مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

الرأس مصلوباً على باب دارها ، والأنوار العلويّة تتصاعد إلى عنان السماء ، وشاهدت الدم يتقاطر ، ويُشم منه رائحة طيّبة ، عظم (١) مصابه في قلبها ؛ فلم تتماسك دون أن دخلت عليه مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح : رأس ابن بنت رسول الله (ص) مصلوب على دارنا؟!. وقام إليها وغطّاها ، وقال لها : اعولي على الحسين ، فإنه صريخة بني هاشم ، عجّل عليه ابن زياد (٢).

__________________

إلا أنه أبدل الحسين بالحسن (ع) ، وأنه قال لعبد الله بن عامر بعد أن طلقها : «لا تجد مُحلّلاً خيراً لكما مني». وكانت هند تقول : سيدهم حسن. واسخاهم عبد الله. وأحبهم إليَّ عبد الرحمن. وفي تهذيب التهذيب ٢ ص ٤٥ : إن الهذلي هو أبو بكر ، كذّاب عند ابن معين ، ضعيف عند أبي زرعة ، متروك الحديث عند النسائي. وفي الوافي بالوفيات ٣ ص ١٤٦ ، اعترف محمّد بن سيرين على نفسه ، بأنه يسمع الحديث ، وينقص منه. وكان من سبي (جرجيا). وفي طرح التثريب ص ١٠٣ : كان سيرين من سبي عين التمر.

(الصورة الثالثة) في نهاية الارب ٦ / ١٨٠ : كانت زينب عند عبد الله بن سلام عامل معاوية على العراق ، فطلب منه معاوية طلاق زوجته ؛ لرغبة يزيد فيها على أن يزوجه من ابنته. فلما طلقها لم توافق ابنة معاوية على التزويج منه ، فأرسل معاوية أبا هريرة وأبا الدرداء إلى العراق ليخطبا زينب بنت اسحاق ليزيد. فقدما الكوفة ، وكان بها الحسين بن علي (ع) ، فذكرا له القصة ، فقال لهما : «اذكراني». فاختارت الحسين (ع) وتزوجها ، ولما عرف رغبة عبد الله بن سلام فيها طلقها ؛ ليحلها لزوجها الاول.

وهذه القصة المطولة ، التي أرسلها النويري في نهاية الأرب من دون إسناد ، ارسلها ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص ١٧٢ سنة ١٣٣٠ ـ ، واسماها (ارينب) بالراء المهملة. والحسين (ع) لم يرد إلى الكوفة بعد ارتحالهم منها!.

(الصورة الرابعة) في الامثال للميداني ١ / ٢٧٤ حرف الراء عنوان (رب ساع لقاعد) روي مرسلاً : إن معاوية سأل يزيد عن رغباته ، فذكر له رغبة في التزويج من (سلمى اُم خالد) ، زوجة عبد الله بن عامر بن كريز. فاستقدمه معاوية ، وسأله طلاق امرأته على أن يعطيه خراج فارس خمس سنين ، فطلّقها. فكتب معاوية إلى واليه على المدينة (الوليد بن عتبة) أن يُعلم ام خالد بطلاقها. وبعد انقضاء العدة ، أرسل معاوية أبا هريرة ومعه ستون ألفاً ؛ عشرون ألف دينار مهرها ، وعشرون ألفاً كرامتها ، وعشرون ألفاً هديتها. وفي المدينة حكى القصة لأبي محمّد الحسن بن أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال لأبي هريرة : «اذكرني». وقال له الحسين : «اذكرني لها». وقال عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطلب : اذكرني. وقال عبد الله بن جعفر الطيّار : اذكرني. وقال عبد الله بن الزبير : اذكرني. وقال عبد الله بن مطيع بن الاسود : اذكرني. ولمّا دخل عليها أبو هريرة ، حكى لها ما أراده معاوية ، ثم ذكر رغبة الجماعة فيها. فقالت له : اختر لي أنت؟ فاختار لها الحسن بن علي (ع) وزوجها منه ، وانصرف إلى معاوية بالمال. ولما بلغت معاوية القصة ، عتب على أبي هريرة ، فردّ عليه : المستشار مؤتمن.

هذا كلُّ ما في عيبة المؤرخين الامناء على تسجيل الحقائق كما وقعت ومن المؤسف عدم تحفظهم عن الطعن بكرامة المسلمين والتأمل في هذه الاُسطورة لا يعدوه الاذعان بأن الغاية منها هو النيل من ابني رسول الله صلى الله عليه وآله ، الإمامين على الاُمّة «إن قاما وإن قعدا» ؛ لعل مَن يبصر الأشياء على علاتها من دون تمحيص وقد وجد من انطلت عليه هذه الاكذوبة ، فرمى أب محمّد الحسن (ع) بما تسيخ منه الجبال ، بالاعتذار عن كثرة الزوجات للحسن أن الطلاق بالثلاث شائع ، وأنهم لم يجدوا محللاً صادقاً بأن يتزوج المرأة على الدوام ثم يطلقها إلا الحسن (ع) وما أدري بما يعتذر يوم يقول له (أبو محمّد) (ع) : على أي استناد وثيق هتكتني ، ولم تتبصر؟.

(١) خطط المقريزي ٣ ص ٢٨٤.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٧.

٤١

قصداً منه تعمية الأمر ، وتبعيد السُّبة عنه بالقاء الجريمة على العامل ، لكن الثابت لا يزول. وهذا هو السر في انشائه الكتاب الصغير ، الذي وصفه المؤرخون بأنه (اذن فارة) ، أرفقه مع كتابه الكبير إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة؛ بأخذ البيعة من أهلها عامة. وفي هذا الكتاب الصغير ، إلزام الحسين بها (١) ، وإن أبى فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه؟!.

وليس الغرض من هذا ، إلا أن يزيد لما كان عالماً بأن بيعته لم يتفق عليها صلحاء الوقت ، وأشراف الاُمّة ، وما صدر من الموافقة منهم يوم أرادها أبوه معاوية إنما هو بالوعيد والتهديد! أراد ان يخلي رسمياته عن الأمر بقتل الحسين (عليه السّلام) ، بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه الناس وخطّؤوه ؛ تذرع بنسبة القتل إلى العامل. فان كتابه الذي يأمره فيه بأخذ البيعة من أهل المدينة عامة ، خالٍ من هذه الجرأة ؛ فيكون له المجال في إلقاء التبعة بذلك على عاتق العامل!. كما انه في الوقت نفسه تذرع بهذا العذر ، وانطلى على بعض المؤرخين! وهل ينفعه هذا؟.

لبسوا بما صنعوا ثياب خزايةٍ

سوداً تولّى صبغهنَّ العارُ

الأنبياء مع الحسين

لقد كان حديث مقتل الحسين (عليه السّلام) من أسرار الخليقة وودائع النبوات ، فكان هذا النبأ العظيم مألكةَ (٢) أفواه النبيين ، دائرة بين أشداق الوصيين وحملة الأسرار؛ ليعرفهم المولى سبحانه وتعالى عظمة هذا الناهض الكريم ، ومنّته على الجميع بحفظ الشريعة الخاتمة التي جاؤوا لتمهيد أمرها ، وتوطيد الطريق إليها ، وتمرين النفوس لها. فيثيبهم بحزنهم واستيائهم ؛ لتلك الفاجعة المؤلمة! فبكاه آدم والخليل وموسى ، ولعن عيسى قاتله ، وأمر بني اسرائيل بلعنه ، وقال : «مَن أدرك أيامه ، فليقاتل معه ، فإنه كالشهيد مع الأنبياء ، مقبلاً غير مدبر. وكأني أنظر إلى بقعته ، وما من نبيٍّ إلا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ١٨٨.

(٢) في مقاييس اللغة لابن فارس ١ ص ١٣٣ قال الخليل : الألوك الرسالة ، وهي المألكة على مفعلة. وإنما سميت الرسالة ألوكا ؛ لانها تؤلك في الفم ، مشتق من قول العرب للفرس : تألك اللجام ، وتعلكه اذا مضغت الحديد. ويجوز تذكير المألكة.

٤٢

وزارها ، وقال : إنك لبقعة كثيرة الخير ، فيك يُدفن القمر الزاهر» (١).

وشاء إسماعيل ـ صادق الوعد ـ الأسوة به ؛ لمّا انُبأَ بشهادته ، فيكون الآخذ بثأره الإمامُ المنتظر عجل الله فرجه (٢).

واختار يحيى أن يُطاف برأسه

وله التّأسّي بالحسين يكون

وحديث مقتل الحسين (ع) أبكى الرسول الأقدس وأشجاه (٣) وهو حيٌّ ، فكيف به لو رآه صريعاً بكربلاء في عصابة من آله كأنهم مصابيح الدّجى ، وقد حلّؤوه ومَن معه عن الورد المباح لعامة الحيوانات؟!.

نعم ، شهد نبي الرحمة (ص) فلذة كبده بتلك الحالة التي تنفطر لها السموات ، ورأى ذلك الجمع المغمور بالاضاليل ، متألباً على استئصال آله من جديد الأرض ، فشاهده بعض مَن حضر ينظر الجمع مرة والسماء اُخرى ، مسلّماً للقضاء (٤).

ولما مرَّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) بكربلاء في مسيره إلى صفين ، نزل فيها واومأ بيده إلى موضع منها ، فقال : «ههنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم» ، ثم أشار إلى موضع آخر وقال : «ههنا مهراق دمائهم. ثقلٌ لآل محمّد ينزل ههنا» ، ثم قال : «واهاً لك يا تربة! ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب» (٥) وأرسل عبرته ، وبكى مَن معه ؛ لبكائه. وأعلم الخواص من صحبه ، بأن ولده الحسين (ع) يقتل ههنا في عصابة من أهل بيته وصحبه ، هم سادة الشهداء ، لا يسبقهم سابق ، ولا يلحقهم لاحق (٦).

وفي حديثه الآخر ، بعد الإخبار بأن في موضع كربلاء تقتل فتية من آل محمد (ص) ، قال : «تبكي عليهم السماء والأرض (٧). بأبي مَن لا ناصر له إلا الله» (٨). ثم قال : «لا يزال

__________________

(١) كامل الزيارات لابن قولويه ، المتوفى سنة (٣٦٧) ص ٦٧

(٢) كامل الزيارات ص ٦٥.

(٣) خصائص السيوطي ٢ ص ١٢٥ من حديث ام الفضل وانس. ورواه الماوردي في أعلام النبوة ص ٨٣ من حديث عائشة أنها قالت : وكان في المجلس علي وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبوذر. ورواه ابن حجر في مجمع الزوائد ٩ ص ١٨٨ عن عائشة. ورواه زكريا الانصاري في فتح الباقي شرح ألفية العراقي ، المطبوع في ذيل الألفية ١ ص ٢٥.

(٤) كامل الزيارات ص.

(٥) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ١٥٧ ـ ١٥٩.

(٦) كامل الزيارات ص ٢٧.

(٧) دلائل النبوة ٣ ص ٢١١.

(٨) اُسد الغابة ٤ ص ١٦٩.

٤٣

بنو اُميّة يمعنون في سجل ضلالتهم حتّى يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام ، ولكأني أنظر إلى غرنوقاً من قريش يتشحط في دمه ، فإذا فعلوا ذلك ، لم يبق لهم في الأرض عاذر ، ولم يبقَ ملك لهم» (١).

ومرّ سلمان الفارسي بكربلاء حين مجيئه إلى المدائن ، فقال : هذه مصارع إخواني ، وهذا موضع مناخهم ، ومهراق دمائهم. يقتل بها ابن خير الأولين والآخرين (٢). ومرّ عيسى بن مريم (ع) بأرض كربلاء ، فرأى ظباءً ترعى هناك ، فكلمته بأنها ترعى هنا ؛ شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك ، فرخ الرسول أحمد (ص) ، وأنّها آمنة في هذه الأرض. ثم أخذ المسيح (ع) من أبعارها وشمّه ، وقال : «اللهم ، أبقه حتّى يشمّها أبوه ، فتكون له عزاءً وسلوة». فبقيت الأبعار إلى مجيء أمير المؤمنين (ع) بكربلاء ، وقد اصفرّت ؛ لطول المدّة. فأخذها وشمّها وبكى ، ثم دفعها إلى ابن عبّاس ، وقال : «إحتفظ بها ، فاذا رأيتها تفور دماً ، فاعلم إن الحسين قد قُتل». وفي يوم عاشوراء بعد الظهر رآها تفور دماً (٣).

الإقدام على القتل

تمهيد

من الضروري احتياج المجتمع البشري إلى مُصلح يسد خلته ، ويسدد زلته ، ويكمل اعوازه ، ويقوّم إوده لتوفر دواعي الفساد فيه. فلو لم يكن في الاُمّة مَن يكبح جماح النفوس الشريرة ؛ للعبت الأهواء بهم ، وفرقتهم أيدي سباً ، وبات حميم لا يأمن حميه ، وأصبحت أفراد البشر ضحايا المطامع.

وهذا المصلح يختاره المولى سبحانه من بين عباده ؛ لأنه العارف بطهارة النفوس ونزاهتها عمّا لا يرضى به رب العالمين. ويكون الواجب ، عصمته ممّا في العباد من الرذائل والسجايا الذميمة حتّى لا يشاركهم فيها ، فيزداد الطين بلّة ، ويفوته التعريف والإرشاد إلى مناهج الاصلاح ومساقط الهلكة!.

وقد برّأ الله تعالى ذات النبي الأعظم (ص) من نور قُدسه ، وحباه بأكمل الصفات الحميدة حتّى بذّ العالمَ ، وفاق مَن في الوجود ، فكان محلاً

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ ص ٣٦٣ ط ١ مصر.

(٢) رجال الكشي ص ١٣ ط الهند.

(٣) إكمال الدين للصدوق ص ٢٩٥.

٤٤

للتجليات الإلهية ، وممنوحاً بالوحي العزيز. وإنّ اليراع ليقف متردداً عن تحديد تلك الشخصية الفذة ، التي أنبأ عنها النبي (ص) بقوله لأمير المؤمنين (ع) : «لا يعرف الله إلا أنا وأنت ، ولا يعرفني إلا الله وأنت ، ولا يعرفك إلا الله وأنا» (١).

وحيث إن عمر النبي (ص) غير باق إلى الأبد ؛ لأنه لم يخرج عمّا عليه الناس في مدة الاجل. وجملة من تعاليمه لا تخلو من أن تكون كليات لم تأت أزمنة تطبيقها على الخارج ، كان الواجب في شريعة الحقِّ الداعية إلى إصلاح الاُمّة : إقامة خليفة مقامه ، يحذو حذوه في نفسياته واخلاصه وعصمته ؛ لأن السرائر الكامنة بين الجوانح لا يعلمها إلا خالقها. ولو اوكل معرفتها إلى الاُمّة لتعذر عليها التمييز؛ لعدم الاهتداء إلى تلك المزايا الخاصة في الإمام! فتحصل الفوضى ، وينتشر الفساد ، ويعود النزاع والتخاصم. وهو خلاف اللطف الواجب على المولى سبحانه (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٢) (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا) (٣).

فالخلافة منصب إلهي يقيّض الله تعالى رجلاً ينوؤ بأثقال النبوة ، فيبلّغ الدعوة لمن تبلغه ، ويدعو إلى تفاصيل الشريعة التي جاء بها المنقذ الأكبر (ص) ، فيرشد الجاهل ، وينبّه الغافل ، ويؤدب المتعدي ، ويبين ما أجمله النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ لضرب من المصلحة أو أهمله لعدم السعة في زمانه بعد انقضاء أمد الرسالة.

في شخصية أمير المؤمنين ثم ابنه الحسن ، وبعده أخوه سيد الشهداء الحسين ، فابنه زين العابدين علي ، ثم ابنه الباقر محمّد ، فابنه الصادق جعفر ، فابنه الكاظم موسى ، فابنه الرضا علي ، فابنه الجواد محمّد ، فابنه الهادي علي ، فابنه الحسن العسكري ، ثم ابنه المنتظر أبو القاسم محمّد عجل الله فرجه.

كما أفاد المتواتر من الاحاديث : بأنّ الله عز شأنه اودع في الإمام المنصوب ـ حجّة العباد ، ومنار يهتدي به الضالون ـ قوةً قدسية نورية ، يتمكن بوساطتها من

__________________

(١) المحتضر ص ١٦٥ لمؤلّفه الحسن بن سليمان الحلّي ، أحد تلامذة الشهيد الأول ، والذي كان حيّاً سنة ٨٠٢ هـ ، ومختصر البصائر ص ١٢٥ للمؤلّف نفسه.

(٢) سورة القصص : آية ٦٨.

(٣) سورة الأحزاب : آية ٣٦.

٤٥

استعلام الكائنات ، وما يقع في الوجود من حوادث وملاحم. فيقول الحديث الصحيح : «اذا ولد المولود منّا ، رُفع له عمود نور يرى به أعمال العباد ، وما يحدث في البلدان» (١).

والتعبير بذلك ، إشارة إلى القوة القدسية المفاضة من ساحة (الحقِّ) سبحانه ؛ ليكتشف بها جميع الحقائق على ما هي عليه ؛ من قول او عمل او غيرهما من اجزاء الكيان الملكي والملكوتي. وبتلك القوة القدسية يرتفع سدول الجهل واستتار الغفلة ، فلا تدع لهم شيئاً إلا وهو حاضر بذاته عند ذواتهم القدسية ، كما أن النور يجلو ما اسدلته غياهب الظلمة ، فيجد المبصر ما حجبه الحلك الدامس نصب عينيه ، وقد انبأ أبو عبد الله الصادق (عليه السّلام) عمّا حباهم به المولى جلَّ شأنه من الوقوف على أمر الاولين والآخرين ، وما في السماوات والارضين ، وما كان ويكون حتّى كأن الأشياء كلَّها حاضرة لديهم (٢).

ثم يسجل التدليل عليه بقوله : «كلمّا كان لرسول الله (ص) فلنا مثله ، إلا النبوّة والأزواج» (٣).

ولا غلوّ في ذلك بعد قابلية تلك الذوات المطهرة بنصّ الذكر الحميد : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (٤) ، لتحمل الفيض الأقدس وعدم الشحِّ في (المبدأ الأعلى) تعالت آلاؤه. والمغالاة في شخص عبارة عن إثبات صفة له ، إمّا أن يحملها العقل ، أو لعدم القابلية لها ، والعقل لا يمنع الكرم الالهي. كيف والجليل عزَّ لطفه يدرُّ النعم على المتمادين في الطغيان ، المتمردين على قدس جلاله حتّى كأن المنّة لهم عليه! فلم يمنعه ذلك من الرحمة بهم والإحسان إليهم والتفضل عليهم ، لا تنفذ خزائنه ولا يفوته من طلبه ، وهذا من القضايا التي قياساتها معها. وإذا كان حال المهيمن سبحانه كما وصفناه مع اولئك

__________________

(١) بصائر الدرجات للصفار ٩ ص ١٢٨ ، ملحق بنفس الرحمن للنوري (قدس سره).

(٢) مختصر البصائر ص ١٠١.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٠.

(٤) سورة الأحزاب : آية ٣٣.

(٥) من الغلو ما قاله أحمد بن يحيى البلاذري في المستعين :

ولو أن برد المصطفى إذ لبسته

يظن لظن البرد أنك صاحبه

وقال وقد اعطيته ولبسته

نعم هذه اعطافه ومناكبه

الآثار النبوية لاحمد تيمور باشا / ١٣.

٤٦

الطغاة ، فكيف به عزَّ وجل مع مَن اشتقّهم من الحقيقة الأحمدية التي هي من (الشعاع الأقدس) جلَّ شأنه ، فالتقى مبدأ فيّاض ، وذوات قابلة للافاضة؟ فلا بدع في كل ما ورد في حقّهم (ع) من علم الغيب ، والوقوف على أعمال العباد ، وما يحدث في البلدان ممّا كان ويكون.

فالغيب المدّعى فيهم (عليهم السّلام) ، غير المختص بالباري تعالى ؛ ليستحيل في حقّهم (عليهم السّلام) ، فإنه فيه ـ تعالى شأنه ـ ذاتي ، وأمّا في الأئمة (ع) ، فمجعول من الله سبحانه وتعالى. فبوساطة فيضه ولطفه ، كانوا يتمكنون من استعلام خواص الطبائع والحوادث.

فاذاً الغيب على قسمين : منه ما هو عين واجب الوجود ؛ بحيث لم يكن صادراً عن علّة غير ذات فاطر السماوات والأرضين ، ومنه ما كان صادراً عن علّة ، ومتوقفاً على وجود الفيض الالهي ، وهو ما كان موجوداً في الأنبياء والاوصياء (عليهم السّلام). وإلى هذا الذي قررناه تنبّه العلامة الآلوسي المفسّر ، فإنّه عند قوله تعالى : (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) قال : لعلّ الحقَّ أن يقال : إنّ علم الغيب للنفي عن غيره جلَّ وعلا هو ما كان للشخص بذاته ، أي بلا وساطة في ثبوته له. وما وقع للخواصّ ليس من هذا العلم المنفي في شيء ، وإنّما هو من الواجب عزّ وجلّ ، إفاضة منه عليهم بوجه من الوجوه ، فلا يقال : إنّهم علموا الغيب بذلك المعنى ، فإنه كفر. بل يقال : إنّهم اظهروا واطّلعوا على الغيب (١).

ويشهد له ما جاء عن أبي جعفر الجواد (ع) ، فإنّه لمّا أخبر اُمَّ الفضل بنت المأمون بما فاجأها ممّا يعتري النساء عند العادة ، قالت له : لا يعلم الغيب إلا الله ، قال (ع) : «وأنا أعلمه من علم الله تعالى» (٢).

فالائمة (عليهم السّلام) محتاجون في جميع الأوقات إلى الفضل الإلهي ؛ بحيث لولا دوام الاتصال وتتابع الفيوضات ، لنفد ما عندهم على حدِّ تعبير الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) ، فإنّه قال : «لولا أنّا نزداد في كلّ ليلة جمعة ، لنفد ما عندنا» (٣). ومراده : التعريف

__________________

(١) روح المعاني ٢٠ ص ١١.

(٢) بحار الانوار ١٢ ص ٢٩.

(٣) اصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ ص ١٨٥.

٤٧

بأنّ علمهم مجعول من الباري تعالى ، وأنهم في حاجة إلى استمرار ذلك الفيض الأقدس ، وتتابع الرحمات السبحانية. والتخصيص بليلة الجمعة ، هو من جهة بركتها بنزول الألطاف الربانية فيها من أول الليل إلى آخره ، على العكس من سائر الليالي. وإلى هذا يرجع قول الامام الرضا (ع) : «يبسط لنا العلم فنعلم ، ويقبض عنا فلا نعلم» (١).

وهل يشك مَن يقرأ في سورة الجن : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) إن من كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ، هو خاتم الأنبياء ، الرسول المصطفى (ص) ؛ لأنه لم يفضّله أحد من الخلق. وكان الإمام أبو جعفر الباقر (ع) يقول : «كان والله محمّد ممن ارتضاه» (٢) ، ولم يبعد الله الخلفاء عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور المحمدي ، ويشهد له جواب الرضا (ع) لعمرو بن هداب ، فإنه لمّا نفى عن الأئمة (عليهم السّلام) علم الغيب محتجاً بهذه الآية ، قال له : «إنّ رسول الله هو المرتضى عند الله ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على غيبه ، فعلمنا ما كان ويكون إلى يوم القيامة» (٣). وكيف لا يكون حبيب الله هو ذلك الرسول المرتضى ، وقد شرّفه الباري سبحانه وتعالى بمخاطبته إياه بلا وسيط ملك؟!.

روي عن زرارة بن أعين ، أنه سأل أبا عبد الله (ع) عن الغشية التي كانت تأخذ رسول الله (ص) ، أهي عند الوحي؟. قال (ع) : «لا ، فإنها تعتريه عند مخاطبته الله عزَّ وجل إياه بلا وساطة أحد ، وأمّا جبرئيل ، فإنه لم يدخل عليه إلا مستأذناً ، فاذا دخل ، جلس بين يدي رسول الله (ص) جِلسة العبد» (٤). واذا كان رسول الله (ص) على حال لا ينبغي أن يؤذن له ، أقام في مكانه إلى أن يخرج الإذن ، والمكان الذي يقف فيه حيال الميزاب (٥).

وقد اذعن بالوحي بلا وساطة

__________________

(١) مختصر البصائر ص ٦٣.

(٢) بحار الانوار ١٥ ص ٧٤ ، وتحدث عن هذه الآية ابن حجر في فتح الباري ١٣ ص ٢٨٤ (كتاب التوحيد).

(٣) بحار الانوار ١٢ ص ٢٢ باب وروده البصرة ، وكذلك في ١٥ ص ٧٤.

(٤) التوحيد للصدوق ص ١٠٢ باب نفي الرؤية ، وعلل الشرائع ص ١٤ باب ٧ ، وعلم اليقين للفيض الكاشاني ص ٨٦.

(٥) بحار الانوار ١١ ص ٢١٦ باب احوال أصحاب الصادق (ع).

٤٨

ملك : برهان الدين الحلبي (١) ، والسهيلي (٢) ، وابن سيد الناس (٣) ، والسيوطي (٤) ، والزرقاني (٥).

وعلى طبق هذه الأحاديث المعربة عن مقام الرسول الاعظم (ص) من المولى تعالت آلاؤه ؛ سجل الشيخ الصدوق اعتقاده في الوحي والغشية (٦) ، كما لم يتباعد عنه الشيخ المفيد فيقول : الوحي ، منه ما يسمعه النبي (ص) من غير وساطة ، ومنه ما يسمعه بوساطة الملائكة (٧). واقتص أثره الحجة الشيخ محمّد تقي الاصفهاني ، المعروف بـ (آقا نجفي) ، مع زيادة علم النبي (ص) بالقرآن ، وبما حواه من المعارف والفنون ، وما اشتمل عليه من أسرار الطبائع وخواص الأشياء قبل أن يوحى به إليه ، غاية الأمر عرّفه المولى جلَّ شأنه ألا يفيض هذا العلم قبل أن يوحي به إليه ، فقال سبحانه : (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٨) ، ولولا وقوف النبي (ص) على ما حواه الكتاب المجيد من الأسرار والمعارف ، لما كان للنهي عن بيان ما فيه معنى. فظهر أن علم النبي (ص) بالحوادث الكائنة والتي كانت وتكون ، لم يتوقف على نزول جبرئيل عليه ؛ لأن المنحة الالهية المباركة أوقفته على جمع الحقائق قبل خلق جبرئيل.

ومن هنا تتجلى ظاهرة اُخرى لم يدركها من لم يفقه ما تحلّت به هذه الشخصيات من مراتب الجلال والجمال ؛ وهي معرفة الرسول الاعظم بالقراءة والكتابة على اختلاف انحاء اللغات ، وتباين الخطوط قبل البعثة وبعدها ؛ لبلوغه اسمى درجات الكمال ، فلا تفوته هذه الصفة ، مع أن اللازم من عدم معرفته بها ؛ رجوعه إلى غيره فيما يحتاج اليه من كتابة وقراءة ، فيكون مفضولاً بالنسبة اليه ، مع أنه الفاضل في المحامد كلها. وبهذا الذي قلناه اذعن المحققون من الاعلام (٩) وآية

__________________

(١) السيرة الحلبية ١ ص ٢٩٤ باب بدء الوحي.

(٢) الروض الاُنف ١ ص ١٥٤.

(٣) عيون الاثر ١ ص ٩٠.

(٤) الخصائص الكبرى ٢ ص ١٩٣.

(٥) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ١ ص ٢٢١ ط ١.

(٦) الاعتقادات للصدوق (ملحق بالباب الحادي عشر للعلامة).

(٧) شرح الاعتقادات ص ٢١١ ملحق بمقالات المفيد ط طهران.

(٨) العنايات الرضوية ص ٥١.

(٩) نص عليه الشيخ المفيد في المقالات ص ١٢٣ ، والشيخ الطوسي في التبيان ٢ ص ٤٢٣ ، والمبسوط ، وهو

٤٩

(لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) لا تنفي معرفته بالكتابة على اطوارها ، فإنها غاية ما تثبته عدم كتابته (ص) ، ولا ربط لها بعدم المعرفة للكتابة ، فهو صلى الله عليه وآله عارف بالكتابة ولكنه لم يكتب ، والعلة في نفي كتابته ؛ ارتياب المبطلين كما صرح به القرآن.

والمتحصل مما قررناه : إنّ الله عزَّ وجل منح الائمة من ذرية الرسول (ص) جميع ما حبا به جدَّهم الاقدس ، من المآثر والفضائل عدا النبوة والازواج ؛ لأنه صلوات الله عليه وعلى آله خاتم الأنبياء ، وقد اختص في التزويج دائماً بأكثر من أربعة.

ومن لم يعرف المراد من علم الغيب المدّعى لهؤلاء الأفذاذ ، استعظمه فأنكره. وحَكم من لا يفقه الشرع والشريعة بكفر معتقِده!. حدّث الشيخ زاده الحنفي : أن قاسم الصفار أفتى بكفر من تزوج على شهادة الله تعالى ورسول الله (ص) ، مدّعياً بأنه يقتضي اعتقاده في علم النبي بالغيب! ولكن صاحب التتارخانية نفى الكفر عنه ؛ لأنَّ بعض الاشياء تعرض على روح النبي (ص) الطاهرة فيعرف بعض الغيب ، وقد قال الله تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (١) ، وكلاهما لم يفقها معنى الغيب المراد اثباته ، ولا ادركا كنه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله ، فقالا بما شاء لهما إداركهما.

وبعد أن أوضحنا المراد منه ، لم يبقَ للقارئ النابه مجال التردد والتشكيك. نعم ، لا يُنكر أن للباري سبحانه علماً استأثر به خاصة ، ولم يطلع عليه أحداً ومنه العلم بالساعة.

__________________

ظاهر كلام الشهيد الأول في غاية المراد ، والعلامة في التحرير والقواعد ، والسيد المجاهد في المناهل ، وصرّح به ابن شهر اشوب في المناقب ١ ص ١٦١ ، والمجلسي في مرآة العقول ١ ص ١٤٧ ، والسيد في الرياض ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ، والمقداد في التنقيح ، والحاج ملا علي الكَّني في القضاء ، وعبارة السرائر مشعرة بدعوى الاجماع عليه وقد تعرضوا لذلك في مسألة كتابة القاضي من كتاب القضاء.

وبه صرح الشهاب الخفاجي في شرح الشفا ٢ / ٣٩٨ في فصل اسمائه من الباب الثالث ، وفي ص ٥١٤ فصل إعجازه ، وفي روح المعاني للالوسي ٢١ / ٤ عند قوله : (ولا تخطه بيمينك) ، ذكر جماعة قالوا بمعرفته الكتابة ثم نقل عن صحيح البخاري : انه (ص) كتب عهد الصلح. وحمل الاستاذ عبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان / ٢٦٠ الاخبار النافية على أوليّات امره ، والمثبتة للكتابة على اُخريات امره ، وفي تهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ٢٤٩ كتب أبو الوليد الباجي رسالة في كتابة النبي (ص) ، وانتصر له أحمد بن محمّد اللخمي وسجعفر بن عبد الجبار مع جماعة آخرين.

(١) مجمع الانهر ١ ص ٣٢٠ في الفقه الحنفي.

٥٠

وأمّا ما ورد عنهم (عليهم السّلام) من نفي علمهم بالغيب ، كقول أبي عبد الله (ع) : «يا عجباً لأقوام يزعمون إنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله. لقد هممت بضرب جاريتي فهربت مني ، ماعلمت في أي بيوت الدار» (١) ، فمحمول على التقية ؛ لحضور المجلس داود الرّقي ويحيى البزّاز وأبي بصير ، ولم تكن لهم قابلية تحمل غامض علم أهل البيت (عليهم السّلام) ، فأراد أبو عبد الله بنفي علم الغيب عنهم ؛ تثبيتاً لعقيدة هؤلاء. ويؤيده أن سديراً الراوي لهذا الحديث ، دخل عليه في وقت آخر ، وذكر له استغراب ما سمعه منه من نفي علم الغيب ، فطمأنه بأنه يعلم ما هو ارقى من ذلك ، وهو العلم بالكتاب كلِّه وما حواه من فنون المعارف وأسرارها ، على أن هذا الحديث لم يعبأ به المجلسي في مرآة العقول لجهالة رواته. ويحتمل أن يريد بنفي العلم بمكان الجارية ، الرؤية البصرية لا الانكشاف الواقعي. فقوله (ع) : «ما علمت» ، أي ما رأيتها بعيني في أي بيت دخلت ، وإلا فمن يقول في صفة علمه : «لم يفتني ما سبقني ، ولم يعزب عني ما غاب عني» لا يخفى عليه أمر الجارية!.

ولما طرق (مبشر) الباب على الباقر (ع) وخرجت الجارية تفتحه ، قبض على كفها ، فصاح به أبو جعفر (ع) من داخل الدار : «ادخل ، لا أبا لك» ، فدخل مبشر معتذراً بأنه لم يرد السوء ، وإنما أراد الازدياد ، فقال له الامام (ع) : «لو كانت الجدران تحجبنا كما تحجبكم ، لكنّا وانتم سواء» (٢). وقال الامام (ع) لمحمد بن مسلم : «لو لم نعلم ما انتم فيه وعليه ، ما كان لنا على الناس فضل» ، ثم استدل عليه بما وقع في الرَّبَذة بينه وبين زميله في أمر الإمامة (٣).

وأمّا الحكاية عن النبي (ص) : (لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ) ، فلا تفيد إلا كونه مفتقراً إلى الله تعالى في التعليم ، وأنه لم يكن عالماً بالغيب من تلقاء نفسه. وهذا لا ريب فيه ، فإنّ المعتقَد : إنّ الله تعالى هو المتلطّف على النبيّ وأبنائه (عليهم السّلام) بالملكة القدسيّة ، التي تمكّنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون (٤).

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٥٧ ، ٦٢ ، واصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ ص ١٨٦.

(٢) مناقب آل ابي طالب ٢ ص ٢٧٤ ، وبحار الانوار ١١ ص ٧٠ عن أبي الصباح الكناني.

(٣) بحار الانوار ١١ ص ٧٢ عن الخرائج.

(٤) في شرح الشفا للخفاجي ٢ ص ١٥٠ : إنّ المنفي في الآيات هو اطّلاعه على الغيب من غير وساطة ، وأمّا علمه بالغيب بإعلام الله تعالى له ، فثابت ومتحقق ؛ لقوله تعالى : (فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ).

٥١

وسؤال الامام الصادق (ع) عن وجود العين عليهم يوم كان في الحجر ومعه أصحابه ، فعرّفوه بعدم العين ، فقال : «ورب هذه البنية ـ ثلاثاً ـ لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ، ولانبأتهما بما ليس في ايديهما. أنهما اُعطيا علم ما كان ويكون وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وآله» (١). فبعد التسليم بصحة الحديث ، وعدم ضعف إبراهيم بن إسحاق الأحمر ، نقول : بعدم منافاته لعلمه الواسع ؛ لما ورد عنهم أنهم غير مكلفين باظهار ما يعلمونه ، بل لابد من العمل بما توجبه التقية ظاهراً. أو لأنه كان يراعي حال بعض أصحابه في ظنّه بوجود العين عليهم ، وهذا نظير قوله الآخر : «إني أعلم ما في السموات والأرضين ، وأعلم ما في الجنة والنار ، وأعلم ما كان ويكون» ، فلمّا رأى عظم ذلك وخاف على من عنده ، قال (ع) : «إني علمت ذلك من كتاب الله ، إنّ الله تعالى يقول : (فيه تبيان كل شيء)» (٢) ، فالإمام (ع) راعى حال أصحابه ، فاستدل لهم بما يقنعهم.

وهكذا الأئمة (عليهم السّلام) فيما يعلمونه من المصالح الوقتية ، والأحوال الشخصيّة. وقوله (ع) في حقِّ موسى والخضر (عليهما السّلام) : «أنهما أُعطيا علم ما كان» لا ينافي علم الخضر بمستقبل أمر الغلام ، فإنه من القضايا التي أطلعه الله عليها لمصلحة وقتية. وأمّا ما ورد عنهم (عليهم السّلام) : «إنّ الإمام أذا أراد أن يعلم شيئاً ، أعلمه الله» (٣) ، فليس فيه دلالة على تحديد علمهم في وقت خاص ؛ بل الحديث يدل على أن إعمال تلك القوة القدسية ، الثابتة لديهم عند الولادة موقوف على إرادتهم المتوقفة على وجود المصلحة في إبراز الحقائق المستورة ، وإظهار ما عندهم من مكنون العلم. على أن هذا المضمون ورد في أحاديث ثلاثة ردّها المجلسي في مرآة العقول بضعف بعضها ، وجهالة الآخرين.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه : إنَّ الله تعالى أفاض على خلفائه الأطهار ملكة نوريّة ، تمكّنوا بوساطتها من استعلام ما يقع من الحوادث ، وما في الكائنات من

__________________

(١) اُصول الكافي (في هامش مرآة العقول) ١ ص ١٨٩.

(٢) المصدر نفسه ١ ص ١٩٠.

(٣) المصدر نفسه ١ ص ١٨٧.

٥٢

خواص الطبائع ، وأسرار الموجودات ، وما يحدث في الكون من خير وشر. ولا غلوّ فيه بعد قابلية ذواتهم لهذا الفيض الأقدس ، وعدم الشّح في عطاء الربِّ سبحانه ؛ فإنه يهب ما يشاء لمن يشاء. وصارح الأئمة (عليهم السّلام) بهذه الحبوة الإلهية ، وأنهم في جميع الآنات محتاجون إلى تتابع الآلاء منه جلَّ شأنه ، ولولاها لنفد ما عندهم من مواد العلم. وهذا غير بعيد فيمن تجرد لطاعة الله تعالى ، وعُجنت طينته بماء النزاهة من الأولياء والصديقين ، فضلاً عمّن قيّضهم الباري تعالى اُمناء شرعه. وقد صادق على ذلك المحققون من الأعلام ، كما حكاه الشيخ المفيد في المقالات / ٧٧ ، والمجلسي في مرآة العقول ١ / ١٨٧ ، ومشى على ضوئهم المحقق الآشتياني في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ٢ / ٦٠.

وقال ابن حجر الهيثمي : لا منافاة بين قوله تعالى : (قُل لا يَعلمُ مَن فِي السَّمواتِ وَالارضِ الغَيبَ إِلا اللَّهُ) ، وقوله : (عالِمُ الغَيبِ فلا يُظهِرُ على غَيبِهِ أَحدا) ، وبين علم الأنبياء والاولياء بجزئيات من الغيب ، فإنّ علمهم : إنما هو بإعلام من الله تعالى ، وهذا غير علمه الذي تفرد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الأزلية ، الدائمة الأبدية ، المنزّهة عن التغيير ، وهذا العلم الذاتي هو الذي تمدّح به ، وأخبر في الآيتين بأنه لا يشاركه أحدٌ فيه. وأمّا مَن سواه ، فإنما يعلم بجزئيات الغيب ، فبإعلامه تعالى وإعلامه للأنبياء والأولياء ببعض الغيوب ، ممكن لا يستلزم محالاً بوجه ، فإنكار وقوعه عناد. ومن البداهة أنه لا يؤدي إلى مشاركتهم له تعالى فيما تفرد به من العلم الذي تمدّح به ، واتصف به من الأزل ، وعلى هذا مشى النووي في فتاواه (٣).

فاتضح بهذا البيان ، أن ابن حجر لم يتباعد عن القول بعلم الأولياء بالغيب ، وإنما لم يوافق الشيعة على ما يعتقدونه في أئمتهم (عليهم السّلام) من قدرتهم على العلم بالحوادث الكائنة ، والتي تكون إلى يوم القيامة ؛ لاعتقاده أن هذه السعة مختصة بالباري جلَّ شأنه. ولكن الملاك الذي قرره لمعرفة الأولياء ببعض الغيب ـ وهو تمكين المولى سبحانه لهم من الوقوف على الغيب ـ يقيّد ما تعتقده الشيعة ، فإن الميزان للوقوف على المغيّبات إذا كان بإقدار الله تعالى ، وجعله الملكة النورية في هذه الذوات الخاصة من آل الرسول (ص) ، فمن الممكن أن

__________________

(١) الفتاوى الحديثة ص ٢٢٢.

٥٣

تكون تلك القوة بالغة اقصى مداها ، فلا يتوقف من اُفيضت عليه عن جميع المغيبات حتّى كأن الأشياء كلَّها حاضرة لديه على حدِّ تعبير الإمام الصادق (ع) ، اللهم إلا الأشياء التي استأثر بها الله تعالى وحده ، فلا وقوف لأحد عليها مهما ترقّى إلى فوق ذروة الكمال.

وعلى هذا الذي قرره ابن حجر سجّل اعتقاده النيسابوري صاحب التفسير فقال : إن امتناع الكرامة من الأولياء ، إمّا لأن الله ليس أهلاً لأن يعطي المؤمن ما يريد ، وإمّا لأن المؤمن ليس أهلاً لذلك ، وكل منهما بعيد. فإن توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده ، فاذا لم يبخل الفيّاض بالأشرف ، فلأن لا يبخل بالدون أولى (١). وقال ابن أبي الحديد : إنا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ، وكلّه مستند إلى الباري جلَّ شأنه بإقداره ، وتمكينه ، وتهيئة أسبابه (٢). وقال لا منافاة بين قوله تعالى : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) ، وبين علمه (ص) بفتح مكة ، وما سيكون من قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، فإن الآية غاية ما تدل عليه : هو نفي العلم بما يكون في الغد. وأمّا إذا كان بإعلام الله عز وجل ، فلا ؛ لأنه يجوز أن يُعلم الله نبيه بما يكون (٣).

آية التهلكة

ممّا قررناه تجلّى لنا : أنه لم يعزب عن الأئمة (ع) العلم بالشهادة على يد من تكون ، وفي أي وقت تقع ، وفي أي شيء ؛ إقداراً من الله تعالى لهم بما أودعه فيهم من مواد العلم التي بها استكشفوا الحوادث ، مضافاً إلى ما يقرؤونه في الصحيفة النازلة من السماء على جدّهم المنقذ الاكبر (ص).

وليس في إقدامهم على الشهادة إعانة على إزهاق نفوسهم القدسيّة ، وإلقاؤها في التهلكة الممنوع منها بنص الذكر المجيد ، فإنّ الإبقاء على النفس ، والحذر عن إيرادها مورد الهلكة ، إنّما يجب إذا كان مقدوراً لصاحبها ، أو لم يقابل بمصلحة أهم

__________________

(١) النور السافر في أعيان القرن العاشر ص ٨٥ لعبد القادر العيدروسي.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ ص ٤٢٧ ط ١ مصر.

(٣) المصدر نفسه ٢ ص ٣٦٢.

٥٤

من حفظها. وأمّا إذا وجدت هنالك مصلحة تكافئ تعريض النفس للهلاك ـ كما في الجهاد ، والدفاع عن النفس مع العلم بتسرب القتل إلى شرذمة من المجاهدين ، وقد أمر الله الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فمشوا إليه قدماً ، موطّنين أنفسهم على القتل ، وكم فيهم سعداء ، وكم من نبي قتل في سبيل دعوته ، ولم يبارح قوله دعوته حتّى أزهقت نفسه الطاهرة. وقد تعبّد الله طائفة من بني اسرائيل بقتل أنفسهم ، فقال جلّ شأنه : (فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) (١) ، على أن الاقتصار على ما يقتضيه السياق يخرج الآية عمّا نحن فيه من ورودها للتحذير عمّا فيه الهلكة ، فإنها أعقبت آية الاعتداء في الأشهر الحُرم على المسلمين. قال الله تعالى (الشَّهرُ الحرامُ بالشَّهرِ الحَرامِ وَالحُرُمَاتُ قِصاصٌ فمَنِ اعتدَى عَليكُمْ فاعتدوا عَليه بمثلِ ما اعتدَى عَليكُمْ وَاتَّقوا اللّه واعلموا أَنَّ اللّهَ مَع المُتَّقِينَ وأَنفقُوا في سبيلِ اللّه ولا تُلقُوا بأَيديكُمْ إلى التَّهلُكَة وأَحسِنُوَا إِنَّ اللّهَ يُحبُّ المُحسنين).

فيكون النهي عن الإلقاء في التهلكة خاصاً بما إذا اعتدى المشركون على المسلمين في الأشهر الحرم ، ولم تكن للمسلمين قوة على مقاتلتهم. والألتزام بعموم النهي لكل ما فيه هلكة ، لا يجعل حرمة إيراد النفس مورد الهلكة من المستقلات العقلية التي لا تقبل التخصيص ، بل هي من الأحكام المختصة بما إذا لم توجد مصلحة أقوى من مفسدة الإقدام على التلف ، ومع وجود المصلحة اللازمة لا يتأتّى الحكم بالحرمة أصلاً ، كما في الدفاع عن بيضة الإسلام.

وقد أثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين في إقدامهم على القتل ، والمجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الإلهية ، فقال تعالى : (إِنَّ اللّهَ اشترَى منَ المُؤمنينَ أَنفُسَهُمْ وأَموالهُمْ بأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سبيلِ اللّهِ فَيَقتُلُونَ ويُقتَلُون) ، وقال تعالى : (ولا تَحسَبنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمواتاً بَلْ أَحياء عندَ ربِّهمْ يُرزقُون)، وقال

__________________

(١) ذكر المفسرون : إن عَبَدة العجل من بني إسرائيل لمّا ندموا على ما فرّطوا في جنب الله تعالى ؛ أعلمهم موسى (ع) بما أوحى إليه من توقف قبول توبتهم على الإغتسال ، ولبس الأكفان ، والقيام صَفّين ، ثم يهجم عليهم هارون ومعه مَن لم يعبد العجل ، ويضعون السيوف فيهم. ولمّا نظر الرجل إلى ولده وأخيه وأبيه وحميمه ، لم تطاوعه نفسه على القتل ، وكلّموا موسى (ع) في ذلك ، فناجى ربه سبحانه وتعالى في ذلك ، فعرفه المولى بأنه سيرسل ظلمة لا يبصر الرجل جليسه ، وأمر عَبَدة العجل بالجلوس في فناء بيوتهم ، محتبين لا يتّقون بيد ولا رجل ، ولا يرفعون طرفاً ، ولا يحلّون حبوة! وعلامة الرضا عنهم ، كشف الظلمة ، وسقوط السيوف ؛ فعندها يغفر الله لمن قُتل ، ويقبل توبة مَن بقي. ففعل هارون بهم حتّى قُتِل سبعون ألفاً.

٥٥

تعالى : (ومِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ).

وبمثل هذا صارح الرسول (ص) في تعاليمه الثمينة أُمته ، فقال (ص) : «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل تكلم بكلمة حقٍّ عند سلطان جائر فقتله» (١).

ولم يتباعد عن هذه التعاليم محمّد بن الحسن الشيباني ، فينفي البأس عن رجل يحمل على الألف مع النجاة او النكاية ، ثم قال : ولا بأس بمن يفقد النجاة أو النكاية إذا كان إقدامه على الألف مما يرهب العدو ، ويقلق الجيش ، معللاً : بأن هذا الأقدام أفضل من النكاية ؛ لأن فيه منفعةً للمسلمين (٢).

ويقول ابن العربي المالكي : جوّز بعض العلماء أن يحمل الرجل على الجيش العظيم طالباً للشهادة ، ولا يكون هذا من الإلقاء بالتهلكة ؛ لأن الله تعالى يقول : (مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ) ، خصوصاً إذا أوجب الأقدام ، تأكد عزم المسلمين حين يرون واحداً منهم قابل الاُلوف (٣).

لقد اختص الله سبحانه اُمناء شرعه ، والخلفاء على الاُمّة من أبناء نبيه الكريم (ص) بأحكام ناشئة عن مصالح خاصة بهم ، لا تدرك أكثرهم أحلام البشر ، وتنحسر عن كنهها العقول. وفي جملتها ، الزامهم بالتضحية في سبيل مرضاته عزّ وجل ، وبذل كل ما يحوونه من مال وجاه وحرمات ، فتراهم في أعماق السجون طوراً ، وفي خلل المنفى تارة ، وفي ربقة التسفير آونة ، وفي مقاساة الخوف والشدائد ردحاً ، والاصاخة إلى قوارص الكلم اُويقات حتّى شارفوا مناياهم. والمسوغ لهم في كل ذلك ، ما علموه من جدّهم الأعظم (ص) ، المخبر عن وحي السماء من المزايا والمصالح التي تحفظ بها الجامعة الإسلامية ، بحيث لولا التوطين على هذا الإقدام لذهب الدين إدراج المنكرات والأضاليل ، ولا سبيل إلى معارضتهم فيما اطلعهم الله عليه من السر المكنون ، وعرفهم تلك الأهمية الملحوظة لديه عزّ شأنه ، على اختلاف فيهم. فمنهم من أمره بالصبر دون الحرب والجهاد ، ومنهم من أمره بالقتل ، ومنهم

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ١ ص ٣٠٩ ، آية التهلكة.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) الاحكام لابن العربي ١ ص ٤٩ ، آية التهلكة ، ط ١ سنة ١٣٣١ .

٥٦

من أمره بتناول السمّ ، وكان السرُّ في هذا الإختلاف في التكليف ما يراه المولى سبحانه من المصالح ، حسب الوقت والزمان.

فلم يكن إقدامهم على القتل ، وتناول السمِّ جهلاً منهم بما صنعه سلطان الجور وقدّمه إليهم ، بل هم على يقين من ذلك ، فلم يَفُتهم العلم بالقاتل ، وما يُقتلون به ، واليوم والساعة ؛ طاعة منهم لامر بارئهم تعالى ، وانقياداً للحكم الإلهي الخاص بهم. وليسوا في هذا الحال إلا كحالهم في أمتثال جميع أوامر المولى سبحانه وتعالى ، الموجهة إليهم من واجبات ومستحبات ، والعقل حاكم بلزوم انقياد العبيد لأوامر المولى ، والإنزجار عن نهيه من دون إلزامٍ بمعرفة المصلحة ، أو المفسدة الباعثة على الحكم. وأمّا إذا كان المولى حكيماً في أفعاله (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ، فبالأحرى يكون الخضوع له من دون فحص عن أسباب أحكامه.

والى هذا الذي ارتأيناه ، نظر المحققون من العلماء الاعلام ، وإن خبط الباحثون في قضية إقدام أهل البيت (ع) على ما فيه من إزهاق نفوسهم المقدسة ؛ فأخذوا ذات اليمين والشمال ، فلم يأتوا بما فيه نجعة المرتاد ، ولا نهلة الصادي ؛ لكونها تخيلات لا تتفق مع القواعد والطريقة المثلى.

لقد دلت الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة (ع) على أنهم إذا عرفوا من أعدائهم العزم على الفتك بهم ، أو اشتد عليهم ألم القيود ، ووضح لديهم تأخُر القضاء ، عملوا كلَّ وسيلة من دعاء غير مردود ، أو شكوى إلى جدِّهم النبي (ص) ؛ ليدفع عنهم هذه الأضرار والحوادث. فيقول أبو جعفر الباقر (ع) : «نحن أهل بيت ، إذا أكرَبَنَا أمرٌ ، وتخوّفنا من شرِّ السلطان ، قلنا : يا كائناً قبل كلِّ شيء ، ويا ملكوت كلِّ شيء ، صل على محمّد وأهل بيته وافعل بي كذا وكذا» (١).

ولمّا احتدم المنصور على أبي عبد الله الصادق (ع) ، وعزم على الفتك به ، دعا ربه تعالى أن يفرج عنه ؛ فانجلت بسببه غمائم الفتك به حتّى إذا وقع نظره على الصادق (ع) ، قام إليه فرحاً مستبشراً وعانقه. وكان المنصور يحدّث بعد ذلك عن سبب نقض عزمه : إنّ رسول الله (ص) تمثّل له باسطاً كفّيه ، حاسراً عن ذراعيه ، وقد

__________________

(١) مهج الدعوات لابن طاووس ص ٣٦٥ ، طبعة بمبي.

٥٧

عبس وقطب حتّى حال بينه وبين الإمام (ع) ، مشيراً إليه أن لو أساء إلى أبي عبد الله (ع) أهلكه. فلم ير المنصور بدّاً من العفو والإكبار لجلال الإمامة. ثم سيّره إلى مدينة جدّه (ص) مبجَّلا (١).

ولما طال الحبس بموسى بن جعفر (ع) ، وضاق صدره ممّا كان يلاقيه ، توسل إلى الله تعالى في الخلاص منه ، وقال في دعائه : «يا مخلّص الشجر من بين رمل وماء ، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم ، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء ، خلِّصني من يد هارون» (٢) ، فنجا ببركة هذا الدعا من ظلمات الحبس وألم القيود.

ولمّا قدَّم إليه الرشيد الرُّطب المسموم ، إنتقى غير المسموم فأكله وألقى المسموم إلى كلبة الرشيد فماتت (٣). ولم يقصد بقتلها إلا إعلام الطاغية بأن ما يدور في خلده من اغتياله ، والفتك به في هذا الحين لم يقرب وقته. ولذا لما دنا الأجل ، ودعاه الله تعالى إليه أكل الرطب المسموم الذي قدّمه إليه الرشيد مع العلم به ، ورفع يديه بالدعاء قائلاً : «يا ربّ ، إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم لكنت قد أعنت على نفسي» ، فأكل منه وجرى القضاء (٤).

وعلى هذا الأساس يأمر الإمام أبو الحسن علي الهادي (عليه السّلام) أبا هاشم الجعفري أن يبعث رجلاً إلى (الحائر الحسيني) الأطهر ؛ يدعو له بالشفاء مما نزل به من المرض ، وعلّله : بأن الله تعالى أحب أن يُدعى في هذا المكان (٥). فإنَّ غرضه ، التعريف بأنه لم يجب في شريعة التكوين إلا جري الاُمور على مجاريها العادية وأسبابها الطبيعية ، أو إنه أراد التنبيه على فوائد الابتهال إلى الله حينما تتوارد الكوارث على العبد ، وتحيط به المحن. كما يرشد إليه احتفاظ الربيع ـ مولى المنصور الدوانيقي ـ بالكنز المذخور ، الذي دعا به الإمام الصادق (ع) يوم

__________________

(١) مهج الدعوات ص ٢٩٩.

(٢) أمالي الصدوق ص ٢٢٧ المجلس الستّون.

(٣) عيون أخبار الرضا (ع) ٢ ص ٩٤ ، ط بيروت ص ١٩٨٤.

(٤) مرآة العقول ١ ص ١٨٨ ، وروضة الواعظين ص ١٨٥.

(٥) كامل الزيارات ص ٢٢٣.

٥٨

دخل على المنصور وقد سخط عليه وأراد التنكيل به ، فشاهد الربيع احتفاء المنصور بالإمام وتكريمه (١).

وعلى هذا كان الإمام المجتبى ، الحسن بن أمير المؤمنين (ع) يستشفي بتربة جدّه تارة ، ويعمل بقول الطبيب اُخرى ، ويأخذ بقول أهل التجربة ثالثة (٢) ، مع علمه بأن ذلك المرض لا يقضي عليه ، وللأجل حدٌّ معلوم. ولكنه أراد إرشاد الناس إلى أن مكافحة العلل تكون بالأسباب العادية ، فلا غناء عنها حتّى يساير هذه الاسباب. لكنه لمّا حان الأجل المحتوم ، لم يعمل شيئاً ؛ تسليماً للقضاء ، وذلك عندما قدّمت إليه جعدة بنت الأشعث اللبن المسموم ، وكان الوقت حاراً ، والحسن صائماً (٣) ، فرفع رأسه إلى السماء قائلاً : «إنا لله وإنا إليه راجعون. الحمد لله على لقاء محمّد سيّد المرسلين ، وأبي سيّد الوصيين ، واُمّي سيّدة نساء العالمين ، وعمّي جعفر الطيار في الجنة ، وحمزة سيّد الشهداء» (٤) ثم شرب اللبن وقال لها : «لقد غرّكِ ، وسخر منكِ ، فالله يخزيك ويخزيه» (٥) وهي تضطرب كالسعفة.

وقد أعلم الرضا (ع) أصحابه بأنّ منيّته تكون على يد المأمون ، ولابدّ من الصبر حتّى يبلغ الكتاب أجله (٦). وقال أبو جعفر الجواد (ع) لاسماعيل بن مهران لمّا رآه قلقاً من إشخاص المأمون له : «إنّه لمْ يكن صاحبي ، وسأعود من هذه السفرة» ، ولمّا أشخصه المرّة الثانية ، قال (عليه السّلام) لاسماعيل بن مهران : «في هذه الدفعة يجري القضاء المحتوم» ، وأمره بالرجوع إلى ابنه الهادي ، فإنّه إمام الاُمّة بعده (٧).

ولمّا دفعت إليه اُمّ الفضل المنديل المسموم ، لم يمتنع من استعماله ؛ تسليماً للقضاء ، وطاعة لأمر المولى سبحانه ، نعم قال لها : «إبتلاك الله بعقر لا ينجبر ، وبلاء لا ينستر» ، فاصيبت بعلة في أغمض الجوارح من بدنها.

وإخبار أمير المؤمنين (ع) بأنّ ابن ملجم قاتله ، لم يختلف فيه اثنان. ولمّا أتى

__________________

(١) مهج الدعوات.

(٢) الكامل للبهائي ص ٤٥٣ ـ ٤٥٦ بالفارسيّة ، ومؤلّفه هو الحسن بن علي بن محمّد الطبري المازندراني ، عالم جليل في الطائفة ، من علماء القرن السابع الهجري.

(٣) الخرائج ص ٢٢ ط الهند.

(٤) بحار الأنوار ١٠ ص ١٣٣ عن عيون المعجزات.

(٥) الارشاد للمفيد والخرائج.

(٦) كتابنا في الإمام الرضا ص ٤٥.

(٧) الارشاد ، وإعلام الورى ص ٢٠٥.

٥٩

ابن ملجم يبايع أمير المؤمنين ، وولّى ، قال (عليه السّلام) : «مَن أراد أن ينظر إلى قاتلي ، فلينظر إلى هذا» ، فقيل له : ألا تقتله؟ قال : «وآعجبا! تريدون أن اقتل قاتلي» (١) ، يشير بذلك إلى : أنّ قتله ـ لمّا كان أمراً مبرماً ، وقضاء محتوماً ، وأنّ قاتله ابن ملجم ـ قضاءٌ لا خلف فيه ، فكيف يقدر أن ينقض الإرادة الإلهية ، ويحلّ ما اُبرم من التقدير؟!. وإلى هذا يشير الصادق (عليه السّلام) بقوله لعقبة الاسدي : «لو أن الأئمة «عليهم السّلام» ألحّوا على الله في هلاك الطواغيت ؛ لأجابهم سبحانه وتعالى ، وكان عليه أهونَ من سلكٍ فيه خرزٌ إنقطع فذهب ، ولكن لا نريد غير ما أراده الله تعالى» (٢).

الخلاصة

لقد ارتفع بتلك البراهين القويمة ، الستر المرخى على الحقيقة ، فظهرت بأجلى مظاهرها ، وبرزت للباحث النيقد ، محفوفة بصدق ويقين ، فهو اذاً جدٌّ عليم بأن أئمة الهدى كانوا على علم بمجاري القدر النازل ، والقضاء الذي لا يُرد بما انتابهم من الكوارث ؛ لإنهم قيد إشارة المولى الجليل عز شأنه ، بكل ما يستقبلهم من سرّاء وضرّاء. ولم يبارحهم هذا العلم المفاض عليهم من (مبدأ الوجود) جلّت آلاؤه أولاً ، وإعلام النبي (ص) به ثانياً ، ووقوفهم على (الصحيفة النازلة) على جدّهم ثالثاً. وحيث إن الله تعالى أعدّ لهم منازل ، وشرفاً خالداً لا ينالونه إلا بالشهادة ، وازهاق تلك النفوس المقدسة ؛ لذلك ضحوا بحياتهم الثمينة ، بخوعاً لأمر الله تعالى ، وجرياً مع المصالح الواقعية التي لا تدركها أحلام البشر ، ولا يعرف دقيقها غير علام الغيوب. ولا يلزمنا معرفة وجه الصلاح والفساد في جميع التكاليف الشرعية ، وانما الذي يوجبه العقل ، طاعة المولى الجليل عز شأنه في أوامره ونواهيه.

وإنّي لأعجب ممّن أصاخ لهتاف الأحاديث الصحيحة مسلماً مذعناً : بأنّ الأئمة من آل محمّد (ص) يعلمون ما كان ويكون ، وعندهم علم المنايا والبلايا ، كيف خفي عليه ضوء الكثير من الأحاديث المصرّحة ، بأن ما صدر منهم من كلام أو سكوت أو قيام أو قعود ، إنما هو أمر موجّه إليهم خاصة من الله سبحانه على لسان رسوله الأمين على الوحي الإلهي ، ولم يعزب عنهم صغير ولا كبير ، ولم يجهلوا

__________________

(١) بصائر الدرجات للصفار ص ٣٤ ، ورسالة ابن بدرون ص ١٥٦ ، شرح قصيدة ابن عبدون.

(٢) أصول الكافي ـ باب إن الأئمة يعلمون متى يموتون ، والخرائج ص ١٤٣ ط الهند.

٦٠