حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

ثانيا ـ انه ندد بالأمويين ، وشجب سياستهم القائمة على طاعة الشيطان ، ومعصية الرحمن ، واظهار الفساد ، وتعطيل حدود اللّه ، والاستئثار بالفيء ، وتحليل الحرام ، وتحريم الحلال.

ثالثا ـ ان الامام احق وأولى من غيره بالقيام بتغيير الأوضاع الراهنة التي تنذر بالخطر على الاسلام ، فانه (ع) المسئول الأول عن القيام باعباء هذه المهمة.

رابعا ـ انه (ع) عرض لهم انه اذا تقلد شئون الحكم ، فسيجعل نفسه مع انفسهم ، واهله مع اهاليهم. من دون أن يكون له أي امتياز عليهم.

خامسا ـ انهم اذا نكثوا بيعتهم ، ونقضوا عهودهم التي اعطوها له فانه ليس بغريب عليهم فقد غدروا من قبل بابيه واخيه وابن عمه ، وقد أخطئوا بذلك حظهم ، وحرموا نفوسهم السعادة.

لقد وضع الامام بهذا الخطاب النقاط على الحروف : وفتح لهم منافذ النور ، ودعاهم الى الاصلاح الشامل الذي ينعمون في ظلاله.

ولما سمع الحر خطابه اقبل عليه فقال له : «إني اذكرك اللّه في نفسك ، فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن» وانبرى الامام قائلا له :

«ابالموت تخوفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما ادري ما أقول : لك؟!! ولكني اقول : كما قال اخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللّه اين تذهب فانك مقتول؟ فقال له :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وخالف مثبورا وفارق مجرما

فان مت لم اندم وان عشت لم الم

كفى بك عارا ان تذل وترغما (١)

 __________________

(١) تأريخ ابن الاثير ٣ / ٢٨١ ، والطبري

٨١

ولما سمع الحر ذلك تنحى عنه وعرف أنه مصمم على الموت ، وعازم على التضحية في سبيل غايته الهادفة إلى الاصلاح الشامل.

التحاق جماعة من الكوفة بالامام :

ولما انتهى الامام إلى عذيب الهجانات وافاه أربعة أشخاص من أهل الكوفة جاءوا إلى نصرته ، وقد أقبلوا على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع ابن هلال ، ولم يخرج أحد لاستقبال الحسين من اهل الكوفة سواهم وهم

١ ـ نافع بن هلال المرادي

٢ ـ عمرو بن خالد الصيداوي

٣ ـ سعد مولى عمرو بن خالد

٤ ـ مجمع بن عبد اللّه العابدي من مذحج

وأراد الحر منعهم من الالتحاق بالحسين ، فصاح به الامام :

«اذا أمنعهم بما امنع فيه نفسي ، انما هؤلاء انصاري ، واعواني وقد جعلت لي أن لا تعرض بي حتى يأتيك كتاب ابن زياد».

وكف الحر عنهم ، فالتحقوا بالامام فرحب بهم ، وسألهم عن اهل الكوفة فقالوا له :

«اما الأشراف فقد عظمت رشوتهم ، وملئت غرائرهم (١) ليستمال ودهم ، وتستنزف نصائحهم ، فهم عليك إلبا واحدا ، وما كتبوا إليك الا ليجعلوك سوقا ومكسبا .. وأما سائر الناس فافئدتهم تهوي إليك ، وسيوفهم غدا مشهورة عليك» (٢).

__________________

(١) الغرائر جمع غرارة وهي الكيس من الشعر أو الصوف

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١ ص ٢٤١

٨٢

وكشف هذا الحديث عن نقاط بالغة الأهمية وهي :

١ ـ ان السلطة قد اشترت ضمائر الوجوه والاشراف من اهل الكوفة بالأموال واغرتهم بالجاه والنفوذ فصاروا إلبا واحدا مجمعين ومتفقين على حرب الامام ، وقد مهر الامويون في هذه السياسة الماكرة فكانوا يستميلون الوجوه بكل الوسائل الممكنة. واما الرعاع فيلهبون ظهورهم بالسياط.

٢ ـ ان اشراف اهل الكوفة انما كاتبوا الحسين بالقدوم إليهم لا ايمانا منهم بعدالة قضيته وباطل الأمويين وانما كتبوا إليه ليكون سوقا ومكسبا للظفر باموال بني أمية ، فكانوا يعلنون لهم انكم ان لم تغدقوا علينا بالأموال فستكون من انصار الحسين ، فكانت كتبهم إليه وسيلة من وسائل الكسب.

٣ ـ ان سواد الناس كانت قلوبهم مع الحسين ، ولكنهم منقادون لزعمائهم من دون ان تكون لهم أية ارادة او اختيار على متابعة ما يؤمنون به ، فكانوا جنود السلطة واداتها الضاربة.

هذه بعض النقاط المهمة التي حفل بها كلام هؤلاء القوم ، وقد دلت على دراستهم الوثيقة لشؤون مجتمعهم.

مع الطرماح :

والتحق الطرماح بالامام في اثناء الطريق ، وقد صحبه بعض الوقت وقد أقبل الامام على اصحابه ، فقال لهم :

«هل فيكم احد يخبر الطريق على غير الجادة؟»

فانبرى إليه الطرماح بن عدي الطائي فقال له :

٨٣

«أنا اخبر الطريق»

«سر بين أيدينا»

وسار الطرماح يتقدم موكب العترة الطاهرة ، وقد ساورته الهموم فجعل يحدو بالابل بصوت حزين وهو يرتجز :

يا ناقتي لا تذعري من زجرى

وامضي بنا قبل طلوع الفجر

بخير فتيان وخير سفر

آل رسول اللّه أهل الفخر

السادة البيض الوجوه الزهر

الطاعنين بالرماح السمر

الضاربين بالسيوف البتر

حتى تحلى بكريم النجر

بما جد الجد رحيب الصدر

أتى به اللّه لخير أمر

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

عمره اللّه بقاء الدهر

يا مالك النفع معا والضر

امدد حسينا سيدي بالنصر

على الطغاة من بقايا الكفر

على اللعينين سليلي صخر

يزيد لا زال حليف الخمر

والعود والصنج معا والزمر

وابن زياد العهر وابن العهر (١)

واسرعت الابل في سيرها على نغمات هذا الشعر الحزين ، وقد فاضت عيون اصحاب الحسين وأهل بيته من الدموع ، وهم يؤمنون على دعاء الطرماح للحسين بالنصر والتأييد ، وحلل الدكتور يوسف خليف هذا الرجز بقوله : «والرجز هنا ـ ولعله اول شعر كوفي يظهر فيه الحديث عن الحسين ـ يعتمد على البساطة في عرض الفكرة ، فهو لا يعدو أن يكون صورة من تحية البدو وترحيبهم بضيف عزيز قادم إليهم ، وهم خارجون لاستقباله. فالراجز يحث ناقته على السير السريع لتحل برحاب هذا الضيف

__________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ١١٩) أنساب الأشراف ج ١ ق ١ ، ص ٢٤٢ ، مروج الذهب ٢ / ٧٢ ، الفتوح.

٨٤

الذي يضفي عليه صفات المدح المألوفة عند البدو ، ويخلع عليه ما يتمثله البدوي في الرجل من مثل وفضائل فهو عنده كريم الأصل ، ماجد حر واسع الصدر ... لأن هذا الضيف ليس شخصا عاديا ، وانما هو حفيد رسول اللّه (ص) ومبعوث العناية الالهية إليهم لأمر هو خير الأمور ، ثم يختم هذه التحية البدوية بدعاء فطري ساذج ، ولكنه معبر عما يحمله له في نفسه من محبة صادقة واخلاص اكيد فيدعو أن يبقيه اللّه بقاء الدهر» (١)

وقال الطرماح للامام : «واللّه إني لأنظر فما أرى معك أحدا ، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازمين لك مع الحر لكان ذلك بلاء فكيف وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيوم ظهر الكوفة مملوءا رجالا فسألت عنهم فقيل ليوجهوا الى الحسين ، فناشدتك اللّه أن لا تقدم إليهم شبرا الا فعلت» (٢).

وإلى أي مكان يرجع الامام؟ واين يذهب؟ والأرض كلها تحت قبضة الأمويين ، فلم يكن له بد من الاستمرار في سفره إلى العراق ، وعرض له الطرماح أن يسير معه إلى جبل بني طي ، وتعهد له بعشرين الف طائي يقاتلون بين يديه ، ولم يستجب الامام لهذا الوعد الذي هو غير مضمون ، واستأذن الطرماح من الامام ان يمضي لأهله ليوصل إليهم الميرة ويعود إلى نصرته ، فاذن له وانصرف الى أهله ، فمكث أياما ثم قفل راجعا إلى الامام فلما وصل إلى عذيب الهجانات بلغه مقتل الامام ، فأخذ يبكي على ما فاته من شرف الشهادة مع ريحانة رسول اللّه (ص) (٣).

__________________

(١) حياة الشعر في الكوفة (ص ٣٧٣)

(٢) أنساب الاشراف ج ١ ق ١ ص ٢٤٢

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٣٣٠

٨٥

مع عبيد اللّه بن الحر :

واجتازت قافلة الامام على قصر بني مقاتل (١) ، فنزل الامام فيه وكان بالقرب منه بيت مضروب ، وامامه رمح قد غرس في الأرض يدل على بسالة صاحبه وشجاعته ، وقباله فرس ، فسأل الامام عن صاحب البيت ، فقيل له انه عبيد اللّه بن الحر ، فاوفد للقياه الحجاج بن مسروق الجعفي فخف إليه ، فبادره عبيد اللّه قائلا :

ـ ما ورائك؟

ـ قد أهدى اللّه إليك كرامة

ـ ما هي؟

ـ هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته ، فان قاتلت بين يديه أجرت ، وان مت فقد استشهدت.

ـ ما خرجت من الكوفة الا مخافة أن يدخلها الحسين وأنا فيها فلا أنصره لأنه ليس له فيها شيعة ولا أنصار إلا وقد مالوا إلى الدنيا إلا من عصم اللّه!!

وقفل الحجاج راجعا فأدى مقالته الى الامام ، ورأى (ع) أن يقيم عليه الحجة ويجعله على بينة من أمره فانطلق إليه مع الصفوة الطيبة من أهل بيته واصحابه ، واستقبله عبيد اللّه استقبالا كريما ، واحتفى به احتفاء بالغا ، وقد غمرته هيبة الامام ، فراح يحدث عنها بعد ذلك يقول :

«ما رأيت قط أحسن من الحسين ، ولا املأ للعين ، ولا رققت على أحد قط رقني عليه حين رأيته يمشي والصبيان من حوله ، ونظرت

__________________

(١) ذكر الخوارزمي في مقتله ان ملاقاة الامام بعبيد اللّه بن الحر كانت بين الثعلبية وزرود.

٨٦

إلى لحيته فرأيتها كأنها جناح غراب ، فقلت له : أسواد أم خضاب؟ قال! يا ابن الحر عجل علي الشيب فعرفت أنه خضاب» (١).

وتعاطى الامام معه الشؤون السياسية العامة ، والأوضاع الراهنة ، ثم دعاه الى نصرته قال له :

«يا ابن الحر ان اهل مصركم كتبوا إلي أنهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم فقدمت ، وليس رأي القوم على ما زعموا فانهم اعانوا على قتل ابن عمي مسلم وشيعته ، واجمعوا على ابن مرجانة عبيد اللّه ابن زياد .. يا ابن الحر اعلم ان اللّه عز وجل مؤاخذك بما كسبت من الذنوب في الأيام الخالية ، وأنا أدعوك الى توبة تغسل بها ما عليك من ذنوب .. ادعوك الى نصرتنا أهل البيت» (٢).

والقى ابن الحر معاذيره الواهية فحرم نفسه السعادة والفوز بنصرة سبط الرسول ، قائلا :

«واللّه إني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أن اغني عنك ، ولم اخلف لك بالكوفة ناصرا فانشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطة ، فان نفسي لا تسمح بالموت ، ولكن فرسي هذه «الملحقة» (٣) واللّه ما طلبت عليها شيئا الا لحقته ، ولا طلبني أحد وأنا عليها الا سبقته فهي لك» (٤).

وما قيمة فرسه عند الامام فرد عليه قائلا :

«ما جئناك لفرسك وسيفك؟ انما أتيناك لنسألك النصرة ، فان

__________________

(١) انساب الأشراف ٥ / ٢٩١ ، خزانة الأدب ١ / ٢٩٨

(٢) الفتوح ٥ / ١٣٠

(٣) وفي رواية «وهذه فرسي ملجمة»

(٤) الأخبار الطوال (ص ٢٤٩) الدر النظيم (ص ١٦٨)

٨٧

كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك ، ولم اكن بالذي اتخذ المضلين عضدا (١) واني انصحك إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا نشهد وقعتنا فافعل ، فو اللّه لا يسمع واعيتنا احد ولا ينصرنا الا اكبه اللّه في نار جهنم» (٢).

فاطرق ابن الحر برأسه الى الأرض وقال بصوت خافت حياء من الامام.

«أما هذا فلا يكون أبدا ان شاء اللّه تعالى» (٣)

وما كان مثل ابن الحر وهو الذي اقترف الكثير من الجرائم ان يوفق الى نصرة الامام ويفوز بالشهادة بين يديه.

وقد ندم ابن الحر كاشد ما يكون الندم على ما فرط في امر نفسه من ترك نصرة ريحانة رسول اللّه (ص) واخذت تعاوده خلجات حادة من وخز الضمير ، ونظم ذوب حشاه بابيات سنذكرها عند البحث عن النادمين عن نصرة الحسين (ع).

مع عمرو بن قيس :

والتقى الامام في قصر بني مقاتل بعمرو بن قيس المشرفي ، وكان معه ابن عم له ، فسلم على الامام وقال له :

«يا ابا عبد اللّه هذا الذي ارى خضابا؟

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٣٢

(٢) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٢٤)

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٢

٨٨

قال (ع) : «خضاب ، والشيب إلينا بني هاشم أسرع واعجل» والتفت (ع) لهما فقال :

«جئتما لنصرتي؟»

«لا. انا كثيرو العيال» وفي ايدينا بضائع للناس ، ولم ندر ما ذا يكون؟ ونكره ان نضيع الامانة».

ونصحهما الامام فقال لهما :

«انطلقا فلا تسمعا لي واعية ، ولا تريا لي سوادا فانه من سمع واعيتنا او رأى سوادنا فلم يجبنا او يغثنا كان حقا على اللّه عز وجل أن يكبه على منخريه في النار» (١).

وارتحل الامام من قصر بني مقاتل ، واخذت قافلته تقطع الصحارى الملتهبة ، وتجتاز اغوارها في جاهد وعناء ، وتعاني لفحها الضارب كريخ السموم.

رسالة ابن زياد للحر :

وتابعت قافلة الامام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن واخرى تتياسر ، وجنود الحر يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة والركب يمتنع عليهم (٢) ، وإذا براكب يجذ في سيره ويطوى الرمال فلبثوا هنيئة ينتظرونه ، واذا هو رسول من ابن زياد الى الحر ، فسلم

__________________

(١) رجال الكشي (ص ٧٢)

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٢

٨٩

الخبيث على الحر ، ولم يسلم على الحسين ، وتاول الحر رسالة من ابن زياد جاء فيها :

«أما بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد امرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام» (١).

واستثنى ابن مرجانة ما عهد به إلى الحر من القاء القبض على الامام وارساله مخفورا إلى الكوفة ، ولعله خاف من تطور الأحداث وانقلاب الأوضاع عليه ، فرأى التحجير عليه في الصحراء بعيدا عن المدن لئلا يتجاوب أهلها الى نصرته ليتم القضاء عليه بسهولة ، وتلا الحر الكتاب على الامام الحسين فاراد الامام أن يستأنف سيره متجها صوب قرية أو ماء ، فمنعهم الحر ، وقال : لا استطيع ، فقد كانت نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد تتابع الحر ، وكان يسجل كل بادرة يخالف بها الحر أوامر ابن زياد ... وانبرى زهير بن القين فقال للامام :

«انه لا يكون بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه .. يا ابن رسول اللّه إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، مما لا قبل لنا به».

فقال الحسين : ما كنت لأبدأهم بقتال

وتابع زهير حديثه قائلا :

«سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فانها حصينة ـ وهي على

__________________

(١) انساب الأشراف ج ١ ق ١ ص ٢٤٠ ، المناقب لابن شهر اشوب ٥ / ١٢٨ مصور.

٩٠

شاطئ الفرات ـ فان منعونا قاتلناهم ، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم».

وسأل الامام عن اسم تلك الأرض؟ فقالوا له : انها تسمى العقر ، فتشأم منها ، وراح يقول : اللهم اني اعوذ بك من العقر (١) ، وأصر الحر على الامام أن ينزل في ذلك المكان ولا يتجاوزه ، ولم يجد الامام بدا من النزول في ذلك المكان والقى ببصره عليه ، والتفت الى أصحابه فقال لهم :

ـ ما اسم هذا المكان؟

ـ كربلاء

ودمعت عيناه وراح يقول :

«اللهم اني اعوذ بك من الكرب والبلاء» (٢).

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٢ ، معجم البلدان ٤ / ٤٤٤.

(٢) الفتوح ٥ / ١٤٩ ، وفي تذكرة الخواص (ص ٢٦٠) انه لما قيل للحسين هذه ارض كربلا اخذ ترابها فشمها وقال : واللّه هي الأرض التي اخبر بها جبرئيل رسول اللّه (ص) انني اقتل فيها ، وجاء في حياة الحيوان للدميري ١ / ٦٠ ان الحسين سأل عن اسم المكان فقيل له كربلا ، فقال : ذات كرب وبلاء لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه فوقف وسأل عنه فأخبروه باسمه ، فقال : هاهنا محط رحالهم وهاهنا مهراق دمائهم فسئل عن ذلك؟ فقال : نفر من آل محمد ينزلون هاهنا ، ثم أمر باثقاله فحطت في ذلك المكان وكذلك جاء في مختصر صفوة الصفوة (٢٦٢).

٩١

وطفق يحدث اصحابه وقد ايقن بنزول الرزء القاصم قائلا :

«هذا موضع كرب وبلاء ، هاهنا مناخ ركابنا ، ومحط رحالنا وسفك دمائنا ..».

وطافت به الذكريات ، وقد مثل امامه ذلك اليوم الذي تحدث فيه ابوه امير المؤمنين وهو في هذه البقعة ، وكان في طريقه الى صفين ، فقال : هاهنا محط رحالهم ، ومهراق دمائهم .. فسئل عن ذلك فقال :

نفر من آل محمد ينزلون هاهنا وذابت الدنيا في عين الامام ، وانقطع كل امل له في الحياة ، وايقن ان اوصاله سوف تتقطع على صعيد هذه الأرض الا انه خلد الى الصبر ، واستسلم لقضاء اللّه وقدره»

ونهض الامام بقوة وعزم مع أصحابه وأهل بيته الى توطيد مخدرات الرسالة وعقائل الوحي ، فنصبوا لهن الخيام وكانت خيم الأصحاب ، وخيم أهل البيت ، محيطة بها عن اليمين والشمال ، واسرع فتيان بني هاشم فانزلوا السيدات من المحامل ، وجاءوا بهن إلى خيامهن ، وقد استولى عليهن الرعب والذعر ، فقد احسسن بالاخطار الهائلة التي ستجري عليهن في هذه الأرض.

موضع الخيام :

ونصبت خيام اهل البيت (ع) في البقعة الطاهرة التي لا تزال آثارها باقية إلى اليوم (١) يقول السيد هبة الدين الشهرستاني : «وأقام الامام

__________________

(١) بغية النبلاء في تاريخ كربلاء ٢ / ٦ للسيد عبد الحسين سادن الروضة الحسينية في مكتبة المحامي السيد عادل الكليدار.

٩٢

في بقعة بعيدة عن الماء تحيط بها سلسلة ممدودة ، وربوات تبدأ من الشمال الشرقي متصلة بموضع باب السدرة في الشمال ، وهكذا إلى موضع الباب الزينبي إلى جهة الغرب ، ثم تنزل إلى موضع الباب القبلي من جهة الجنوب وكانت هذه التلال المتقاربة تشكل للناظرين نصف دائرة ، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ريحانة الرسول (ص)» (١) ونفى صديقنا الاستاذ السيد محمد حسن الكليدار أن يكون الموضع المعروف بمخيم الحسين هو الموضع الذي حط فيه الامام اثقاله ، وانما يقع المخيم بمكان نائي بالقرب من المستشفى الحسيني ، مستندا في ذلك إلى أن التخطيط العسكري المتبع في تلك العصور يقضي بالفصل بين القوى المتحاربة بما يقرب من ميلين ، وذلك لما تحتاجه العمليات الحربية من جولان الخيل وغيرها من مسافة ، كما ان نصب الخيام لا بد أن يكون بعيدا عن رمي السهام والنبال المتبادلة بين المحاربين واستند أيضا إلى بعض الشواهد التأريخية التي تؤيد ما ذهب إليه (٢).

واكبر الظن ان المخيم انما هو في موضعه الحالي ، أو يبعد عنه بقليل وذلك لأن الجيش الأموي المكثف الذي زحف لحرب الامام لم يكن قباله إلا معسكر صغير عبر عنه الحسين بالأسرة ، فلم تكن القوى العسكرية متكافئة في العدد حتى يفصل بينهما بميلين أو اكثر ..

لقد احاط الجيش الأموي بمعسكر الامام حتى انه لما اطلق ابن سعد السهم الذي انذر به بداية القتال ، واطلق الرماة من جيشه سهامهم لم يبق احد من معسكر الامام إلا اصابه سهم حتى اخترقت السهام بعض ازر النساء ، ولو كانت المسافة بعيدة لما اصيبت نساء أهل البيت بسهامهم

__________________

(١) نهضة الحسين (ص ٩٩)

(٢) مدينة الحسين ٢ / ٢٤

٩٣

ومما يدعم ما ذكرناه ان الامام الحسين (ع) لما خطب في الجيش الأموي سمعت نساؤه خطابه فارتفعت اصواتهن بالبكاء ، ولو كانت المسافة بعيدة لما انتهى خطابه إليهن ، وهناك كثير من البوادر التي تدل على أن المخيم في وضعه الحالي.

٩٤

فى كربلاء

٩٥
٩٦

وأقام موكب العترة الطاهرة في كربلا يوم الخميس المصادف اليوم الثاني من المحرم سنة (٦١ هـ) (١) وقد خيم الرعب على اهل البيت ، وايقنوا بنزول الرزء القاصم ، وعلم الامام مغبة الأمر ، وتجلت له الخطوب المفزعة ، والأحداث الرهيبة التي سيعانيها على صعيد كربلا ، ويقول المؤرخون : انه جمع أهل بيته واصحابه فالقى عليهم نظرة حنان وعطف وايقن انهم عن قريب سوف تتقطع أوصالهم ، فاغرق في البكاء. ورفع يديه بالدعاء يناجي ربه ، ويشكو إليه ما المّ به من عظيم الرزايا والخطوب قائلا :

«اللهم : انا عترة نبيك محمد (ص) قد أخرجنا وطردنا وازعجنا عن حرم جدنا ، وتعدت بنو أمية علينا اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين.».

ثم اقبل على اولئك الابطال فقال لهم :

«الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فاذا محصوا بالبلاء ، قلّ الديانون» (٢).

يا لها من كلمات مشرقة حكت واقع الناس في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا في كل زمان ومكان ، واما الدين فلا ظل له في اعماق

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١ / ٢٤٠ ، وكان هلال المحرم في تلك السنة يوم الأربعاء جاء ذلك في (الافادة في تأريخ الأئمة السادة)

(٢) ضبط ابو هلال الحسن بن عبد اللّه العسكري في كتابه (الصناعتين) كلام الامام الحسين بهذه الصورة «الناس عبيد الدنيا والدين لغو على السنتهم يحوطونه ما درّت به معايشهم فاذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون».

٩٧

نفرسهم ، فاذا دهمتهم عاصفة من البلاء تنكروا له وابتعدوا منه ... نعم ان الدين بجوهره انما هو عند الامام الحسين وعند الصفوة من أهل بيته واصحابه فقد امتزج بمشاعرهم ، وتفاعل مع عواطفهم فانبروا الى ساحات الموت ليرفعوا شأنه ، وقد اعطوا بتضحيتهم دروسا لاجيال الدنيا في الولاء الباهر للدين.

وبعد حمد اللّه والثناء عليه خاطب اصحابه قائلا :

«اما بعد : فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيرت ، وتنكرت وادبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (١). الا ترون الى الحق لا يعمل به ، والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء اللّه فاني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما» (٢).

لقد أدلى بهذا الخطاب عما نزل به من المحن والبلوى ، واعلمهم ان الظروف مهما تلبدت بالمشاكل والخطوب فانه لا ينثني عن عزمه الجبار لاقامة الحق الذي خلص له .. وقد وجه (ع) هذا الخطاب لاصحابه لا ليستدر عواطفهم ، ولا ليستجلب نصرهم ، فما ذا يغنون عنه بعد ما احاطت به القوى المكثفة التي ملئت البيداء ، وانما قال ذلك ليشاركونه المسئولية في اقامة الحق الذي آمن به واختاره قاعدة صلبة لنهضته الخالدة وقد

__________________

(١) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله أي سوء عاقبته.

(٢) معجم الطبراني من مصورات مكتبة امير المؤمنين ، تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤ من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين ، تأريخ الاسلام للذهبي ٢ / ٣٤٥ ، حلية الأولياء ٢ / ٣٩.

٩٨

جعل الموت في هذا السبيل هو الآمل الباسم في حياته الذي لا يضارعه أي أمل آخر.

ولما انهى خطابه هبّ اصحابه جميعا ، وهم يضربون أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل العدل والحق .. وكان اول من تكلم من اصحابه زهير بن القين وهو من افذاذ الدنيا فقد قال :

«سمعنا يا بن رسول اللّه (ص) مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخالدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة فيها»

ومثلت هذه الكلمات شرف الانسان وانطلاقه في سبيل الخير ، وبلغ كلام زهير في نفوس الأنصار اقصى الرضا ، وحكى ما صمموا عليه من الولاء للامام والتفاني في سبيله .. وانبرى بطل آخر من أصحاب الامام وهو برير الذي ارخص حياته في سبيل اللّه فخاطب الامام :

«يا بن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك اعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة».

لقد أيقن برير ان نصرته للامام فضل من اللّه عليه ، ليفوز بشفاعة رسول اللّه (ص) .. وقام نافع وهو يقرر نفس المصير الذي اختاره الأبطال من اخوانه قائلا :

«أنت تعلم أن جدك رسول اللّه (ص) لم يقدر أن يشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحب ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمر من الحنظل ، حتى قبضه اللّه إليه ، وان أباك عليا كان في مثل ذلك فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة اللّه ورضوانه .. وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضر الا نفسه واللّه مغن عنه

٩٩

فسر بنا راشدا معافى ، مشرقا إن شئت او مغربا ، فو اللّه ما اشفقنا من قدر اللّه ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، وإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك» (١).

وتكلم اكثر اصحاب الامام بمثل هذا الكلام ، وقد شكرهم الامام على هذا الاخلاص والتفاني في سبيل اللّه.

انتظار الاسدي للامام :

والتحق بالامام فور قدومه إلى كربلا رجل من بني أسد اهمل المؤرخون اسمه ، وقد حكى قصبته العريان بن الهيثم قال : كان أبي ينزل قريبا من الموضع الذي كانت فيه واقعة الطف ، وكنا لا نجتاز في ذلك المكان الا وجدنا رجلا من بني أسد مقيما هناك ، فقال له ابي : إني اراك ملازما هذا المكان؟ فقال له : بلغني أن حسينا يقتل هاهنا ، فانما أخرج لعلي أصادفه فاقتل معه ، ولما قتل الحسين قال أبي : انطلق معي لننظر إلى الأسدي هل قتل؟ فأتينا المعركة وطفنا في القتلى فرأينا الأسدي معهم (٢) لقد فاز بالشهادة بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص) ونال أسمى المراتب ، فكان في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.

رسالة الامام لابن الحنفية :

ورفع الامام (ع) رسالة من كربلا إلى أخيه محمد بن الحنفية وسائر بنى هاشم ، نعى فيها نفسه ، واعرب عن دنو الأجل المحتوم منه هذا نصها : «أما بعد : فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل

__________________

(١) مقتل المقرم (ص ٢٣١)

(٢) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤

١٠٠