حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

«عند اللّه احتسب نفسي وحماة اصحابي» (١)

مصرع الحر :

وبرز البطل العظم الحر بن يزيد الرياحي الذي استجاب لنداء الحق وآثر الآخرة على الدنيا فاستقبل الموت بثغر باسم وسرور بالغ لنصرة ريحانة رسول اللّه (ص) وجعل يقاتل اعنف القتال واشده وهو يرتجز :

اني أنا الحر ومأوى الضيف

أضرب في اعراضكم بالسيف

عن خير من حلّ بلاد الخيف

اضربكم ولا أرى من حيف (٢)

لقد دلل بهذا الرجز على كرمه وسخائه وان بيته كان مأوى للضيوف وموطنا للقاصدين ، كما أعلن انه انما يضرب في اعناقهم بسيفه حماية عن الامام العظيم الذي هو خير من استوطن بلاد الخيف ، وهو بذلك لا يرى بأسا أو حيفا في قتاله لهم.

وكان الحر يقاتل ومعه زهير بن القين ، وكان اذا شد أحدهما واستلحم شد الآخر واستنقذه وداما على ذلك ساعة (٣) واصيب فرس الحر بجراحات فلم ينزل عنه وانما ظل يقاتل عليه وكان يتمثل بقول عنترة :

ما زلت أرميهم بثغرة نحره

ولبانه حتى تسربل بالدم

وكانت بين الحر وبين يزيد بن سفيان عداوة قديمة ومتأصلة فاستغلها الحصين بن نمير فقال له : هذا الحر الذي كنت تتمنى قتله ، وحمل عليه يزيد فشد عليه الحر فقتله ، وسدد ايوب بن مشرح سهما لفرس الحر

__________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٢ ، تأريخ الطبري ٦ / ٢٥١

(٢) الفتوح ٥ / ١٨٥

(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٨٣

٢٢١

فعقره وشب به الفرس فوثب عنه كأنه الليث ، ولم يصب بضرر وجعل يقاتل ببسالة وهو راجل حتى قتل فيما يقول بعض المؤرخين نيفا واربعين رجلا (١) وحملت عليه الرجالة بسيوفها ورماحها فاردته إلى الأرض صريعا يتخبط بدمه الزاكي ، وبادر اصحاب الامام فحملوه ووضعوه أمام الفسطاط الذي كانوا يقاتل دونه ، ووقف عليه الامام فجعل يتأمل وجهه الوديع بنظرات ملؤها نور اللّه ، ووقف اصحابه في خشوع وانبرى الامام فجعل يمسح الدم من وجهه وهو يؤبنه بهذه الكلمات.

«أنت الحر كما سمتك أمك ، وأنت الحر في الدنيا والآخرة»

لقد كان الحر حرا حينما تغلب عقله على هواه واختار الشهادة على الحياة فنصر سيد شباب أهل الجنة ، ومات ميتة كريمة في سبيل الحق ، وانبرى بعض أصحاب الامام فرثاه بخشوع :

لنعم الحر حر بني رياح

صبور عند مشتبك الرماح

ونعم الحر اذ فادى حسينا

وجاد بنفسه عند الصباح (٢)

اداء فريضة الصلاة :

وبالرغم مما كان الامام يعانيه من الخطوب الفادحة التي تتصدع من هولها الجبال فان فكره كان مشغولا بأداء فريضة الصلاة التي هي من أهم العبادات في الاسلام ، وطلب من أعدائه أن يمهلوه ليصلي لربه ، فاستجابوا له ، واقبل على اللّه بقلب منيب فصلى بمن بقي من اصحابه

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٨٣

(٢) المناقب ٤ / ٢١٧

٢٢٢

صلاة الخوف (١) وكانت صلاته في تلك اللحظات الرهيبة من اصدق مظاهر الاخلاص والطاعة للّه ، وانبرى امام الحسين سعيد بن عبد اللّه الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح التي تواجهه من معسكر الأعداء الذين خاسوا ما عاهدوا الامام عليه من ايقاف عمليات الحرب حتى يؤدي فريضة اللّه فقد اغتنموا الفرصة فراحوا يرشقون الامام واصحابه بسهامهم ، وكان سعيد الحنفي فيما يقول المؤرخون ـ يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتا كأنه الجبل ألم تزحزحه السهام التي اتخذته هدفا لها ، ولم يكد يفرغ الامام من صلاته حتى اثخن بالجراح فهوى إلى الأرض يتخبط بدمه ، وهو يقول بنبرات خافتة :

«اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، وابلغ نبيك مني السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح فاني أردت بذلك ثوابك ونصرة ذرية نبيك».

والتفت الى الامام ليرى هل أدى حقه ووفى له بعهده قائلا :

«أوفيت يا ابن رسول اللّه (ص)؟»

فأجابه الامام شاكرا له :

«نعم أنت امامي في الجنة»

واترعت نفسه بالرضا والمسرات حينما سمع قول الامام ثم فاضت نفسه الزكية إلى بارئها ، وقد تخرق جسده من السهام والرماح فقد اصيب بثلاثة عشر سهما عدا الضرب والطعن (٢) لقد كان حقا هذا هو الوفاء الذي لا يبلغه وصف ولا اطراء.

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٩٧)

٢٢٣

مصرع زهير :

ومن انصار الامام الحسين الذين صهر نفوسهم الايمان باللّه زهير بن القين فقد كان يتعجل الرواح الى الجنة لمصافحة الرسول (ص) وقد اتجه صوب الامام وهو جذلان مسرور بما يقوم به من التضحية في سبيله ، ووضع يده على منكب الحسين وهو يخاطبه بهذا الرجز :

اقدم هديت هاديا مهديا

فاليوم القى جدك النبيا

وحسنا والمرتضى عليا

وذا الجناحين الفتى الكميا

واسد اللّه الشهيد الحيا

وكشف هذا الرجز عن ايمانه الراسخ فانه على يقين لا يخامره شك انه سيحظى بملاقاة النبي (ص) ووصيه الامام امير المؤمنين والحسن وجعفرا وحمزة ، وكان ذلك من اروع ما يصبو إليه. واجابه الامام :

«وأنا القاهم على أثرك» (١)

وحمل البطل على معسكر ابن زياد وهو يرتجز :

أنا زهير وانا ابن القين

اذودكم بالسيف عن حسين

لقد عرفهم بنفسه ، واعلن لهم انه انما يناجزهم الحرب دفاعا عن سيده الحسين ، وقاتل كاعنف واشد ما يكون القتال ، وقد قتل فيما يقول المؤرخون مائة وعشرين رجلا (٢) وابلى فى المعركة بلاء يتعاظم عنه الوصف ، وشد عليه المهاجر بن اوس ، وكثير بن عبد اللّه الشعبي فقاتلاه ومشى لمصرعه الحسين وهو مثقل بالهموم والأحزان فألقى عليه نظرة الوداع الأخير ، وراح يؤبنه قائلا :

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٢٥٣

(٢) مقتل المقرم (ص ٢٩٩)

٢٢٤

«لا يبعدنك اللّه يا زهير ، ولعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير ..» (١).

مصرع نافع بن هلال :

وممن وهب حياته للّه نافع بن هلال الجملي (٢) فقد انبرى بايمان وصدق فجعل يرمي اعداء اللّه بسهام مسمومة كان قد كتب عليها اسمه وهو يقول :

ارمي بها معلمة أفواقها

مسمومة تجري بها اخفاقها

ليملأن أرضها رشاقها

والنفس لا ينفعها اشفاقها

ولم يزل يرميهم بسهامه حتى نفدت ثم عمد إلى سيفه فسله وحمل عليهم وهو يرتجز :

أنا الغلام التميمي البجلي

ديني على دين حسين بن علي

ان اقتل اليوم وهذا عملي

وذاك رأيي ألاقي عملي

لقد عرفهم بنفسه ، وعرفهم بعقيدته فهو على دين الحسين ريحانة رسول اللّه (ص) وهو انما يقاتل دفاعا عن عقيدته ومبدئه.

وجعل يقاتل بعزم شامخ قد استمد من وحدة سيده الحسين وغربته النشاط والحماس ، وقد قتل منهم اثني عشر رجلا سوى المجروحين (٣) وأحاط به اعداء اللّه فجعلوا يرشقونه بالسهام ويقذفونه بالحجارة حتى كسروا

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٢٥٣

(٢) وفي الطبري نافع بن هلال البجلي

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٢١

٢٢٥

عضدية ، فلم يتمكن أن يقل سيفه فبادروا إليه وأخذوه اسيرا إلى ابن سعد فقال له :

«ما حملك على ما صنعت بنفسك؟»

فأجابه جواب المؤمن بربه قائلا :

«ان ربي يعلم ما أردت»

والتفت إليه بعض أصحاب ابن سعد وقد رأى الدماء تسيل على وجهه ولحيته فقال له :

«أما ترى ما بك؟»

فقال مستهزئا ومثيرا لغضبهم :

«واللّه لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوى من جرحت ، وما الوم نفسي على الجاهد ، ولو بقيت لي عضد ما اسرتموني».

وثار الابرص الخبيث شمر بن ذي الجوشن فعمد إلى سيفه فسله ، فصاح به نافع :

«واللّه يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى اللّه بدمائنا فالحمد للّه الذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه».

اجل واللّه لو كان عند الشمر مسكة من الدين لما اقترف تلك الجرائم التي لا يقترفها إلا من لا علاقة له باللّه ، واندفع الوغد الى نافع فضرب عنقه (١) وبذلك انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي اخلص لدينه ، واخلص في الدفاع عن ابن رسول اللّه (ص) وهو من اعظم رجال الاسلام صلابة في الحق وصدقا في الدفاع عنه.

__________________

(١) تأريخ ابن كثير ٨ / ٨٤ ، انساب الاشراف ق ١ ج ١

٢٢٦

عابس مع شوذب :

ولما رأى البطل الملهم عابس بن شبيب الشاكري وحدة الامام واجتماع أهل الكوفة على قتله أقبل على رفيقه في الجهاد شوذب مولى شاكر (١) فقال له :

«يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟»

فانبرى شوذب يعلن ما صمم عليه من الفداء والتضحية قائلا :

«اقاتل حتى اقتل»

فشكره عابس وأثنى عليه قائلا :

«تقدم بين يدي أبي عبد اللّه حتى يحتسبك كما احتسب غيرك فان هذا يوم نطلب فيه الأجر بكل ما نقدر عليه».

فأي ايمان مثل هذا الايمان؟ انه كان يسعى جاهدا بجميع طاقاته ليظفر بما يقربه إلى اللّه زلفى ، وتقدم شوذب فأدى التحية الى الامام وحمل على معسكر ابن سعد فقاتل قتال الأبطال حتى استشهد بين يدي أبي عبد اللّه (٢).

مصرع عابس الشاكري :

وعابس الشاكري كان من اسرة عريقة في الشرف والنبل ، عرفت بالشجاعة والاخلاص للحق ، وفيهم يقول الامام علي (ع) : «لو تمت عدتهم الفا لعبد اللّه حق عبادته» وكانوا يلقبون «فتيان الصباح» وكان عابس

__________________

(١) ورد في الزيارة الرجبية (سويد مولى شاكر)

(٢) تأريخ الطبري ٦ / ٢٥٤

٢٢٧

في طليعة اسرته ، ومن افذاذهم وهو الذي حمل رسالة مسلم الى الحسين التي يطلب فيها قدومه الى العراق ، وظل ملازما للامام من مكة إلى كربلا وكان من ألمع أصحابه في الولاء والاخلاص له ، وقد تقدم إليه يطلب منه الاذن في القتال وخاطب الامام فأعرب له بما يحمله في نفسه من الولاء العميق قائلا :

«ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي منك ، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء اعز علي من نفسي لفعلت السلام عليك اشهد اني على هداك وهدى أبيك» (١).

ثم هجم على معسكر ابن سعد ، وطلب منهم المبارزة فلم يجبه أحد فقد جبنوا جميعا عن مقابلته لأنهم كانوا يعرفونه من اشجع الناس ، فجعلوا يتصايحون وقد ملأ الذعر قلوبهم واختطف الخوف الوانهم قائلين :

«هذا اسد الاسود ، هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم ..».

وصاح ابن سعد بجيشه :

«ارضخوه بالحجارة»

وعمدوا إلى الحجارة فجعلوا يرضخونه بها من كل جانب ، ولما رأى البطل جبنهم واحجامهم عن مقابلته القى درعه ومغفره وشد عليهم كالليث فكان يطرد ما بين يديه أكثر من مائة فارس ثم انعطفوا عليه من كل جانب فأردوه صريعا ، واحتزوا رأسه الشريف ، وجعلوا يتخاصمون فيما بينهم كل واحد منهم يدعي انه قتله ليحظى بالجائزة وانكر ابن سعد أن يكون قد قتله واحد منهم وانما اشترك في قتله جماعة منهم (٢) وقد انتهت بذلك حياة

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٢) تأريخ الطبري ٦ / ٢٥٤

٢٢٨

هذا البطل العظيم الذي أبلى في الدفاع عن الاسلام بلاء حسنا ، وجاهد جهاد النبيين.

هزيمة الضحاك :

وكان الضحاك بن عبد اللّه المشرفي من اصحاب الامام إلا انه لما رأى كثرة القتلى من أصحاب الحسين صمم على الهزيمة والفرار ، وجاء إلى الحسين فقال له :

«لقد كنت رافقتك على أن اقتل معك ما وجدت مقاتلا ، فأذن لي في الانصراف فاني لا أقدر على الدفاع عنك ، ولا عن نفسي».

واذن له الإمام في الانصراف فولى منهزما ، وعرض له قوم من اصحاب ابن سعد الا انهم خلوا سبيله فمضى هاربا فلم يرزق الشهادة بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص) (١).

شهادة جون :

وجون (٢) من أفذاذ الاسلام ، وهو مولى لأبي ذر الغفاري ، وكان شيخا كبيرا قد اترعت نفسه الشريفة بالتقوى والايمان ، ولم يمنعه سواد بشرته وتواضع حسبه أن يتبوأ المكان الرفيع ، ويكون من اعلام المسلمين فينال من الاكبار والتعظيم ما لم ينله أحد من أبطال التأريخ ، ويقول المؤرخون انه تقدم ضارعا الى الامام ليمنحه الاذن فيستشهد بين

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١ ، تأريخ الطبري ٦ / ٢٥٥

(٢) قيل اسمه حوي

٢٢٩

يديه فقال له الامام :

«يا جون انما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في اذن مني»

وهوى جون على قدمي الامام يوسعهما تقبيلا ودموعه تتبلور على خديه وهو يقول :

«أنا في الرخاء الحسن قصاعكم وفي الشدة اخذلكم ، ان ريحي لنتن وحسبي للئيم ، ولوني لأسود فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ، ويبيض لوني لا واللّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ..» (١).

أية عظمة عبرت عنها هذه الكلمات المشرقة؟ واي شرف انطوت عليه نفسه؟ .. ان لونه الأسود لأشرق وانضر من الوان اولئك العبيد وهو الحر بما يحمل من سمو النفس ، وشرف الذات ، وان ريحه لأطيب من ريحهم ، وان حسبه هو الحسب الوضاح ، وان اهل الكوفة هم المغمورون فى احسابهم فقد تنكروا لانسانيتهم ، وصاروا وصمة عار وخزي على البشرية بأسرها.

لقد حفل كلام جون بمنطق الأحرار فانه ليس من الانسانية في شيء أن ينعم في ظلال الامام أيام الرخاء ، ويخذله امام هذه المحنة القاسية ، لقد كان الوفاء من العناصر المميزة لكل فرد من أصحاب الامام أبي عبد اللّه على بقية شهداء العالم.

وأذن له الامام فبرز مزهوا وهو يرتجز :

كيف ترى الفجار ضرب الأسود

بالمشرفي القاطع المهند

بالسيف صلنا عن بني محمد

أذب عنهم باللسان واليد

 __________________

(١) مثير الاحزان لابن نما (ص ٢٣)

٢٣٠

ارجو بذاك الفوز يوم المورد

من الاله الواحد الموحد

إذ لا شفيع عنده كأحمد (١)

ودلل بهذا الرجز على بسالته وشجاعته ، وهو انما يدافع عن ابناء النبي (ص) ويذب عنهم بلسانه ويده لا يبتغي في ذلك أي شأن من شئون الدنيا ، وانما يرجو الفوز في الدار الآخرة والشفاعة من النبي العظيم (ص).

وقاتل جون قتال الأبطال فقتل فيما يقول المؤرخون خمسة وعشرين رجلا ، وحمل عليه أعداء اللّه فأردوه قتيلا ، وخف إليه الامام فجعل ينظر إلى جثمانه المخضب بالدماء واخذ يدعو له قائلا :

«اللهم بيض وجهه ، وطيب ريحه واحشره مع محمد ، وعرف بينه وبين آل محمد».

واستجاب اللّه دعاء الامام فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك (٢).

شهادة حنظلة الشبامي :

وحنظلة الشبامي ممن صاغ حياته على الايمان باللّه حتى بلغ أعلى مستويات القيم الانسانية تقدم إلى الامام بلهفة وشوق ليأخذ مكانه العالي مع الشهداء من اصحاب الامام وطلب منه الاذن ، فسمح له ، وتقدم الى ساحة القتال فجعل يعظ القوم ويذكرهم الدار الآخرة قائلا :

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٩٨

(٢) مقتل المقرم (ص ٢٠٤)

٢٣١

«يا قوم : اني اخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما اللّه يريد ظلما للعباد ، يا قوم إني اخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من اللّه من عاصم ، ومن يضلل اللّه فماله من هاد .. يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم اللّه بعذاب وقد خاب من افترى».

ولم يع أولئك الاوغاد كلامه وانما راحوا سادرين في طيشهم وضلالهم قد ختم اللّه على قلوبهم واسماعهم فهم لا يبصرون ، وشكر له الامام مقالته ، وقال له :

«رحمك اللّه انهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا اخوانك الصالحين؟».

«صدقت يا ابن رسول اللّه ، أفلا نروح الى الآخرة؟»

واذن له الامام فانطلق الى ساحة المعركة بشوق ليفوز بالشهادة ، وقاتل قتال الأبطال حتى استشهد (١) وقد وفى بما عاهد عليه اللّه من نصرة الحق والفداء في سبيل الاسلام.

مصرع الحجاج :

ومن بين صفحات الفداء الباهرة التي تحمل العظمة الانسانية الحجاج ابن مسروق الجعفي ، فقد برز إلى ساحة الحرب ، وجعل يقاتل اعنف القتال وأشده حتى خضب بدمائه الزكية ، فقفل راجعا الى الامام الحسين وهو جذلان مسرور بما قدمه من الفداء والتضحية في سبيله ، وأخذ

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٢٥٤

٢٣٢

يخاطب الامام بهذا الرجز :

اليوم القى جدك النبيا

ثم أباك ذا الندى عليا

ذاك الذي نعرفه وصيا

إنه ليقدم على رسول اللّه (ص) وهو مرفوع الرأس بما قدم من التضحية في سبيل ريحانته ، وقد اجابه الامام.

«وأنا على أثرك القاهما»

ورجع إلى حومة الحرب فجعل يقاتل ببسالة وصمود حتى استشهد (١) دفاعا عن الحق فلذكره المجد والخلود.

مصرع عمرو بن جنادة :

وبرز الفتى النبيل عمرو بن جنادة الأنصاري وهو اصغر جندي في معسكر الحسين ولكنه كان يفوق في عقله ودينه من في معسكر ابن سعد ، ويقول المؤرخون انه كان يبلغ من العمر احدى عشرة سنة ، وقد استشهد ابوه في المعركة ، فلما طلب الاذن من الامام لم يسمح له بذلك وقال :

«هذا غلام قتل ابوه في الحملة الأولى ولعل أمه تكره ذلك»

واندفع الفتى يلح على الامام ويقول له :

«إن أمي امرتني»

فاذن له الامام ، ومضى الفتى متحمسا إلى الحرب فلم يلبث الا قليلا حتى استشهد ، واحتزّ رأسه الشريف اوغاد اهل الكوفة ورموا به صوب مخيم الحسين فبادرت إليه السيدة أمه فأخذته وجعلت توسعه تقبيلا ، ثم مسحت عنه الدم ، ورمت به رجلا قريبا منها فصرعته وسارعت إلى

__________________

(١) مقتل المقرم (ص ٣٠٦)

٢٣٣

المخيم فأخذت عمودا وحملت على اعداء اللّه وهي ترتجز :

أنا عجوز في النساء ضعيفة

خاوية بالية نحيفة

أضربكم بضربة عنيفة

دون بني فاطمة الشريفة

واصابت رجلين فبادر إليها الامام وردها الى المخيم (١) لقد اثرت غربة الامام ووحدته على عواطف هذه السيدة الكريمة ، فقدمت فلذة كبدها فداء له ، ثم انعطفت هي في ميدان القتال لتفديه بنفسها ، فكان ـ حقا ـ هذا منتهى الايمان والاخلاص.

مصرع أنس الكاهلي :

وانس بن الحارث الكاهلي من صحابة النبي (ص) وقد شهد معه بدرا وحنينا ، وقد سمعه يقول : «ان ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل بأرض كربلا ، فمن شهد ذلك منكم فلينصره» (٢) وقد لازم الحسين وصحبه من مكة ، وكان شيخا كبيرا طاعنا في السن وقد استأذن من الامام أن يجاهد بين يديه فاذن له ، وقد شد وسطه بعمامته نظرا لتقوس ظهره كما رفع حاجبيه بالعصابة فلما نظر إليه الامام ارخى عينيه بالبكاء ، وقال له : شكر اللّه لك يا شيخ ، وقاتل ـ على كبر سنه ـ قتال الأبطال فروي أنه قتل ثمانية عشر رجلا ثم استشهد (٣) وسمت روحه الطاهرة الى الرفيق الاعلى مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ١٤٠

(٢) اسد الغابة ١ / ٣٤٩ ، الاصابة ١ / ٦٨ ، كنز العمال ٦ / ٢٢٣

(٣) مقتل المقرم

٢٣٤

مصرع أبي الشعثاء :

وابو الشعثاء هو يزيد بن زياد بن المهاجر الكندي ، وكان من ابطال العرب وفرسانهم ، وكان ممن خرج مع ابن سعد لحرب الامام ، ولما عرض الامام على ابن سعد الشروط التي اشترطها وأبى ابن سعد مال الى الحسين (١) وجعل يرشق القوم بسهامه ويقول المؤرخون انه رماهم بمائة سهم فما سقط منها غير سهم ، وكلما رمى يقول له الامام.

«اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة»

ولما نفدت سهامه جرد سيفه وحمل عليهم وهو يرتجز :

أنا يزيد وأبي مهاجر

اشجع من ليث بغيل خادر (٢)

يا رب اني للحسين ناصر

ولابن سعد رافض وهاجر

وقاتل قتال الأبطال حتى قتل (٣) وانتهت بذلك حياته مدافعا عن دين اللّه ومناصرا لريحانة رسول اللّه (ص).

مصرع الجابريين :

ومن المع أنصار الامام (ع) الجابريان ، وهما : سيف بن الحارث ابن سريع الجابري ومالك بن عبد بن سريع الجابرى وكانا اخوين من أم وابني عم ، وقد تقدما بين يدي أبي عبد اللّه ، وعيناهما تفيضان دموعا فقال لهما الامام :

«ما يبكيكما اني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين؟»

__________________

(١) انساب الأشراف ق ١ ج ١ ، تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٣ وجاء فيه انه اول من قتل من أصحاب الامام.

(٢) وفي الفتوح ٥ / ١٩٩ «ليث عبوس في العرين جاذر»

(٣) انساب الأشراف ق ١ ج ١

٢٣٥

فاسرعا قائلين :

«جعلنا اللّه فداك ، ما على انفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك ، نراك قد أحيط بك ، ولا نقدر أن تنفعك».

لقد امتلأت قلوب أصحاب الامام بالولاء الباهر والاخلاص العميق له فكانوا لا يفكرون إلا به ، ويتحرقون ألما وحزنا عليه.

وقاتل الجابريان قتال الأبطال ، وقد تناهبت أشلاءهما السيوف والرماح في وحشية قاسية ، واستشهدا بالقرب من الامام (١).

مصرع الغفاريين :

وبرز إلى ساحة الجهاد الاخوان عبد اللّه وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاري فجعلا يقاتلان باستبسال نادر حتى استشهدا بين يدي الامام (٢).

مصرع الانصاريين :

ولما استغاث الامام وجعل يطلب الناصر والمعين لحماية عقائل النبوة ومخدرات الوحي اثر ذلك في نفوس الأنصاريين ، وهما سعد بن الحارث واخوه ابو الحتوف وكانا مع ابن سعد فمالا بسيفيهما على معسكر ابن سعد وقاتلا حتى قتلا (٣).

شهادة انيس :

وانبرى إلى ساحات الجهاد بين يدي أبي عبد اللّه انيس بن معقل الأصبحي وهو يرتجز :

أنا أنيس وأنا ابن معقل

وفي يميني نصل سيف مصقل

 __________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٢

(٢) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٢

(٣) الحدائق الوردية

٢٣٦

اضرب به في الحرب حتى ينجلي

اعلي به الهامات وسط القسطل

عن الحسين الماجد المفضل

ابن رسول اللّه خير مرسل

وقد مثل هذا الرجز الحماس الديني الذي سيطر عليه فقد عرفهم بنفسه وأعلن انه انما يقاتلهم دفاعا عن ابن رسول اللّه ، وهو لا يبغي بذلك أي مطمع سوى رضاء اللّه .. : وقاتل البطل قتالا عنيفا حتى استشهد (١).

مصرع قرة الغفاري :

ومن اصحاب الامام الذين استشهدوا للحق قرة بن أبي قرة الغفاري فقد برز وهو يرتجز :

قد علمت حقا بنو غفار

وخندف بعد بني نزار

بأنني الليث لدى الغبار

لأضربن معشر الفجار

بكل عضب ذكر بتار

ضربا وحتفا عن بني المختار

رهط النبي السادة الأبرار (٢)

وهذا الرجز يتدفق بالحيوية والحماس للدفاع عن عترة النبي (ص) وقد دلل على بطولته بأن بني غفار وخندف وبني نزار كلهم يشهدون ببسالته وشجاعته ، وهو انما يجاهد دفاعا عن السادة الابرار ابناء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ... وقاتل البطل الغفاري قتالا شديدا حتى هوى جسده الشريف الى الأرض تحت ضرب السيوف وطعن الرماح ، وسمت روحه الى الرفيق الأعلى.

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٩٨

(٢) الفتوح ٥ / ١٩٥

٢٣٧

مصرع يحيى المازني :

وبرز إلى حومة الحرب يحيى بن سليم المازني ، وهو يرتجز :

لأضربن القوم ضربا فيصلا

ضربا شديدا في العداة معجلا

لا عاجزا فيها ولا مولولا

ولا اخاف اليوم موتا مقبلا

لكنني كالليث أحمي مشبلا

واعلن بهذا الرجز عن شجاعته فهو سينزل بالأعداء الضربات القاسية وانه سيحاربهم ببسالة وصمود لا عاجزا ، ولا مولولا ، ولا خائفا من الموت ، وانما هو كالليث يصول فيهم ليحمي عترة رسول اللّه ، وشد عليهم كأنه جيش ، وقاتلهم أعنف القتال واشده حتى استشهد بين يدي أبي عبد اللّه (١).

الامام مع اصحابه :

وكان الامام يبعث في نفوس اصحابه روح العزم والصمود ، ويوصيهم بالصبر على ملاقاة الأهوال قائلا لهم :

«صبرا بني الكرام فما الموت الا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء الى الجنان الواسعة ، والنعم الدائمة ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ، ان أبي حدثني عن رسول اللّه (ص) انه قال : ان الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء الى جحيمهم. ما كذبت ، ولا كذبت» (٢).

وقد الهبت هذه الكلمات عواطفهم فخاضوا الموت في استبسال عاصف ليصلوا الى مراتبهم في الفردوس الأعلى.

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٩٤

(٢) مقتل الحسين لعبد اللّه نور اللّه

٢٣٨

شهادة عبد اللّه اليزني :

وخرج إلى ميدان القتال عبد اللّه اليزني فقاتل ببسالة نادرة وهو يرتجز :

انا ابن عبد اللّه من آل يزن

ديني على دين حسين وحسن

اضربكم ضرب فتى من اليمن

ارجو بذلك الفوز عند المؤتمن

لقد عرفهم بنفسه وأسرته وبلده ، وعرفهم أنه على دين سيده الحسين ، وهو اذ يضحي بنفسه في سبيله فانما يرجو بذلك الفوز عند اللّه ... وقاتل كما قاتل اخوانه الشهداء ببسالة وعزم ثم استشهد (١).

الامام مع الشهداء :

وكان الامام العظيم يقف على الشهداء الممجدين من أصحابه وهو يتأمل بوجهه الوديع فيهم فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، ومعطرين بنفحات من روح اللّه ، فانطلق يؤبنهم باعجاب قائلا :

«قتلة كقتلة النبيين وآل النبيين» (٢)

مصرع سويد :

وكان آخر من استشهد من أصحاب الامام البطل الشجاع سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي فقد سقط في المعركة جريحا وظنه القوم أنه قد قتل فلم يجهزوا عليه ، وكان فد غامت نفسه من ألم الجروح ونزيف الدماء فلما سمع القوم ينادون :

«قتل الحسين»

فانتفض كما ينتفض الأسد الجريح غير حافل بما هو فيه من ألم الجروح فانبرى يفتش عن سيفه فلم يجده وظفر بمدية فحمل عليهم يطعن فيهم ففروا

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٩٤

(٢) مقتل الحسين لعبد اللّه

٢٣٩

مذعورين ، وقد ظنوا أن الموتى من اصحاب الحسين قد عادت إليهم أرواحهم ليستأنفوا الجهاد ثانيا ، ولما أيقنوا خطأهم انعطفوا عليه فقتلوه وقد قتله عروة بن بطان الثعلبي. ولم يعرف التأريخ الانساني اصدق ولا انبل من هذا الوفاء ، فكان حقا هذا هو المجد في معسكر الحسين ، فقد ظلوا على الوفاء لامامهم حتى الرمق الأخير من حياتهم.

هؤلاء بعض اصحاب الامام ، وقد ابلوا في المعركة بلاء يقصر عنه كل وصف واطراء ، فقد جاهدوا جهادا لم يعرف له التأريخ نظيرا في جميع عمليات الحروب التي جرت في الأرض ، فقد قابلوا على قلة عددهم وما بهم من الظمأ القاتل تلك الجيوش المكثفة ، وانزلوا بها افدح الخسائر.

إن تلك الكوكبة من ابطال الايمان قد صارعوا الأهوال ، وخاضوا تلك المعركة الرهيبة ، وقد وقفوا وقفة الرجل الواحد ، وقادوا حركة الايمان ، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضبوا جميعا بالدماء وهم يشعرون بالغبطة ويشعرون بالفخار ، وقد دللوا بتضحياتهم الهائلة النبيلة على عظمة الاسلام الذي منحهم تلك الروح الوثابة التي استطاعوا بها أن يقاوموا بصبر وثبات تلك الوحوش الكاسرة التي ساقتها الأطماع الى اقتراف افظع جريمة في تأريخ البشرية كلها.

لقد سمت ارواحهم الطاهرة الى الرفيق الأعلى وهي انضر ما تكون تفانيا في مرضاة اللّه واشد ما تكون إيمانا بعدالة قضيتهم التي هي من انبل القضايا في العالم .. وان اعطر تحية توجه لذكراهم كلمات الامام الصادق (ع) في حقهم.

«بأبي أنتم وأمي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم واللّه فوزا عظيما».

٢٤٠