى قد قرن رضاه برضا اهل البيت ، وقرن طاعته بطاعتهم ، وحقا ان يكون ذلك فهم دعاة دين اللّه والادلاء على مرضاته وتحملوا من الأهوال التي لا توصف في سبيله.

٨ ـ انه تحدث عن نزعة كريمة من نزعات اهل البيت (ع) وهي الخلود إلى الصبر ، والتسليم لأمر اللّه على ما يجرى عليهم من عظيم المحن والخطوب ، وان اللّه تعالى قد اجزل لهم الثواب ووفاهم بذلك اجور الصابرين.

٩ ـ واخبر (ع) ان الواقع المشرق لأهل البيت انما هو امتداد ذاتي لواقع الرسول الأعظم (ص) فهم لحمته وفرعه والفرع لا يختلف عن اصله ، وسوف تقر عين النبي (ص) في حضيرة القدس بعترته التي سهرت على اداء رسالته وجاهدت كاعظم ما يكون الجهاد في الذود عن دينه.

١٠ ـ انه دعا المسلمين الى الخوض معه في ساحات الجهاد ، وان من ينطلق معه فقد بذل مهجته ووطن نفسه على لقاء اللّه.

٤٩

وهذه النقاط المشرقة في خطابه دلت على انه آيس من الحياة وعازم على الموت ، ومصمم على التضحية ولو كان يروم الملك لما عرض لذلك وكان عليه ان يقدم الوعود المعسولة ، والآمال البراقة لمن يسير معه.

ولم يستجب لنداء الامام أحد من اهالي مكة ، ولا احد من الحجاج الذين سمعوا خطابه سوى نفر يسير من المؤمنين. وهذا مما يكشف عن قلة الوعي الديني ، وتخدير المجتمع ، وانحرافه عن الحق.

اتمام العمرة :

ولما عزم الامام على مغادرة مكة احرم للعمرة المفردة فطاف بالبيت وسعى وقصر وطاف طواف النساء ، واحل من عمرته ، وذكر الشيخ المفيد ان الامام الحسين لما أراد التوجه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل من احرامه وجعلها عمرة لأنه لم يتمكن من اتمام الحج مخافة أن يقبض عليه بمكة فينفذ به إلى يزيد (١) وهذا لا يخلو من تأمل فان المصدود عن الحج يكون احلاله بالهدي حسبما نص عليه الفقهاء لا بقلب احرام الحج إلى عمرة فان هذا لا يوجب الاحلال من احرام الحج ، أما ما ذكرناه فتدعمه روايتان ذكرهما الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة في كتاب الحج في «باب انه يجوز أن يعتمر في أشهر الحج عمرة مفردة ، ويذهب حيث شاء».

أما الروايتان فهما :

١ ـ رواها ابراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد اللّه (ع) أنه سئل عن رجل خرج في اشهر الحج معتمرا ثم خرج إلى بلاده قال : لا بأس

__________________

(١) الارشاد (ص ٢٤٣) وذكر ذلك الشيخ الطبرسي في اعلام الورى

٥٠

وان حج من عامه ذلك وأفرد الحج فليس عليه دم ، وان الحسين بن علي (ع) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمرا.

٢ ـ رواها معاوية بن عمار قال : قلت لأبي عبد اللّه : من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال (ع) : ان المتمتع مرتبط بالحج ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء ، وقد اعتمر الحسين (ع) في ذي الحجة ثم راح يوم التروية إلى العراق ، والناس يروحون إلى منى ، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجة لمن لا يريد الحج (١) وهذه الرواية نص فيما ذكرناه.

الخروج قبل الحج :

والشيء الذي يدعو إلى التساؤل هو ان الامام (ع) قد غادر مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة وهو اليوم الذي يتأهب فيه الحجاج للخروج إلى عرفة فلما ذا لم يتم حجه؟ وفيما أحسب أن هناك عدة عوامل دعته إلى الخروج من مكة بهذه السرعة وهي :

١ ـ ان السلطة قد ضايقته مضايقة شديدة حتى اطمئن انها ستفتح معه باب الحرب أو تغتاله وهو مشغول في اداء مناسك الحج ، وتستحل بذلك حرمة الحج ، كما تضيع أهدافه المقدسة التي منها تحرير الأمة تحريرا كاملا من الذل والعبودية.

٢ ـ انه اذا لم تناجزه السلطة أيام مناسك الحج ، فانها حتما ستناجزه الحرب بعدها فيصبح في مكة اما مقاتلا أو مقتولا وفي كلا الأمرين سفك للدماء في البيت الحرام وفي الشهر الحرام فغادر مكة حفاظا على المقدسات الاسلامية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٥١

٣ ـ ان خروجه في ذلك الوقت الحساس كان من أهم الوسائل الإعلامية ضد السلطة في ذلك العصر فان حجاج بيت اللّه الحرام قد حملوا إلى أقطارهم نبأ خروج الامام في هذا الوقت من مكة وهو غضبان على الحكم الأموي ، وانه قد أعلن الثورة على يزيد ، ولم يبق في مكة صيانة للبيت الحرام من أن ينتهك على أيدي الأمويين .. هذه بعض الأسباب التي حفزت الامام على الخروج قبل اتمام حجه.

مع ابن الزبير :

ولما علم ابن الزبير بمغادرة الامام إلى العراق خف إليه يسأله عن مسألة لم يهتد إليها فقال له :

«يا بن رسول اللّه لعلنا لا نلتقي بعد اليوم ، فأخبرني متى يرث المولود ويورث؟ وعن جوائز السلطان هل تحل أم لا؟»

فاجابه (ع) «أما المولود فاذا استهل صارخا .. وأما جوائز السلطان فحلال ما لم يغصب الأموال» (١).

ولم تكن عند ابن الزبير أية بضاعة فقهية فراح يستفتي الامام في مثل هذه الأمور الواضحة ، والغريب انه مع هذا الحال كيف يتصدى لامامة المسلمين وخلافتهم؟!!

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٦٧) من مخطوطات مكتبة امير المؤمنين.

٥٢

السفر إلى العراق :

وقبل أن يغادر الامام مكة انطلق إلى البيت الحرام فأدى له التحية بطوافه وصلاته ، وكان ذلك هو الوداع الأخير له وأدي فيه فريضة صلاة الظهر ثم خرج مودعا له (١) لقد انطلق الحسين مودعا الكعبة حاملا روحها بين جنبيه وشعلتها بكلتا يديه.

تواكبه الملائك وتباركه وتطيف به كأنها حذرة عليه ...

فانه البقية من ارث السماء على الأرض (٢).

لقد نزح عن مكة خائفا من حفيد أبي سفيان ، كما نزح عنها جده الرسول (ص) خوفا من المشركين بزعامة أبي سفيان ، وقد صحبه اثنان وثمانون رجلا من أهل بيته وخاصته ومواليه (٣) كما صحب معه السيدات من مخدرات الرسالة وعقائل النبوة .. لقد خرج الامام وهو يحمل معه التحرير الكامل للأمة الاسلامية يريد أن يقيم في ربوعها حكم القرآن ، وعدالة السماء ويرد عنها كيد المعتدين.

وكان خروجه فيما يقوله أكثر المؤرخين في اليوم الثامن من ذي الحجة

__________________

(١) جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين.

(٢) الامام الحسين (ص ٥٥٧)

(٣) دائرة المعارف للبستاني ٧ / ٤٨ ، وسيلة المال في عد مناقب الآل (ص ١٨٨) وفي تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧١ وخرج متوجها إلى العراق في أهل بيته وستين شيخا من أهل الكوفة ، وفي تاريخ الاسلام للذهبي ١ / ٣٤٣ فسار من مكة وخف معه من بني عبد المطلب تسعة عشر رجلا ونساء وصبيان.

٥٣

سنة ستين من الهجرة (١) وقد خيم الأسى على أهل مكة فلم يبق أحد إلا حزن لخروجه (٢) ... وانفصل الركب عن مكة ، فلم ينزل الامام منزلا إلا حدث أهل بيته عن مقتل يحيى بن زكريا (٣) متنبئا بما سيجرى عليه من القتل كما جرى على يحيى.

ملاحقة السلطة له :

ولم يبعد الامام كثيرا عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد ، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصد الامام عن السفر إلى العراق ، وجرت بينهما مناوشات ، وقد عجزت الشرطة عن المقاومة (٤) وكان ذلك الاجراء فيما نحسب صوريا ، فقد خرج الامام في وضح النهار من دون أية مقاومة تذكر ... لقد كان الغرض من ارسال هذه المفرزة العسكرية ابعاد الامام عن مكة ، والتحجير عليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه بسهولة ، وأكد ذلك الدكتور عبد المنعم ماجد بقوله :

__________________

(١) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٦ ، دائرة المعارف للبستاني ٧ / ٤٨

(٢) الصواعق المحرقة (ص ١١٨) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٨٦).

(٣) نظم در السمطين (ص ٢١٥)

(٤) ابن الأثير ٣ / ٢٧٦ ، البداية والنهاية ٨ / ١٦٦ ، وجاء في سمط النجوم ٣ / ٥٧ ، وفي جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب (ص ١٣٣) ان عمرو بن سعيد لما بلغه خروج الحسين من مكة قال لشرطته : اركبوا كل بعير بين السماء والأرض في طلبه ، وكان الناس يتعجبون من قوله فطلبوه فلم يدركوه.

٥٤

«ويبدو لنا أن عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جدية لمنع الحسين من الخروج من مكة إلى الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله ، بل لعله قدر سهولة القضاء عليه في الصحراء بعيدا عن انصاره ، بحيث ان بني هاشم فيما بعد اتهموا يزيد بأنه هو الذي دس إليه الرجال حتى يخرج.» (١).

اتصال دمشق بالكوفة :

وكانت دمشق على اتصال دائم بالكوفة ، كما كانت على علم بجميع تحركات الامام ، وقد اضطربت من فشل المؤامرة التي دبرتها لاغتياله في مكة ونزوحه إلى العراق ليتولى بنفسه قيادة الثورة التي عهد بشئونها إلى سفيره مسلم بن عقيل ... وقد صدرت من يزيد عدة رسائل إلى حاكم الكوفة الطاغية ابن زياد ، وهي تضع له المخططات الرهيبة التي يسلكها وتأمره بالحزم امام الاحداث التي تعترض طريقه ، ومن بين هذه الرسائل.

١ ـ كتب يزيد هذه الرسالة إلى ابن زياد بعد ما خرج الامام من مكة وقد جاء فيها «أما بعد عليك بالحسين بن علي لا يفوت بادره قبل أن يصل الى العراق» (٢).

ومنطق هذه الرسالة الزام السلطة بالكوفة المبادرة التامة لقتال الحسين في الصحراء قبل أن يصل إلى العراق ، وعدم التماهل في ذلك.

__________________

(١) التاريخ السياسي للدولة العربية ٢ / ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) المناقب والمثالب للقاضى نعمان المصري.

٥٥

٢ ـ وقد جاء فيها «أما بعد : فقد بلغني أن حسينا قد سار إلى الكوفة ، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان وبلدك من بين البلدان ، وابتليت به أنت من بين العمال ، وعندها تعتق أو تعود عبدا كما يعتق العبيد» (١).

وتحمل هذه الرسالة طابعا من القسوة والشدة ، فقد انذر فيها يزيد عامله ابن زياد فيما إذا قصر في مهمته ، ولم يخلص في حربه للحسين أن يفصم التحاقه ببني أمية ، ويعود إلى جده عبيد الرومي فيكون عبدا كسائر العبيد يباع ويعتق .. وقد اعلن ابن زياد ـ فور وصول هذه الرسالة إليه ـ الأحكام العرفية ، واغلق جميع الحدود العراقية فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام ، وإلى طريق البصرة ، فلم يدع أحدا يلج إلى صحراء العراق ولا أحدا يخرج منه (٢) كما شكل قطعات من الجيش تجوب في العراق للتفتيش عن الامام الحسين ، ومن بينها الكتيبة العسكرية التي تضم زهاء الف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، وهي التي أرغمت الامام على النزول في كربلا ، وصرفته من التوجه إلى بلد آخر.

٣ ـ وعهد يزيد إلى ابن زياد أن يجزل بالعطاء إلى الزعماء والوجوه وغيرهم حتى يستميل ودهم ، وهذا نص رسالته.

«أما بعد : فزد أهل الكوفة أهل السمع والطاعة في اعطياتهم مائة مائة» (٣) واغدق ابن زياد الأموال على الأعيان والوجوه فاستمالهم لحرب ابن رسول اللّه.

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٢ ، تاريخ الاسلام الذهبي ١ / ٣٤٤ المعجم الكبير للطبراني ، كفاية الطالب ، جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب.

(٢) أنساب الأشراف ق ١ ج ١

(٣) أنساب الأشراف ق ١ ج ١

٥٦

موقف الأمويين :

أما موقف الأمويين ازاء تحرك الامام ، ومغادرته الحجاز إلى العراق فقد كان مضطربا فطائفة منهم كانت تحب العافية ، وتخاف عواقب الأمور وتخشى على الامام أن يناله ابن زياد بمكروه فيكون ذلك سببا لزوال ملكهم وطائفة كانت تخاف على العرش الأموي ، وتحذر من ذهاب الملك منهم وترى ضرورة البطش بالامام ومقابلته ليسلم لهم الملك والسلطان ، أما الطائفة الأولى فيمثلها الوليد بن عتبة ، وأما الثانية فيمثلها عمرو بن سعيد الأشدق ، وقد كتب كل منهما رسالة لابن زياد تمثل رأيه واتجاهه.

١ ـ رسالة الوليد بن عتبة

وليس في بني أمية مثل الوليد بن عتبة في اصالة رأيه وعمق تفكيره فقد فزع حينما علم بمغادرة الامام للحجاز وتوجهه إلى الكوفة ، وهو يعلم بغرور يزيد وطيش ابن زياد ، فرفع رسالة الى ابن زياد يحذره فيها من أن ينال الامام بمكروه فان ذلك يعود بالاضرار البالغة على بني أمية ، وهذا نص رسالته :

«من الوليد بن عتبة إلى عبيد اللّه بن زياد ، أما بعد : فان الحسين ابن علي قد توجه نحو العراق ، وهو ابن فاطمة ، وفاطمة بنت رسول اللّه (ص) فاحذر يا بن زياد من أن تبعث إليه رسولا فتفتح على نفسك ما لا تختار من الخاص والعام والسلام ..».

ولم يعن به ابن زياد ، وانما مضى سادرا في غيه وطيشه مطبقا لما عهدت إليه حكومة دمشق (١).

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٢١ ـ ١٢٢

٥٧

اشتباه ابن كثير :

واشتبه ابن كثير فزعم أن مروان كتب لابن زياد ينصحه بعدم التعرض للحسين ، ويحذره مغبة الأمر ، ورسالته التي بعثها إليه تضارع رسالة الوليد السابقة مع بعض الزيادة عليها وهذا نصها :

«أما بعد : فان الحسين بن علي قد توجه إليك ، وهو الحسين ابن فاطمة. وفاطمة بنت رسول اللّه (ص) وتاللّه ما أحد يسلمه اللّه أحب إلينا من الحسين ، فاياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ، ولا تنساه العامة ، ولا تدع ذكره آخر الدهر والسلام» (١).

ان من المقطوع به ان هذه الرسالة ليست من مروان فانه لم يفكر بأي خير يعود للأمة ، ولم يفعل في حياته أي مصلحة للمسلمين ، يضاف إلى ذلك مواقفه العدائية للعترة الطاهرة وبالأخص للامام الحسين فهو الذي أشار على حاكم المدينة بقتله ، وحينما بلغه مقتل الامام أظهر الفرح والسرور فكيف يوصي ابن زياد برعايته والحفاظ عليه؟

٢ ـ رسالة الاشدق

وأرسل إلى ابن زياد عمرو بن سعيد الاشدق رسالة يأمره فيها بأن يتخذ مع الامام جميع الإجراءات الصارمة ، وقد جاء فيها :

«أما بعد : فقد توجه إليك الحسين ، وفي مثلها تعتق أو تكون عبدا تسترق كما تسترق العبيد» (٢).

__________________

(١) تأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٥

(٢) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧١

٥٨

مصادرة أموال ليزيد :

ولم يبعد الامام كثيرا عن مكة حتى اجتازت عليه وهو في «التنعيم» (١) قافلة من العير تحمل ورسا (٢) وحللا كثيرة أرسلها والي اليمن. بجير بن يسار إلى الطاغية يزيد فأمر الامام بمصادرتها ، وقال لأصحاب الابل من أحب منكم أن ينصرف معنا إلى العراق أوفينا كراءه واحسنا صحبته ، ومن أحب المفارقة أعطيناه من الكراء على ما قطع من الأرض ، ففارقه بعضهم بعد أن استوفى كراءه ، ومضى في صحبته من أحب منهم (٣) وقد انقذ الامام هذه الأموال من أن تنفق على موائد الخمور ، وتدعيم الظلم ، والإساءة إلى الناس ، وقد تقدم أن الامام قام بنفس هذه العملية أيام معاوية ، وقد ذهب آية اللّه المغفور له السيد مهدي آل بحر العلوم إلى عدم صحة ذلك ، فان مقام الامام أسمى وأرفع من الاقدام على مثل هذه الأمور (٤) والذي نراه أنه لا مانع من ذلك اطلاقا فان الامام كان يرى الحكم القائم في أيام معاوية ويزيد غير شرعي ، ويرى أن أموال المسلمين تنفق على فساد الأخلاق ونشر العبث والمجون فكان من الضروري انقاذها لتنفق على الفقراء والمحتاجين وأي مانع شرعي أو اجتماعي من ذلك؟

__________________

(١) التنعيم : موضع بمكة في الحل يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة ، وقيل اربعة ، سمي بذلك لأن جبلا عن يمينه يقال له نعيم ، وآخر عن شماله يقال له ناعم ، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ / ٤٩.

(٢) الورس : نوع من الثياب الحمر

(٣) تأريخ الطبري ٦ / ٢١٨ ، البداية والنهاية ٨ / ١٦٦

(٤) رجال بحر العلوم ٤ / ٤٨

٥٩

مع الفرزدق :

ولما انتهى موكب الامام إلى موضع يسمى «بالصفاح» (١) التقى الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب بالامام ، فسلم عليه وحياه ، وقال له :

«بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه (ص) ما اعجلك عن الحج» «لو لم اعجل لأخذت» (٢)

وبادره الامام قائلا :

ـ من أين أقبلت يا أبا فراس (٣)؟

ـ من الكوفة

ـ بين لي خبر الناس

ـ على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أمية

__________________

(١) الصفاح : موضع بين حنين وانصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش ، وقد نظم الفرزدق التقاءه بالامام في هذا المكان بقوله :

لقيت الحسين بأرض الصفاح

عليه اليلامق والدرق

جاء ذلك في معجم البلدان ٣ / ٤١٢ ، وفي تذكرة الحفاظ للذهبي ان ملاقاة الامام مع الفرزدق كانت بذات عرق ، وفي مقتل الخوارزمي ان الملاقاة كانت في (الشقوق) وفي اللهوف (ص ٤١) انها في «زبالة) والصحيح انها كانت في الصفاح لنظم الفرزدق ذلك.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٦٧

(٣) فراس : بكسر الفاء وتخفيف الراء

٦٠