حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مدرسة العلمية الايرواني
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
الجزء ١ الجزء ٣

صلي على المختار من آل هاشم

وتنزى بنيه ان ذا لعجيب

لئن كان ذنبي حب آل محمد

فذلك ذنب لست منه أتوب

هم شفعائي يوم حشري وموقفي

وحبهم للشافعي ذنوب (١)

وقد اجتاز الشاعر ابن الهبارية بكربلاء فجعل يبكي على الحسين وأهله ونظم هذه الأبيات :

أحسين والمبعوث جدك بالهدى

قسما يكون الحق عنه مسائلي

لو كنت شاهد كربلا لبذلت في

تنفيس كربك جاهد بذل الباذل

وسقيت حد السيف من اعدائكم

عللا وحد السمهري الذابل

لكنني اخرت عنك لشقوتي

فبلا بلي بين اللوي وبابل

هبني حرمت النصر من اعدائكم

فاقل من حزني حزن ودمعي سائل

يقول المؤرخون انه نام في مكانه فرأى رسول اللّه (ص) في منامه وقال له : جزاك اللّه عني خيرا فابشر فان اللّه قد كتبك ممن جاهد بين يدي الحسين (٢).

ندم اهل الكوفة :

وندم أهل الكوفة كاشد ما يكون الندم ألما وحزنا على ما اقترفوه من عظيم الاثم ، فهم الذين ألحوا على الامام بوفودهم ورسائلهم بالقدوم إليهم فلما وافاهم خذلوه وقتلوه ، وممن اظهر الندم منهم.

١ ـ البراء بن عازب

وندم على تركه لنصرة الامام البراء بن عازب ، فقد قال له الامام

__________________

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٩٤)

(٢) الصراط السوي في مناقب آل النبي (ص ٩٤)

٣٦١

امير المؤمنين (ع) :

«أيقتل الحسين وأنت حي فلا تنصره؟»

«لا كان ذلك يا أمير المؤمنين»

ولما قتل الامام كان البراء يذكر قول الامام له وهو يتحسر ويقول :

اعظم بها حسرة اذ لم أشهده ولم اقتل دونه (١).

٢ ـ المسيب بن نجبة

وكان المسيب بن نجبة من أشد الناس حسرة علي عدم شهادته بين يدي ريحانة رسول اللّه (ص) ، وقد اعلن ندمه في خطابه الذي القاه على جموع التوابين فقد جاء فيه :

«فقد كنا مغرمين بتزكية انفسنا فوجدنا اللّه كاذبين في كل موطن من مواطن ابن بنت نبيه (ص) وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله ، واعذر إلينا ، فسألنا نصره عودا وندا وعلانية ، فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل الى جانبنا ، لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ، ولا قويناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة الى عشائرنا فما عذرنا عند ربنا ، وعند لقاء نبينا ، وقد قتل فينا ولد حبيبه ونسله ، لا واللّه لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والمؤلبين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك ولا أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن» (٢).

وقد صورت هذه الكمات مدى الأسى والحزن في نفس المسيب على ما فاته من شرف التضحية مع الامام.

__________________

(١) شرح النهج ١٠ / ١٤ ـ ١٥

(٢) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٣٣٢

٣٦٢

٣ ـ سليمان بن صرد

وممن حزن أعمق الحزن على تركه لنصرة الامام سليمان بن صرد فقد أخذ الألم يحز في نفسه وقد خطب في أصحابه من التوابين وقال في جملة خطابه :

«إنا كنا نمد اعناقنا الى قدوم آل بيت نبينا محمد (ص) نمنيهم النصر ونحثهم على القدوم فلما قدموا ونينا وعجزنا وأدهنا وتربصنا حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته ، وبضعة من لحمه ودمه ، إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يعطى اتخذه الفاسقون غرضا للنبل ودريئة للرماح حتى اقصدوه وعدوا عليه فسلبوه» (١).

٤ ـ عبد اللّه بن الحر

ومن أشد النادمين حسرة واعظمهم أسى عبد اللّه بن الحر الجعفي الذي قصده الامام وطلب منه النصرة فبخل بنفسه ، وقد أخذته خلجات حادة من تأنيب الضمير على تركه لنصرته ، وقد نظم أساه وحزنه بهذه الأبيات :

فيا لك حسرة ما دمت حيا

تردد بين صدري والتراقي

غداة يقول لي بالقصر قولا

أتتركنا وتزمع بالفراق

حسين حين يطلب بذل نصري

على أهل العداوة والشقاق

فلو فلق التلهف قلب حر

لهمّ اليوم قلبي بانفلاق

ولو واسيته يوما بنفسي

لنلت كرامة يوم التلاق

مع ابن محمد تفديه نفسي

فودع ثم اسرع بانطلاق

لقد فاز الأولى نصروا حسينا

وخاب الآخرون ذو والنفاق (٢)

 __________________

(١) تأريخ ابن الأثير ٣ / ٣٣٣

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٢٨

٣٦٣

وقد صور ابن الحر في شعره ما تفيض به نفسه من الألم العميق فهو ما دام حيا تحز في نفسه الحسرات على ما فاته من شرف الشهادة بين يدي ابن رسول اللّه (ص) وانه لو نصره لفاز بالجنان ، كما عرض لغبطته لأصحاب الحسين الذين فدوه بنفوسهم فقد ظفروا بالأجر الجزيل والمقام العظيم عند اللّه.

هؤلاء بعض النادمين على تركهم لنصرة الامام (ع) وعدم فوزهم بالشهادة بين يديه وحينما اتيحت الفرصة ثاروا مع التوابين في الكوفة.

الهجرة من الكوفة :

وكره سكنى الكوفة بعض الأخيار من المتحرجين في دينهم بعد ما عمد أهلها إلى قتل ريحانة رسول اللّه (ص) وكان من بينهم عبد الرحمن القضاعي ، فقد هجر الكوفة وسكن البصرة وقال : لا اسكن بلدا قتل فيه ابن بنت رسول اللّه (ص) (١) لقد اثارت مذبحة كربلا موجة عاتية من الهلع والجزع في جميع أوساط الكوفة ، واستبان لاهلها عظم الجريمة التي اقترفوها ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن دخول سبايا أهل البيت إلى الكوفة وما رافق ذلك من الأحداث.

__________________

(١) المعارف (ص ٤٢٦)

٣٦٤

سبايا آل الرّسول ص فى دمشق

٣٦٥
٣٦٦

وعانت عقائل الوحي ومخدرات الرسالة جميع ضروب المحن والبلاء في تلك الأيام السود التي مرت عليهن في الكوفة ، فقد عانين مرارة الاعتقال في السجن وشماتة الأعداء وذل الأسر في بلد كانت موطنا لشيعتهم ومركزا لدعوتهم ، وكن في حالة مشجية تذوب من هولها النفوس .. ونعرض إلى سير الأحداث الأليمة التي جرت عليهن حينما ارسلن الى دمشق.

تسيير الرءوس :

وأمر ابن مرجانة بتسيير رءوس العترة الطاهرة الى دمشق لتعرض على أهل الشام كما عرضت على أهل الكوفة لتمتلئ قلوب الناس فزعا وخوفا من بني أمية وليكونوا عبرة لكل من تحدثه نفسه بالخروج عليهم ، وقد سيرت مع زجر بن قيس الجعفي وأبي بردة بن عوف الأزدي ، وطارق بن ظبيان الأزدي ،

تسريح العائلة النبوية :

وسرحت عائلة آل النبي (ص) مع محفر بن ثعلبة من عائذة قريش وشمر بن ذي الجوشن ، وقد أوثقت بالحبال ، واركبت على أقتاب الجمال وهن بحالة تقشعر منها الأبدان يقول عبد الباسط الفاخوري :

«ثم أن عبيد اللّه جهز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان وترتعد منها مفاصل الانسان بل فرائض الحيوان» (١).

__________________

(١) تحفة الأنام في مختصر تأريخ الاسلام (ص ٨٤)

٣٦٧

تشييع أهل الكوفة للاسرى :

وخرجت الكوفة بجميع طبقاتها لتوديع ركب أهل البيت وهم ما بين باك ونائح وقد غصت طرق الكوفة بالناس وهم يبكون عامة الليل ، فلم تتمكن القافلة أن تسير من كثرة الزحام فاستغرب الامام زين العابدين (ع) منهم وراح يقول : «هؤلاء قتلونا ويبكون علينا!!» (١).

وعجت نساء همدان بالبكاء والنياحة (٢) وعلا منهن الصراخ والعويل وأمر شمر بن ذي الجوشن أن يغل الامام زين العابدين بغل في عنقه فغل (٣) وانطلقوا بالأسرى حتى التحقوا بالقافلة التي معها الرءوس ، ولم يتكلم الامام زين العابدين مع الجفاة بكلمة واحدة ، ولا طلب منهم أي شيء طيلة الطريق (٤) وسارت القافلة لا تلوي على شيء حتى انتهت الى القرب من دمشق فاقيمت هناك حتى تتزين البلد بمظهر الزهو والأفراح.

تزيين الشام :

وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمحلات العامة والخاصة باظهار الزينة والفرح للنصر الذي احرزته في قتل ريحانة رسول اللّه (ص) وسبي ذريته ، ويصف بعض المؤرخين تلك الزينة بقوله :

__________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (ص ٩٩)

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٢٩

(٣) انساب الأشراف ق ١ ج ١

(٤) الارشاد (ص ٢٧٦)

٣٦٨

«ولما بلغوا ـ أي اسارى أهل البيت ـ ما دون دمشق بأربعة فراسخ ، استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحا وسرورا حتى بلغوا بهم قريب البلد فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك حتى تتوفر زينة الشام ، وتزويقها بالحلي والحلل والحرير والديباج والفضة والذهب ، وانواع الجواهر على صفة لم ير الراءون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده ، ثم خرجت الرجال والنساء والاصاغر والاكابر والوزراء والأمراء واليهود والمجوس والنصارى ، وسائر الملل الى التفرج ومعهم الطبول والدفوف والبوقات والمزامير ، وسائر الآلات اللهو والطرب ، وقد كحلوا العيون وخضبوا الأيدي ، ولبسوا أفخر الملابس وتزينوا أحسن الزينة ولم ير الراءون اشد احتفالا ولا اكثر اجتماعا منه ، حتى كأن الناس كلهم قد حشروا جميعا في صعيد دمشق» (١).

لقد اظهر ذلك المجتمع الذي تربى على بغض أهل البيت جميع الوان السرور والفرح بما أصابهم من القتل والسبي وجيء بالرأس العظيم وسط هالة من التهليل والتكبير على هذا النصر الذي احرزه حفيد أبي سفيان وكان خالد بن صفوان أو غفران في دمشق حينما أتى برأس الامام فاظهر الجزع والبكاء واختفى عن الناس لئلا تقبض عليه عيون بني أمية ، وهو يقول :

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد

منزملا بدمائه تزميلا

وكأنما بك يا ابن بنت محمد

قتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا ولم يترقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبرون بأن قتلت وانما

قتلوا بك التكبير والتهليلا (٢)

 __________________

(١) حجة السعادة في حجة الشهادة

(٢) تأريخ ابن عساكر ٥ / ٨٥ ، مرآة الزمان (ص ١٠١)

٣٦٩

ويقول سهل بن سعد : خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام فاذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقت عليها الحجب والديباج والناس فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول فقلت في نفسي : إن لأهل الشام عيدا لا نعرفه فرأيت قوما يتحدثون فقلت لهم :

«الكم بالشام عيد لا نعرفه؟»

«نراك يا شيخ غريبا»

«أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول اللّه»

«يا سهل ما أعجبك أن السماء لا تمطر دما والأرض لا تنخسف بأهلها!!».

«وما ذاك؟»

«هذا رأس الحسين يهدى من أرض العراق!!»

«وا عجبا يهدى رأس الحسين والناس يفرحون من أي باب يدخل»

وأشاروا الى باب الساعات ، فأسرع سهل إليها ، وبينما هو واقف واذا بالرايات يتبع بعضها بعضا ، واذا بفارس بيده لواء منزوع السنان ، وعليه رأس من أشبه الناس وجها برسول اللّه (ص) وهو رأس ريحانته الحسين ، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطأ ، وبادر سهل الى احدى النسوة فسألها :

ـ من أنت؟

ـ أنا سكينة بنت الحسين

ـ الك حاجة؟ فانا سهل صاحب جدك رسول اللّه (ص)

ـ قل لصاحب هذا الرأس أن يقدمه أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ، ولا ينظرون إلى حرم رسول اللّه (ص).

٣٧٠

وأسرع سهل الى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم فباعد الرأس عن النساء (١).

الشامي مع زين العابدين :

وانبرى شيخ قد ضللته الدعايات الكاذبة فأخذ يشق الصفوف الحاشدة حتى انتهى إلى الامام زين العابدين فرفع عقيرته قائلا :

«الحمد للّه الذي اهلككم وأمكن الأمير منكم»

وبصر به الامام فرآه مخدوعا قد خفي عليه الحق فقال له :

ـ يا شيخ قرأت القرآن؟

ـ بلى

ـ أقرأت قوله تعالى : «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ» وقوله تعالى : «وَآتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ» وقوله تعالى :

«وَاِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي اَلْقُرْبىٰ» وتهافت الشيخ فقال بصوت خافت :

«نعم قرأت ذلك»

قال له الامام : نحن واللّه القربى في هذه الآيات ، يا شيخ أقرأت قوله تعالى : «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.».

«بلى»

«نحن أهل البيت الذين خصهم اللّه بالتطهير»

__________________

(١) مقتل الحسين لعبد اللّه نور اللّه

٣٧١

وسرت الرعدة في أوصال الشيخ وجمد دمه ، وقال للامام بنبرات مرتعشة :

«باللّه عليكم أنتم هم؟»

«وحق جدنا رسول اللّه (ص) إنا لنحن هم من غير شك»

وود الشيخ أن الأرض قد وارته ، ولم يقل تلك الكلمات القاسية والقى بنفسه على الامام وهو يوسع يديه تقبيلا ، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلا :

«ابرأ الى اللّه ممن قتلكم»

وطلب الشيخ من الامام أن يمنحه العفو والرضا فعفا عنه (١) وكانت الأكثرية الساحقة من أهل الشام على غرار هذا الشيخ قد ضللتهم الدعاية الأموية ، وحجبتهم عن معرفة أهل البيت عليهم السلام.

سرور يزيد :

وغمرت الافراح والمسرات يزيد حينما وافاه النبأ بمقتل الامام وكان في بستانه الخضراء (٢) فكبر تكبيرة عظيمة (٣) ولما جيء بالسبايا كان مطلا على منظر في جيرون ، فلما نظر الى السبايا والرءوس قد وضعت على الحراب امتلأ سرورا وراح يقول :

__________________

(١) اللهوف (ص ١٠٠)

(٢) البستان الجامع لجميع تأريخ أهل الزمان (ص ٣٦)

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٢٢ ، مرآة الزمان

٣٧٢

لما بدت تلك الحمول وأشرفت

تلك الرءوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت : قل أو لا تقل

فلقد قضيت من الرسول ديوني (١)

لقد روى حفيد أبي سفيان أحقاده واستوفى ثأره من ابن فاتح مكة ومحطم أوثان قريش فقد قتل العترة الطاهرة وسبى ذراريها تشفيا وانتقاما من النبي (ص).

رأس الامام بين يدي يزيد :

وحمل محفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن رأس ريحانة رسول اللّه (ص) هدية الى الفاجر يزيد بن معاوية ، ولما انتهيا إلى البلاط الأموي رفع محفر عقيرته ليسمعه يزيد قائلا :

«جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم»

فأنكر عليه يزيد ورد عليه :

«ما ولدت أم محفر الأم واحمق ، ولكنه قاطع ظلوم» (٢)

وأذن يزيد للناس اذنا عاما ليظهر لهم انه قهر آل النبي (ص) وازدحم أهل الشام على القصر وهم يعلنون فرحتهم الكبرى ، ويهنونه بهذا النصر الكاذب (٣) ووضع رأس ريحانة رسول اللّه (ص) بين يدي سليل

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٤٣٧)

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٨ ، وفي البداية والنهاية ٨ / ٢٩٤ ان القائل محقر لا محفر وفي الارشاد (ص ٢٧٦) ان الذي رد عليه الامام زين العابدين.

(٣) البداية والنهاية ٨ / ١٩٧

٣٧٣

الخيانة والاجرام فجعل ينكت بمخصرته ثغره الذي طالما كان النبي (ص) يترشفه ، وجعل يقول متشفيا وشامتا.

«قد لقيت بغيك يا حسين» (١)

ثم التفت الى من كان معه فقال لهم : «ما كنت أظن أبا عبد اللّه قد بلغ هذا السن ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود» (٢) وتأمل في وجه الامام فغمرته هيبته فطفق يقول :

«ما رأيت مثل هذا الوجه حسنا قط!!» (٣)

وراح يوسع ثغر الامام بالضرب وهو يقول : ان هذا وايانا كما قال الحصين بن الحمام :

أبى قومنا أن ينصفونا فانصفت

قواضب في ايماننا تقطر الدما

يفلقن هاما من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

ولم يتم كلامه حتى انكر عليه أبو برزة الأسلمي فقال له :

«اتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذا لربما رأيت رسول اللّه (ص) يرشفه ، أما انك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا ومحمد (ص) شفيعه».

__________________

(١) الكواكب الدرية للمناوي ١ / ٥٦ وجاء في تذهيب التهذيب ١ / ١٥٧ عن ابن حمزة قال : رأيت امرأة من اعقل الناس واجملهن يقال لها «ربا» حاضنة يزيد بن معاوية وقد بلغت من العمر مائة سنة ، قالت دخل رجل على يزيد فقال له : ابشر فقد امكنك اللّه من الحسين قتل وجيء برأسه إليك ووضع في طست فأمر غلامه فكشفه فحين رآه أحمر وجهه ، فقلت لربا : أقرع ثناياه بالقضيب؟ قالت : أي واللّه.

(٢) تاريخ الاسلام للذهبي ٢ / ٣٥١

(٣) تاريخ القضاعي (ص ٧٠)

٣٧٤

ثم قام منصرفا (١) واندفع يحيى بن الحكم متأثرا وهو يقول :

لهام بجنب الطف أدنى قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

أمية أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول اللّه ليس لها نسل (٢)

فالتاع الطاغية منه ودفع في صدره ، وقال له : اسكت لا أم لك (٣) لقد تأثر كل من يملك ضميرا حيا من المصائب الأليمة التي صبها الطاغية على آل البيت.

نصب الرأس في جامع دمشق :

وبعد ما قضى الأثيم وطره من العبث برأس سيد شباب أهل الجنة نصبه في جامع دمشق في المكان الذي نصب فيه رأس يحيى بن زكريا (٤) وقد علق ثلاثة أيام (٥).

رأس الامام عند نساء يزيد :

وبعث الطاغية برأس ريحانة رسول اللّه (ص) الى نسائه ليظهر مقدرته وزهوه أمامهن ، فاخذته عاتكة وطيبته ، فأنكر يزيد ذلك وقال : ما هذا؟

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٩٨

(٢) تاريخ الاسلام للذهبي ٢ / ٣٥٠ ، البداية والنهاية ٨ / ١٩٢ ، الارشاد (ص ٢٧٦).

(٣) المعجم الكبير للطبراني ١ / ١٤٠ ، تاريخ الطبري ٦ / ٣٦٥ البداية والنهاية ٨ / ١٩٢.

(٤) صبح الأعشى ٤ / ٩٧

(٥) تذهيب التهذيب ١ / ١٥٧

٣٧٥

فقالت له :

«بعثت إلينا برأس عمي شعثا فلممته وطيبته» (١)

السبايا في مجلس يزيد :

وسر الطاغية سرورا بالغا بسبايا أهل البيت فأوقفهم موقف السبي بباب المسجد مبالغة في اهانتهم واذلالهم (٢) وعمدت جلاوزته الى بنات رسول اللّه (ص) وسائر الصبية فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام فكان الحبل في عنق الامام زين العابدين إلى عنق عمته زينب وباقي بنات رسول اللّه (ص) ، وكانوا ـ فيما يقول المؤرخون ـ كلما قصروا عن المشي أو سعوهم ضربا بالسياط ، وجاءوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدع من هولها الجبال ، وهم يكبرون ويهللون فاوقفوهم بين يدي يزيد فالتفت الامام زين العابدين فقال له :

«ما ظنك بجدنا رسول اللّه (ص) لو يرانا على مثل هذه الحالة؟» فتأثر يزيد ولم يبق أحد في مجلسه الا بكى (٣) وقد تألم الطاغية مما رأى فراح يقول :

«قبح اللّه ابن مرجانة لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا» (٤) ثم أمر بالحبال فقطعت عنهم والتفت الى علي بن الحسين فقال له :

«إيه يا علي بن الحسين أبوك الذي قطع رحمي ، وجهل حقي ،

__________________

(١) انساب الاشراف ق ١ ج ١

(٢) الكواكب الدرية ١ / ٥٦

(٣) الامام زين العابدين لأحمد فهمي (ص ٥٥)

(٤) تذكرة الخواص (ص ٤٩) المنتظم ٥ / ١٠٠

٣٧٦

ونازعني سلطاني ، فصنع اللّه به ما رأيت».

فأجابه شبل الحسين بكل هدوء وطمأنينة بقوله تعالى :

(مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ ولاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ ، ولاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ واَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ).

وتميز الطاغية غضبا وذهبت نشوة أفراحه ، وتلا قوله تعالى :

«مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» فقال له الامام :

«هذا في حق من ظلم لا في حق من ظلم» (١)

وزوى الامام بوجهه عنه ولم يكلمه (٢) احتقارا له واستهانة بشأنه

خطاب السيدة زينب :

واظهر الطاغية فرحه بابادته للعترة الطاهرة ، فقد حسب انه قد صفا له الملك واستوسقت له الأمور فأخذ يهز أعطافه جذلانا مسرورا وتمنى حضور القتلى من أهل بيته ببدر ليريهم كيف أخذ بثأرهم وانتقم من النبي (ص) في ذريته وعترته وراح يترنم بأبيات ابن الزبعرى وهو مزهو :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا : يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعل (٣)

 __________________

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ (ص ١٨٢)

(٢) الارشاد (ص ٢٧٦)

(٣) اعلام النساء ١ / ٥٠٤ البداية والنهاية ٨ / ١٩٢

٣٧٧

ولما سمعت بطلة كربلا هذه الأبيات التي نمت عن كفره وسروره بقتل عترة النبي (ص) انتقاما منهم لقتلى بدر وثبت تزجره ، وتطعن كبرياءه ، غير حافلة بجبروته وطغيانه ، فلم يدركها الهول والفزع ، وانما كانت مثال الشجاعة فكأنها هي الحاكمة والمنتصرة ، والطاغية هو المخذول والمغلوب على امره ، قالت (ع) :

الحمد للّه رب العالمين ، وصلى اللّه على رسوله وآله أجمعين ، صدق اللّه سبحانه حيث يقول : «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات اللّه وكانوا بها يستهزءون» اظننت يا يزيد حيث أخذت علينا اقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى أن بنا على اللّه هوانا ، وبك عليه كرامة ، وان ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلانا مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلا مهلا لا تطش جهلا ، أنسيت قول اللّه تعالى : (وَلاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ).

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول اللّه (ص) سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل (١) ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف

__________________

(١) المناهل : جمع منهل ، وهو موضع الشرب من العيون ، والمراد من يسكن فيها ، المعاقل : سكنة الحصون.

٣٧٨

والشنان (١) والاحن والاضغان ، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم :

لأهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا : يا يزيد لا تشل

منحنيا على ثنايا أبي عبد اللّه سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك؟ : وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة باراقتك دماء ذرية محمد (ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فو اللّه ما فريت الا جلدك ، ولا حززت الا لحمك ، ولتردن على رسول اللّه (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع اللّه شملهم ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقوقهم «وَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» وحسبك باللّه حاكما ، وبمحمد خصيما ، وبجبرئيل ظهيرا ، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا واضعف جندا.

ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، واستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى والصدور حرى فالعجب كل العجب!! لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنظف من دمائنا (٢) والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل (٣) وتعفرها امهات ،

__________________

(١) الشنف : البغض والعداء

(٢) تنظف : أي تستوفي من دمائنا

(٣) العواسل : جمع عاسل وهو الذئب

٣٧٩

الفراعل (١) ولئن اتخذتنا مغنما ، لتجدنا وشيكا مغرما ، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربّك بظلام للعبيد ، والى اللّه المشتكى وعليه المعول :

فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جاهدك. فو اللّه لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ولا يرخص عنك عارها ، وهل رأيك الا فند وأيامك إلا عدد ، وجمعك الا بدد ، يوم ينادي المنادي الا لعنة اللّه على الظالمين.

والحمد للّه رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة انه رحيم ودود ، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل» (٢)

وهذا الخطاب أروع خطاب أثر في الاسلام ، وهو من متممات النهضة الحسينية الخالدة ، فقد دمرت فيه حفيدة الرسول (ص) جبروت الطاغية ، والحقت به الهزيمة والعار ، وعرفته ان دعاة الحق لا تنحني جباههم امام الطغاة والظالمين ، يقول الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه :

«أتستطيع ريشة أعظم مصور وابدع ممثل أن يمثل لك حال يزيد وشموخه بأنفه وزهوه بعطفه وسروره وجذله بانساق الأمور ، وانتظام الملك ولذة الفتح والظفر والتشفي والانتقام ـ بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل ـ وهل في القدرة والامكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجة والبيان والتقريع والتأنيب. ويبلغ ما بلغته سلام اللّه عليها بتلك الكلمات وهي على الحال الذي عرفت ثم لم تقتنع منه بذلك حتى ارادت أن تمثل له وللحاضرين

__________________

(١) الفراعل : جمع فرعل ولد الضبع

(٢) اعلام النساء ٢ / ٥٠٤ ، بلاغات النساء (ص ٢١) مقتل الخوارزمي ٢ / ٦٤ ، السيدة زينب واخبار الزينبيات (ص ٨٦) الحدائق الوردية ١ / ١٢٩ ـ ١٣١ ، اللهوف (ص ٧٩ ـ ٨٠).

٣٨٠