حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

لقد جردهم الامام بهذه الكلمات من الاطار الاسلامي ، واضافهم إلى آل أبي سفيان العدو الأول للاسلام وتزعم من بعده أبناؤه القوى الباغية عليه ، وما كارثة كربلا الا امتداد لاحقادهم واضغانهم على نبي الاسلام ... وقد دعاهم (ع) الى الاحتفاظ بالتقاليد العربية التي كانت سائدة في أيام الجاهلية من عدم التعرض للنساء والأطفال بأي أذى أو مكروه.

وانبرى الوغد الخبيث شمر بن ذي الجوشن فقال للامام :

«ما تقول يا ابن فاطمة؟»

وحسب الرجس أنه قد انتقص الامام بنسبته الى أمه سيدة النساء ، ولم يعلم أنه نسبه إلى معدن الطهر والنبوة ، وحسب الحسين فخرا ومجدا أن تكون أمه سيدة نساء العالمين حسبما يقول الرسول (ص) (١).

فقال له الامام

«أنا الذي أقاتلكم ، والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا».

فأجابه الشمر الى ذلك ، وأحاط به القتلة المجرمون وهم يوسعونه ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح ، فجعلت جراحاته تتفجر دما.

__________________

(١) الثغور الباسمة في مناقب السيدة فاطمة (ص ٨٣) للحافظ السيوطي من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين ، وجاء فيه روى عمران ابن حصين أن النبي (ص) عاد فاطمة وهي مريضة فقال لها : كيف أنت؟ قالت : اني وجعة واني ليزيدني ألما مالي طعام أكله ، قال يا بنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين ، قالت : فاين مريم؟ قال : تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك.

٢٨١

خطابه الأخير :

ووجه الامام (ع) وهو بتلك الحالة خطابا لأعدائه حذرهم فيه من غرور الدنيا وفتنتها ، ويقول المؤرخون : انه لم يلبث بعده الا قليلا حتى استشهد ، وهذا نصه :

«عباد اللّه ، اتقوا اللّه ، وكونوا من الدنيا على حذر فان الدنيا لو بقيت لأحد ، وبقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء ، وأولى بالرضا ، وارضى بالقضاء ، غير أن اللّه تعالى خلق الدنيا للبلاء ، وخلق أهلها للفناء فجديدها بال ، ونعيمها مضمحل ، وسرورها مكفهر ، والمنزل بلغة ، والدار قلعة فتزودوا فان خير الزاد التقوى ، واتقوا اللّه لعلكم تفلحون» (١).

الامام يطلب ثوبا خلقا :

وطلب الامام من أهل بيته ان يأتوه بثوب خلق لا يرغب فيه احد ليجعله تحت ثيابه لئلا يسلب منه ، فأتوه بتبان (٢) فلم يرغب فيه وقال ذلك لباس من ضربت عليه الذلة ، وأخذ ثوبا فخرقه ، وجعله تحت ثيابه فلما قتل جردوه منه (٣).

__________________

(١) زهر الآداب ١ / ١٦٢ ، كفاية الطالب.

(٢) التبان : سراويل صغيرة

(٣) معجم الطبراني الكبير ١ / ١٤٠

٢٨٢

وداعه لعياله :

وقفل الامام راجعا الى عياله ليودعهم الوداع الأخير ، وجراحاته تتفجر دما وقد أوصى حرم الرسالة وعقائل الوحي بلبس الأزر والاستعداد للبلاء ، وأمرهن بالخلود الى الصبر والتسليم لقضاء اللّه قائلا :

«استعدوا للبلاء ، واعلموا ان اللّه تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ، ويجعل عاقبة امركم الى خير ، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم» (١).

تزول الدول ، وتذهب الممالك ، وتفنى الحضارات ، وهذا الايمان الذي لا حد له أحق بالبقاء واجدر بالخلود من كل كائن في هذه الحياة أي نفس تطيق مثل هذه الكوارث ، وتستقبلها برباطة جأش ورضا وتسليم لأمر اللّه ، انه ليس هناك غير الحسين أمل الرسول الأعظم (ص) وريحانته والصورة الكاملة التي تحكيه.

وذابت أسى ارواح بنات الرسول (ص) حينما رأين الامام بتلك الحالة يتعلقن به يودعنه ، وقد وجلت منهن القلوب ، واختطف الرعب الوانهن ، والتاع الامام حينما نظر إليهن وقد سرت الرعدة بأوصالهن يقول الامام كاشف الغطاء :

«من ذا الذي يقتدر أن يصور لك الحسين (ع) وقد تلاطمت امواج البلاء حوله ، وصبت عليه المصائب من كل جانب ، وفي تلك الحال عزم على توديع العيال ومن بقي من الأطفال فاقترب من السرادق المضروب على حرائر النبوة وبنات علي والزهراء (ع) فخرجت المخدرات

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٣٧)

٢٨٣

كسرب القطا المذعورة فاحطن به وهو سابح بدمائه ، فهل تستطيع أن تتصور حالهن وحال الحسين في ذلك الموقف الرهيب ولا يتفطر قلبك ، ولا يطيش لبك ، ولا تجري دمعتك» (١).

لقد كانت محنة الامام في توديعه لعياله من أقسى وأشق ما عاناه من المحن والخطوب ، فقد لطمن بنات رسول اللّه (ص) وجوههن ، وارتفعت اصواتهن بالبكاء والعويل ، وهن يندبن جدهن الرسول (ص) والقين بأنفسهن عليه لوداعه ، وقد اثر ذلك المنظر المريع في نفس الامام بما لا يعلم بمداه الا اللّه.

ونادى الرجز الخبيث عمر بن سعد بقواته المسلحة يحرضها على الهجوم على الامام قائلا :

«اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه ، فو اللّه ان فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم».

وحمل عليه الأخباث فجعلوا يرمونه بالسهام ، وتخالفت السهام بين اطناب المخيم ، وأصاب بعضها ازر بعض النساء فذعرن ودخلن الخيمة وخرج بقية اللّه في الأرض كالليث الغضبان على اولئك الممسوخين فجعل يحصد رءوسهم الخبيثة بسيفه ، وكانت السهام تأخذه يمينا وشمالا ، وهو يتقيها بصدره ونحره ، ومن بين تلك السهام التي فتكت به.

١ ـ سهم اصاب فمه الطاهر ، فتفجر دمه الشريف فوضع يده تحت الجرح فلما امتلأت دما رفعه إلى السماء وجعل يخاطب اللّه تعالى قائلا :

«اللهم ان هذا فيك قليل» (٢)

__________________

(١) جنة المأوى (ص ١١٥)

(٢) الدر النظيم (ص ١٦٨)

٢٨٤

٢ ـ سهم أصاب جبهته الشريفة المشرقة بنور النبوة والامامة رماه به ابو الحتوف الجعفي فانتزعه ، وقد تفجر دمه الشريف ، فرفع يديه بالدعاء على السفكة المجرمين قائلا :

«اللهم انك ترى ما أنا فيه من عبادك العصاة ، اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا ، ولا تغفر لهم أبدا» وصاح بالجيش :

«يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته ، أما انكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي ، وأيم اللّه اني لأرجو أن يكرمني اللّه بالشهادة ، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ...» (١).

لقد كان جزاء الرسول (ص) الذي انقذهم من حياة البؤس والشقاء أن عدوا على ذريته فسفكوا دماءهم ، واقترفوا منهم ما تقشعر منه الجلود وتندى له الوجوه .. وقد استجاب اللّه دعاء الامام فأنتقم له من اعدائه المجرمين ، فلم يلبثوا قليلا حتى اجتاحتهم الفتن والعواصف ، فقد هب الثائر العظيم المختار طالبا بدم الامام فأخذ يطاردهم ويلاحقهم ، وقد هربوا في البيداء وشرطة المختار تطاردهم حتى أباد الكثيرين منهم ، يقول الزهري لم يبق من قتلة الحسين أحد الا عوقب اما بالقتل أو العمى أو سواد الوجه ، او زوال الملك في مدة يسيرة (٢).

٣ ـ وهو من أعظم السهام التي فتكت بالامام. يقول المؤرخون :

ان الامام وقف ليستريح بعد ما اعياه نزيف الدماء ، فرماه وغد بحجر أصاب جبهته الشريفة فسالت الدماء على وجهه فأخذ الثوب ليمسح الدم

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٣٩)

(٢) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤

٢٨٥

عن عينيه ، فرماه رجس بسهم محدد له ثلاث شعب فوقع على قلبه الشريف الذي يحمل العطف والحنان لجميع الناس ، فعند ذلك أيقن بدنو الأجل المحتوم منه فشخص ببصره نحو السماء وهو يقول :

«بسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه (ص) .. الهي انك تعلم انهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري».

وأخرج السهم من قفاه فانبعث الدم كالميزاب فأخذ يتلقاه بيديه فلما امتلأنا رمى به نحو السماء وهو يقول :

«هون ما نزل بي أنه بعين اللّه»

وأخذ الامام من دمه الشريف فلطخ به وجهه ولحيته ، وهو بتلك الهيبة التي تحكى هيبة الأنبياء واندفع يقول :

«هكذا اكون حتى القى اللّه وجدي رسول اللّه (ص) وأنا مخصب بدمي ..» (١).

٤ ـ رماه الحصين بن نمير بسهم أصاب فمه الشريف فتفجر دما فجعل يتلقى الدم بيده ويرمي به نحو السماء وهو يدعو على الجناة المجرمين قائلا :

«اللهم احصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تذر على الأرض منهم أحدا» (٢).

وتكاثرت عليه السهام حتى صار جسده الشريف قطعة منها .. وقد أجهده نزيف الدماء واعياه العطش ، فجلس على الأرض ، وهو ينأ برقبته من شدة الآلام فحمل عليه وهو بتلك الحالة الرجس الخبيث مالك

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٤

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٢٨٦

ابن النسر فشتمه وعلاه بالسيف ، وكان عليه برنس (١) فامتلأ دما ، فرمقه الامام بطرفه ، ودعا عليه قائلا :

«لا اكلت بيمينك ولا شربت وحشرك اللّه مع الظالمين»

والقى البرنس واعتم على القلنسوة (٢) فأسرع الباغي الى البرنس فأخذه وقد شلت يداه (٣).

الامام مع ابن رباح :

وكان مسلم بن رباح هو آخر من بقي من أصحاب الامام ، وكان معه ، وقد أصاب الامام سهم في وجهه الشريف فجلس على الأرض وانتزعه ، وقد تفجر دمه ، ولم تكن به طاقة فقال لابن رباح :

«ادن يديك من هذا الدم»

فوضع ابن رباح يديه تحت الجرح فلما امتلأنا دما قال له :

«اسكبه في يدي»

فسكبه في يديه ، فرفعهما نحو السماء وجعل يخاطب اللّه تعالى قائلا :

«اللهم اطلب بدم ابن بنت نبيك»

ورمى بدمه الشريف نحو السماء فلم تقع منه قطرة واحدة الى الأرض فيما يقول ابن رباح (٤).

__________________

(١) البرنس : قلنسوة طويلة كانت تلبس في صدر الاسلام

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٤

(٣) انساب الاشراف ق ١ ج ١

(٤) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٧ ، كفاية الطالب في مناقب علي ابن أبي طالب من مخطوطات مكتبة كاشف الغطاء العامة.

٢٨٧

مناجاته مع اللّه :

واتجه الامام (ع) في تلك اللحظات الأخيرة الى اللّه فأخذ يناجيه ويتضرع إليه بقلب منيب ويشكو إليه ما ألم به من الكوارث والخطوب قائلا :

«صبرا على قضائك لا إله سواك ، يا غياث المستغيثين ، مالي رب سواك ولا معبود غيرك. صبرا على حكمك ، يا غياث من لا غياث له ، يا دائما لا نفاد له يا محيى الموتى ، يا قائما على كل نفس احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (١).

انه الايمان الذي تفاعل مع جميع ذاتياته فكان من أهم عناصره ..

لقد تعلق باللّه وصبر على قضائه وفوض إليه جميع ما نزل به وعاناه من من الكوارث والخطوب ، وقد أنساه هذا الايمان العميق جميع ما حل به يقول الدكتور الشيخ احمد الوائلي في رائعته :

يا أبا الطف وازدهى بالضحايا

من أديم الطفوف روض خيل

نخبة من صحابة وشقيق

ورضيع مطوق وشبول

والشباب الفينان جف ففاضت

طلعة حلوة ووجه جميل

وتوغلت تستبين الضحايا

وزواكي الدماء منها تسيل

ومشت في شفاهك الغر نجوى

نم عنها التحميد والتهليل

لك عتبى يا رب إن كان يرضيك

فهذا الى رضاك قليل

 __________________

(١) مقتل المقرم (ص ٣٤٥)

٢٨٨

الهجوم عليه :

وهجمت على ريحانة رسول اللّه (ص) تلك العصابة المجرمة التي تحمل رجس الأرض وخبث اللئام فحملوا عليه ـ يا للّه ـ من كل جانب وهم يوسعونه ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح فضربه زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى ، وضربه وغد آخر على عاتقه ، وكان من احقد أعدائه عليه الخبيث سنان بن انس ، فقد أخذ يضربه تارة بالسيف واخرى يطعنه بالرمح ، وكان يفخر بذلك ، وقد حكى للحجاج ما صنعه به باعتزاز قائلا :

«دعمته بالرمح ، وهبرته بالسيف هبرا» (١)

فالتاع الحجاج على قسوته وصاح به : اما انكما لن تجتمعا في دار (٢).

وأحاط به اعداء اللّه من كل جانب ، وسيوفهم تقطر من دمه الزكي يقول بعض المؤرخين إنه لم يضرب أحد في الاسلام كما ضرب الحسين فقد وجد به مائة وعشرون جراحة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم (٣).

ومكث الامام مدة من الوقت على وجه الأرض ، وقد هابه الجميع ونكصوا من الاجهاز عليه يقول السيد حيدر :

فما اجلت الحرب عن مثله

صريعا يجبن شجعانها

 __________________

(١) هبرته : قطعته

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٤

(٣) الحدائق الوردية ١ / ١٢٦

٢٨٩

وكانت هيبته تأخذ بمجامع القلوب حتى قال بعض أعدائه : «لقد شغلنا جمال وجهه ونور بهجته عن الفكرة في قتله» وما انتهى إليه رجل الا انصرف كراهية أن يتولى قتله (١).

خروج العقيلة :

وخرجت حفيدة الرسول (ص) زينب من خبائها وهي فزعة تندب شقيقها وبقية أهلها وتقول بذوب روحها :

«ليت السماء وقعت على الأرض»

وأقبل ابن سعد فصاحت به : يا عمر أرضيت أن يقتل ابو عبد اللّه وأنت تنظر إليه؟ فأشاح الخبيث بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته المشومة (٢) ولم تعد العقيلة تقوى على النظر الى أخيها وهو بتلك الحالة التي تميد بالصبر ، فانصرفت إلى خبائها لترعى المذاعير من النساء والأطفال.

الفاجعة الكبرى :

ومكث الامام طويلا من النهار ، وقد أجهدته الجروح واعياه نزيف الدماء ، فصاح بالقتلة المجرمين :

«أعلى قتلي تجتمعون؟ اما واللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه وأيم اللّه إني لأرجو ان يكرمني اللّه بهوانكم ، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ..».

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) جواهر المطالب في مناقب الامام علي بن أبي طالب (ص ١٣٩)

٢٩٠

وكان الشقي الأثيم سنان بن أنس قد شهر سيفه فلم يدع أحدا يدنو من الامام مخافة أن يغلبه على أخذ رأسه فيخسر الجائزة من سيده ابن مرجانة ، والتفت الخبيث عمر بن سعد إلى شبث بن ربعي فقال له :

«انزل فجئني برأسه»

فانكر عليه شبث وقال له :

«انا بايعته ثم غدرت به ، ثم انزل فاحتز رأسه لا واللّه لا أفعل ذلك ..».

والتاع ابن سعد فراح يهدده :

«اذا اكتب الى ابن زياد»

«اكتب له» (١)

وصاح شمر بالأوغاد المجرمين من أصحابه : ويحكم ما ذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم امهاتكم فاندفع خولى بن يزيد الى الاجهاز عليه الا انه ضعف وأرعد فقد اخذته هيبة الامام فأنكر عليه الرجس سنان بن أنس وصاح به : فتّ اللّه في عضدك وأبان يدك ، واشتد كالكلب على الامام فاحتز رأسه الشريف فيما يقول بعض المؤرخين (٢) ، وسنذكر الأقوال في ذلك.

واحتز رأس الامام (ع) وكانت على شفتيه ابتسامة الرضا والاطمئنان والنصر الذي احرزه الى الأبد.

لقد قدم الامام روحه ثمنا للقرآن الكريم ، وثمنا لكل ما تسمو به الانسانية من شرف وعز واباء .. وقد كان الثمن الذي بذله غاليا وعظيما فقد قتل مظلوما مهضوما غريبا بعد أن رزىء بابنائه وأهل بيته وأصحابه

__________________

(١) الدر النظيم في مناقب الأئمة (ص ١٦٨)

(٢) مناقب الخوارزمي ٢ / ٣٦

٢٩١

وذبح هو عطشانا أمام عائلته ، فأي ثمن اغلى من هذا الثمن الذي قدمه الامام قربانا خالصا لوجه اللّه؟

لقد تاجر الامام مع اللّه بما قدمه من عظيم التضحية والفداء ، فكانت تجارته هي التجارة الرابحة قال اللّه تعالى :

(إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْرٰاةِ واَلْإِنْجِيلِ واَلْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّٰهِ ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بٰايَعْتُمْ بِهِ وذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ) (١).

والشيء المحقق ان الامام قد ربح بتجارته وفاز بالفخر الذي لم يفز به أحد غيره ، فليس في اسرة شهداء الحق من نال الشرف والمجد والخلود مثل ما ناله الامام فها هي الدنيا تعج بذكراه ، وها هو حرمه المقدس اصبح اعز حرم وامنعه في الأرض.

لقد رفع الامام العظيم راية الاسلام عالية خفاقة وهي ملطخة بدمه ودماء الشهداء من أهل بيته وأصحابه : وهي تضيء في رحاب هذا الكون وتفتح الآفاق الكريمة لشعوب العالم وأمم الأرض لحربتهم وكرامتهم.

لقد استشهد الامام من اجل أن يقيم في ربوع هذا الكون دولة الحق ، وينقذ المجتمع من حكم الأمويين الذين كفروا بحقوق الانسان ، وحولوا البلاد الى مزرعة لهم يصيبون منها حيث ما شاءوا.

القاتل الأثيم :

واختلف المؤرخون في المجرم الأثيم الذي اجهز على ريحانة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وهذه بعض الأقوال :

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١١٠

٢٩٢

١ ـ سنان بن أنس

وذهب الكثيرون من المؤرخين الى ان الشقي الأثيم سنان بن أنس هو الذي احتز رأس الامام (ع) (١) وفيه يقول الشاعر :

وأي رزية عدلت حسينا غداة تبيره كفا سنان (٢)

٢ ـ شمر بن ذي الجوشن

وصرحت بعض المصادر ان الأبرص شمر بن ذي الجوشن هو الذي قتل الامام (٣) فقد كان هذا الخبيث من أحقد الناس على الامام يقول المستشرق رينهارت دوزى : ولم يتردد الشمر لحظة بقتل حفيد الرسول (ص) حين احجم غيره عن هذا الجرم الشنيع. وان كانوا مثله في الكفر (٤).

٣ ـ عمر بن سعد

وذكر المقريزي وغيره ان عمر بن سعد هو الذي قتل الامام بعد أن احجم غيره من السفكة المجرمين من قتله (٥).

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٥ ، مقاتل الطالبيين (ص ١١٨) البداية والنهاية ٨ / ١٨٨ ، أنساب الأشراف ق ١ ج ١ ، تأريخ القضاعي

(٢) الاستيعاب ١ / ٣٧٩

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٦ ، مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٤٧)

(٤) مسلمي اسبانيا

(٥) خطط المقريزي ٢ / ٢٨٦ ، مناقب ابن شهر اشوب ٥ / ١١٩ من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين.

٢٩٣

٤ ـ خولى بن يزيد الاصبحي

وتعزو بعض المصادر ان خولى بن يزيد الأصبحي هو الذي قتل الامام واحتز رأسه (١)

٥ ـ شبل بن يزيد الأصبحي

ونص بعض المؤرخين على ان خولى بن يزيد الأصبحي نزل عن فرسه ليحتز رأس الامام فارتعدت يداه فنزل إليه اخوه شبل فاحتز رأسه ودفعه إليه (٢).

٦ ـ الحصين بن نمر

نص على ذلك بعض المؤرخين (٣)

٧ ـ رجل من مذحج

ذكر ذلك ابن حجر (٤) وانفرد هو بنقله.

__________________

(١) درر الابكار في وصف الصفوة الاخيار (ص ٣٨) وجاء فيه ان عمر بن سعد قال لأصحابه : انزلوا فحزوا رأسه فنزل إليه نصر بن حرشة الضبابي فجعل يضرب بسيفه في مذبح الحسين فغضب ابن سعد ، وقال لرجل عن يمينه : ويحك انزل الى الحسين فارحه فنزل إليه خولى فاحتز رأسه.

(٢) تأريخ الخميس ٢ / ٣٣٣

(٣) المعجم الكبير للطبراني ، الافادة في تأريخ الأئمة السادة

(٤) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٣

٢٩٤

٨ ـ المهاجر بن أوس

نص على ذلك السبط ابن الجوزي (١) ولم يذكره غيره

هذه بعض الأقوال ، والذي نراه ان شمر بن ذي الجوشن ممن تولى قتل الامام ، واشترك مع سنان في حز رأسه ، كما ذهب لذلك بعض المؤرخين (٢).

وعلى أي حال فالويل لذلك الشقي الذي قدم على اقتراف هذه الجريمة التي هي أبشع ما اقترفت من يوم خلق اللّه هذه الأرض حتى يرثها وقد أثر عن النبي (ص) عما يلاقيه قاتل الحسين في الدار الآخرة من العذاب الأليم قال (ص) : «ان قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار ، وقد شدت يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، منكس في النار حتى يقع في نار جهنم وله ريح يتعوذ أهل النار الى ربهم من شدة ريح نتنه ، وهو فيها خالد ذائق العذاب العظيم ، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها حتى يذوقوا العذاب الأليم ، لا يفتر عنهم ساعة ، وسقوا من حميم جهنم ، ويل لهم من عذاب اللّه عز وجل» (٣).

بأي وجه يلقى رسول اللّه (ص) وقد اثكله بريحانته ، وسبطه ، يقول منصور النمري :

ويلك يا قاتل الحسين لقد

نؤت بحمل ينوء بالحامل

 __________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان

(٢) الافادة في تأريخ الأئمة السادة

(٣) مناقب ابن المغازلي : رقم الحديث (ص ٣٩٠) بخط المحقق الاميني في مكتبة الامام امير المؤمنين.

٢٩٥

أي حباء حبوت أحمد في

حفرته من حرارة الثاكل

بأي وجه تلقى النبي وقد

دخلت في قتله مع القاتل (١)

عمر الامام وسنة شهادته :

أما عمر الامام (ع) حين شهادته فقد اختلف فيه المؤرخون ، وهذه بعض الأقوال :

١ ـ (٥٨) سنة : وإليه ذهب معظم المؤرخين (٢)

٢ ـ (٥٦) سنة : وإليه ذهب اليعقوبي وقال : لأنه ولد سنة (٤) من الهجرة (٣).

٣ ـ (٥٧) سنة : (٤)

٤ ـ (٦٥) سنة : (٥)

أما السنة التي استشهد فيها فهي سنة (٦١ هـ) حسبما ذكره أغلب المؤرخين (٦)

__________________

(١) زهر الآداب ٣ / ٦٦٩ ، الأغاني ١٢ / ٢١ ، أمالي السيد المرتضى

(٢) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٦ ، الاستيعاب ١ / ٣٨١ ، الارشاد (ص ٢٨٣) البداية والنهاية ٨ / ١٩٨ ، المعجم الكبير للطبراني ، الافادة في تأريخ الأئمة السادة ، مجمع الزوائد ٩ / ١٩٨

(٣) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٨

(٤) الاستيعاب ١ / ٣٨١ المطبوع على هامش الاصابة

(٥) مرآة الجنان ١ / ١٣١

(٦) اسد الغابة ٢ / ٢٠ ، الاصابة ١ / ٣٣٤ ، الاستيعاب ١ / ٣٨١ مجمع الزوائد ٩ / ١٩٧ ، تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٨.

٢٩٦

وهي تصادف سنة (٦٨٠ م) في (١٠) اكتوبر تشرين الأول (١) وما ذكره الحجة الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء رحمه اللّه انه في «(١٠) تموز» (٢) فانه لا واقع له .. يقول المؤرخون إنه وكانت بين وفاة النبي (ص) واليوم الذي قتل فيه الحسين خمسون سنة (٣) ولم يرع المسلمون أنه ريحانة نبيهم وسبطه الذي خلفه في أمته.

امتداد الحمرة في السماء :

ومادت الأرض واسودت آفاق الكون (٤) وامتدت حمرة رهيبة في السماء (٥) كانت نذيرا من اللّه لأولئك السفكة المجرمين الذي انتهكوا جميع حرمات اللّه ، وفي هذا الافق الملتهب بالحمرة والنار يقول ابو العلاء المعري :

وعلى الأفق من دماء الشهيد

بن علي ونجله شاهدان

فهما في اواخر الليل فجرا

ن وفي اولياته شفقان

ثبتا في قميصه ليجيء الحشر

مستعد يا الى الرحمن

 __________________

(١) تأريخ الدول العربية (ص ١٤٤) الجدول الملحق بفجر الاسلام (ص ٣٠٥) الجدول الملحق بتأريخ الدول لابن العبري ، وهو يتفق مع ما ذكره اليعقوبي في تحديد الشهر.

(٢) مجلة الغري السنة الأولى (عدد ٢٣ و ٢٤)

(٣) تأريخ الخميس ٢ / ٣٣٤

(٤) مرآة الجنان ١ / ١٣٤ ، خطط المقريزي ٢ / ٢٨٥ ، تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٥

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٧ ، الاتحاف بحب الاشراف (ص ٢٤)

٢٩٧

وقد انكشفت الشمس ، وكانت قد مالت الى الغروب ، وقد شاركت العالم البائس احزانه واشجانه.

فرس الحسين :

وصبغ فرس الحسين ناصيته بدم الامام الشهيد واقبل يركض وهو مذعور نحو خيمة الحسين ليعلم العيال بقتله ، ولما نظرت إليه النساء علمن بمقتله (١) وفي زيارة الناحية «فلما نظرن النساء الى الجواد مخزيا ، والسرج عليه ملويا خرجن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العز مذللات والى مصرع الحسين مبادرات».

ونادت عقيلة الوحي :

«وا محمداه ، وا أبتاه وا علياه ، وا جعفراه ، وا حمزتاه ، هذا حسين بالعراء ، صريع بكربلاء .. ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل» (٢).

وذهل الجيش ، وود أن تخيس به الأرض ، وجرت دموع أولئك الجفاة من هول مصيبة بنات الرسالة.

حرق الخيام :

وعمد الأخباث اللئام الى حرق خيام الامام غير حافلين بما تضم من

__________________

(١) التأريخ المظفري (ص ٢٣٠) من مصورات مكتبة الامام الحكيم

(٢) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٤٦)

٢٩٨

بنات الرسالة وعقائل الوحي ، وقد حملوا أقبسة من النار (١) ومناديهم ينادي.

«احرقوا بيوت الظالمين»

يا للّه!! لقد كان بيت الامام ـ حسب ما يزعمون ـ بيت الظلم ، وبيت ابن مرجانة بيت العدل ، وقد اغرق هو وابوه الناس في الظلم والجور.

وحينما التهبت النار في الخيم فررن بنات الرسالة وعقائل الوحي من خباء والنار تلاحقهن ، أما اليتامى فقد علا صراخهم فبين من تعلق باذيال عمته الحوراء لتحميه من النار ، وتصد عنه اعتداء الجفاة وبين من هام على وجهه في البيداء ، وبين من يستغيث بأولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والعطف ، لقد كان ذلك المنظر مما تتصدع له الجبال ولم يغب عن ذهن الامام زين العابدين طيلة المدة التي عاشها بعد أبيه ، فكان دوما يذكره مشفوعا بالأسى والعبرات وهو يقول :

«واللّه ما نظرت الى عماتي واخواتي الا وخنقتني العبرة وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة الى خيمة ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي احرقوا بيوت الظالمين».

سلب جثة الامام :

واقترف جيش ابن سعد اسوأ الماثم وافظع الجرائم فقد هرعوا بجشع وجثة الامام العظيم فجعلوا ينهبون ما عليها ما عليها من لامة حرب أو ثياب فأخذ رجل من بني نهشل سيفه (٢) وهو سيف النبي (ص) المسمى

__________________

(١) التأريخ المظفري (ص ٢٢٨)

(٢) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٢٩٩

بذي الفقار (١) واخذ قيس بن الأشعث احد قادة ذلك الجيش قطيفة الامام وكانت من خز ، فعيب عليه وسمي قيس القطيفة وسلب قميصه اسحاق بن حوية ، واخذ الأخنس بن مرشد عمامته (٢) واخذ بحير سراويله فلبسها فصار زمنا مقعدا (٣) ولم يتركوا على جثمان الامام الا السراويل التي عمد الامام على تمزيقها حتى يتركوها على جسده.

وجاء احط البشرية واقذرها بجدل ففتش عن مغنم يجده على جسم الامام فلم يجد شيئا وفتش مليا فرأى خاتم الامام في يده وقد بنت عليه الدماء فعمد الى قطع اصبعه وأخذه (٤) وترك البغاة جثمان الامام عاريا تصهره الشمس.

سلب حرائر النبوة :

وعمد ارذال أهل الكوفة وعبيد ابن مرجانة الى سلب حرائر النبوة وعقائل الرسالة فسلبوا ما عليهن من حلي وحلل ، ومال وغد من ارغادهم

__________________

(١) التأريخ السياسي للدول العربية ٢ / ٧٥ وجاء في هامشه أن هذا السيف غنمه النبي (ص) يوم بدر (ابن هذيل حلية الفرسان وشعار الشجعان ص ١٥) ، وسمي بذي الفقار لأنه كان يشبه في شكله فقرات الظهر (كنوز الفاطميين ص ٥٤) وقد انتقل هذا السيف الى حيازة العباسيين ومن بعدهم إلى الفاطميين (المجالس مخطوط).

(٢) مقتل الحسين للمقرم (ص ٣٤٧)

(٣) تأريخ المظفري (ص ٢٣٠)

(٤) شرح شافية ابي فراس ٢ / ٢

٣٠٠