مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

عليه ، وقد عَلِم أنّه إذا أذِنَ لهم بالانصراف لَم يصحبه إلاّ مَن يريد مواساته على الموت (١).

بطن العقبة

وسار من زبالة حتّى نزل بطن العقبة وفيها قال لأصحابه : «ما أراني إلاّ مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليَّ كلب أبقع» (٢).

وأشار عليه عمرو بن لوذان من بني عكرمة بالرجوع إلى المدينة ؛ لِما عليه أهل الكوفة من الغدر والخيانة ، فقال أبو عبد الله (عليه السّلام) : «ليس يخفى عليَّ الرأي ، وإنَّ الله لا يغلب على أمره» (٣).

ثم قال (عليه السّلام) : «إنّهم لَن يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فِرَق الاُمم» (٤).

شراف

وسار من بطن العقبة حتّى نزل شراف (٥) ، وعند السّحر أمر فتيانه أنْ يستقوا من الماء ويكثروا ، وفي نصف النّهار سمع رجلاً من أصحابه يكبّر فقال الحسين : «لِمَ كبَّرت؟» قال : رأيت النّخل فأنكر مَن معه أنْ يكون بهذا الموضع نخل ، وإنّما

__________________

(١) الطبري ٦ ص ٢٢٦ : (وهي بضمّ الزاي المعجمة) وتقع قبل الشقوق للذاهب من الكوفة إلى مكة فيها حصن وجامع لبني أسد ، سمّي الموضع باسم زبالة بنت مسعر امرأة من العمالقة ، ويوم زبالة من أيام العرب ، ونسب إلى المكان جماعة من المحدّثين (معجم البلدان).

(٢) كامل الزيارات ص ٧٥.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٢٦.

(٤) إرشاد المفيد ، ونفس المهموم للمحدّث القمي ص ٩٨ وما بعدها الطبعة الاُولى ، ايران.

(٥) في معجم البلدان : (بفتح أوله وآخره فاء وثانيه مخفف) سمّي باسم رجل يقال له شراف ، استخرج عيناً ، ثمّ حدثت آبار كبار كثيرة ماؤها عَذِب ، ومن شراف إلى واقصة ميلان ، وفي تأريخ الطبري ٤ ص ٨٧ : لمّا كان سعد بن أبي وقاص بشراف ، قدم عليه الأشعث بن قيس بألف وسبعمئة من أهل اليمن ، فترك الجموع بشراف ونهض إلى العراق.

١٨١

هو أسنّة الرماح وآذان الخيل ، فقال الحسين : «وأنا أراه ذلك» ، ثمّ سألهم عن ملجأ يلجأون إليه ، فقالوا : هذا (ذو حسَم) (١) عن يسارك فهو كما تريد ، فسبق إليه الحسين وضرب أبنيته.

وطلع عليهم الحرّ الرياحي (٢) مع ألف فارس بعثه ابن زياد ؛ ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده أو يقدم به الكوفة ، فوقف الحرّ وأصحابه مقابل الحسين في حَر الظهيرة (٣).

فلمّا رأى سيّد الشهداء ما بالقوم من العطش أمر أصحابه أنْ يسقوهم ويرشفوا الخيل ، فسقوهم وخيولهم عن آخرهم ، ثمّ أخذوا يملأون القصاع والطساس ويدنونها من الفرس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت ، وسقي آخر حتّى سقوا الخيل كلّها (٤).

وكان علي بن الطعّان المحاربي مع الحرّ فجاء آخرهم وقد أضرَّ به العطش فقال الحسين : «أنخ الراوية» ـ وهي الجمل بلغة الحجاز ـ فلمْ يفهم مراده فقال له : «أنخ الجمل» ولمّا أراد أنْ يشرب جعل الماء يسيل من السّقاء ، فقال له ريحانة الرسول : «أخنث السّقاء» ، فلم يدرِ ما يصنع لشدّة العطش ، فقام (ع) بنفسه وعطف السّقاء حتّى ارتوى وسقى فرسه.

وهذا لطف وحنان من أبي الضيم على هؤلاء الجمع في تلك البيداء المقفرة التي تعزّ فيها الجرعة الواحدة وهو عالم بحراجة الموقف ونفاد الماء ، وإنّ غداً دونه تسيل النّفوس ، ولكنّ العنصر النبوي والكرم العلويّ لَمْ يتركا صاحبهما إلاّ أنْ يحوز الفضل.

أحشاشةَ الزهراء بل يا مهجةَ

الكّرار يا روحَ النبي الهادي

__________________

(١) حسم (بضم الحاء المهملة وفتح السين بعدها ميم) : جبل كان النعمان بن المنذر يصطاد به ، وفيه للنابغة أبيات.

(٢) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ٢١٥ : الحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب الردف بن هرمي بن رياح يربوع ، وقيل لعتاب الردف ؛ لأنّ الملوك تردفه ، وفي صفحة ٢١٣ قال ، يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.

(٣) مقتل الخوارزمي ١ ص ٢٣٠ الفصل الحادي عشر.

(٤) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٢٦ ، والطساس : جمع طس ، طبقات النحويين للنبيذي ص ٥٠ ، قال : وأمّا طست فجمعه طسات.

١٨٢

عجباً لهذا الخلق هلا أقبلوا

كل إليك بروحه لك فادي

لكنّهم ما وازنوك نفاسة

أنّى يُقاسُ الذر بالاطواد

عجباً لحلم الله جل جلاله

هتكوا حجابك وَهْوَ بالمرصاد

عجباً لآل الله صاروا مغنماً

لبني يزيد هدية وزياد (١)

ثمّ إنّ الحسين استقبلهم فحمد الله وأثنى عليه وقال : «إنّها معذرةً إلى الله عزّ وجلّ وإليكم ، وإنّي لَم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقَدِمَت بها عليَّ رُسُلكم أنْ اقْدِم علينا فإنّه ليس لنا إمام ولعلّ الله أنْ يجمَعنا بك على الهدى ، فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وإنْ كنتم لمَقدمي كارهين ، انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم». فسكتوا جميعاً.

وأذَّنَ الحَجّاج بن مسروق الجعفي لصلاة الظهر ، فقال الحسين للحرّ : «أتصلّي بأصحابك؟» ، قال : لا ، بل نصلّي جميعاً بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين.

وبعد أنْ فرغ من الصلاة أقبل عليهم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي محمّد وقال :

«أيّها النّاس إنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل بيت محمّد (ص) أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان ، وإنْ أبَيتم إلاّ الكراهيّة لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم ، انصرفتُ عنكم».

فقال الحرّ : ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها ، فأمر الحسين عقبة بن سمعان فأخرج خرجَين مملوأين كتباً.

__________________

(١) من قصيدة طويلة للعلامة الشيخ أحمد النحوي ذكرت في شعراء الحلّة ١ ص ٧٠ ، وللسيد الحجة ثقة الإسلام السيد محمّد الكشميري :

سقيت عِداك الماء منك تحنُّناً

بأرض فلاة حيثُ لا يوجد الماء

فكيف إذا تلقى محبيك في غد

عطاشى من الاجداث في دهشة جاؤا

١٨٣

قال الحرّ : إنّي لستُ من هؤلاء ، وإنّي اُمرت أنْ لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى أقدمك الكوفة على ابن زياد.

فقال الحسين : «الموت أدنى إليك من ذلك» ، وأمر أصحابه بالركوب ، وركبت النّساء ، فحال بينهم وبين الانصراف إلى المدينة فقال الحسين للحرّ : «ثكلتك اُمّك ما تريد منا؟».

قال الحرّ : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذا الحال ، ما تركتُ ذكر اُمّه بالثكل كائناً من كان ، والله ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.

ولكن خذ طريقاً نصفاً بيننا لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى ابن زياد ؛ فلعلّ الله أنْ يرزقني العافية ، ولا يبتليني بشيء من أمرك.

ثمّ قال للحسين : إنّي اُذكرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لَتقتلَنَّ ، فقال الحسين : «أفبالموت تخوفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أنْ تقتلوني ، وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلّى الله عليه وآله» (٢) :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

فان عشت لم اندم وان متُّ لم أُلَمْ

كفى بك ذَّلاً ان تعيش وتُرْغما

فلمّا سمع الحرّ هذا منه ، تنحى عنه. فكان الحسين يسير بأصحابه في ناحية والحرّ ومَن معه في ناحية (٣).

البيضة

وفي البيضة (٣) خطب أصحابَ الحر فقال بعد الحمد لله والثناء عليه : «أيّها

__________________

(١) تقدّم استشهاده (ع) وتكرّر منه الاستشهاد بها.

(٢) ارشاد المفيد ، وزاد ابن شهر آشوب في المناقب ٢ ص ١٩٣ بعد البيت الثاني :

اقدم نفسي لا اريد بقاءها

لتلقى خميساً في الهياج عرمرما

تقدّم تمثله (عليه السّلام) بالبيت الأول والثاني وما جرى بين الحر والحسين في الطريق (مقتل الخوارزمي ١ ص ٢٣٠ وما بعدها).

(٣) البيضة ما بين واقصة إلى عذيب الهجانات وهي أرض واسعة لبني يربوع بن حنظلة.

١٨٤

النّاس إنّ رسول الله قال : مَن رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً عهده ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قَول ، كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفَيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممَّن غير ، وقد أتتني كتبكم وقدمتْ عليَّ رُسُلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني فإنْ أتممتم عليَّ بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله ، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ولكم فيَّ اُسوة ، وإنْ لَمْ تفعلوا ونَقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلَعَمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم ، فالمغرور من اغترّ بكم فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (١).

الرُهَيمة

وفي الرهيمة (٢) لقيه رجل من أهالي الكوفة يقال له أبو هرم فقال : يابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم جدك؟ فقال : يا أبا هرم إنّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت ، وأخذوا مالي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيمَ الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً ويسلّط عليهم من يذلّهم (٣) حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ ، إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم» (٤).

القادسيّة

وفي القادسيّة قبض الحصين بن نمير التميمي على قيس بن مسهّر الصيداوي رسول الحسين إلى أهل الكوفة ، وكان ابن زياد أمره أن ينظم الخيل ما

__________________

(١) الطبري ٦ ص ٢٢٩ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٢١.

(٢) في معجم البلدان : الرهيمة (بالتصغير) : عين تبعد عن خفية ثلاثة أميال ، وتبعد خفية عن الرحبة مغرباً بضعة عشر ميلاً. وفي وفاء الوفاء لمسهودي ٢ ص ٢٣٦ : من حمي فيدماء يقال له الرحيمة بالحاء المهملة.

(٣) أمالي الصدوق ص ٩٣ المجلس الثلاثون.

(٤) في مقتل الخوارزمي ١ ص ٢٢٦ ، ومثير الأحزان لابن نما ، وفيه رواية الحديث بتمامه.

(٥) في معجم البلدان ٣ ص ٤٥١ : خفان : موضع قرب الكوفة فيه عين عليها قرية لولد عيسى بن موسى الهاشمي. وفيه ٧ ص ١٢٥ : القطقطانة تبعد عن الرهيمة إلى الكوفة نيفا وعشرين ميلا.

١٨٥

بين القادسيّة إلى خفان ومنها إلى القطقطانة (١) ، ولمّا أراد أنْ يفتّشه أخرج قيس الكتاب وخرّقه وجيء به إلى ابن زياد ، فقال له : لماذا خرّقت الكتاب؟ قال : لئلاّ تطّلع عليه ، فأصرّ ابن زياد على أنْ يُخبره بما فيه ، فأبى قيس ، فقال : إذاً اصعد المنبر وسبّ الحسين وأباه وأخاه وإلاّ قطّعتك إرباً ، فصعد قيس المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي وآله وأكثر من الترحّم على أمير المؤمنين والحسن والحسين ، ولعن عبيدَ الله بن زياد وأباه وبني اُميّة ، ثم قال : أيّها النّاس أنا رسول الحسين إليكم ، وقد خلّفته في موضع كذا ، فأجيبوه. فأمر ابن زياد أنْ يُرمى من أعلى القصر ، فرمي وتكسّرت عظامه ومات (٢) ، ويقال كان به رمق فذبحه عبد الملك بن عمَير اللخمي ، فعيب عليه قال : أردت أن اُريحه (٣).

العذيب

وفي عذيب الهجانات (٤) وافاه أربعة نفر خارجين من الكوفة على رواحلهم ويجنبون فرساً لنافع بن هلال يقال له (الكامل) وهم ؛ عمرو بن خالد الصيداوي ، وسعد مولاه ، ومجمع بن عبد الله المذحجي ، ونافع بن هلال ، ودليلهم الطرمّاح بن عدي الطائي يقول :

يا ناقتي لا تذعري من زجري

وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير ركبان وخير سفر

حتّى تحلى بكريم النجر

الماجد الحر رحيب الصدر

أتى به الله لخير أمر

ثمت أبقاه بقاء الدهر(٥)

__________________

(١) في معجم البلدان ٣ ص ٤٥١ : خفان : موضع قرب الكوفة فيه عين عليها قرية لولد عيسى بن موسى الهاشمي. وفيه ٧ ص ١٢٥ : القطقطانة تبعد عن الرهيمة إلى الكوفة نيفا وعشرين ميلا.

(٢) الارشاد ، وروضة الواعظين ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١١٨ ، وإعلام الورى ص ١٣٦ الطبع الاُولى ، ايران.

وفي ميزان الاعتدال للذهبي ١ ص ١٥١ : ولي عبد الملك بن عمير اللخمي قضاء الكوفة بعد الشعبي ، وساء حفظه وكان يغلط ، وفي تهذيب الأسماء للنووي ١ ص ٣٠٩ : توفي سنة ١٣٦ وعمره مئة وثلاث سنين.

(٣) الارشاد للشيخ المفيد وروضة الواعظين للفتال.

(٤) العذيب : واد لبني تميم ، وهو حد السواد ، وفيه مسلحة للفرس بينه وبين القادسية ست أميال ، وقيل له عذيب الهجانات ؛ لأنّ خيل النعمان ملك الحيرة ترعى فيه.

(٥) في مقتل الخوارزمي ١ ص ٢٣ : قال الحسين (ع) لأصحابه : «هل فيكم مَن يعرف الطريق على غير

١٨٦

فلمّا انتهوا إلى الحسين (عليه السّلام) أنشدوه الأبيات ، فقال (عليه السّلام) : «أما والله ، إنّي لأرجوا أنْ يكون خيراً ما أراد الله بنا قُتِلْنا أم ظفرنا».

وسألهم الحسين عن رأي النّاس ، فأخبروه بأنّ الأشراف عظمت رشوتهم وقلوب سائر النّاس معك والسّيوف عليك ، ثمّ أخبروه عن قتل قيس بن مسهّر الصيداوي ، فقال (عليه السّلام) : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). اللهم اجعل لنا ولهم الجنّة ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك».

وقال له الطرمّاح : رأيتُ النّاس قبل خروجي من الكوفة مجتمعين في ظهر الكوفة فسألتُ عنهم ، قيل : إنّهم يعرضون ثم يسرّحون إلى الحسين ، فانشدك الله أنْ لا تقدم عليهم ، فإنّي لا أرى معك أحداً ، ولَو لَم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكفى ، ولكن سِر معنا لتنزل جبلنا الذي يُدعى (أجا) فقد امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير ، ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر ، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتّى تأتيك طيء رجالاً وركباناً وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم إلى أنْ يستبين لك ما أنت صانع.

فجزاه الحسين وقومه خيراً وقال : «إنَّ بيننا وبين القوم عهداً وميثاقاً ولسنا نقدر على الانصراف حتّى تتصرّف بنا وبهم الاُمور في عاقبة».

فاستأذنه الطرمّاح وحده بأن يوصل الميرة إلى أهله ، ويعجّل المجيء لنصرته. فأذِن له وصحِبه الباقون.

فأوصل الطرمّاح الميرة إلى أهله ورجع مسرعاً ، فلمّا بلغ عذيب الهجانات ، بلغه خبر قتل الحسين (عليه السّلام) فرجع إلى أهله (١).

__________________

الجادة؟» فقال الطرمّاح بن عدي الطائي : أنا يابن رسول الله ، فقال له : «سِر أمامنا» ، فسار أمام الظعن يرتجز بالأبيات. وعند ابن نما صفحة ٢٤ : إنّ الحر سار أمام الحسين يرتجز بها ، وفي كامل الزيارات لابن قولويه ص ٩٥ : عن الرضا (ع) : «بينا الحسين يسير في جوف الليل سمع رجلاً يرتجز بها» ، وفي نفس المهموم ص ١٥٣ : عن بعض المقاتل أنّ الطرمّاح لمّا وقع نظره على الحسين أنشأها.

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٣٠.

١٨٧

قصر بني مقاتل

وسار من عذيب الهجانات حتّى نزل قصر بني مقاتل (١) ، فرأى فسطاطاً مضروباً ورمحاً مركوزاً وفرساً واقفاً ، فسأل عنه ، فقيل : هو لعبيد الله بن الحرّ الجعفي (٢). فبعث إليه الحَجّاج بن مسروق الجعفي ، فسأله ابن الحرّ عمّا وراءه قال : هديّة إليك وكرامة إنْ قبِلتها ، هذا الحسين يدعوك إلى نصرته فإنْ قاتلتَ بين يدَيه اُجِرت ، وإنْ قُتلت استشهدت فقال ابن الحرّ : والله ، ما خرجتُ من الكوفة ؛ إلاّ لكثرة ما رأيته خارجاً لمحاربته وخذلان شيعته ، فعلمتُ أنّه مقتول ولا أقدر على

__________________

(١) ينسب القصر إلى مقاتل بن حسّان بن ثعلبة ، وساق نسبه الحموي في المعجم إلى امرىء القيس بن زيد بن مناة بن تميم ، يقع بين عين التمر والقطقطانة والقريات. خربه عيسى بن علي بن عبد الله بن العبّاس ثم جدّده.

(٢) في تاريخ الطبري ج ٧ ص ١٦٨ وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ٣٨٥ كان عثماني العقيدة ولأجله خرج إلى معاوية وحارب علياً يوم صفين وفي ص ١٦٩ من تاريخ الطبري ج ٧ طبعة أولى ذكر أحاديث في تمرده على الشريعة بنهبه الأموال وقطعه الطرق وذكر ابن الأثير ج ٤ ص ١١٢ انه لما أبطأ على زوجته في إقامته بالشام زوجها اخوها من عكرمة بن الخبيص ولما بلغه الخبر جاء وخاصم عكرمة الى علي بن أبي طالب فقال له ظاهرت علينا عدونا قال ابن الحر : ايمنعني عدلك من ذلك فقال (عليه السلام) : لا ثم أخذ أمير المؤمنين المرأة وكانت حبلى فوضعها عند ثقة حتى وضعت فألحق الولد بعكرمة ودفع المرأة الى عبيد الله فعاد الى الشام الى ان قتل علي (عليه السلام) ، والى هذه القصة أشار محمد بن الحسن في المبسوط ج ١٠ ص ١٣٦ باب الخوارج ولم يذكر اسم عبيد الله بن الحر وفي أيام عبد الملك سنة ٦٨ قتل عبيد الله بالقرب من الأنبار وفي أنساب الأشراف ج ٥ ص ٢٩٧ قاتله عبيد الله بن العباس السلمي من قبل القباع ولما اثخن بالجراح ركب سفينة ليعبر الفرات وأراد أصحاب عبيد الله أن يقبضوا السفينة فاتلف نفسه في الماء خوفاً منهم وجراحاته تشخب دماً وفي رسالة المغتالين لابن حبيب ص ٢٦٨ من المجموعة السابعة من نوادر المخطوطات تحقيق هارون عبد السلام ان عبد الملك أرسل عبيد الله بن الحر الجعفي لمحاربة مصعب في جيش كثيف ثم تخلف عنه الجيش حتى قتل من معه وعرض له عبيد الله بن العباس السلمي فقاتله ففر منه ابن الحر وركب معبرة الفرات فصاح عبيد الله السلمي بالملاح لئن عبرت به لاقتلنك فكربه راجعاً فعانقه ابن الحر فغرقا جميعاً فاستخرجوا ابن الحر ونصبوه غرضاً ورموه وهم يقولون امغازلا تجدها حتى قتلوه ويذكر ابن حبيب في (المحبر) ص ٤٩٢ أن مصعب بن الزبير نصب رأس عبيد الله بن الحر الجعفي بالكوفة وفي جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ٥٨٣ أن أولاد عبيد الله بن الحر وهم : صدقة وبرة والأشعر شهدوا واقعة الجماجم مع ابن الأشعث. وفي الأخبار الطوال ص ٢٨٩ لما تجرد المختار للاخذ بثأر الحسين كان عبيد الله بن الحر الجعفي في الجبل يغير على اموال الناس فأرسل اليه المختار للمشاركة معه في الطلب بدم الحسين فلم يجبه فهدم المختار داره ونهب جميع ما فيها واخذ امرأته فسجنها بالكوفة اهـ ولو كان صحيح الندم على تأخره عن نصرة المظلوم لناصر المختار على قتلة الحسين وكيف يتوفق للتوبة وقد امتنع عن اجابة سيد الشهداء وقد مشى اليه بنفسه والنور الالهي يعلوه وصبيانه اقمار الدجى من حوله.

١٨٨

نصره ، ولست أحب أن يراني وأراه (١).

فأعاد الحَجّاج كلامه على الحسين ، فقام صلوات الله عليه ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحبه ، فدخل عليه الفسطاط ، فوسّع له عن صدر المجلس ، يقول ابن الحرّ : ما رأيت أحداً قط أحسن من الحسين ولا أملأ للعين منه ، ولا رققت على أحد قط رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله ، ونظرت إلى لحيته فرأيتها كأنّها جناح غراب ، فقلت له أسواد أم خضاب؟ قال : «يابن الحرّ عجّل عليَّ الشيب». فعرفتُ أنّه خضاب (٢).

ولمّا استقرّ المجلس بأبي عبد الله ، حمد الله وأثنى عليه وقال : «يابن الحرّ إنّ أهل مصركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي ، وسألوني القدوم عليهم ، وليس الأمر على ما زعموا (٣) ، وإنّ عليك ذنوباً كثيرة ، فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك؟»

قال : وما هي يابن رسول الله؟ فقال : «تنصر ابن بنت نبيّك وتقاتل معه» (٤).

فقال ابن الحرّ : والله ، إنّي لأعلم إنّ من شايعك كان السّعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أن أغني عنك ، ولَم اخلف لك بالكوفة ناصراً ، فانشدك الله أنْ تحمّلني على هذه الخطة ، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت ، ولكن فَرَسي هذه (الملحقة) والله ، ما طلبتُ عليها شيئاً قط إلاّ لحقته ، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلاّ سبقته ، فخُذها فهي لك.

قال الحسين : «أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا ، فلا حاجة لنا في فَرَسك (٥) ولا فيك ، وما كنتُ متّخذ المضلّين عضداً (٦) ، وإنّي أنصحك كما نصحتني ، إن استطعت أنْ لا تسمع صراخنا ، ولا تشهد وقعتنا فافعل. فوالله ، لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا

__________________

(١) الاخبار الطوال ص ٢٤٦.

(٢) خزانة الأدب للبغدادي ١ ص ٢٩٨ ، طبعة بولاق وأنساب الاشراف ٥ ص ٢٩١.

(٣) نفس المهموم ص ١٠٤.

(٤) أسرار الشهادة ص ٢٣٣.

(٥) الأخبار الطوال ص ٢٤٩.

(٦) أمالي الصدوق ص ٩٤ المجلس الثلاثون.

١٨٩

إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم» (١).

وندِم ابن الحرّ على ما فاته من نصرة الحسين (ع) ، فأنشأ :

أيا لك حسرة ما دمت حيّاً

تردَّد بين صدري والتراقي

غداةَ يقول لي بالقصر قولا

أتتركنا وتعزم بالفراق

حسين حين يطلب بذل نصري

على أهل العداوة والشقاق

فلو فلق التَّلهُّف قلب حرٍّ

لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق

ولو واسيته يوماً بنفسي

لنلت كرامةً يوم التَّلاق

مع ابن محمّد تفديه نفسي

فودع ثم أسرع بانطلاق

لقد فاز الأولى نصروا حسيناً

وخاب الآخرون ذووا النفاق (٢)

وفي هذا الموضع اجتمع به عمرو بن قيس المشرفي وابن عمّه فقال لهما الحسين : «جئتما لنصرتي؟» قالا له : إنّا كثيروا العيال ، وفي أيدينا بضائع للناس ولَم ندرِ ماذا يكون ، ونكره أنْ نضيع الأمانة.

فقال لهما (عليه السّلام) : «انطلقا ، فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سواداً ؛ فإنّه من سَمِع واعيتنا أو رأى سوادنا فلَم يجبنا أو يغثنا ، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أنْ يكبّه على منخريه في النّار» (٣).

قرى الطف

ولمّا كان آخر الليل ، أمر فتيانه بالاستقاء والرحيل من قصر بني مقاتل وبينا

__________________

(١) خزانة الأدب ١ ص ٢٩٨.

وفي مسير الحسين بنفسه المقدّسة إلى ابن الحر تعرف الغاية الملحوظة لأبي الضيم ، فإنّه (عليه السلام) بصدد إعلام الناس بما يجب عليهم من النّهوض لسدّ باب المنكر ، وإلقاء الحجّة عليهم ؛ كيلا يقول أحد : أنه لم يدعُني إلى نصرته.

(٢) مقتل الخوارزمي ١ ص ٢٢٨ ، وذكر الدينوري في الأخبار الطوال ص ٢٥٨ أربعة منها ، وفي رواية للثالث :

فما أنسى غداة يقول حزنا

اتتركنا وتزمع لانطلاق

(٣) عقاب الأعمال للصدوق ص ٣٥ ، ورجال الكشي ص ٧٤.

١٩٠

يسيرون إذ سُمِعَ الحسين يقول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين» وكرّره. فسأله علي الأكبر عن استرجاعه ، فقال : «إنّي خفقتُ برأسي ، فعنَّ لي فارس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا». فقال علي الأكبر : لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحق؟ قال : «بلى والذي إليه مرجع العباد» ، فقال : يا أبت ، إذن لا نبالي أنْ نموت محقين. فقال (ع) : «جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده» (١).

ولم يزل الحسين يتياسر إلى أن انتهى إلى نينوى (٢) وإذا راكب على نجيب وعليه السّلاح فانتظروه ، وإذا هو رسول ابن زياد إلى الحرّ ، معه كتاب يقول فيه : جَعجِع (٣) بالحسين حين تقرأ كتابي ، ولا تنزله إلا بالعراء على غير ماء وغير حصن.

فقرأ الحرّ الكتاب على الحسين فقال له : «دعنا ننزل نينوى أو الغاضريات أو شفية». فقال الحرّ : لا أستطيع فإنّ الرجل عين عليّ (٤).

قال زهير بن القين : يابن رسول الله إنّ قتال هؤلاء أهون علينا من قتال مَن يأتينا من بعدهم ، فلَعمري ليأتينا ما لا قِبَل لنا به ، فقال الحسين : «ما كنتُ أبدأهم بقتال». ثمّ قال زهير : ههنا قرية بالقرب منّا على شطّ الفرات وهي في عاقول حصينة ، والفرات يحدق بها إلاّ من وجه واحد قال الحسين : «ما اسمها؟» فقال :

__________________

(١) الطبري ٦ ص ٢٣١.

وفي مقتل العوالم / ٤٨ : إنّ الحسين نام القيلولة بالعذيب فرأى في منامه قائلاً يقول : تسرعون السير والمنايا تسرع بكم إلى الجنة. وفي مقتل الخوارزمي ١ / ٢٢٦ : نزل الحسين الثعلبية ، ونام وقت الظهيرة ، فانتبه باكياً فسأله ابنه علي الأكبر عن بكائه فقال : «يا بني إنّها ساعة لا تكذب فيها الرؤيا ، وإنّي خفقت برأسي ...».

(٢) في مجلّة المقتبس ج ١٠ من المجلد ٧ سنة ١٣٣٠ ـ : كانت من قرى الطف الزاهرة بالعلوم ، وصادف عمرانها زمن الإمام الصادق (ع) ، وفي أوائل القرن الثالث لَم يبق لها خبر.

(٣) في مقاييس اللغة لابن فارس ١ ص ٤١٦ : كتب ابن زياد إلى ابن سعد : أن جَعجِع بالحسين (ع). أراد به الجئه إلى مكان خشن. وقال بعضهم : الجعجعة في هذا الموضع الازعاج. وذكر الأزهري في تهذيب اللغة ١ ص ٦٨ : مادة (جع) هذا الكتاب وقال : معناه ضيّق عليه. وقال الأصمعي : الجعجعة : الحبس. وأراد ابن زياد بقوله : جَعجِع به أي : احبسه. ومنه قول أوس بن حجر (إذا جعجعوا بين الاناخة الحبس) ، وفي هامش ديوانه صدر البيت (كأنّ جلود النمر جيبت عليهم).

(٤) ارشاد المفيد.

١٩١

تسمى (العقر) (١) فقال (ع) : «نعوذ بالله من العقر».

والتفت الحسين إلى الحرّ وقال : سِر بنا قليلاً فساروا جميعاً حتّى إذا وصلوا أرض كربلاء وقف الحرّ وأصحابه أمام الحسين (ع) ومنعوه عن المسير وقالوا : إنّ هذا المكان قريب من الفرات. ويقال : بيناهم يسيرون إذ وقف جواد الحسين ولم يتحرّك ، كما أوقف الله ناقة النّبي (ص) عند الحديبيّة (٢) فعندها سأل الحسين عن الأرض. قال له زهير : سِر راشداً ولا تسأل عن شيء حتّى يأذن الله بالفرَج ، إنّ هذه الأرض تسمّى الطف. فقال (عليه السّلام) : «فهل لها اسم غيره؟» قال : تُعرف كربلاء. فدمعت عيناه (٣) وقال : «اللهمّ ، أعوذ بك من الكرب والبلاء (٤) ، ههنا محطّ ركابنا وسفك دمائنا ومحلّ قبورنا ، بهذا حدّثني جدّي رسول الله» (٥).

تالله لا أنسى وإن نسي الورى

بالطفَّ وقفة مهره المتسرِّع

أجَواده هل قيدتك يد الردى

حتّى وقفت به وقوف تمنّع

قد كنت أسرع من وميض سحابة

نزل البلا اسرعت ام لم تسرع

هلا تنكَّبت الطريق وَحِدتَ عن

ذاك المضيق إلى الفضاء الأوسع

__________________

(١) الغاضرية : قرية منسوبة إلى غاضرة من بني أسد. وقيل : تقع في شمالي قبر عون. وفي مناهل الضرب للسيّد جعفر الأعرجي الكاظمي مخطوط في مكتبة الحجّة الشيخ آغا بزرگ الطهراني : هو عون بن عبد الله بن جعفر بن مرعي بن علي بن الحسن البنفسج بن ادريس بن داود بن أحمد المسود بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله بن المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين (ع) ، سكن الحائر المقدس وله ضيعة على فرسخ من كربلاء ، أدركه الموت بها فدفن فيها ، وعليه قبة ويقصد بالزيارة والنذور. واشتبه على النّاس أنّه عون بن علي بن أبي طالب ، أو عون بن عبد الله بن جعفر الطيّار ، فإنّ الأخير دفن في حومة الشهداء بالحائر.

وهناك آثار قلعة تعرف بقلعة بني أسد. وأمّا شفية : فهي بئر لبني أسد. والعقر : كانت به منازل بخت نصر. ويوم العقر : قتل به يزيد بن المهلّب سنة ١٠٢ ـ ، وهذه قرى متقاربة. وقال البكري في المعجم ممّا استعجم ٣ / ٩٥ : كانوا يقولون ضحى بنو حرب بالدين يوم كربلاء وضحى بنو مروان بالمروءة يوم العقر ، يعنون قتل الحسين بكربلاء وقتل يزيد بن المهلب بالعقر. وفي تاريخ الموصل لابن إياس المتوفّى سنة ٣٣٤ ص ١٦ قال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي : فتك والله بالكرم يوم فتك بآل المهلّب. وفي ص ١٦ : أنّ الفرزدق رثى يزيد ابن المهلّب بأبيات منها :

ولا حملت اُنثى ولا وضعت

بعد الاغر اصيب بالعقر

(٢) منتخب الطريحي ص ٣٠٨ ، المطبعة الحيدرية ، سنة ١٣٦٩.

(٣) تحفة الأزهار لابن شدقم ـ مخطوط ـ ، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ٣ ص ٢٠٩ : سأل الحسين عن الأرض ، فقيل : كربلاء. قال : «كرب وبلاء».

(٤) البحار ١٠ ص ١٨٨.

(٥) اللهوف.

١٩٢

كيف اقتحمت به المهالك لا أبا

لك كيف ذلك كيف لم تتمنَّع

أعظم بها من وقفة قامت بعر

صتها قيامة أهل ذاك المجمع

اعظم بها من وقفة قد ضعضعت

أركان عرش الله أيَّ تضعضع

هي وقفة ليزيدَ منها وقفة

يوما يقال لأحمدَ : قم واشفع

هي وقفة قد أعقبتها وقعة

قد جرَّعتنا غصَّة لم تجرع

هي وقفة قعدت بآل محمد

احزانها حتّى يقوم المدَّعي (١)

كربلاء

وكان نزوله في كربلاء في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين (٢) ، فجمع (ع) ولده وإخوته وأهل بيته ونظر إليهم وبكى وقال : «اللهمّ ، إنّا عترة نبيّك محمّد قد اُخرِجنا وطُرِدنا واُزعِجنا عن حرم جدّنا ، وتعدّت بنو اُميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين».

وأقبل على أصحابه فقال :

«النّاس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درت معائشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء ، قلّ الديانون» (٣).

__________________

(١) من قصيدة تبلغ ٩٣ بيتاً للشيخ محمّد بن شريف بن فلاح الكاظمي صاحب القصيدة الكرارية في مدح أمير المؤمنين وقد قرضها ثمانية عشر شاعراً من ادباء عصره والقصيدتان في مكتبة الحجة المحقق الأميني صاحب الغدير.

(٢) نصّ عليه الطبري في التاريخ ٦ ص ٢٣٣ ، وابن الأثير في الكامل ٤ ص ٢٠ ، والمفيد في الارشاد.

(٣) البحار ج ١٠ ص ١٩٨ ، والمقتل للخوارزمي ج ١ ص ٢٣٧ لا تذهب على القارئ النكتة في سؤال الحسين (عليه السلام) عن اسم الأرض وكل قضايا سيد الشهداء غامضة الاسرار والإمام عندنا معاشر الامامية عالم بما يجري في الكون من حوادث وملاحم عارف بما اودع الله تعالى في الكائنات من المزايا اقداراً له من مبدع السماوات والأرضين تعالى شأنه وقد ذكرنا في المقدمة ما يشهد له وكان السر في سؤاله (عليه السلام) عن اسم الأرض التي منعوا من اجتيازها أو ان الله تعالى أوقف الجواد كما أوقف ناقة النبي (صلّى الله عليه وآله) عند (الحديبية) أن يعترف أصحابه بتلك الأرض التي هي محل التضحية الموعودين بها باخبار النبي أو الوصي صلّى الله عليهما لتطمئن القلوب وتمتاز الرجال ، وتثبت العزائم ، وتصدق المفاداة فتزداد بصيرتهم في الأمر والتأهب للغاية المتوخاة لهم حتى لا يبقى لأحد مجال للتشكيك في موضع كربلا التي هي محل تربته! ولا جزاف في هذا النحو من الأسئلة بعد أن صدر مثله من النبي (صلّى الله عليه وآله) فقد سأل عن اسم الرجلين اللذين قاما لحلب الناقة وعن اسم الجبلين اللذين في طريقه الى (بدر) الم يكن النبي (صلّى الله عليه وآله) عالماً بذلك؟ بلى ، كان عالماً ولكن المصالح الخفية علينا دعته إلى السؤال وقد أشرنا اليها في كتاب (الشهيد مسلم) ص ٩٠ في عنوان (مسلم لا

١٩٣

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله وقال :

«أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، ولَم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله. فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما» (١).

فقام زهير وقال : سمعنا يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها.

وقال بريد : يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا ؛ أنْ نقاتل بين يدَيك ، تُقَطَّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة (٢).

وقال نافع بن هلال : أنت تعلم أنّ جدّك رسول الله لَم يقدر أنْ يشرب النّاس محبّته ، ولا أنْ يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعِدونه بالنصر ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ويخلّفونه بأمَرّ من الحنظل حتّى قبضه الله إليه ، وإنّ أباك علياً كان في مثل ذلك فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتّى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمَن نكث عهده وخلع بيعته فلَن يضرّ إلاّ نفسه والله مغن عنه ، فسِر بنا راشداً معافى مشرِّقاً إنْ شئت أو

__________________

يتطير) ، وهذا باب من الاسئلة يعرف عند علماء البلاغة (بتجاهل العارف) وإذا كان فاطر الأشياء الذي لا يغادر علمه صغيراً ولا كبيراً يقول لموسى (عليه السلام) : (وما تلك بيمينك يا موسى) ويقول لعيسى (عليه السلام) : (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) لضرب من المصلحة وقال سبحانه للخليل (عليه السلام) أو لم تؤمن؟ مع انه عالم بايمانه فالامام المنصوب من قبله أميناً على شرعه لا تخفى عليه المصالح.

كما ان سيد الشهداء (عليه السلام) لم يكن في تعوذه من الكرب والبلاء عندما سمع باسم كربلاء متطيراً ، فان المتطير لا يعلم ما يرد عليه وإنما يستكشف ذلك من الاشياء المعروفة عند العرب انها سبب للشر ، والحسين (عليه السلام) على يقين مما ينزل به في أرض الطف من قضاء الله ، فهو عالم بالكرب الذي يحل به وباهل بيته وصحبه كما انبأ عنه غير مرة.

(١) هذا في اللهوف ، وعند الطبري ج ٦ ص ٢٢٩ : انه خطب به بذي حسم ، وفي العقد الفريد ج ٢ ص ٣١٢ وحلية الأولياء ج ٣ ص ٣٩ وابن عساكر ج ٤ ص ٣٣٣ مثل اللهوف ، وفي مجمع الزوائد ج ١ ص ١٩٢ وذخائر العقبى ص ١٤٩ والعقد الفريد ج ٢ ص ٣١٢ : يظهر منه انه خطب ذلك يوم عاشوراء وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ج ٣ ص ٢٠٩ : لما نزل عمر بن سعد بالحسين خطب أصحابه.

(٢) اللهوف ص ٤٤.

١٩٤

مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك ونعادي من عاداك (١).

بأبي مَنْ شروا لقاء الحسين

بفراق النفوس والأرواح

وقفوا يدرأون سمر العوالي

عنه والنبل وقفة الأشباح

فوقوه بيض الظَّبى بالنحور ال

بيض والنبل بالوجوه الصِباح

فئة ان تعاور النقع ليلا

أطلعوا في سماه شهب الرماح

وإذا غَّنت السّيوف وطافت

أكؤُس الموت وانتشى كل صاح

باعدوا بين قربهم والمواضي

وجسوم الأعداء والأرواح

أدركوا بالحسين أكبر عيد

فغدوا في منى الطفوف أضاحي

لست أنسى من بعدهم طود عزٍّ

وأعاديه مثل سيل البطاح

وهو يحمي دين النبي بعضب

بسناه لظلمة الشرك ماحي

فتطير القلوب منه ارتياعاً

كلما شدَّ راكباً ذا الجناح

ثُمَّ لما نال الظما منه والشمس

ونزف الدِّما وثقل السلاح

اوقف الطَّرف يستريح قليلاً

فرماه القضا بسهم متاح

فهوى العرش للثرى وادلهمَّت

برماد المصاب منها النواحي

حَرَّ قلبي لزينب إذ رأته

ترب الجسم مثخناً بالجراح

أخرسَ الخطبُ نطقَها فدعته

بدموعٍ بما تجن فِصاح

يا منار الظلال والليل داجٍ

وظلال الرميض واليوم ضاحي

كنتَ لي يوم كنت كهفاً منيعاً

سجسج الظل خافق الأرواح

أترى القوم إذ عليك مررنا

منعونا من البكا والنياح

إن يكن هيناً عليك هواني

واغترابي مع العِدى وانتزاحي

ومسيري أسيرةً للأعادي

وركوبي على النياق الطلاح

فبرغمي أنّي أراك مقيماً

بين سمر القنا وبيض الصِفاح

لك جسم على الرمال ورأس

رفعوه على رؤوس الرماح

بأبي الواردون حوض المنايا

يوم ذيدوا عن الفرات المباح

بأبي اللابسون حمر ثياب

طرزتهُنَّ سافيات الرياح (٢)

__________________

(١) مقتل العوالم ص ٧٦.

(٢) للعلامة الطاهر السيد رضا ابن آية الله السيد محمّد الهندي (قدّس سرّه).

١٩٥

ثمّ إنّه (عليه السّلام) اشترى النّواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضريّة بستّين ألف درهم وتصدّق بها عليهم ، واشترط عليهم أنْ يرشدوا إلى قبره ويضيفوا مَن زاره ثلاثة أيام ، وكان حرم الحسين (ع) الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة أميال ، فهو حلال لولده ولمواليه وحرام على غيرهم ممن خالفهم وفيه البركة ، وفي الحديث عن الصادق (ع) : «إنّهم لم يفوا بالشرط» (١).

ولمّا نزل الحسين (ع) كربلاء كتب إلى ابن الحنفية وجماعة من بني هاشم : «أمّا بعد ، فكأنّ الدنيا لَم تكن وكأنّ الآخرة لَم تزل ، والسّلام» (٢).

ابن زياد مع الحسين

وبعث الحرّ إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين في كربلاء فكتب ابن زياد إلى الحسين : أمّا بعد ، يا حسين فقد بلغني نزولك كربلاء ، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أنْ لا أتوسّد الوثير ، ولا أشبع من الخمير أو اُلحقك باللطيف الخبير ، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد ، والسّلام.

ولمّا قرأ الحسين الكتاب رماه من يده وقال : «لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق!». وطالبه الرسول بالجواب ، فقال : «ما له عندي جواب ؛ لأنّه حقّت عليه كلمة العذاب».

وسامته يركب إحدى اثنتين

وقد صرّت الحرب أَسنانها

__________________

(١) كشكول الشيخ البهائي ٢ ص ٩١ ، طبعة مصر : نقلاً عن كتاب الزيارات لمحمّد بن أحمد بن داود القمي ، وحكاه عنه السيد ابن طاووس في مصباح الزائر. والعجب من صاحب مفتاح الكرامة في كتاب المتاجر ص ٢٤٥ : أنّه أنكر شراء الحسين أربعة أميال من جهات قبره الشريف ، مدّعياً عدم وقوفه على ذلك في الأخبار وعلى كلمات العلماء. كما أنّ أمير المؤمنين اشترى من الدهاقين ما بين الخورنق إلى الحيرة وإلى الكوفة بأربعين ألف درهم وقال لِمَن اعترض عليه بأنّها أرض لا تنبت : «إنّي سمعت رسول الله يقول : كوفان يرد أولها على آخرها ، يحشر من ظهرها سبعون ألفاً يدخلون الجنّة بغير حساب ، واشتهيت أنْ يحشروا في ملكي» فرحة الغري لابن طاووس ص ٢٩ ، الباب الثاني ، المطبعة الحيدرية في النجف.

(٢) كامل الزيارات ص ٧٥ الباب الثالث والعشرون ، وذكر أبو الفرج في الأغاني ٨ ص ١٥١ طبعة ساسي : أنّ الحسن البصري كتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك لمّا ولّي الخلافة ، وفي مروج الذهب : أخبار عمر بن عبد العزيز أنّه كتب إلى أبي حازم المدني الأعرج : اوصني واوجز ، فكتب إليه بذلك. وفي موضوعات على القاري أول حرف الكاف ، قال السيوطي : لَم أقف عليه مرفوعاً وأخرجه أبو نعيم عن عمر بن عبد العزيز.

١٩٦

فإما يُرى مذعناً او تموت

نفس أبيّ العزُّ إذعانها

فقال لها اعتصمي بالابا

فنفس الأبي وما زانها

إذا لم تجد غير لبس الهوان

فبالموت تنزع جثمانها

يرى القتل صبراً شعار الكرام

وفخراً يزين لها شأنها

فشمَّر للحرب عن معرك

به عَركَ الموتُ فرسانها

وأضرمها لعنان السَّماء

حمراء تلفح نيرانها

ركين وللأرض تحت الكماة

رجيف يزلزل ثهلانها (١)

وأخبر الرسول ابن زياد بما قاله أبو عبد الله (ع) فاشتدّ غضبه (٢) ، وأمر عمر بن سعد بالخروج إلى كربلاء ، وكان معسكِراً (بحمام أعين) في أربعة آلاف ليسير بهم إلى دستبى ؛ لأنّ الديلم قد غلبوا عليها (٣) ، وكتب له ابن زياد عهداً بولاية الري وثغر دستبى والديلم (٤) فاستعفاه ابن سعد ، ولمّا استردّ منه العهد استمهله ليلته ، وجمع عمر بن سعد نصحاءه فنهوه عن المسير لحرب الحسين ، وقال له ابن اُخته حمزة بن المغيرة بن شعبة : اُنشدك الله أنْ لا تسير لحرب الحسين ، فتقطع رحمك وتأثم بربّك ، فوالله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّه لو كان لك لكان خيراً لك من أنْ تلقى الله بدم الحسين (٥).

فقال ابن سعد : أفعل إنْ شاء الله. وبات ليلته مفكّراً في أمره وسُمع يقول :

أأترك ملك الري والري رغبتي

أم أرجع مذموماً بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب وملك الري قرة عيني (٦)

__________________

(١) للسيد حيدر الحلي رحمه الله.

(٢) البحار ١٠ ص ١٨٩ ، ومقتل العوالم ص ٧٦.

(٣) في تجريد الاغاني ١ ص ٢٧٧ القسم الأول ، لابن واصل الحموي المتوفّى سنة ٦٩٧ ـ في أول أخبار حنين قال : عرف هذا الحمام بأعين حاجب بشر بن مروان بن الحكم. وفي معجم البلدان ٣ ص ٣٣٤ : مادة حمام أعين بالكوفة منسوب إلى أعين مولى سعد بن أبي وقاص.

(٤) الطبري ٦ ص ٢٣٢.

(٥) الأخبار الطوال ص ٢٥١ ، وفي معجم البلدان ٤ ص ٥٨ : دستبى (بفتح أوّله وسكون ثانيه وفتح التاء المثناة من فوق والباء الموحدة المقصورة) : كورة كبيرة بين همدان والري ، فقسم يقال له دستبى الرازي وقسم دستبى همدان ، وبسعي أبي مالك حنظلة بن خالد التميمي اُضيفت إلى قزوين.

(٦) في أحسن التقاسيم للمقدسي ص ٣٨٥ : قال : وهذه المدينة أهلكت عمر بن سعد الشقي حتّى قتل الحسين بن علي ، ثمّ اختارها مع النّار حيث يقول أخزاه الله (وذكر البيتين) كما هنا إلاّ قوله (والري رغبتي).

١٩٧

وعند الصباح أتى ابن زياد وقال : إنّك ولّيتني هذا العمل وسمع به النّاس ، فأنفذني له وابعث إلى الحسين مَن لستُ أغنى في الحرب منه. وسمّى له اُناساً من أشراف الكوفة.

فقال ابن زياد : لستُ استأمرك فيمن أُريد أن أبعث ، فإن سرت بجندنا ، وإلاّ فابعث إلينا عهدنا ، فلمّا رآه ملحّاً قال : إنّي سائر (١) ، فأقبل في أربعة آلاف وانضمّ إليه الحرّ فيمن معه. ودعا عمر بن سعد عزرة بن قيس الأحمسي ، وأمره أن يلقى الحسين ويسأله عمّا جاء به فاستحيا عزرة ؛ لأنّه ممَّن كاتبه ، فسأل مَن معه من الرؤساء أنْ يلقوه فأبوا ؛ لأنهم كاتبوه.

فقام كُثَير بن عبد الله الشعبي وكان جريئاً فاتكاً وقال : أنا له ، وإنْ شئت أنْ أفتك به لفعلت. قال : لا ، ولكن سله ما الذي جاء به؟ فأقبل كُثَير وعرفه أبو ثمامة الصائدي فقام في وجهه ، وقال : ضع سَيفك وادخل على الحسين ، فأبى واستأبى ثمّ انصرف.

فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي ليسأل الحسين ، ولمّا أبلغه رسالة ابن سعد : قال أبو عبد الله «إنّ أهل مصركم كتبوا إليَّ أنْ اقدم علينا ، فأمّا إذا كرهتموني انصرفتُ عنكم».

فرجع بذلك إلى ابن سعد ، وكتب إلى ابن زياد بما يقول الحسين ، فأتاه جوابه : أمّا بعد ، فاعرض على الحسين وأصحابه البيعة ليزيد ، فإنْ فعل رأينا رأينا (٢).

خطبة ابن زياد

وجمع ابن زياد النّاس في جامع الكوفة فقال : أيّها النّاس إنّكم بلوتم آل أبي

__________________

(١) ابن الأثير ٤ ص ٢٢ : أقول جاء المثل مَن عافاك أغناك ، يتحدّث ابن الجوزي في صفوة الصفوة ٣ ص ١٦١ : إنّ رجلا بالبصرة من قوّاد ابن زياد سقط من السطح فتكسّرت رجلاه فعاده أبو قلابة وقال : أرجو أن يكون هذا خيراً لك فتحقق قوله حين حمله ابن زياد على الخروج إلى حرب الحسين (ع) ، فقال للرسول : انظر ما أنا فيه. وبعد سبعة أيام أتاه الخبر بقتل الحسين (ع) ، فحمد الله على العافية.

(٢) الطبري ٦ ص ٢٣٣ و ٢٣٤.

١٩٨

سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه ، حسن السّيرة ، محمود الطريقة محسناً إلى الرعيّة ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السّبل على عهده وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يُكرم العباد ويغنيهم بالأموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مئة مئة ، وأمرني أنْ أوفرها عليكم ، وأخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا.

ثمّ نزل ووفّر العطاء ، وخرج إلى النخيلة (١) وعسكر فيها. وبعث على الحصين بن نمير التميمي ، وحجّار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي وأمرهم بمعاونة ابن سعد. فاعتلّ شبث بالمرض (٢) ، فأرسل إليه : أن رسولي يخبرني بتمارضك وأخاف أنْ تكون من الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن ، فإنْ كنت في طاعتنا فأقبل مسرعاً ، فأتاه بعد العشاء ؛ لئلا ينظر إلى وجهه فلم يجد عليه أثر العلّة ، ووافقه على ما يريد (٣).

وجعل عبيد الله بن زياد زجر بن قيس الجعفي على مسلحة في خمسمئة فارس ، وأمره أنْ يقيم بجسر الصراة يمنع مَن يخرج من الكوفة يريد الحسين (ع) ، فمرّ به عامر بن أبي سلامة بن عبد الله بن عرار الدالاني فقال له زجر : قد عرفتُ حيث تريد فارجع ، فحمل عليه وعلى أصحابه فهزمهم ومضى ، وليس أحد منهم يطمع في الدنوّ منه ، فوصل كربلاء ولحق بالحسين (عليه السّلام) حتّى قُتل معه ، وكان قد شَهد المشاهد مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) (٤).

الحسين عند الكوفيين

ولم تزل الكراهية ظاهرة على الناس في قتال الحسين لانه ابن الرسول

__________________

(١) هي العباسية في كلام ابن نما ، وتعرف اليوم بالعباسيات ، وموقعها قريب من ذي الكفل ، وفي اليقين لرضي الدين ابن طاووس ص ١٤٧ باب ١٤٦ : إنّ النخيلة تبعد عن الكوفة فرسخين.

(٢) الأخبار الطوال ص ٢٥٣.

(٣) البحار عن مقتل محمّد بن أبي طالب.

(٤) الاكليل للهمداني ١٠ ص ٨٧ و ١٠١ : ودالان بطن من همدان منهم بنو عرار بضمّ العين وهو عرار ابن رؤاس بن دالان بن جييش بن ماشبح بن وادعه. وفي جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ٣٢١ ذكر نسب وادعة.

١٩٩

الأقدس وسيّد شباب أهل الجنّة ولَم تغب عن أذهانهم مصارحات النّبي (ص) وأبيه الوصي فيه وفي أخيه المجتبى ، وقد عرفوا فضله يوم أجدبت الكوفة وقحط النّاس ، ففزعوا إلى أبي الحسن ، فأخرج السّبط الشهيد للاستسقاء ، وببركات نفسه القدسيّة ونوره المتكوّن من الحقيقة المحمّد يّة استجاب الله تعالى له وأرسل المطر حتّى أعشبت الأرض بعد جدبها. وهو الذي ملك المشرعة يوم صفين فسقى المسلمين بعد أنْ جهدهم العطش (١) ، ولنبأ سقيه الحرّ وألف فارس معه في تلك الأرض القاحلة حتّى أرواهم وخيولهم ، دوي في أرجاء الكوفة.

فهل يستطيع أحد ـ والحالة هذه ـ على مقابلته ومحاربته؟! لولا غلبة الهوى والتناهي في الطغيان وضعف النّفوس ؛ ولذلك كان الجمع الكثير يتسلّل إذا وصل كربلاء ، ولَم يبقَ إلاّ القليل ، فلمّا عرف ابن زياد ذلك بعث سويد بن عبد الرحمن المنقري في خيل وأمره أنْ يطوف في سكك الكوفة وأحياء العرب ويعلن بالخروج إلى حرب الحسين ، ومَن تخلّف جاء به إليه ، فوجد رجلاً من أهل الشام قدم الكوفة في طلب ميراث له فقبض عليه وجاء به إلى ابن زياد فأمر بضرب عنقه ، فلمّا رأى النّاس الشرّ منه خرجوا جميعاً (٢).

الجيوش

فخرج الشمر (٣) في أربعة آلاف ، ويزيد بن الركاب في ألفين ، والحصين بن نمير التميمي في أربعة آلاف ، وشبث بن ربعي في ألف ، وكعب بن طلحة في ثلاثة آلاف ، وحجّار بن أبجر في ألف ، ومضاير بن رهينة المازني في ثلاثة آلاف ، ونصر بن حرشة في ألفين (٤) ، فتكامل عند ابن سعد لستٍ خلون من المحرم عشرون ألفاً (٥) ، ولَم يزل ابن زياد يرسل العساكر إلى ابن سعد حتّى تكامل عنده ثلاثون ألفاً.

__________________

(١) مقتل العوالم ص ١٥ و ٤٥.

(٢) الأخبار الطوال ص ٢٥٣.

(٣) في البدء والتاريخ ٦ ص ١٠ : سمّاه بشر بن ذي الجوشن. وفي عجالة المبتدي في النّسب تأليف الحافظ أبي بكر محمّد بن أبي عثمان الحازمي الهمداني المتوفّى سنة ٥٨٤ : اسمه شور بن ذي الجوشن ، ولأبيه صحبة ورواية ، روى عنه ابنه شور.

(٤) ابن شهر آشوب ٢ ص ٢١٥.

(٥) ابن نما واللهوف.

٢٠٠