حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

«تقدم يا أخي حتى اراك قتيلا واحتسبك» (١)

واستجابت الفتية الى نداء الحق ، فتقدموا الى الجهاد بعزم واخلاص

قول رخيص :

وان من أرخص الأقوال واهزلها ما ذكره ابن الأثير ان العباس (ع) قال لاخوته : «تقدموا حتى ارثكم فانه لا ولد لكم» (٢) لقد قالوا بذلك : ليقللوا من أهمية هذا العملاق العظيم الذي هو في طليعة رجال الاسلام بذلا وتضحية في سبيل اللّه ، وهل من الممكن أن يفكر العباس عليه السلام في الناحية المادية في تلك الساعة الرهيبة التي كان الموت المحتم منه كقاب قوسين أو ادنى ، مضافا الى المحن الشاقة التي احاطت به ، فهو يرى الكواكب من ابناء اخوته وعمومته صرعى على الأرض ، ويسمع ضجيج حرائر النبوة وكرائم الوحي ، ويسمع صراخ الأطفال وهم ينادون العطش العطش ، ويرى اخاه قد احيط به وهو يستغيث فلا يغاث ، فقد استوعبت هذه الرزايا التي تذهل الالباب جميع مشاعره وعواطفه ولم يكن يفكر الا بسرعة الرحيل عن هذه الدنيا ، ومضافا لذلك كله فان أم البنين أم العباس كانت حية فهي التي تحوز ميراث ابنائها لأنها من الطبقة الأولى ، ولعل الوارد حتى أثأركم أي اطلب بثأركم فحرف ذلك.

مصرع عبد اللّه بن امير المؤمنين :

وبرز عبد اللّه بن امير المؤمنين وأمه أمّ البنين الى ساحة الجهاد والتحم مع الأعداء وهو يرتجز :

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٨٢)

(٢) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٤

٢٦١

شيخي علي ذو الفخار الأطول

من هاشم الخير الكريم المفضل

هذا حسين بن النبي المرسل

عنه نحامي بالحسام المصقل

تفديه نفسي من أخ مبجل

يا رب فامنحني ثواب المنزل (١)

لقد اعتز بهذا الرجز بأبيه الامام امير المؤمنين باب مدينة علم النبي (ص) ووصيه كما اعتز بأخيه الامام الحسين ريحانة رسول اللّه (ص) وانه انما ينافح عنه لا بدافع الأخوة والرحم ، وانما يبغي بذلك وجه اللّه والدار الآخرة.

ولم يزل الفتى يقاتل اعنف القتال حتى شد عليه الباغي الأثيم هاني ابن ثبيت الحضرمي فقتله (٢).

مصرع جعفر :

وبرز جعفر بن أمير المؤمنين (ع) وأمه أم البنين وكان له من العمر تسع عشرة سنة ، فجعل يقاتل قتال الأبطال فشد عليه هانئ بن ثبيت فقتله (٣).

مصرع عثمان :

وبرز عثمان بن أمير المؤمنين وأمه أمّ البنين وهو ابن إحدى وعشرين

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٠٥

(٢) الإرشاد (ص ٢٦٩) وفي الفتوح ٥ / ٢٠٥ ان الذي قتله زحر بن بدر النخعي.

(٣) مقاتل الطالبيين (ص ٨٣)

٢٦٢

سنة فرماه خولى بسهم فاضعفه ، وشدّ عليه رجل من بني دارم فقتله وأخذ رأسه (١) ليتقرب به إلى سيده ابن مرجانة.

مصرع العباس :

وليس في تأريخ الانسانية قديما ولا حديثا أخوة اصدق ولا أنبل ولا أوفى من أخوة أبي الفضل لأخيه الامام الحسين فقد حفلت بجميع القيم الانسانية والمثل الكريمة.

وكان البارز من مثل تلك الأخوة النادرة الإيثار والمواساة والفداء فقد آثر ابو الفضل أخاه وفداه بروحه ، وواساه في أقسى المحن والخطوب وقد أشاد الامام زين العابدين (ع) بهذه المواساة النادرة من عمه يقول (ع) :

«رحم اللّه عمي العباس فلقد آثر وابلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه ، فأبدله اللّه عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب .. وان للعباس عند اللّه تعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة» (٢).

وقد أثارت هذه الأخوة الصادقة الاكبار والاعجاب عند جميع الناس ، وصارت مضرب المثل في جميع الأحقاب والآباد ، وقد اعتز بها حفيده الفضل بن محمد (٣) يقول :

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٨٣)

(٢) البحار ٩ / ١٤٧

(٣) الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد اللّه بن العباس جاء ذلك في عيون الأخبار وفنون الآثار (ص ١٠١).

٢٦٣

أحق الناس أن يبكى عليه

فتى ابكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده علي

ابو الفضل المضرج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء

وجاد له على عطش بماء (١)

ويقول الكميت :

وابو الفضل إن ذكرهم الحلو

شفاء النفوس من اسقام

قتل الادعياء إذ قتلوه

اكرم الشاربين صوب الغمام (٢)

لقد كان ابو الفضل يملك طاقات هائلة من التقوى والدين ، وكانت اسارير النور بادية على وجهه الكريم حتى لقب بقمر بني هاشم ، كما كان من الأبطال البارزين في الاسلام ، وكان اذا ركب الفرس المطهم (٣) تخطان رجلاه في الأرض (٤) وقد ورث صفات أبيه من الشجاعة والنضال.

واسند إليه الامام (ع) يوم الطف قيادة جيشه ودفع إليه رايته فرفعها عالية خفاقة ، وقد قاتل اعنف القتال واشده ، ولما رأى وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم للّه انبرى إليه يطلب منه الرخصة ليلاقي مصيره المشرق ، فلم يسمح له الامام وقال له بصوت خافت حزين النبرات.

«أنت صاحب لوائي»

لقد كان الامام يشعر بالقوة والمنعة ما دام أبو الفضل حيا ، فهو كجيش إلى جانبه يحميه ويذب عنه ، وألح عليه ابو الفضل قائلا :

«لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، واريد أن آخذ ثأري منهم».

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٨٤)

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٨٤)

(٣) المطهم : الفرس السمين الفاحش السمن

(٤) مقاتل الطالبيين (ص ٨٤)

٢٦٤

لقد ضاق صدره وسئم من الحياة حينما رأى الكواكب المشرقة من اخوته وابناء اخوته وعمومته صرعى مجزر بن على رمال كربلا فتحرق شوقا للالتحاق بهم والأخذ بثأرهم ، وطلب منه الامام أن يسعى لتحصيل الماء الى الاطفال الذين صرعهم العطش فاندفع الشهم النبيل نحو اولئك الممسوخين فجعل يعظهم ويحذرهم غضب اللّه ونقمته ، وخاطب ابن سعد قائلا :

«يا ابن سعد هذا الحسين بن بنت رسول اللّه (ص) قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني اذهب إلى الروم أو الهند وأخلي لكم الحجاز والعراق».

وزلزلت الأرض تحت اقدامهم وودوا أن تخيس بهم ، وبكى بعضهم وساد عليهم صمت رهيب فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فرد عليه قائلا :

«يا ابن أبي تراب لو كان وجه الأرض كله ماء وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة الا أن تدخلوا في بيعة يزيد».

وقفل أبو الفضل راجعا إلى أخيه فاخبره بعتو القوم وطغيانهم ، وسمع الأبي الشهم صراخ الأطفال وهم يستغيثون وينادون :

العطش العطش

الماء الماء

فرآهم ابو الفضل العباس ـ ويا لهول ما رأى ـ قد ذبلت شفاههم وتغيرت الوانهم وأشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ ، فالتاع كأشد ما يكون الالتياع ، وسرى الألم العاصف في محياه ، واندفع ببسالة لإغاثتهم فركب

٢٦٥

جواده وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات وقد استطاع بقوة بأسه أن يفك الحصار الذي فرض على الماء وقد انهزم الجيش من بين يديه فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ومحطم فلول الشرك ، وقد انتهى الى الماء وكان قلبه الشريف قد تفتت من العطش ، واغترف من الماء غرفة ليشرب منه الا انه تذكر عطش أخيه ومن معه من النساء والأطفال فرمى الماء من يده وامتنع أن يروي غليله وهو يقول :

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون

وتشربين بارد المعين

تالله ما هذا فعال ديني (١)

ان الانسانية بكل اجلال واكبار لتحيي هذه الروح العظيمة التي تألفت في دنيا الفضيلة والاسلام ، وهي تلقي على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة الانسانية والمثل العليا.

لقد كان هذا الايثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان من ابرز الذاتيات في خلق أبي الفضل ، فلم تمكنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان لأخيه أن يشرب من الماء قبله ، فأي ايثار أنبل أو اصدق من هذا الايثار لقد امتزجت نفسه بنفس أخيه ، وتفاعلت روحه مع روحه ، فلم يعد هناك أي تعدد في الوجود بينهما واتجه فخر هاشم مزهوا نحو المخيم بعد ما ملأ القربة وهي عنده اغلى واثمن من الحياة ، والتحم مع الأعداء التحاما رهيبا فقد أحاطوا به ليمنعوه من ايصال الماء إلى عطاشى أهل البيت ، وأشاع فيهم البطل القتل فأخذ يحصد الرءوس ويجندل الأبطال وهو يرتجز :

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٢٦)

٢٦٦

لا أرهب الموت اذا الموت زقا

حتى اوارى في المصاليت لقى

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا

إني أنا العباس اغدو بالسقا

ولا اخاف الشر يوم الملتقى (١)

لقد اعلن لهم عن شجاعته النادرة وبطولاته العظيمة ، فهو لا يرهب الموت ، وانما يستقبله بثغر باسم دفاعا عن الحق ، ودفاعا عن أخيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض ... وانه لفخور اذ يغدو بالسقاء مملوءا من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.

وانهزمت جيوش الباطل بطاردها الرعب والفزع ، فقد أبدى أبو الفضل من البطولات ما يفوق حد الوصف وقد أيقنوا أنهم عاجزون عن مقاومته ، الا ان الوضر الجبان زيد بن الرقاد الجهني قد كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه فبراها .. لقد قطع تلك اليد التي كانت تفيض سماحا وبرا على الناس ودفاعا عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ولم يعن ابو الفضل بيمينه ، وانما راح يرتجز :

واللّه ان قطعتم يميني

اني أحامي أبدا عن ديني

وعن امام صادق يقيني

نجل النبي الطاهر الأمين (٢)

ودلل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة التي يناضل من اجلها ، فهو انما يناضل دفاعا عن الدين ، ودفاعا عن امام المسلمين.

ولم يبعد العباس قليلا حتى كمن له من وراء نخلة رجس من ارجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وتنص

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب ٤ / ١٠٨

(٢) المناقب ٤ / ١٠٨

٢٦٧

بعض المقاتل انه حمل القربة باسنانه وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت ، غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجروح وشدة الظمأ .. لقد كان ذلك منتهى ما وصلت إليه الانسانية في جميع ادوارها من الوفاء والرحمة والحنان.

وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة اذ أصاب القربة سهم غادر فاريق ماؤها ، ووقف البطل الشهم حزينا ، فقد كان اراقة الماء عنده أشد عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، وشد عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى الى الأرض وهو يؤدي تحيته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلا.

«عليك مني السلام أبا عبد اللّه» (١)

وحمل الأثير كلماته إلى أخيه فخرقت قلبه ومزقت احشاءه ، وانطلق وهو خائر القوى منهد الركن فاقتحم بجواده جيوش الأعداء ، ووقف على الجثمان المقدس وهو يعاني آلام الاحتضار والقى بنفسه عليه فجعل يشمه ويضمخه بدموع عينيه وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزقته الكوارث قائلا :

«الآن انكسر ظهري ، وقلت حيلتي»

وجعل الامام يطيل النظر إلى جثمان أخيه وهو يذكر اخوته الصادقة ووفاءه النادر وشهامته الفذة .. وتبددت جميع آماله ، وكان مما يهون عليه اهوال هذه الكارثة سرعة اللحاق به ، وعدم بقائه بعده الا لحاظات ، ولكنها كانت عنده كالسنين فقد ودّ أن المنية قد وافته قبله.

وقام الثاكل الحزين وقد انهارت قواه ، وهو لا يتمكن ان يقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار والحزن ، واتجه صوب المخيم وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة :

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٢٦)

٢٦٨

«أين عمي؟»

فأخبرها بشهادته وهو غارق بالبكاء والشجون ، وذعرت حفيدة الرسول (ص) زينب واستولى عليها الفزع حينما سمعت بمقتل أخيها ، ووضعت يدها على قلبها المذاب وهي تصيح :

«وا أخاه ، وا عباساه ، وا ضيعتنا بعدك»

وشارك الامام شقيقته في النياحة على أخيه البار ، واندفع رافعا عقيرته وهو الصبور :

«وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل» (١)

لقد شعر بالوحدة والضيعة بعد فقده لأخيه الذي لم يترك لونا من الوان البر والمواساة الا قدمها لأخيه.

فسلام على سيرتك وذكراك يا أبا الفضل ، فلقد مضيت الى مصيرك العظيم وأنت من أعظم الشهداء اشراقا وتضحية.

وداعا يا قمر بني هاشم

وداعا يا بطل كربلا

وسلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا

محمد الأصغر :

وممن استشهد من أخوة الحسين لأبيه محمد الأصغر وأمه أمّ ولد (٢) وقد قاتل قتالا عنيفا فشد عليه رجل من تميم فقتله (٣).

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٢٨)

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٨٥) وفي تأريخ خليفة خياط ١ / ٢٢٥ ان أمه لبانة بنت عبيد اللّه بن العباس.

(٣) مقاتل الطالبيين (ص ٨٦)

٢٦٩

ابو بكر :

وهو أخو الامام لأبيه ، وأمه ليلى بنت مسعود لم يعرف اسمه (١) ويقول الخوارزمي : ان اسمه عبد اللّه (٢) وقد برز للحرب فقتله رجل من همدان ، وقيل لا يدرى من قتله (٣) ويذهب الطبرى الى انه مشكوك في قتله.

العباس الأصغر :

وهو اخو الامام لأبيه وأمه لبابة بنت عبيد اللّه بن العباس استشهد يوم الطف (٤) ويقول القاسم بن اصبغ المجاشعي لما أتى بالرؤوس إلى الكوفة رأيت فارسا علق في ساق فرسه رأس غلام أمرد كأنه القمر ليلة البدر فاذا طأطأ الفرس رأسه لحق رأس الغلام بالأرض فسألت عن الفارس فقيل هو حرملة بن كاهل وسألت عن الرأس فقيل هو رأس العباس بن علي (٥) وهذا مما يؤكد وجود العباس الأصغر لأن العباس الأكبر كان عمره يوم قتل اثنين وثلاثين سنة وليس غلاما امردا.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن شهداء أهل البيت (ع) وقد انتهكت بقتلهم حرمة الرسول (ص) فلم يرع الجيش الأموي قرابتهم من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم التي هي أولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٨٦)

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي

(٣) مقاتل الطالبيين (ص ٨٦)

(٤) تأريخ خليفة خياط ١ / ٢٢٥

(٥) مرآة الزمان في تواريخ الزمان (ص ٩٥) الحدائق الوردية ١ / ١٣٢ ، الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٩٢).

٢٧٠

مصرع الامام العظيم

٢٧١
٢٧٢

وتتابعت الرزايا والخطوب يتتبع بعضها بعضا على ريحانة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فهو لم يكد ينتهي من كارثة قاصمة حتى تتواكب عليه أشد الكوارث هولا واعظمها محنة.

لقد عانى الامام في تلك اللحظات الرهيبة من المحن الشاقة ما لم يعانه أي مصلح كان ، ومن بينها :

أولا ـ انه كان ينظر الى مخدرات الرسالة وعقائل الوحي وهن بحالة من الذعر لا يعلمها الا اللّه ففي كل لحظة يستقبلن عزيزا من نجوم العترة الطاهرة مضمخا بدمائه الزكية لا يلبث أن يلفظ نفسه الأخير أمامهن ومما زاد في وجلهن ان الجفاة من الأعداء الذين محيت الرحمة من نفوسهم قد أحاطوا بهن ، ولا يعلمن ما ذا سيجري عليهن من المحن بعد فقد الأهل والحماة ، وكان الامام ينظر إلى ما ألم بهن من الخوف فيذوب قلبه أسى وحسرات فكان يأمرهن بالتجلد والخلود الى الصبر ، وأن لا يبدين من الجزع ما ينقص قدرهن ، واعلمهن أن اللّه يحفظهن وينجيهن من شر الأعداء.

ثانيا ـ ان الأطفال قد تعالى صراخهم من ألم الظمأ القاتل ، وهو لا يجد مجالا لاغاثتهم ، وقد ذاب قلبه الكبير حنانا ورحمة على أطفاله وعياله الذين يعانون ما لا طاقة لهم به.

ثالثا تعدي السفكة المجرمين بعد قتل أصحابه وأهل بيته الى قتل الأطفال الابرياء من أبناء اخوته وعمومته.

رابعا ـ مقاساته العطش الأليم ، فقد ورد عن شدة ظمأه أنه كان لا يبصر السماء إلا كالدخان وان كبده الشريف قد تفتت من شدة العطش ، يقول الشيخ التستري : «ان عطش الحسين قد أثر في أربعة أعضاء فالشفة ذابلة من حر الظمأ ، والكبد مفتت لعدم الماء ـ كما قال (ع) ـ وقد

٢٧٣

أخبر بذلك حينما يئس من الحياة ، وقد علموا أنه لا يعيش بعد ذلك فقال لهم : اسقوني قطرة من الماء فقد تفتت كبدي ، واللسان مجروح من شدة اللوك ـ كما في الحديث ـ والعين مظلمة من العطش» (١)

خامسا ـ فقده للأحبة ، من أهل بيته وأصحابه ، فكان ينظر إلى خيمهم فيراها خالية فجعل يصعد آهاته واحزانه ، ويندبهم بأقسى ندبة.

ان النفس لتذوب حسرات من هذه الخطوب التي ألمت بابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، يقول صفي الدين : «وقد لاقى الحسين من المحن والبلايا ما لا يستطيع مسلم أن يسمعه إلا ويذوب فؤاده» (٢).

استغاثة الامام :

والقى الامام الممتحن نظرة مشفوعة بالأسى والحسرات على أهل بيته وأصحابه فرآهم مجزرين كالاضاحي على رمال كربلا تصهرهم الشمس ، وسمع عياله وقد ارتفعت اصواتهن بالبكاء فأخذ يستغيث ويطلب الناصر والمعين ليحامي عن حرم رسول اللّه (ص) قائلا :

«هل من ذاب يذب عن حرم رسول اللّه (ص)؟ هل من موحد يخاف اللّه فينا؟ هل من مغيث يرجو اللّه في اغاثتنا؟» (٣).

ولم تنفذ هذه الاستغاثة إلى تلك القلوب التي ران عليها الباطل وغرقت في الآثام ... ولما سمع زين العابدين استغاثة أبيه وثب من فراشه ،

__________________

(١) خصائص الحسين (ص ٦٠)

(٢) وسيلة المال في مناقب الآل

(٣) درر الافكار في وصف الصفوة الأخبار (ص ٣٨) لأبي الفتح ابن صدقة.

٢٧٤

وجعل يتوكأ على عصا لشدة مرضه ، فبصر به الحسين فصاح بأخته السيدة أم كلثوم! احبسيه لئلا تخلو الارض من نسل آل محمد ، وبادرت إليه فارجعته إلى فراشه (١).

مصرع الرضيع :

أي صبر كان صبر أبي عبد اللّه؟!! كيف استطاع أن يتحمل هذه الكوارث .. انه صبر تعجز عنه الكائنات ، وتميد من هوله الجبال ، وكان من افجع وأقسى ما نكب به رزيته بولده عبد اللّه الرضيع فقد كان كالبدر في بهائه ، فأخذه وجعل يوسعه تقبيلا ويودعه الوداع الأخير ، وقد رآه مغمى عليه ، وقد غارت عيناه وذبلت شفتاه من شدة الظمأ فحمله إلى القوم ليستدر عواطفهم لعلهم يسقوه جرعة من الماء ، وعرضه عليهم وهو يظلل له بردائه من حرارة الشمس ، وطلب منهم أن يسعفوه بقليل من الماء ، فلم ترق قلوب اولئك الممسوخين ، وانبرى الباغي اللئيم حرملة ابن كاهل فسدد له سهما ، وجعل يضحك ضحكة الدناة وهو يقول مفتخرا أمام اللئام من أصحابه :

«خذ هذا فاسقه»

واخترق السهم ـ باللّه ـ رقبة الطفل ، ولما أحس بحرارة السهم أخرج يديه من القماط ، وجعل يرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح ، وانحنى الطفل رافعا رأسه الى السماء فمات على ذراع أبيه ... إنه منظر تتصدع من هوله القلوب ، وتلجم الالسن .. ورفع الامام يديه وكانتا مملوءتين من ذلك الدم الطاهر فرمى به نحو السماء فلم تسقط منه قطرة

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب ٤ / ٢٢٢

٢٧٥

واحدة الى الارض ـ حسبما يقول الامام الباقر عليه السلام ـ ، وأخذ يناجي ربه قائلا :

«هون ما نزل بي أنه بعين اللّه تعالى .. اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ، الهي إن كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه ، وانتقم لنا من الظالمين ، واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة في الآجل ، اللهم : أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (ص)».

ونزل الامام عن جواده وحفر لطفله بجفن سيفه حفرة ودفنه مرملا بدمائه الزكية ، وقيل انه القاه مع القتلى من أهل بيته (١) لك اللّه يا أبا عبد اللّه على هذه الكوارث التي لم يمتحن ببعضها أي نبي من أنبياء اللّه ، ولم تجر على أي مصلح في الارض.

صمود الامام :

ووقف الامام وحيدا في الميدان أمام أعدائه ، وقد زادته الفجائع المذهلة ايمانا ويقينا في بشر وطلاقة وثقة بما يصير إليه من منازل الفردوس الأعلى.

لقد وقف ثابت الجنان لم يوهن عزيمته مصارع اولاده وأهل بيته وأصحابه ولا ما كان يعانيه من ألم العطش ونزيف الدماء ، انه صمود الأنبياء وأولي العزم الذين ميزهم اللّه على بقية عباده ، وقد روى ولده علي بن الحسين زين العابدين (ع) الصور المذهلة عن صبر أبيه وصموده قال : كان كلما يشتد الأمر يشرق لونه ، وتطمئن جوارحه ، فقال بعضهم :

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٣٣)

٢٧٦

انظروا كيف لا يبالي بالموت (١) ويقول عبد اللّه بن عمار : رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى اندغروا عنه (٢) فو اللّه ما رأيت مكثورا قد قتل أولاده وأصحابه اربط جأشا منه ، ولا أمضى جنانا منه ، وو اللّه ما رأيت قبله ولا بعده مثله (٣) وكان يتمثل بقول ابن الخطاب الفهري :

مهلا بني عمنا ظلامتنا

إن بنا سورة من القلق

لمثلكم تحمل السيوف ولا

تغمز احسابنا من الرفق

إني لأنمى اذا انتميت

إلى عز عزيز ومعشر صدق

بيض سباط كأن أعينهم

تكحل يوم الهياج بالعلق (٤)

وحمل على اعداء اللّه فجعل يقاتلهم أشد قتال رآه الناس ، وقد حمل على الميمنة وهو يرتجز :

الموت أولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

وحمل على الميسرة وهو يرتجز :

__________________

(١) خصائص الحسين للتستري (ص ٣٩)

(٢) اندغروا : أي ولوا منهزمين فزعين

(٣) تأريخ ابن كثير ٨ / ١٨٨

(٤) ريحانة الرسول (ص ٦٤) وجاء فيه (أن من الغريب أن كل من تمثل بهذه الأبيات قتل ، فقد تمثل بها الحسين يوم الطف وزيد بن علي يوم السبخة ، ويحيى بن زيد يوم الجوزجان ، ولما تمثل بها ابراهيم ابن عبد اللّه بن الحسن في خروجه على المنصور تطير له أصحابه ، ولم يلبث أن أتاه سهم غادر فقتله.

٢٧٧

أنا الحسين بن علي

آليت أن لا أنثني

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النبي (١)

أجل أنت الحسين وأنت ملء فم الدنيا شرفا ومجدا ، وأنت الوحيد في هذه الدنيا لم تنثن عن عزيمتك وارادتك ، فلم تضرع ولم تهن ومضيت في طريق الكفاح تدك حصون الظالمين والماردين.

لقد مضيت على دين جدك الرسول (ص) فأنت الباعث المجدد لهذا الدين ولولاك لكان شبحا مبهما لا ظل له على واقع الحياة ...

وروى ابن حجر ان الامام كان يقاتل وينشد هذه الأبيات :

أنا ابن علي الحر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخرا حين أفخر

وجدي رسول اللّه اكرم من مشى

ونحن سراج اللّه في الناس يزهر

وفاطمة أمي سلالة أحمد

وعمي يدعى ذو الجناحين جعفر

وفينا كتاب اللّه أنزل صادقا

وفينا الهدى والوحي والخير يذكر (٢)

موقف المكرهين :

وانبرى بعض الأوغاد من المكرهين في جيش ابن سعد فأخذوا بالدعاء للامام بالنصر والتغلب على أعدائه يقول سعد بن عبيدة : إن اشياخنا من أهل الكوفة كانوا واقفين على تل وهم يبكون ويقولون : اللهم انزل

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب ٤ / ٢٢٣

(٢) الصواعق المحرقة (ص ١١٧ ـ ١١٨) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام (ص ١١٩).

٢٧٨

عليه ـ أي على الحسين ـ نصرك ، فأنكر عليهم سعد وقال : يا أعداء اللّه الا تنزلون فتنصرونه (١).

فزع ابن سعد :

وذعر ابن سعد من كثرة الخسائر التي مني بها جيشه ، فراح الخبيث الدنس يثير النعرات ويؤلب الجيش على حرب ريحانة رسول اللّه (ص) قائلا :

«هذا ابن الانزع البطين ، هذا ابن قتال العرب احملوا عليه من كل جانب».

لقد أثار ابن سعد الاحقاد الجاهلية على الامام فذكرهم بقتل امير المؤمنين للعرب ، وعليهم أن يثأروا لدمائهم وهو منطق من لا علاقة له بالاسلام فان الامام امير المؤمنين لم يقتل العرب وانما قتل القوى الباغية على الاسلام والمنحرفة عن الدين.

ووجه ابن سعد الرماة نحو الامام فكان ـ فيما يقول المؤرخون ـ قد سددت نحوه أربعة آلاف نبلة فصار جسده الشريف هدفا لنبال اولئك البغاة (٢) والتحم معهم التحاما رهيبا ، وقد أيدى من البسالة ما لم يشاهد له نظير في جميع فترات التأريخ.

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) مناقب ابن شهر اشوب ٤ / ٢٢٣

٢٧٩

استيلاء الامام على الماء :

وألح العطش علي الامام ، وأضر به إلى حد بعيد ، فحمل على الفرات ، وكان الموكلون بحراسته فيما يقول بعض المؤرخين أربعة آلاف فانهزموا من بين يديه ، واستولى على الماء فغرف منه غرفة ليروي ظمأه القاتل فناداه خبيث من القوم :

«أتلتذ بالماء؟!! وقد هتكت حرمك»

ورمى أبي الضيم الماء من يده ، وآثر كرامة عائلته على عطشه واسرع الى الخيمة فاذا بها سالمة فعلم أنها مكيدة (١) يقول ابن حجر : ولو لا ما كادوه به من أنهم حالوا بينه وبين الماء لم يقدروا عليه إذ هو الشجاع القرم الذي لا يزول ولا يتحول (٢).

الهجوم على خيم الحسين :

وتوسط أبي الضيم معسكر الأعداء وجعل يقاتلهم أشد القتال واعنفه وقد هجموا على خيمه ليسلبوا الحريم والأطفال فصاح بهم :

«يا شيعة آل أبي سفيان ، ان لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم وارجعوا إلى احسابكم ان كنتم عربا كما تزعمون ..» (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ / ٢٠٤

(٢) الصواعق المحرقة (ص ١١٨)

(٣) اللهوف (ص ٤٧) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٤ درر الابكار في وصف الصفوة الأخيار (ص ٣٨).

٢٨٠