مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

وآله) (١) وظهر عليه السّرور في مجلسه ، فلَم يبال بإلحاده وكفره حين تمثّل بشعر ابن الزبعري ، وحتّى أنكر الوحي على رسول الله محمّد (ص) ، ولكنّه لمّا كثرت اللائمة عليه ووضح له الفشل والخطأ في فعلته التي لَم يرتكبها حتّى مَن لم ينتحل دين الإسلام وعرف المغزى من وصيّة معاوية إيّاه حيث قال له :

إنّ أهل العراق لن يدَعوا الحسين حتّى يخرجوه ، فإذا خرج عليك فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً (٢).

وعاب عليه خاصّته وأهل بيته ونساؤه ، وكان بمرأى منه ومسمع كلام الرأس الأطهر لمّا أمر بقتل رسول ملك الروم (لا حول ولا قوة إلا بالله) (٣) ولحديث الأندية عمّا ارتكبه من هذه الجريمة الشائنة والقسوة الشديدة دوي في أرجاء دمشق ، لَم يجد مناصاً من القاء التبعة على عاتق ابن زياد تبعيداً للسبَّة عنه ، ولكن الثابت لا يزول.

ولمّا خشى الفتنة وانقلاب الأمر عليه ، عجّل بإخراج الإمام السّجاد (ع) والعيال من الشام إلى وطنهم ومقرّهم ، ومكَّنهم ممّا يريدون ، وأمر النّعمان بن بشير وجماعة معه أنْ يسيروا معهم إلى المدينة مع الرفق (٤).

فلمّا وصلوا العراق قالوا للدليل : مُر بنا على طريق كربلاء ، فوصلوا إلى مصرع الحسين (ع) فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله ـ قد وردوا لزيارة قبر الحسين (ع) ـ فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا في كربلاء ينوحون على الحسين (ع) (٥) ثلاثة أيّام (٦).

ووقف جابر الأنصاري على القبر فأجهش بالبكاء وقال : يا حسين (ثلاثاً) ثم قال :

حبيب لا يجيب حبيبه! وأنّى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٣٩.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ١٨٠.

(٣) مقتل العوالم ص ١٥٠.

(٤) إرشاد المفيد.

(٥) اللهوف ص ١١٢ ، ومثير الاحزان لابن نما ص ٧٩ الطبعة الحجريّة.

(٦) رياض الأحزان ص ١٥٧.

٣٦١

أثباجك ، وفرّق بين رأسك وبدنك ، فأشهد أنَّك ابن خاتم النبيين ، وابن سيّد المؤمنين ، وابن حليف التقوى ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، وابن سيّد النقباء ، وابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء ، وما لَك لا تكون كذلك وقد غذَّتك كفّ سيّد المرسلين ، وربيت في حجر المتّقين ، ورضعت من ثدى الإيمان ، وفطمت بالإسلام؟! فطبت حيّاً وطبت ميّتاً غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة بفراقك ، ولا شاكة في الخيرة لك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.

ثم أجال بصره حول القبر وقال : السّلام عليكم أيّتها الأروح التي حلّت بفناء الحسين (ع) وأناخت برحله ، أشهد أنّكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف ، ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين ، وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين.

والذي بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بالحقّ نبيّاً ، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. فقال له عطيّة العوفي : كيف ولَم نهبط وادياً ولَم نعلُ جبلاً ولَم نضرب بسيف ، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم واُوتمت أولادهم واُرملت الأزواج؟

فقال له : إني سمعت حبيبي رسول الله يقول : «مَن أحبّ قوماً ، كان معهم. ومَن أحبّ عمل قوم اُشرك في عملهم». والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين (ع) وأصحابه (١).

الرأس مع الجسد

لمّا عرف زين العابدين (ع) الموافقة من يزيد ، طلب منه الرؤوس كلّها ليدفنها في محلّها ، فلَم يتباعد يزيد عن رغبته ، فدفع اليه رأس الحسين (ع) مع رؤوس أهل بيته وصحبه ، فألحقها بالأبدان.

نصّ على مجيئه بالرؤوس إلى كربلاء في حبيب السير كما في نفَس المهموم

__________________

(١) بشارة المصطفى ص ٨٩ ، المطبعة الحيدريّة ، مؤلّفه ـ كما في روضات الجنّات ـ أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم بن محمّد بن علي الطبري الآملي ، من علماء القرن الخامس ، قرأ على ابن الشيخ الطوسي.

٣٦٢

/ ٢٥٣ ، ورياض الأحزان / ١٥٥.

وأمّا رأس الحسين (ع) ففي روضة الواعظين للفتّال / ١٦٥ ، وفي مثير الأحزان لابن نما الحلي / ٥٨ : إنّه المعوّل عليه عند الإماميّة. وفي اللهوف لابن طاووس / ١١٢ : عليه عمل الإماميّة. وفي إعلام الورى للطبرسي / ١٥١ ، ومقتل العوالم / ١٥٤ ، ورياض المصائب ، والبحار : إنّه المشهور بين العلماء. وقال ابن شهر آشوب في المناقب ٢ / ٢٠٠ : ذكر المرتضى في بعض رسائله : إنّ رأس الحسين (ع) اُعيد إلى بدنه في كربلاء. وقال الطوسي : ومنه زيارة الأربعين. وفي البحار عن (العدد القويّة) لأخ العلاّمة الحلّي ، وفي عجائب المخلوقات للقزويني / ٦٧ : في العشرين من صفر ردَّ رأس الحسين (ع) إلى جثّته. وقال الشبراوي : قيل اُعيد الرأس إلى جثّته بعد أربعين يوماً (١). وفي شرح همزيّة البوصيري لابن حجر اُعيد رأس الحسين (ع) بعد أربعين يوماً من قتله. وقال سبط ابن الجوزي : الأشهر أنّه رُدَّ إلى كربلاء فدفن مع الجسد (٢). والمناوي في الكواكب الدريّة ١ / ٥٧ ، نقل اتّفاق الإماميّة على أنّه اُعيد إلى كربلاء ، وإنّ القرطبي رجّحه ولَم يتعقبه ، بل نسب إلى بعض أهل الكشف والشهود أنّه حصل له اطّلاع على أنّه اُعيد إلى كربلاء. وقال أبو الريحان البيروني : في العشرين من صفر ردَّ رأس الحسين (ع) إلى جثّته حتّى دُفِن مع جثته (٣).

وعلى هذا فلا يعبأ بكلّ ما ورد بخلافه ، والحديث بأنّه عند قبر أبيه بمرأى من هؤلاء الأعلام ، فإعراضهم عنه يدلّنا على عدم وثوقهم به ؛ لأنّ إسناده لَم يتم ورجاله غير معروفين. وقال أبو بكر الآلوسي ـ وقد سئل عن موضع رأس الحسين (ع) ـ :

لا تطلبوا رأس الحسين

بشرق أرض أو بغرب

ودَعوا الجميع وعرّجوا

نحوي فمشهده بقلبي (٤)

__________________

(١) الاتحاف بحبّ الأشراف ص ١٢.

(٢) تذكرة الخواص ص ١٥٠.

(٣) الآثار الباقية ١ ص ٣٣١.

(٤) في البابليّات ٣ ص ١٢٨ : ذكرهما سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص. أقول : وعبارته في التذكرة ص ١٥٩ ، الطبعة الحجريّة : (وأنشد بعض أشياخنا : لا تطلبوا رأس الحسين ...).

٣٦٣

وقال الحاج مهدي الفلّوجي الحلّي (١) :

لا تطلبوا رأس الحسين فإنّه

لا في حمىً ثاوٍ ولا في واد

لكنّما صفّو الولاء يدلّكم

في أنّه المقبور وسْط فؤادي

يوم الأربعين

من النّواميس المطّردة الاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً مضَين من وفاته بإسداء البرّ إليه وتأبينه ، وعدّ مزاياه في حفلات تُعقد وذكريات تدوّن ، تخليداً لذكره على حين إن الخواطر تكاد تنساه والأفئدة أوشكت أنْ تهمله ، فبذلك تعاد إلى ذكره البائد صورة خالدة ، بشعر رائق تتناقله الألسن ، ويستطيع في القلوب ، فتمرّ الحقب والأعوام وهو على جِدته. أو خطاب بليغ تتضمّنه الكتب والمدوّنات حتّى يعود من أجزاء التاريح التي لا يبليها الملوان ، فالفقيد يكون حيّاً كلّما تُليت هاتيك النتف من الشعر أو وقف الباحث على ما اُلقيت فيه من كلمات تأبينيّة بين طيّات الكتب ، فيقتصّ أثره في فضائله وفواضله ، وهذه السُنّة الحسنة تزداد أهميّةً كلّما ازداد الفقيد عظمة وكثرت فضائله ، وإنّها في رجالات الإصلاح ، والمقتدى بهم من الشرائع أهمّ وآكد ؛ لأنّ نشر مزاياهم وتعاليمهم يحدو إلى اتّباعهم واحتذاء مثالهم في الإصلاح وتهذيب النّفوس.

وما ورد عن أبي ذر الغفاري وابن عبّاس عن النّبي (ص) : «إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً» (٢) ، وعن زرارة عن أبي عبد الله (ع) : «إنّ السّماء بكت على الحسين (ع) أربعين صباحاً بالدم ، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد ، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً ، وما اختضبت امرأة منّا ولا أدهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد ، وما زلنا في عبرة من بعده»(٣).

__________________

(١) شعراء الحلّة ٥ ص ٣٧١ ، إنّها للحاج مهدي الفلّوجي.

(٢) مجموعة الشيخ ورام ٢ ص ٢٧٦ ، والبحار ٢ ص ٦٧٩ ، باب شهادة الإمام علي (ع) عن مناقب ابن شهر آشوب.

(٣) مستدرك الوسائل للنوري ص ٢١٥ ، الباب الرابع والتسعون.

٣٦٤

يؤكّد هذه الطريقة المألوفة والعادة المستمرّة بين النّاس من الحداد على الميّت أربعين يوماً ، فإذا كان يوم الأربعين اُقيم على قبره الاحتفال بتأبينه يحضره أقاربه وخاصّته وأصدقاؤه ، وهذه العادة لَم يختصّ بها المسلمون ، فإنّ النّصارى يقيمون حفلة تأبينيّة يوم الأربعين من وفاة فقيدهم يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصلاة عليه المسمّاة عندهم بصلاة الجنازة ويفعلون ذلك في نصف السّنة وعند تمامها ، واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهُر وعند تمام السّنة (١) ، كلّ ذلك إعادةً لذكراه ، وتنويهاً به وبآثاره وأعماله إنْ كان من العظماء ذوي الآثار والمآثر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المنقّب لا يجد في الفئة الموصوفة بالإصلاح رجلاً اكتنفته المآثر بكلّ معانيها ، وكانت حياته وحديث نهضته وكارثة قتله دعوةً إلهيّة ، ودروساً إصلاحيّة ، وأنظمة اجتماعيّة ، وتعاليم أخلاقيّة ، ومواعظ دينيّة ، إلاّ سيّد شباب أهل الجنّة شهيد الدِّين ، شهيد السّلام والوئام ، شهيد الأخلاق والتهذيب الحسين (ع) ، فهو أولى من كلّ أحد بأنْ تُقام له الذكريات في كلّ مكان ، وتشدّ الرحال للمثول حول مرقده الأقدس في يوم الأربعين من قتله ؛ حصولاً على تلكم الغايات الكريمة.

وإنّما قصروا الحفلات الأربعينيّة الأول في سائر النّاس من جهة كون مزايا اُولئك الرجال محدودة منقطعة الآخر ، بخلاف سيّد الشهداء ، فإنّ مزاياه لا تُحَدّ ، وفواضله لا تُعَدّ ، ودرس أحواله جديد كلما ذُكر ، واقتصاص أثره يحتاجه كلّ جيل ، فإقامة المآتم عند قبره في الأربعين من كلّ سنة إحياءٌ لنهضته وتعريفٌ بالقساوة التي ارتكبها الاُمويّون ولفيفهم ، ومهما أمعن الخطيب أو الشاعر في قضيّته تفتح له أبواب من الفضيلة كانت موصدة عليه قبل ذلك ؛

ولهذا اطّردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يوم الأربعين من كلّ سنة ، ولعلّ رواية أبي جعفر الباقر (ع) : «إنّ السّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء» (٢) تلميح إلى هذه العادة المألوفة بين النّاس.

__________________

(١) نهر الذهب في تاريخ حلب ١ ص ٦٣ : ٢٦٧.

(٢) كامل الزيارات ص ٩٠ الباب الثامن والعشورن.

٣٦٥

وحديث الإمام الحسن العسكري (ع) : «علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين ، وزيارة الأربعين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، والتختّم في اليمين ، وتعفير الجبين» (١).

يرشدنا إلى تلك العادة المطّردة المألوفة ، فإنّ تأبين سيّد الشهداء وعقد الاحتفالات لذكره في هذا اليوم إنّما يكون ممَّن يمتّ به بالولاء والمشايعة ، ولا ريب في أنّ الذين يمتّون به بالمشايعة هم المؤمنون المعترفون بإمامته ، إذاً فمن علامة إيمانهم وولائهم لسيّد شباب أهل الجنّة المنحور في سبيل الدعوة الإلهيّة المثول في يوم الأربعين من شهادته عند قبره الأطهر لإقامة المأتم ، وتجديد العهد بما جرى عليه وعلى صحبه وأهل بيته من الفوادح.

والتصرّف في هذه الجملة (زيارة الأربعين) ـ بالحمل على زيارة أربعين مؤمناً ـ التواء في فهم الحديث وتمحّل في الاستنتاج يأباه الذوق السّليم ، مع خلوّه عن القرينة الدالّة عليه ، ولَو كان الغرض هو الإرشاد إلى زيارة أربعين مؤمناً لقال (ع) (زيارة أربعين) ، فالإتيان بالألف واللام العهديّة للتنبيه على أنّ زيارة الأربعين من سنخ الأمثلة التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان والموالاة للأئمّة الاثني عشر.

ثمّ إنّ الأئمّة من آل الرسول (عليهم السّلام) وإنْ كانوا أبواب النّجاة وسفن الرحمة وبولائهم يُعرف المؤمن من غيره ، وقد خرجوا من الدنيا مقتولين في سبيل الدعوة الإلهيّة موطّنين أنفسهم على القتل ؛ امتثالاً لأمر بارئهم جلّ شأنه الموحى به إلى جدّهم الرسول (ص) ، وقد أشار إليه أبو محمّد الحسن ابن أمير المؤمنين (عليهما السّلام) بقوله : «إنّ هذا الأمر يملكه منّا اثنى عشر إماماً ، ما منهم إلاّ مقتول أو مسموم».

فالواجب إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم. وحديث الإمام العسكري لَم يشتمل على قرينة لفظيّة تصرف هذه الجملة (زيارة الأربعين) إلى خصوص الحسين (ع) إلاّ أنّ القرينة الحاليّة أوجبت فهم العلماء الأعلام من هذه الجملة خصوص زيارة الحسين (ع) ؛ لأنّ قضيّة سيّد الشهداء هي

__________________

(١) رواه الشيخ الطوسي في التهذيب ٣ ص ١٧ ، في باب فضل زيارة الحسين (ع) عن أبي محمّد العسكري (عليه السّلام). ورواه في مصباح المتهجد ص ٥٥١ طبعة الهند.

٣٦٦

التي ميّزت بين دعوة الحقّ والباطل ؛ ولذا قيل : الإسلام بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني. وحديث الرسول (ص) : «حسين منّي وأنا من حسين» يشير إليه ؛ لأنّ ما قاساه سيّد الشهداء إنّما هو لتوطيد اُسس الإسلام واكتساح أشواك الباطل عن صراط الشريعة ، وتنبيه الأجيال على جرائم أهل الضلال ، هو عين ما نهض به نبيّ الإسلام لنشر الدعوة الإلهيّة.

فمن أجل هذا كلّه لَم يجد أئمّة الدِّين من آل الرسول ندحة إلاّ لفت الأنظار إلى هذه النّهضة الكريمة ؛ لأنّها اشتملت على فجائع تفطّر الصخر الأصمّ ، وعلموا أنّ المواظبة على إظهار مظلوميّة الحسين (ع) تستفزّ العواطف وتوجب استمالة الأفئدة نحوهم فالسّامع لتلكم الفظائع يعلم أنّ الحسين (ع) إمام عدل لَم يرضخ للدنايا ، وإنّ إمامته موروثة له من جدّه وأبيه الوصي ، ومَن ناوأه خارج عن العدل ، وإذا عرف السّامع أنّ الحقّ في جانب الحسين (ع) وأبنائه المعصومين ، كان معتنقاً طريقتهم وسالكاً سبيلهم.

ومن هنا لَم يرد التحريض من الأئمّة على إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم حتّى نبيّ الإسلام ؛ لكون تذكار كارثته عاملاً قويّاً في إبقاء الرابطة الدينيّة وإنّ لفت الأنظار نحوها أمسّ في إحياء أمر المعصومين المحبوب لديهم التحدّث به «أحيوا أمرنا وتذاكروا في أمرنا».

وعلى كلٍّ ، فالقارىء الكريم يتجلّى له اختصاص زيارة الأربعين بالمؤمن حينما يعرف نظائرها التي نصّ عليها الحديث.

فإنّ الأول منها وهو (صلاة إحدى وخمسين ركعة) التي شُرّعت ليلة المعراج ، وبشفاعة النّبي (ص) اقتصر فيها على خمس فرائض في اليوم والليلة ، عبارة عن : سبع عشرة ركعة للصبح والظهرين والعشائين والنّوافل الموقّتة لها مع نافلة الليل أربع وثلاثون؛ ثمان للظهر قبلها ، وثمان للعصر قبلها ، وأربع بعد المغرب ، واثنان بعد العشاء تعدّان بواحدة ، واثنان قبل الصبح ، وإحدى عشرة ركعة نافلة الليل مع الشفع والوتر وبإضافتها إلى الفرائض يكون المجموع إحدى وخمسين ركعة ، وهذا ممّا اختصّ به الإماميّة ، فإنّ أهل السُنّة وإنْ وافقوهم على عدد الفرائض إلاّ أنّهم افترقوا في النّوافل ، ففي فتح القدير لابن همام الحنفي ١ / ٣١٤ : إنّها ركعتان قبل الفجر ، وأربع قبل الظهر ، واثنان بعدها ، واربع قبل العصر ، وإنْ شاء

٣٦٧

ركعتين ، وركعتان بعد المغرب ، وأربع بعدها ، وإنْ شاء ركعتين. فهذه ثلاث وعشرون ركعة ، واختلفوا في نافلة الليل أنّها ثمان ركعات أو ركعتان أو ثلاث عشر أو أكثر ، وحينئذ فالمجموع من نوافل الليل والنّهار مع الفرئض لا يكون إحدى وخمسين فإذاً تكون (إحدى وخمسون) من مختصّات الإماميّة.

الثاني : مما تعرّض له الحديث (الجهر بالبسملة) فإنّ الإماميّة تدينوا إلى الله تعالى به وجوباً في الصلاة الجهريّة واستحباباً في الصلاة الاخفاتية ، تمسّكاً بأحاديث أئمّتهم (عليهم السّلام) ، وفي ذلك يقول الفخر الرازي : ذهبت الشيعة أنّ من السُنّة الجهر بالتسمية في الصلاة الجهريّة والاخفاتيّة ، وجمهور الفقهاء يخالفون ، وقد ثبت بالتواتر أنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية ومّن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى والدليل عليه قوله (ص) : «اللهمّ ، أدر الحقّ مع علي حيث دار» (١). وكلمة الرازي لَم يهضمها أبو الثناء الآلوسي ، فتعقّبها بقوله : لَو عمل أحد بجميع ما يزعمون تواتره عن الأمير كفر ، فليس إلاّ الإيمان ببعض والكفر ببعض. وما ذكره من أنّ مَن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى مسلم ، لكن إنْ سلم لنا خبر ما كان عليه علي (عليه السّلام) ودونه مهامه فيح (٢).

ولا يضرّ الشيعة تهجّم الآلوسي وغيره بعد أنْ رسخت أقدامهم على الولاء لسيّد الأوصياء (ع) الذي يقول له رسول الله (ص) : «يا علي ، ما عرف الله تعالى إلاّ أنا وأنت ، وما عرفني إلاّ الله وأنت ، وما عرفك إلاّ الله وأنا» (٣).

إنْ كنت ويحك لَم تسمع مناقبه

فاسمعه مِنْ هل أتى يا ذا الغبا وكفى (٤)

وخالف أهل السُنّة في مسألة الجهر ، ففي المغني لابن قدامة ج ١ ص ٤٧٨ ، وبدايع الصنايع للكاساني ج ١ ص ٢٠٤ ، وشرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء في فقه مالك ج ١ ص ٢١٦ : إنّ الجهر غير مسنون في الصلاة.

الثالث : ممّا تعرّض له الحديث (التختّم باليمين) وقد التزم به الإماميّة تديّناً

__________________

(١) مفاتيح الغيب ١ ص ١٠٧.

(٢) روح المعاني ١ ص ٤٧.

(٣) المحتضر ص ١٦٥.

(٤) في شذرات الذهب لابن العماد ٤ ص ١٤٠ : كان بعض الحنابلة ينشدهما على المنبر ببغداد.

٣٦٨

بروايات أئمتهم (عليهم السّلام) وخالفهم جماعة من السُنّة ، قال ابن الحَجّاج المالكي : إنّ السُنّة أوردت كلّ مستقذر يتناول بالشمال ، وكلّ طاهر يتناول باليمين ؛ ولأجل هذا المعنى كان المستحبّ في التختّم أنْ يكون التختّم بالشمال ، فإنّه يأخذ الخاتم بيمينه ويجعله في شماله (١). ويحكي ابن حجر إنّ مالكاً يكره التختّم باليمين وإنّما يكون باليسار ، وبالغ الباجي من المالكية بترجيح ما عليه مالك من التختّم باليسار (٢). وقال الشيخ إسماعيل البروسوي ذكر في عقد الدرر : إنّ السُنّة في الأصل التختّم في اليمين ، ولمّا كان ذلك شعار أهل البدعة والظلمة ، صارت السُنّة أنْ يُجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا (٣).

الرابع : ما ذكره الحديث (التعفير) ، والتعفير في اللغة : وضع الشيء على العفر ، وهو التراب. والجبين في هذا الحديث الشريف إنْ اُريد منه الجبهة كما استظهره الشيخ يوسف البحراني في الحدائق مدّعياً كثرة الاستعمال بذلك في لسان أهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد ورد في التيمّم ، فيكون الغرض بيان أنّ الجبهة في السّجود لا بدّ أنْ تكون على الأرض ؛ لأنّ أهل السُنّة لَم يلتزموا بوضعها على الأرض ، فإنّ أبا حنيفة ومالكاً وأحمد ـ في إحدى الروايتين عنه ـ جوّزوا السّجود على كور العمامة (٤) وفاضل الثوب (٥) والملبوس ، وجوّز الحنفيّة وضعها على الكفّ مع

__________________

(١) المدخل ١ ص ٤٦ ، آداب الدخول في المسجد.

(٢) الفتاوى الفقهيّة الكبرى ١ ص ٢٤٦ ، في اللباس.

(٣) حكاه الحجة الأميني في الغدير ج ١٠ ص ٢١١ عن تفسير روح البيان ج ٤ ص ١٤٢. وليس هذا بأول مخالفة للإمامية ففي المهذب لأبي اسحاق الشيرازي ج ١ ص ١٣٧ والوجيز للغزالي ج ١ ص ٤٧ والمنهاج للنووي ص ٢٥ وشرحه تحفة المحتاج لابن حجر ج ١ ص ٥٦٠ وعمدة القاري للعيني شرح البخاري ج ٤ ص ٢٤٨ والفروع لابن مفلح ج ١ ص ٦٨١ والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٥٠٥ التسطيح اشبه بشعار أهل البدع وفي رحمة الأمة باختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني ج ١ ص ٨٨ ان السنة تسطيح القبور ولما صار شعار الرافضة كان الأولى مخالفتهم التسنيم (ومن ذلك) الصلاة على أهل البيت مستقلا ففي الكشاف للزمخشري في الاحزاب ٥٦ (ان الله وملائكته يصلون) انه مكروه لانه يؤدي الى الاتهام بالرفض وقد قال (صلّى الله عليه وآله) لا تقفن مواقف التهم (ومن ذلك) ما في فتح الباري لابن حجر ج ١١ ص ١٣٥ كتاب الدعوات باب هل يصلى على غير النبي قال اختلف في السلام على غير الانبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل يشرع مطلقاً وقيل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة اهـ (ومن ذلك) ما في شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣ كان بعض أهل العلم يرخي العذبة من قدام الجانب الايسر ولم ار ما يدل على تعيين الايمن الا في حديث ضعيف عند الطبراني ولما صار شعاراً للامامية ينبغي تجنبه لترك التشبه بهم اهـ.

(٤) الميزان للشعراني ١ ص ١٣٨.

(٥) الهداية لشيخ الإسلام المرغيناني ١ ص ٣٣.

٣٦٩

الكراهة (١) ، وجوّزوا السّجود على الحنطة والشعير والسّرير وظهر مصلٍّ أمامه يصلّي بمثل صلاته (٢) ، وإنْ اُريد نفسه فيكون الغرض من ذكره الإرشاد إلى أنّ الراجع في سجدة الشكر تعفير الجبين ، وإنّه للتذليل والبُعد عن الكبرياء ، ومن هذا الجملة في الحديث استظهر صاحب المدارك رجحان تعفير الجبينَين أيضاً ، وإليه أشار السيّد بحر العلوم (قدّس سرّه) في المنظومة ، قال في سجدة الشكر :

والخدُّ أوْلى وبه النصّ جلا

وفي الجبين قد أتى محتملا

وقد ورد تعفير الخدّين في سجدة الشكر (٢) وبه استحقّ موسى بن عمران (عليه السّلام) الزلفى من المناجاة (٣) ولَم يخالف الإماميّة في التعفير سواء اُريد من الجبين الجبهة أو نفسه ، وأهل السُنّة لَم يلتزموا بالتعفير في الصلاة أو سجدة الشكر مع أنّ النّخعي ومالكاً وأبا حنيفة كرهوا سجدة الشكر ، وإن التزم بها الحنابلة (٤) والشافعي (٥) عند حلول كلّ نعمة أو زوال نقمة.

الخلاصة في علائم المؤمن

لقد تجلّى ممّا ذكرناه في هذه الاُمور التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان أنّ المراد من (زيارة الأربعين) فيه إرشاد الموالين لأهل البيت (عليهم السّلام) إلى الحضور في مشهد الغريب المظلوم سيّد الشهداء (عليه السّلام) لإقامة العزاء وتجديد العهد بذكر ما جرى عليه من القساوة التي لَم يرتكبها أيّ أحد يحمل شيئاً من الإنسانيّة فضلاً عن الدِّين ، والحضور عند قبر الحسين (ع) يوم الأربعين من مقتله من أظهر علائم الإيمان.

ولا ينقضي العجب ممَّن يتصرّف في هذه الجملة بالحمل على زيارة أربعين

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ ص ١٨٩.

(٢) البحر الرائق لابن نجيم ١ ص ٣١٩.

(٣) الكافي على هامش مرآة العقول ٣ ص ١٢٩ ، والفقيه للصدوق ص ٦٩ ، والتهذيب للشيخ الطوسي ١ ص ٢٦٦ ، في التعقيب.

(٤) الفقيه للصدوق ص ٦٩ ، في التعقيب.

(٥) المغني لابن قدامة ١ ص ٦٢٦ ، والفروع لابن مفلح ١ ص ٣٨٢.

(٦) كتاب الاُم ١ ص ١١٦ ، ومختصر المزني على هامشه ١ ص ٩٠ ، والوجيز للغزالي ١ ص ٣٢.

٣٧٠

مؤمناً مع عدم تقدّم إشارة إليه ولا قرينة تساعد عليه ليصح الإتيان بالألف واللام للعهد ، مع أنّ زيارة أربعين مؤمناً ممّا حثّ عليها الإسلام ، فهي من علائمه عند الشيعة والسُنّة ولَم يخصّ بها المؤمنون ليمتازوا عن غيرهم. نعم ، زيارة الحسين (ع) يوم الأربعين من قتله ممّا يدعو إليها الإيمان الخالص لأهل البيت (عليهم السّلام) ويؤكّدها الشوق الحسيني ، ومعلوم أنّ الذين يحضرون في الحائر الأطهر بعد مرور أربعين يوماً من مقتل سيّد شباب أهل الجنّة خصوص المشايعين له السّائرين على أثره.

ويشهد له عدم تباعد العلماء الأعلام عن فهم زيارة الحسين في الأربعين من صفر من هذا الحديث المبارك ، منهم أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي في التهذيب ٢ / ١٧ باب فضل زيارة الحسين (ع) ، فإنّه بعد أن روى الأحاديث في فضل زيارته المطلقة ، ذكر المقيّد بأوقات خاصّة ، ومنها يوم عاشوراء ، وبعده روى هذ الحديث. وفي مصباح المتهجّد / ٥٥١ طبعة بمبئي ، ذكر شهر صفر وما فيه من الحوادث ، ثمّ قال : وفي يوم العشرين منه رجوع حرم أبي عبد الله (ع) من الشام إلى مدينة الرسول (ص) ، وورود جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء لزيارة أبي عبد الله (ص) ، فكان أول من زاره من النّاس ، وهي زيارة الأربعين ، فروي عن أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السّلام) أنّه قال : «علامات المؤمن خمس ...». وقال أبو الريحان البيروني : في العشرين من صفر رُدّ الرأس إلى جثّته فدفن معها. وفيه زيارة الأربعين ومجيء حرمه بعد انصرافهم من الشام (١).

وقال العلاّمة الحلّي في المنتهى ، كتاب الزيارات بعد الحج : يستحب زيارة الحسين (عليه السّلام) في العشرين من صفر. وروى الشيخ عن أبي محمّد الحسن العسكري (ع) أنّه قال : «علامات المؤمن خمس ...» إلى آخر الحديث. وفي الإقبال للسيّد رضيّ الدِّين علي بن طاووس ، عند ذكر زيارة الحسين (ع) في العشرين من صفر قال : روينا بالاسناد إلى جدِّي أبي جعفر فيما رواه بالاسناد إلى مولانا الحسن بن علي العسكري (ع) أنه قال : «علامات المؤمن خمس ...».

ونقل المجلسي (أعلى الله مقامه) في مزار البحار هذا الحديث عند ذكر فضل

__________________

(٢) الآثار الباقية ص ٣٣١.

٣٧١

زيارة الحسين (ع) يوم الأربعين. وفي الحدائق للشيخ يوسف البحراني ، في الزيارات بعد الحجّ قال : وزيارة الحسين (ع) في العشرين من صفر من علامات المؤمن. وحكى الشيخ عبّاس القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب ، ومصباح المتهجّد في الدليل على رجحان الزيارة في الأربعين ، من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً.

واستبعاد بعضهم إرادة زيارة الأربعين من جهة عدم تعرّض الإمام (عليه السّلام) للآثار الاُخرويّة المترتّبة على الزيارة مع أنّ أهل البيت (عليهم السّلام) عند الحثّ على زيارة المظلوم وغيره من أئمّة الهدى (عليهم السّلام) يذكرون ما يترتّب عليها من الثواب لا يُصغى إليه ؛ فإنّ الإمام في هذا الحديث إنّما هو بصدد بيان علائم المؤمن التي يمتاز بها عن غيره ، وجعل منها زيارة الأربعين على ما أوضحنا بيانه ، ولَم يكن بصدد بيان ما يترتّب على الزيارة من الأثر.

واستحباب زيارته (ع) في العشرين من صفر نصّ عليه الشيخ المفيد في (مسار الشيعة) ، والعلاّمة الحلّي في (التذكرة) و (التحرير) ، وملاّ محسن الفيض في (تقويم المحسنين). وتفسير الشيخ البهائي في (توضيح المقاصد) الأربعين بالتاسع عشر من صفر ، مبنيّ على حساب يوم العاشر من الأربعين ، وهو خلاف المتعارف.

وافتك جنداً يستثير ويزأر

فقد المواكب أنّها لك عسكر

لا تسلمنَّ إلى الدنيّة راحة

ما كان أسلمها لذل حيدر

وابعث حياة النّاهضين جديدة

فيها الاُباء مؤيَّد ومظفَّر

وارسم لسير الفاتحين مناهجاً

فيها عروش الطَّائشين تدمَّر

إنْ لَم تلبِّك ساعة محمومة

ذمّت فقد لبَّت نداءك أعصر

قم وانظر البيت الحرام ونظرة

اُخرى لقبرك فهو حجّ أكبر

أصبحت مفخرة الحياة وحقّ لَو

فخرت به فدم الشهادة مفخر

قدَّست ما أعلى مقامك رفعة

أخفيه خوف الظالمين فيظهر

شكتِ الإمارة حظَّها واستوحشت

أعوادها من عابثين تأمَّروا

وتنكرت للمسلمين خلافة

فيها يصول على الصلاح المنكر

سوداء فاحمة الجبين ترعرعت

فيها القرود ولوَّثتها الأنمر

سكبت على نغم الأذان كؤوسها

وعلى الصلاة تديرهنَّ وتعصر

٣٧٢

تلك المهازل يشتكيها مسجد

ذهبت بروعته ويبكي منبر

فشكت إليك وما شكت إلاّ إلى

بطل يغار على الصلاح ويثأر

تطوى الفضائل ما عظمن وهذه

اُمّ الفضائل كلَّ عام تنشر

جرداء ذابلة الغصون سقيتها

بدم الوريد فطاب غرس مثمر

وعلى الكريهة تستفزُّك نخوة

حمراء دامية ويوم أحمر

شكت الشريعة من حدود بُدّلَتْ

فيها وأحكام هناك تغيَّر

سلبت محاسنها اُميّة فاغتدت

صوراً كما شاء الضلال تصوَّر

عصفت بها الأهواء فهي أسيرة

تشكو وهل غير الحسين محرِّر

وافى بفتيته الصّباح فساقهم

للدِّين قربان الإله فجزِّروا

أدّى الرسالة ما استطاع

وإنّما تبليغها بدم يطلّ ويهدر

فبذمّة الإصلاح جبهة ماجد

تدمى ووضّاح الجبين يعفَّر

لبّيك منفرداً اُحيط بعالم تحصى

الحصى عدداً وما إن يحصر

لبّيك ظام حلأوه عن الروى

وبراحتيه من المكارم أبحر

هذي دموع المخلصين فروّ من

عبراتها كبداً تكاد تفطَّر

واعطف على هذي القلوب فإنّها

ودَّت لَو أنّك في الأضالع تقبر

يتزاحمون على استلام مشاعر

من دون روعتها الصّفا والمشعر

ركبوا لها الأخطار حتّى لَو غدت

تُبرى الأكفّ أو الجماجم تنثر

وافوك يوم الأربعين وليتهم

حضروك يوم الطّف إذ تستنصر

وجدوا سبيلكم النّجاة وإنّما

نصبوا لها جسر الولاء ليعبروا

وتأمّلوك لساعةٍ مرهوبةٍ

إمّا الحميم بها وإمّا الكوثر

وسيعلم الخصمان إنْ وافوك مَن

يرد المعين ومَن يذاد ويصدر (١)

في المدينة

لَم يجد السجّاد (ع) بدّاً من الرحيل من كربلاء إلى المدينة بعد أنْ أقام ثلاثة أيّام ؛ لأنّه رأى عمّاته ونساءه وصبيته نائحات الليل والنّهار ، يقمن من قبر ويجلسن عند آخر.

__________________

(١) للعلاّمة الشيخ عبد المهدي مطر النّجفي.

٣٧٣

تشكو عداها وتنعي قومها فلها

حال من الشجو لفّ الصبر مدرجه

فنعيها بشجى الشكوى تؤلّفه

ودمعها بدم الأحشاء تمزجه

ويدخل الشجو في الصخر الأصمِّ لها

تزفُّر من شظايا القلب تخرجه (١)

قال بشير بن حذلم : لمّا قربنا من المدينة ، نزل علي بن الحسين (ع) وحطَّ رحله وضرب فسطاطه ، وأنزل نساءه وقال : «يا بشير ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه؟» قلت : بلى يابن رسول الله ، إنّي لشاعر. فقال (ع) : «ادخل المدينة وانع أبا عبد الله (ع)». قال بشير : فركبت فرسي حتّى دخلت المدينة فلمّا بلغت مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت :

يا أهل يثربَ لا مُقَام لكم بها

قُتل الحسينُ فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يُدار

وقلت : هذا علي بن الحسين (ع) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه. فخرج النّاس يهرعون ولّم تبقَ مخدَّرة إلاّ برزت ، تدعو بالويل والثبور ، وضجَّت المدينة بالبكاء ، فلم يرَ باكٍ أكثر من ذلك اليوم ، واجتمعوا على زين العابدين (ع) يعزّونه ، فخرج من الفسطاط بيده خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه مولى معه كرسي ، فجلس عليه ، وهو لا يتمالك من العبرة ، وارتفعت الأصوات بالبكاء والحنين.

فأومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا ، فلمّا سكتت فورتهم قال (عليه السّلام) :

«الحمدلله ربِّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعُد فارتفع في السّماوات العلا ، وقرُب فشهد النّجوى ، نحمده على عظائم الاُمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم ، إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قُتل أبو عبد الله الحسين (ع) وعترته ، وسُبيت نساؤه

__________________

(١) لحجة الإسلام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (قدّس سرّه).

٣٧٤

وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان ، من فوق عامل السّنان ، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها النّاس ، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها ، وتضنُّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السّبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسّماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، الملائكة المقرّبون ، وأهل السّماوات أجمعون.

أيّها النّاس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟

أيّها النّاس ، أصبحنا مشرّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إنّ هذا إلاّ اختلاق ، والله لو أنّ النّبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصيّة بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأكظّها وأفظّها وأمرّها وأفدحها ، فعند الله نحتسب ما أصابنا ، وما بلغ بنا ، فإنّه عزيز ذو انتقام».

فقام إليه صوحان بن صعصعة بن صوحان العبدي ، وكان زَمِناً واعتذر بما عنده من زمانة رجلَيه.

فأجابه (عليه السّلام) بقبول عذره وحُسن الظن فيه ، وشكر له وترحّم على أبيه. ثمّ دخل زين العابدين (ع) المدينة بأهله وعياله (١) وجاء إليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال : مَن الغالب؟ فقال (عليه السّلام) : «إذا دخل وقت إلى الصلاة فأذّن وأقم ، تعرف الغالب» (٢).

فأمّا زينب اُمّ كلثوم فأنشأت تقول :

مدينة جَدّنا لا تقبلينا

فبالحسرات والأحزان جينا

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس ص ١١٦.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي ص ٦٦ ، وفي المقدمة ص ٥٦ ذكرنا مراده.

٣٧٥

خرجنا منك بالأهلين طرّاً

رجعنا لا رجال ولا بنينا

ثمّ أخذت زينب بنت أمير المؤمنين بعضادتي باب المسجد وصاحت : يا جَدّاه ، إنّي ناعية إليك أخي الحسين.

وصاحت سكينة : ياجَدّاه! إليك المشتكى ممّا جرى علينا ، فوالله ما رأيت أقسى من يزيد ، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ولا أجفى وأغلظ ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته وهو يقول : كيف رأيت الضرب يا حسين (١).

وأقمن حرائر الرسالة المأتم على سيّد الشهداء ولبسن المسوح والسّواد ، نائحات الليل والنّهار ، والإمام السجّاد يعمل لهنّ الطعام (٢).

وفي حديث الصادق (ع) : «ما اختضبت هاشميّة ولا أدهنت ولا اُجيل مرود في عين هاشميّة خمس حجج حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد» (٣).

وأما الرباب فبكت على أبي عبد الله حتّى جفّت دموعها فأعلمتها بعض جواريها بأنّ السّويق يسيل الدمعة ، فأمرت أنْ يُصنع لها السّويق لاستدرار الدموع (٤).

وكان من رثائها في أبي عبد الله (ع) (٥) :

إنَّ الذي كان نوراً يُسْتَضاء به

بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النّبيّ جزاك الله صالحة

عنّا وجنبت خسران الموازين

قد كنتَ لي جبلاً صعباً ألوذ به

وكنتَ تصحبنا بالرحم والدّين

مَنْ لليتامى ومَنْ للسائلين ومَنْ

يغني وياوي إليه كلّ مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركمُ

حتّى اُغَّيب بين الرمل والطِّين

وأمّا علي بن الحسين (ع) فانقطع عن النّاس ؛ انحيازاً عن الفتن وتفرّغاً للعبادة

__________________

(١) رياض الأحزان ص ١٦٣.

(٢) محاسن البرقي ٢ ص ٤٢٠ ، باب الاطعام للمأتم.

(٣) مستدرك الوسائل ٢ ص ٢١٥ الباب الرابع والتسعون.

(٤) البحار ١٠ ص ٢٣٥ عن الكافي.

(٥) الأغاني ٢ ص ١٥٨.

٣٧٦

والبكاء على أبيه ، ولم يزل باكياً ليله ونهاره ، فقال له بعض مواليه : إنّي أخاف عليك أنْ تكون من الهالكين. فقال (ع) : «يا هذا ، إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إنّ يعقوب كان نبيّاً فغيّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر ، وهو يعلم أنّه حيّ فبكى عليه حتّى أبيضّت عيناه من الحزن ، وإنّي نظرت إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي ، فكيف ينقضي حزني؟! وإنّي لا أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة ، وإذا نظرت إلى عمّاتي وأخواتي ذكرت فرارهنّ من خيمة إلى خيمة».

رأى اضطرام النّار في الخباء

وهو خباء العزِّ والإباء

رأى هجوم الكفر والضلالة

على بنات الوحي والرسالة

شاهد في عقائل النبوّة

ما ليس في شريعة المروَّة

من نهبها وسلبها وضربها

ولا مجير قطّ غير ربِّها

شاهد سَوق الخفرات الطّاهرة

سوافر الوجوه لابن العاهرة

رأى وقوف الطّاهرات الزاكية

قبالة الرجس يزيد الطّاغية

وهنَّ في الوثاق والحبال

في محشد الأوغاد والأنذال (١)

إليك يا رسول الله المشتكى ممّا أتت به اُمّتك مع أبنائك الأطهرين من الظلم والاضطهاد. والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) للحجّة الشيخ محمّد حسين الاصفهاني.

٣٧٧

المراثي

إنّ قضيّة سيّد الشهداء (عليه السّلام) بما اشتملت عليه من القساوة الشائنة كانت مثيرة للعواطف ، مرققةِّ للأفئدة ، فتذمّر منها حتّى مَن لم ينتحل دين الإسلام ؛ لذلك ازدلف الشعراء قديماً وحديثاً ، باللغة الفصحى والدارجة ، إلى ذكرها وتعريف الأجيال المتعاقبة بما جاء الاُمويّون من استئصال شأفة آل الرسول (ص) فجاؤا بما فيه نجعة المرتاد.

ومن هؤلاء المناضلين لإحياء المذهب ، الحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (نوّر الله ضريحه) فلقد جاء بمراثٍ كثيرة لها حُسن السَّبك ودقَّة المعنى وسلاسة النّظم ورقَّة الانشاء ، آثرنا منها أربع قصائد ساطعة في رثاء السّبط الشهيد سيّد شباب أهل الجنّة (عليه السّلام) :

١ ـ قال رحمه الله :

نفس أذابتها أسىً حسراتها

فجرت بها محمرَّة عبراتها

وتذكّرت عهد المحصَّب من منى

فتوقَّدت بضلوعها جمراتها

سارت وراءهم ترجع رنَّة

حنَّت مطاياهم لها وحداتها

طلعوا بيوم للوداع وقد غدى

ليلاً فردَّت شمسه جبهاتها

وسروا بكلّ فتاة خدرٍ إنْ تكن

بدراّ فأطراف القنا هالاتها

فخذوا احمرار خدودها بدمائنا

فجناتها دون الورى وجناتها

واستعطفوا باللين أعطافاً لها

فلقد أقمنَ قيامتي قاماتها

وعلى عذيب الريق بارق لؤلؤ

بالمنحنى من أضلعي قبساتها

لاثت على شهدية بخمارها

والخمر يشهد إنّه للثَّاتها

لله يوم تلفَّتت لَو أنّها

كانت لقتلى حبّها لفتاتها

ثملت بخمرة ريقها أعطافها

وزهت بلؤلؤ ثغرها لثاتها

ومشت فخاطرت النّفوس كأنَّما

ماست بخطّار القنا خطراتها

ومن البليّة أنّني أشكو لها

بلوى الضَّنا فتزيدني لحظاتها

وأبيت أسهر ليلتي وكأنّما

قد وفّرت في جنحها وفراتها

ومهى قنصت لصيدهنّ فعدت في

شرك الغرام وأفلتت ظبياتها

عجباً تفاد لي الاُسود مهابةً

وتقودني وأنا الأبي مهاتها

أنا من بعين المكرمات ضياؤها

لكن بعين الحاسدين قذاتها

٣٧٨

إن أنكرتني مقلة عميا فلا

عجب فإنّي في سناني فقأتها

تعساً لدهر أصبحت أيّامه

والغدر نجح عداتها وعداتها

لا غرو أنْ تعتد بنوه الغدر

فالأبناء من آبائها عاداتها

ولقد وجدت ملاءة الدنيا

خلت من عفّة ونجابة فملاتها

وأرى أخلاّئي غداة خبرتهم

أعدى عدى شنّت بنا غاراتها

كنت الحماة أظنّهم فكشفتهم

عن عقرب لسعت حشاي حماتها

وتعدّهم نفسي الحياة لها

وقد دبّت إليها منهم حيّاتها

أسدت إليّ بكلّ سيّئة ومن

صفحى أقدّر أنّها حسناتها

ولكم عليها من يد بيضاء لي

قد سوّدتها اليوم تمويهاتها

إنْ فصّلت لي الغدر أنواعاً فقد

عرفت بخبث الجنس ماهيّاتها

لؤمت إساءتها فهانت واستوى

نبح الكلاب عليَّ أو أصواتها

وتكرّماً عنها صددت وإنّني

لولا خساستها عليّ خساتها

ولقد دنت شأناً فلولا عفّتي

عن وطء كلّ دنيّة لوطاتها

وأنا الشجى في حلقها فلو أنّها

تجد المساغ قذفن بي لهواتها

وتهشّ بشراً إن حضرت فإن أغب

قذفت بجمرة غيظها حصياتها

كم صانعتني بالدهاء وإنّما أدهى

الورى شرّاً عليَّ دهاتها

لكنْ جُبِلْتُ على الوفاء فلَو جنت

يدها على عيني العمى لدراتها

وأنا العصيّ من الإبا وخلائقي

في طاعة الحرِّ الكريم عصاتها

عوَّدتُ عينيَّ الإباء فلم تسل

إلاّ لآل محمّدٍ عبراتها

كم غارة لك يا زمان شننتها

لم أستطع دفعاً لها فشناتها

وأرى الليالي منك حُلبى لَم تلد

للحرِّ غير ملمَّة غدراتها

تجرى لها العبرات حمراً إنْ جرت

ذكراً على أسماعنا عثراتها

ووددْت مذ جارت على أبنائها

ورمت بنيها بالصروف بناتها

عدلت بآل محمّدٍ فيما قضت

وهُمُ أئمّة عدلها وقضاتها

المرشدون المرفدون فكم هدى

وندىً تميح صَلاتها وصِلاتها

والمنعمون المطعمون إذا انبرت

نكباء صوَّحت الثَّرى نكباتها

والجامعون شتات غرِّ مناقب

لَم تجتمع بسواهُمُ أشتاتها

يا غاية تقف العقول كليلة

عنها وإنْ ذهبت بها غاياتها

٣٧٩

ياجذوة القدس التي ما أشرقت

شهب السّما لو لَم تكن لمعاتها

ياقبّة الشرف التي لو في الثّرى

نُصبت سمت هام السّما شرفاتها

ياكعبة لله إنْ حجَّت لها

الأملاك منه فعرشه ميقاتها

يانقطة الباء التي باءت لها

الكلمات وائتلفت بها ألفاتها

يا وحدة الحقِّ التي ما إنْ لها

ثانٍ ولكن ما انتهت كثراتها

يا وجهة الأحديَّة العليا التي

بالأحمديَّة تستنير جهاتها

يا عاقلي العشر العقول ومَن لها

السَّبع الطباق تحرّكت سكناتها

أقسمتُ لو سِرَّ الحقيقة صورة

راحت وأنتم للورى مرآتها

أنتم مشئته التي خلقت بها

الأشياء بل ذُرئت بها ذرَّاتها

وخزانة الأسرار بل خزَّانها

وزجاجة الأنوار بل مشكاتها

أنا في الورى قال لكم إنْ لَم أقل

ما لم تقله في المسيح غُلاتها

سفهاً لحلمي إن تطر بثباتي السف

هاء مذ طارت بها جهلاتها

أنا من شربت هناك أول درِّها

كأساً سرت بسرائري نشواتها

فاليوم لا أصحو وإن ذهبت بيَ

الأقوال أو شدَّت عليَّ رماتها

أو هل ترى يصحو صريع مدامة

ممّا به إن عنّفته صحاتها

أو هل يحول أخو الحجى عن رشده

ممّا تؤنّبه عليه غواتها

بأبي وبي مَن هم أجلُّ عصابة

سارت تؤمّ بها العلا سرواتها

عطري الثياب سروا فقل في روضة

غبّ السّحاب سرت بها نسماتها

ركبٌّ حجازيون عرّقت العلا

فيهم ومِسك ثنائهم شاماتها

تحدو الحداة بذكرهم وكأنَّما

فتقت لطيمة تاجر لهواتها

ومطوَّحين ولا غناء لهم سوى

هزج التلاوة رتلّت آياتها

وإلى اللقاء تشوّقاً أعطافها

مهزوزةً فكأنّها قنواتها

خفَّت بهم نحو المنايا همَّة

ثقلت على جيش العدى وطآتها

وبعزمها من مثل ما بأكفِّها

قطع الحديد تأجّجت لهباتها

فكأنَّ من عزماتها أسيافها

طبعت ومن أسيافها عزماتها

قسم الحيا فيها فمن مقصورة

الأيدي وممدودة قسماتها

وملوك بأسٍ في الحروب قبابها

قبّ البطون ودستها صهواتها

يسطون في الجمِّ الغفير ضياغما

لكنّما شجر القنا أجماتها

٣٨٠