مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

قال (ص) : «نعم» فقال : إنّك تعلم ما أحد بارّ بأبيه مثلي ، فإنْ أردت قتله فأمرني به ؛ لأنّي أخاف أنْ تأمر غيري ولا اُحبّ أنْ أنظر إلى قاتل أبي فأعدو عليه فأقتله وأكون في النّار (١) ... وهذه القصّة تعطينا صورة نيّرة عمّا عليه البشر من احتدام أولياء المقتول على القاتل وتربّصهم الفرص للأخذ بالثأر منه ، ولَو كان القتل من جهة الشرك ... ولهذه الغريزة المطبوعة عليها جبلة النّاس كان عمر بن الخطاب يقول لسعيد بن العاص وقد اجتمع عنده في بعض الليالي هو وعثمان وعلي وابن عبّاس : ما لك معرضاً عنّي كأنّي قتلت أباك! إنّي لم أقتله ولكن أبا حسن قتله ، فقال أمير المؤمنين : «اللهمّ غفراً ذهب الشرك بما فيه ، ومحا الإسلام ما قبله ، فلماذا تهيّج القلوب يا عمر؟» فقال سعيد : لقد قتله كفؤ كريم ، وهو أحبّ إليَّ من أن يقتله مَن ليس من عبد مناف (٢).

لم يكن من الهيّن على سعيد قتْل أبيه وإنْ كان كافراً وقُتل بسيف الدعوة المحمّديّة ، والقاتل شريف جم المناقب ولم يحفّزه على إراقة دمه إلاّ نداء الربّ جلّ وعلا الموحى به إلى رسول السّماء ، غير أنّ الخوف من صارم العدل حتم عليه التظاهر بالرضا مع انحناء أضالعه على أحرّ من جمر الغضا مرتقباً الفرصة في الأخذ بثاره ، وقد ظهرت نار البغض على لسان ولده عمرو بن سعيد الأشدق يوم تولّى المدينة من قِبَل يزيد فلقد واجه ضريح النّبي (ص) بلسان طويل مجاهر بقوله : يوم بيوم بدر يا رسول الله. ولمّا سمع صراخ نساء بني هاشم على سيّد شباب أهل الجنّة قال : واعية بواعية عثمان (٣).

فعبد الله بن جعفر يتّقد قلبه ناراً على ابن ميسون ويوّد لَو تمكّنه الفرصة وتأخذ المقادير إلى تدميره والقضاء عليه وعلى أهله وذويه ، ومهما يكن ناسياً للأشياء فلا ينسى قتله أبي الضيم ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب والبهاليل من صحبه ، ثمّ نكْته بالقضيب ثنايا ريحانة رسول الله (ص) ، وهل يستطيع ابن جعفر والحالة هذه أن يبصر يزيد وسيفه يقطر من دمائهم وقد صكّ سمعه إظهاره الشماتة بنبيّ الإسلام :

__________________

(١) اُسد الغابة ٣ ص ٩٧.

(٢) شرح النّهج لابن أبي الحديد ٣ ص ٣٣٥ ، الطبعة الاُولى المصريّة ، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ ص ١٣٤ ترجمة سعيد بن العاص.

(٣) راجع ما تقدّم بعنوان (عمرو الأشدق) من كتابنا هذا.

٣٤١

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

ثمّ إلى إنكاره الرسالة :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

وهل ينسى ابن جعفر ليله ونهاره وقوف حرائر النبوّة بحالة يتصفّح وجوهها القريب والبعيد وأهل المنأهل والمعاقل .. والذي يهون الأمر أنّ المرسل للحديث هو المدائني الاُمويّ النّزعة والولاء ، وكتابه مملوء بالأحاديث الرافعة للبيت الاُموي والواضعة من كرامة البيت العلوي ، لا يلتفت إليها إلاّ العارف بأخبار الرجال وشخصيّات الرواة.

عبد الله بن عباس

لمّا بلغ يزيد امتناع عبد الله بن عبّاس عن البيعة لابن الزبير ، كتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته والدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً ، فامتنعتَ عليه وانقبضتَ عنه ؛ لما عرّفك الله في نفسك من حقّنا أهل البيت ، فجزاك أفضل ما جزى الواصلين عن أرحامهم الموفين بعهودهم ، ومهما أنسى من الأشياء فلا أنسى وصلك وحُسن جائزتك التي أنت أهلها في الطاعة والشرف والقرابة من رسول الله (ص) ، فانظر مَن قبلك من قومك ، ومَن يطرأ عليك من أهل الآفاق ممَّن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله ، فاجذبهم عنه فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للملحد المارق ، والسّلام.

فكتب إليه ابن عبّاس : أمّا بعد ، فقد جاء في كتابك تذكر فيه دعاء ابن الزبير إيّاي إلى بيعته وأنّي امتنعت عليه معرفةً لحقّك ، فإن يكن ذلك كذلك فلستُ أرجو بذلك برّك ، ولكنّ الله بما أنوي عليم. وكتبتَ إليَّ أنّه أحثّ النّاس عليك وأخذلهم عن ابن الزبير ، فلا ولا سرور ولا حبور ، بفيك الكثكث ولك الأثلب وإنّك العازب الرأي أنْ منّتك نفسك وإنّك لأنت المنقود المثبور. وكتبت إليَّ بتعجيل برّي وصِلتي ، فاحبس أيّها الإنسان برّك ، فإنّي حابس عنك ودّي ونصرتي ، ولَعمري ما تعطينا ممّا في يدك لنا إلاّ القليل ، وتحبس منه الطويل العريض ، لا أباً لك! أتراني أنسى قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب ومصأبيح الدجى

٣٤٢

ونجوم الهدى وأعلام التقى ، وغادرتْهم خيولك بأمرك فأصبحوا مصرّعين في صعيد واحد ، مزمّلين بالدماء مسلوبين بالعراء ، لا مكفّنين ولا موسّدين ، تسفي عليهم الرياح ، وتغزوهم الذئاب وتنتابهم عوج الضباع حتّى أتاح الله لهم قوماً لَم يشركوا في دمائهم ، فكفّنوهم وأجنّوهم ، وبهم والله وبي من الله عليك العذاب.! ومهما أنسى من الأشياء فلستُ أنسى تسليطك عليهم الدعيّ بن الدعيّ الذي كان للعاهرة الفاجرة البعيد رحماً ، اللئيم أباً واُمّاً ، الذي اكتسب أبوك في ادّعائه العار والمأثم والمذلّة والخزي في الدنيا والآخرة ؛ لأنّ رسول الله قال : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر». وإنّ أباك يزعم أنّ الولد لغير الفراش ، ولا يضير العاهر ، ويلحق به ولده كما يلحق به الولد الرشيد. ولقد أمات أبوك السُنّة جهلاً ، وأحيا الأحداث المضلّة عمداً.

ومهما أنسى من الأشياء ، فلستُ أنسى تسييرك حسيناً من حرم رسول الله إلى حرم الله تعالى ، وتسييرك إليه الرجال وإدساسك إليهم أنْ يقتلوه ، فما زلت بذلك وكذلك حتّى أخرجته من مكّة إلى أرض الكوفة تزأر به خيلك وجنودك زئير الأسد عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته. ثمّ كتبتَ إلى ابن مرجانة أنْ يستقبله بالخيل والرجال والأسنّة والسّيوف ، وكتبت إليه بمعاجلته وترك مطاولته حتّى قتلته ومَن معه من فتيان بني عبد المطّلب أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، ونحن كذلك لا كآبائك الجفاة أكباد الحمير ولقد علمت أنّه كان أعزّ أهل البطحاء قديماً وأعزَّه بها حديثاً ، لَو ثوى بالحرمين مقاماً واستحلَّ بها قتلاً ، ولكنّه كره أنْ يكون هو الذي يستحلّ به حرم الله وحرم الرسول وحرمة البيت الحرام ، فطلب الموادعة وسألكم الرجعة فطلبتم قلَّة أنصاره واستئصال أهل بيته كأنّكم تقتلون أهل بيت من الترك أو كابل. وكيف تجدني على ودّك وتطلب نصري فقد قتلتَ بني أبي ، وسيفك يقطر من دمي وأنت طلبة ثأري؟! فإنْ شاء الله لا يطل إليك دمي ، ولا تسبقني بثأري وإنْ تسبقنا فقتلتنا ما قتلت به النبيون فطلب دمائهم في الدماء ، وكان الموعد الله وكفى بالله للمظلومين ناصراً ، ومن الظالمين منتقماً.

والعجب كلّ العجب ما عشت يريك الدهر عجباً ، حملك بنات عبد المطّلب وأبناءهم اُغيلمةً صغاراً إليك بالشام! ترى أنّك قهرتنا وأنّك تذلّنا وبهم والله وبي مَنَّ الله عليك وعلى أبيك واُمّك من السّباء. وأيم الله إنّك لتصبح وتمسي آمناً

٣٤٣

لجراح يدي وليعظمنَّ جرحك بلساني ونقضي وإبرامي ، لا يستفزنَّك الجدل فلن يمهلك الله بعد قتْل عترة رسول الله إلاّ قليلاً حتّى يأخذك الله أخذاً عزيزاً ويخرجك من الدنيا آثماً مذموماً ، فعش لا أباً لك ما شئت ولقد أرداك عند الله ما اقترفت (١).

السّبايا إلى الشام

وبعث ابن زياد رسولاً إلى يزيد يخبره بقتْل الحسين (ع) ومَن معه وأنّ عياله في الكوفة وينتظر أمره فيهم ، فعاد الجواب بحملهم والرؤوس معهم (٢).

وكتب رقعةً ربط فيها حجراً ورماه في السّجن المحبوس فيه آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وفيها : خرج البريد إلى يزيد بأمركم في يوم كذا ، ويعود في كذا ، فإذا سمعتم التكبير فأوصلوا وإلاّ فهو الأمان. ورجع البريد من الشام يخبر بأنْ يسرّح آل الحسين إلى الشام (٣).

فأمر ابن زياد زجر بن قيس وأبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن ظبيان في جماعة من الكوفة أنْ يحملوا رأس الحسين ورؤوس مَن قُتل معه إلى يزيد (٤).

وقيل ذهب برأس الحسين (ع) مجبر بن مرّة بن خالد بن قناب بن عمر بن قيس بن الحرث بن مالك بن عبيد الله بن خزيمة بن لؤي (٥).

وسرّح في أثرهم علي بن الحسين مغلولة يدَيه إلى عنقه وعياله معه (٦) على

__________________

(١) رتّبنا الكتاب من مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي ٧ ص ٢٥٠ ، وأنساب الأشراف للبلاذري ٤ ص ١٨ الطبعة الاُولى ، ومقتل الحسين للخوارزمي ٢ ص ٧٧ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٥٠ (سنة ٦٤) ، وعليه مروج الذهب للمسعودي.

(٢) اللهوف ص ٩٥ و ٩٧.

(٣) الطبري ٦ ص ٢٦٦ ، وفي صفحة ٩٦ ذكر : إنّ أبا بكرة أجّله بسر بن أرطاة اُسبوعاً على أنْ يذهب إلى معاوية ، فرجع من الشام في اليوم السّابع. وفي مثير الأحزان لابن نما ص ٧٤ : إنّ عميرة أرسله عبد الله بن عمر إلى يزيد ومعه كتاب إلى ابن زياد ليطلق سراح المختار الثقفي ، فكتب يزيد بذلك إلى عبيد الله بن زياد ، فجاء عميرة بالكتاب إلى الكوفة وقد قطع المسافة بين الشام والكوفة بأحد عشر يوماً.

(٤) الطبري ٦ ص ٢٦٤ ، وابن الأثير ٤ ص ٣٤ ، والبداية ٨ ص ١٩١ ، والخوارزمي ، وإرشاد المفيد ، وإعلام الورى ص ١٤٩ ، واللهوف ص ٩٧.

(٥) الإصابة ٣ ص ٤٨٩ ، بترجمة مرّة.

(٦) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٤ ، والخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٨.

٣٤٤

حال تقشعّر منها الأبدان (١).

وكان معهم شمر بن ذي الجوشن ، ومجفر بن ثعلبة العائدي (٢) ، وشبث بن ربعي ، وعمرو بن الحَجّاج ، وجماعة ، وأمرهم أنْ يلحقوا الرؤوس ويشهّروهم في كلّ بلد يأتونها (٣) فجدّوا السّير حتّى لحقوا بهم في بعض المنازل (٤).

وحدّث ابن لهيعة : إنّه رأى رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة يستغيث بربّه ، ثمّ يقول : ولا أراك فاعلاً. فأخذتُه ناحيةً وقلت : إنّك لمجنون فإنّ الله غفور رحيم ، ولَو كانت ذنوبك عدد القطر لغفرها لك.

قال لي : اعلم كنتُ ممَّن سار برأس الحسين إلى الشام ، فإذا أمسينا وضعنا الرأس وشربنا حوله ، وفي ليلة كنت أحرسه ، وأصحابي رقود ، فرأيت برقاً وخلقاً أطافوا بالرأس ، ففزعت واُدهشت ولزمت السّكوت ، فسمعتُ بكاءاً وعويلاً وقائلاً يقول : يا محمّد إنّ الله أمرني أنْ اُطيعك ، فلَو أمرتني أنْ اُزلزل بهؤلاء الأرض كما فعلت بقوم لوط ، فقال له (ص) : «يا جبرئيل ، إنّ لي موقفاً معهم يوم القيامة بين يدَي ربّي سبحانه».

فصحت : يا رسول الله الأمان! فقال لي : «اذهب فلا غفر الله لك». فهل ترى الله يغفر لي؟ (٥).

وفي بعض المنازل وضعوا الرأس المطهّر فلم يشعر القوم إلاّ وقد ظهر قلم حديد من الحائط وكتب بالدم (٦).

__________________

(١) تاريخ القرماني ص ١٠٨.

وفي مرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٤ : سيقت بنات الحسين بن علي ومعهم زين العابدين (ع) وهو مريض كما تساق الاُسارى (قاتل الله فاعل ذلك). وخالف ابن تيمية ضرورة التاريخ ، فقال كما في المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص ٢٨٨ : سيّر ابن زياد حرم الحسين بعد قتله إلى المدينة.

(٢) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ١٦٥ قال : بنو عائدة منهم مجفر بن مرّة بن خالد بن عامر بن قبان بن عمرو بن قيس بن الحارث بن مالك بن عبيد بن خزيمة بن لؤي ، وهو الذي حمل رأس الحسين بن علي (رضي الله عنهما) إلى الشام.

(٣) المنتخب للطريحي ص ٣٣٩ ، الطبعة الثانية.

(٤) الإرشاد للمفيد.

(٥) اللهوف ص ٩٨.

(٦) مجمع الزوائد لابن حجر ٩ ص ١٩٩ ، والخصائص للسيوطي ٢ ص ١٢٧ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٤٢ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ ، والكواكب الدريّة ١ ص ٥٧ ، والاتحاف بحبّ الأشراف ص ٢٣. ونسبه

٣٤٥

أترجو اُمّة قتلت حسيناً

شفاعةَ جَدّه يومَ الحساب؟

فلم يعتبروا بهذه الآية ، وأرداهم العمى إلى مهوىً سحيق ، ونِعم الحكم الله تعالى.

وقبل أنْ يصلوا الموضع بفرسخ ، وضعوا الرأس على صخرة هناك ، فسقطت منه قطرة دم على الصخرة ، فكانت تغلي كلّ سنة يوم عاشوراء ، ويجتمع النّاس هناك من الأطراف فيقيمون المأتم على الحسين (ع) ويكثر العويل حولها ، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان ، فأمر بنقل الحجر فلم يُرَ له أثر بعد ذلك ، ولكنّهم بنوا في محلّ الحجر قبّة سموها النّقطة (١).

وكان بالقرب من حماة في بساتينها مسجد يقال له مسجد الحسين (ع) ، ويحدّث القَومة : أنّ الحجر والأثر والدم موضع رأس الحسين (ع) حين ساروا به إلى دمشق (٢).

وبالقرب من حلب مشهد يعرف بـ (مسقط السّقط) (٣) وذلك أنّ حرم

__________________

ابن طاووس في اللهوف ص ٩٨ إلى تاريخ بغداد لابن النّجار. وفي تاريخ القرماني ص ١٠٨ : وصلوا إلى دَير في الطريق ، فنزلوا فيه ليقيلوا به ، فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه هذا البيت. وفي الخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٥ : كتب هذا قديماً ولا يدرى قائله. وفي مثير الأحزان لابن نما ص ٥٣ : حفروا في بلاد الروم حفراً قبل أن يبعث النّبي (ص) بثلاثمئة سنة فأصأبوا حجراً مكتوب عليه بالمسند هذا البيت ، والمسند كلام أولاد شيث.

(١) نفَس المهموم ص ٢٢٨ ، للشيخ الجليل الشيخ عبّاس القمي. وفي نهر الذهب في تاريخ حلب ٣ ص ٢٣ : لمّا جيء برأس الحسين (ع) مع السّبايا ووصلوا إلى هذا الجبل غربي حلب ، قطرت من الرأس الشريف قطرة دم ، وعُمّر على أثرها مشهد عرف (بمشهد النقطة). وفيه ٣ ص ٢٨٠ ، نقل من تاريخ يحيى بن أبي طي من عمْر هذا المشهد وتوالي العمارات عليه.

وفي كتاب الإرشارات إلى معرفة الزيارات تأليف أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي المتوفّى (سنة ٦١١ هـ) ص ٦٦ : في مدينة نصيبين مشهد النّقطة يقال أنّه من دم رأس الحسين (ع). وفي سوق النشابين مشهد الرأس فإنّه علّق هناك لمّا عبروا بالسّبي إلى الشام.

(٢) قال الشيخ المحدّث الجليل الشيخ عبّاس القمي ، في نفس المهموم شاهدت هذا الحجر عند سفري إلى الحج ، وسمعت الخدم يتحدثون بذلك.

(٣) في معجم البلدان ٣ ص ١٧٣ ، وخريدة العجائب ص ١٢٨ : يُسمّى مشهد الطرح. وفي نهر الذهب ٢ ص ٢٧٨ : سمّي مشهد الدكّة ، ومشهد الطرح ، يقع غربي حلب. وحكى عن تاريخ ابن أبي طي إنّ مشهد الطرح ظهرت عمارته (سنة ٣٥١ هـ) بأمر من سيف الدولة. وذكر بعضهم : إنّ إحدى نساء الحسين (ع) أسقطت هنا لمّا جيء بسبي عيال الحسين (ع) والرؤوس وكان هنا معدن ، وأهله لمّا فرحوا بالسّبي دعت عليهم زينب (عليها السّلام) ففسد ذلك المعدن ، فعمّره سيف الدولة ، ثمّ ذكر توالي العمارات عليه.

٣٤٦

الرسول (ص) لمّا وصلوا إلى هذا المكان ، أسقطت زوجة الحسين (ع) سقطاً كان يُسمى (محسناً) (١).

وفي بعض المنازل نصبوا الرأس على رمح إلى جنب صومعة راهب ، وفي أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً ، ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهّر وسمع قائلاً يقول : السّلام عليك يا أبا عبد الله. فتعجّب حيث لَم يعرف الحال.

وعند الصباح استخبر من القوم ، قالو : إنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب واُمّه فاطمة بن محمّد النّبي (ص) فقال لهم : تبّاً لكم أيّتها الجماعة ، صدقت الأخبار في قولها (إذا قُتل تمطر السّماء دماً).

وأراد منهم أنْ يقبّل الرأس فلَم يجيبوه إلاّ بعد أن دفع إليهم دراهم ، ثمّ أظهر الشهادتين وأسلم ببركة المذبوح دون الدعوة الإلهيّة ، ولمّا ارتحلوا عن هذا المكان نظروا إلى الدراهم وإذا مكتوب عليها : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (٢).

أيُهدى إلى الشامات رأس ابن فاطمٍ

ويقرعه بالخيزرانة كاشحه

وتُسبى كريمات النبيّ حواسراً

تغادي الجوى من ثكلها وتراوحه

يلوح لها رأس الحسين على القنا

فتبكي وينهاها عن الصبر لائحه

وشيبته مخضوبة بدمائه

يلاعبها غادي النسيم ورائحه (٣)

في الشام

ولمّا قربوا من دمشق ، أرسلت اُمّ كلثوم إلى الشمر تسأله أنْ يدخلهم في درب قليل النظّار ، ويخرجوا الرؤوس من بين المحامل ؛ لكي يشتغل النّاس بالنّظر إلى

__________________

(١) في معجم البلدان ٣ ص ١٧٣ ، بمادة جوشن ، وخريدة العجائب لابن الوردي ص ١٢٨ ، عند ذكر جبل جوشن : إنّ بعض سبي الحسين (ع) طلب ممّن يقطن هناك من الصنّاع خبزاً وماءً ، فامتنع فدعا عليهم ؛ ومن ذلك لا يربح أهل ذلك الموضع.

(٢) تذكرة الخواص ص ١٥٠.

(٣) للعلامة الشيخ عبد الحسين الأعسم النجفي (رحمه الله).

٣٤٧

الرؤوس. فسلك بهم على حالة تقشعّر من ذكرها الأبدان وترتعد لها فرائص كلّ إنسان.

وأمر أنْ يُسلك بهم بين النظّار ، وأنْ يجعلوا الرؤوس وسط المحامل (١).

وفي أول يوم من صفر دخلوا دمشق (٢) فأوقفوهم على (باب السّاعات) (٣) وقد خرج النّاس بالدفوف والبوقات ، وهم في فرح وسرور ، ودنا رجل من سكينة وقال : من أيّ السّبايا أنتم؟ قالت : نحن سبايا آل محمّد (ص) (٤).

وكان يزيد جالساً في منظره على جيرون ، ولمّا رأى السّبايا والرؤوس على أطراف الرماح ، وقد أشرفوا على ثنية جيرون ، نعب غراب ، فأنشأ يزيد يقول :

لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الرؤوس على شفا جيرون (٥)

نعب الغراب فقلتُ قل أو لا تقل

فقد أقتضيت من الرسول ديوني

ومن هنا حكم ابن الجوزي والقاضي أبو يعلى والتفتازاني والجلال السّيوطي بكفره ولعنه (٦).

__________________

(١) اللهوف ص ٩٩ ، ومثير الأحزان لابن نما ص ٥٣ ، ومقتل العوالم ص ١٤٥.

(٢) نصّ عليه كامل البهائي ، والآثار الباقية للبيروني ص ٣٣١ طبعة الاُفست ، والمصباح للكفعمي ص ٢٦٩ ، وتقويم المحسنين للفيض ص ١٥ ، وبناءً على ما في تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٦ ، من حبسهم في السّجن إلى أنْ يأتي البريد من الشام يخبرهم ببعد وصولهم إلى الشام في أول صفر فإنّ المسافة بعيدة تستدعي زمناً طويلاً ، اللهمّ إلاّ أنْ يكون البريد من طريق الطير.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٦١ روى : إنّهم اُدخلوا مدينة دمشق من باب (توما) ، وهذا الباب كما في ثمار المقاصد ص ١٠٩ : أحد أبواب مدينة دمشق القديمة. ويحدّث أبو عبد الله محمّد بن علي بن ابراهيم المعروف بابن شدّاد المتوفّى (سنة ٦٨٤ هـ) في أعلاق الخطيرة ٢ ص ٧٢ قال : إنّما سمّي بباب السّاعات ؛ لأنّه عمل هناك بنظام السّاعات ، يعلم بها كلّ ساعة تمضي من النّهار عليها عصافير من نحاس وغراب وحيّة من نحاس ، فإذا أتمّت السّاعة خرجت الحيّة فصفرت العصافير وصاح الغراب وسقطت حصاة في الطشت.

(٤) أمالي الصدوق ص ١٠٠ المجلس الواحد والثلاثون ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٦٠.

(٥) في صورة الأرض لابن حوقل ص ١٦١ طبعة الاُفست في دمشق : ليس في الإسلام أحسن منه ، كان مصلّى الصابئين ثمّ صار لليونان يعظّمون فيه دينهم ، ثمّ صار لليهود ، وملوك عبدة الأصنام ، وباب هذا المسجد يُسمّى باب جيرون ، صُلب على هذا الباب رأس يحيى بن زكريا وصلب على جيرون رأس الحسين بن علي (ع) في الموضع الذي صُلب فيه رأس يحيى بن زكريا. ولمّا كان أيّام الوليد بن عبد الملك جعل وجه جدرانه رخاماً ... ، ويظهر إنّ هذا المسجد هو الجامع الاُموي.

(٦) روح المعاني للآلوسي ٢٦ ص ٧٣ ، آية (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) قال الآلوسي : أراد بقوله : (فقد اقتضيت من الرسول ديون) أنّه قتل بما قتله رسول الله (ص) يوم بدر ، كجدّه عتبة وخاله وغيرهما ، وهذا كفر

٣٤٨

ودنا سهل بن سعد السّاعدي من سكينة بنت الحسين (ع) وقال : ألك حاجة؟ فأمرته أنْ يدفع لحامل الرأس شيئاً فيبعده عن النّساء ليشتغل النّاس بالنّظر إليه ، ففعل سهل (١).

ودنا شيخ من السّجاد (ع) وقال له : الحمد الله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم. ها هنا أفاض الإمام من لطفه على هذا المسكين المغترّ بتلك التمويهات لتقريبه من الحقّ وإرشاده إلى السّبيل ، وهكذا أهل البيت (عليهم السّلام) تشرق أنوارهم على مَن يعلمون صفاء قلبه وطهارة طينته واستعداده للهداية. فقال (عليه السّلام) له : «يا شيخ أقرأت القرآن؟» قال : بلى ، قال (عليه السّلام) : «أقرأت (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟ وقرأت قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ)؟ وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)» قال الشيخ : نعم ، قرأت ذلك.

فقال (ع) : «نحن والله القربى في هذه الآيات».

ثمّ قال له الإمام : «أقرأت قوله تعالى : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟» قال : بلى.

فقال (عليه السّلام) : «نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير». قال الشيخ : بالله عليك أنتم هم؟ فقال (عليه السّلام) : «وحقّ جدّنا رسول الله إنّا لنحن هم ، من غير شكّ».

فوقع الشيخ على قدمَيه يقبّلهما ويقول : أبرأ إلى الله ممَّن قتلكم. وتاب على يد الإمام ممّا فرّط في القول معه. وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله ، فأمر بقتله (٢).

بأيّة آية يأتي يزيد

غداة صحائف الأعمال تُتلى

وقام رسول ربّ العرش يتلو

وقد صمَّت جميع الخلق قل لا (٣)

__________________

صريح ، ومثله تمثله بقول ابن الزبعري قبل إسلامه (ليت أشياخي ...) الأبيات.

(١) مقتل العوالم ص ١٤٥.

(٢) اللهوف ص ١٠٠.

وفي تفسير ابن كثير ٤ ص ١١٢ ، وروح المعاني للآلوسي ٢٥ ص ٣١ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٦١ : إنّ السّجاد (ع) قرأ على الشيخ آية المودّة فأذعن له.

(٣) روح المعاني للآلوسي ٢٥ ص ٣١ ، إنّهما للسيّد عمر الهيثمي (أحد أقاربه المعاصرين) وقد استجودهما الآلوسي.

٣٤٩

وقبل أنْ يدخلوهم إلى مجلس يزيد ، أتوهم بحبال فربقوهم بها ، فكان الحبل في عنق زين العابدين (ع) إلى زينب اُمّ كلثوم وباقي بنات رسول الله (ص) ، وكلّما قصروا عن المشي ضربوهم حتّى أوقفوهم بين يدَي يزيد ، وهو على سريره ، فقال على بن الحسين (ع) : «ما ظنّك برسول الله لَو يرانا على هذا الحال؟» فبكى الحاضرون ، وأمر يزيد بالحبال فقُطعت (١).

واُقيموا على درج باب الجامع حيث يقام السّبي ، ووُضع الرأس المقدّس بين يدَي يزيد ، وجعل ينظر إليهم ويقول :

صبرنا وكان الصبر منّا عزيمةً

وأسيافنا يقطعنَ هاماً ومعصما

نُفلّق هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما (٢)

ثمّ التفت إلى النّعمان بن بشير وقال : الحمد لله الذي قتله. فقال النّعمان : قد كان أمير المؤمنين معاوية يكره قتله. فقال يزيد : قد كان ذلك قبل أنْ يخرج ، ولو خرج على أمير المؤمنين لقتله (٣).

فليت السّما حقاً على الأرض اُطبِقَتْ

وطاف عن الدنيا الفناء أو النشر

بنات عليٍّ وهي خير حرائر

يباح بأيدي الأدعياء لها ستر

سبايا على عَجْف المطايا حواسراً

يودّعها مصر ويرقبها مصر

فإنْ دمعت منهنَّ عين وقصَّرت

عن المشي إعياء مخدرة طهر

__________________

(١) الأنوار النّعمانيّة ص ٣٤١ ، واللهوف ص ١٠١ ، وتذكرة الخواص ص ٤٩.

(٢) مرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٥. وفي كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٥ ، وعليه مروج الذهب : لما اُدخل الرأس عليه ، جعل ينكته بقضيب ويتمثّل بقول الحصين بن حمام.

أبى قومنا أن ينصفونا فانصفت

قواضب في أيماننا تقطر الدما

نفلق هاماً من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

وفي العقد الفريد ٢ / ٣١٣ ، في خلافة يزيد قال : لمّا وُضع الرأس بين يدَيه تمثّل يزيد بقول الحصين بن الحمام المزني وذكر البيت الثاني ، واقتصر ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٩٨ على البيت الثاني ، واقتصر الخوارزمي في المقتل ٢ / ٦١ على وقوفهم على درج باب الجامع ، وهذان البيتان للحصين بن الحمام ذكرهما في المؤتلف والمختلف للآمدي / ٩١ ، قال : إنّ الحصين بن حمام بن ربيعة (إلى آخر نسبه) قال من قصيدة طويلة وذكر ثلاثة أبيات فيها البيتان. وفي الشعر والشعراء / ١٥١ ، ذكر ثلاثة أبيات فيها البيت الثاني. وفي الأشباه والنظائر / ٤ من أشعار المتقدّمين والجاهلين للخالديين اقتصر على البيت الثاني. وفي الأغاني ١٢ / ١٢٠ ، طبعة ساسي ذكر ثلاثة عشر بيتاً فيها البيتان.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٥٩.

٣٥٠

أهاب بها شمر الخنا بقساوة

وآملها في سوطه نقمة زجر

وليس لديها كافل غير مدنف

أضرَّت به البلوى وقد مسَّه الضر

عليل يعاني القيد والغلَّ في السرى

ويبدو على سيمائه الذلّ والاسر

سروا فيه مغلول اليدين مقيَّدا

إلى بطن حرف لم يوطَّأ لها ظهر

وقد أكل اللحم الحديد بجيده

واثّر حتّى فاض في دمه النحر

يلاحظ أطفالاً تصيح ونسوة

تعجُّ واكباداً يطير بها الذعر

ورأس أبيه وهو سبط محمد

أمامَ السبايا تستطيل به السمر

وقد أدخلوه الشام لا مرحباً به

وأفراحه تطغى بعيدٍ هو النصر

الى مجلس فيه ابن هند بنصره

قرير ومروان يطير به البشر

ورأس أبيه السّبط في طست عسجد

أمام دعيًّ غرَّه الزهو والكبر

وقد كان يخفي الكفر لكن بذكره

لا شياخه في بدر قد ظهر الكفر (١)

يزيد مع السجاد

والتفت يزيد إلى السّجاد (ع) وقال : كيف رأيت صنع الله يا علي بأبيك الحسين؟ قال : «رأيت ما قضاه الله عزّ وجلّ قبل أن يخلق السّموات والأرض». وشاور يزيد من كان حاضراً عنده في أمره ، فأشاروا عليه بقتله. فقال زين العابدين (ع) : «يا يزيد ، لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار به جلساء فرعون عليه حين شاورهم في موسى وهارون فإنّهم قالوا له : (أَرْجِهِ وَأَخَاهُ) ولا يقتل الأدعياء أولاد الأنبياء وأبناءهم». فأمسك يزيد مطرقاً (٢).

وممّا دار بينهما من الكلام أنْ قال يزيد لعلي بن الحسين (ع) : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، قال علي بن الحسين (ع) : «ما هذه فينا نزلت ، إنّما نزل فينا (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (٣) فنحن لا

__________________

(١) من قصيدة للعلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) اثبات الوصية صفحة ١٤٣ ط نجف.

(٣) العقد الفريد ٢ ص ٣١٣ ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٧.

٣٥١

نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا» (١)

فأنشد يزيد قول الفضل بن العبّاس بن عتبة :

مهلاً بني عمَّنا مهلاً موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً (٢)

ثمّ استأذنه (عليه السّلام) في أنْ يتكلّم ، فقال يزيد : نعم على أنْ لا تقل هجراً. قال (ع) : لقد «وقفت موقفاً لا ينبغي لمثلي أنْ يقول الهجر ، ما ظنّك برسول الله (ص) لَو يراني على هذه الحال؟» فأمر يزيد بأن يفكّ الغل منه (٣).

وأمر يزيد الخطيب أن يثني على معاوية وينال من الحسين وآله ، فأكثر الخطيب من الوقيعة في علي والحسين (عليهما السّلام) فصاح به السّجاد (ع) : «لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوّأ مقعدك من النّار» (٤) :

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نُصِبَتْ لكم أعوادها

وقال ليزيد : «أتأذن لي أن أرقى هذه الأعواد ، فأتكلّم بكلام لله تعالى رضىً ولهؤلاء أجر وثواب؟» فأبى يزيد ، وألحّ النّاس عليه فلَم يقبل ، فقال ابنه معاوية : إئذن له ، ما قدر أنْ يأتي به؟ فقال يزيد : إنّ هؤلاء ورثوا العلم والفصاحة (٥) وزقّوا العلم زقّاً (٦). وما زالوا به حتّى أذِن له.

فقال (ع) : «الحمد لله الذي لا بداية له ، والدائم الذي لا نفاد له ، والأول الذي لا أوليّة له ، والآخر الذي لا آخريّة له ، والباقي بعد فناء الخلق ، قدّر الليالي والأيّام ، وقسّم فيما بينهم الأقسام ، فتبارك الله الملك العلاّم ، إلى أنْ قال : أيّها النّاس اُعطينا ستّاً وفضّلنا بسبع ، اُعطينا ؛ العلم والحلم والسّماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفُضلنا ؛ بأنَّ منّا النّبي والصدّيق والطيّار وأسد الله وأسد رسوله وسبطا هذه الاُمّة. أيّها النّاس مَن عرفني فقد

__________________

(١) العقد الفريد ٢ ص ٣١٣ ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٧ ، تفسير علي بن إبراهيم ص ٦٠٣ ، في الشورى.

(٢) المحاضرات للراغب الاصفهاني ١ ص ٧٧٥ ، باب مَن يبجح بمعادات ذويه ، وهذا البيت من أبيات خمسة للفضل بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب ذكرها أبو تمام في الحماسة راجع (شرح التبريزي ١ ص ٢٢٣).

(٣) مثير الأحزان لابن نما ص ٥٤ ، وغيره.

(٤) نفَس المهموم ص ٢٤٢.

(٥) كامل البهائي.

(٦) رياض الأحزان ص ١٤٨.

٣٥٢

عرفني ، ومَن لَم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ، أيّها النّاس أنا ابن مكّة ومِنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن مَن حمل الركن بأطراف الردا ، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى وخير مَن طاف وسعى ، وحجّ ولبّى ، أنا ابن مَن حُمِل على البراق وبلغ به جبرئيل سدرة المنتهى ، فكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن مَن صلّى بملائكة السّماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول الله ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين ، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيّين ، ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم جأشاً ، وأمضاهم عزيمةً ذاك أبو السّبطين الحسن والحسين ، علي بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء ، وسيّدة النّساء ، وابن خديجة الكبرى.

أنا ابن المرمّل بالدماء ، أنا ابن ذبيح كربلاء ، أنا ابن مَن بكى عليه الجنّ في الظلماء ، وناحت الطير في الهواء».

فلمّا بلغ إلى هذا الموضع ، ضجّ النّاس بالبكاء ، وخشي يزيد الفتنة ، فأمر المؤذّن أن يُؤذِّن للصلاة. فقال المؤذِّن : الله أكبر.

قال الإمام (ع) : «الله أكبر وأجلّ وأعلى وأكرم ممّا أخاف وأحذر». فلمّا قال المؤذِّن : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، قال (ع) : «نعم ، أشهد مع كلّ شاهد أنْ لا إله غيره ولا ربّ سواه». فلمّا قال المؤذِّن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله قال الإمام (ع) للمؤذِّن : «أسألك بحقّ محمّد أنْ تسكت حتّى اُكلّم هذا!

والتفت إلى يزيد وقال : هذا الرسول العزيز الكريم جدّك أم جدّي؟ فإنْ قلتَ جدّك علم الحاضرون والنّاس كلّهم إنّك كاذب ، وإنْ قلتَ جدّي فلِمَ قتلتَ أبي ظلماً وعدواناً وانتهبت ماله وسبَيت نساءه ، فويلٌ لك يوم القيامة إذا كان جدّي خصمك».

فصاح يزيد بالمؤذِّن : أقم للصلاة. فوقع بين النّاس همهمة وصلّى بعضهم ، وتفرّق الآخر (١).

__________________

(١) نفَس المفهوم ص ٢٤٢ ، والخطبة طويلة في مقتل الخوارزمي ٢ ص ٦٩.

٣٥٣

الرأس الأطهر

ودعا يزيد برأس الحسين (ع) ووضعه أمامه في طست من ذهب (١) ، وكان النّساء خلفه ، فقامت سكينة وفاطمة يتطاولان للنّظر إليه ، ويزيد يستره عنهما ، فلمّا رأينه صرخن بالبكاء (٢). ثمّ أذِن للنّاس أنْ يدخلوا (٣). وأخذ يزيد القضيب وجعل ينكت ثغر الحسين (٤) ويقول : يوم بيوم بدر (٥). وأنشد قول الحصين بن الحمام :

أبى قومنا أنْ ينصفونا فأنصفت

قواضب في أيماننا تقطر الدما

نُفلِّق هاماً من رجال أعزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما (٦)

فقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص ، أخو مروان ، وكان جالساً عنده :

لَهامٍ بجنب الطفِّ أدنى قرابة من ابن

زياد العبد ذي الحسب والوغل

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

__________________

(١) مرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٥.

(٢) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٥ ، ومجمع الزوائد ٩ ص ١٩٥ ، والفصول المهمّة لابن الصباغ ص ٢٠٥.

(٣) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٥.

(٤) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٧ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٣٥ ، وتذكرة الخواص ص ١٤٨ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ ، والفروع لابن مفلح الحنبلي في فقه الحنابلة ٣ ص ٥٤٩ ، ومجمع الزوائد لابن حجر ٩ ص ١٩٥ ، والفصول المهمّة لابن الصباغ ص ٢٠٥ ، والخطط المقريزية ٣ ص ٢٨٩ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٩٢ ، وشرح مقامات الحريري للشريشي ١ ص ١٩٣ ، آخر المقامة العاشرة ، وأيّام العرب في الإسلام ص ٤٣٥ ، تأليف محمّد أبي الفضل وعلي محمّد البجاوي ومناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٥. وفي الاتحاف بحبّ الأشراف ص ٢٣ : صار يزيد يضرب ثناياه بالقضيب. وكذ في الآثار الباقية للبيروني ص ٣٣١ ، طبعة الاُوفست : (والنكت) كما في صحاح الجوهري : الضرب. وفي المغرب للمطرزي ٢ ص ٢٢٧ : نكتت خدّها بإصابعها : أي نقرته وضربته. وفي مقاييس اللغة لابن فارس ٥ ص ٤٧٥ : نكت في الأرض بقضيبه ، ينكت : إذا أثّر فيها.

(٥) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٦.

(٦) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٥ ، والفصول المهمّة لابن الصباغ ص ٢٠٥ : والبيت الأول عند اليافعي في مرآة الجنان ١ ص ١٣٥.

صبرنا فكان الصبر منّا عزيمةً

وأسيافنا يقطعن كفّا ومعصما

ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ١٤٨ ، مع تغيير في بعض ألفاظه. وجماعة من المؤرخين اقتصروا على البيت الثاني ، منهم الشريشي في شرح مقامات الحريري ١ / ١٩٣ ، والأندلسي في العقد الفريد ٢ / ٣١٣ وابن كثير في البداية ٨ / ١٩٧ ، والشيخ المفيد في الإرشاد ، وابن جرير الطبري في التاريخ ٦ ص ٢٦٧ ، وقال : البيت للحصين بن الحمام المري.

٣٥٤

فضربه يزيد على صدره وقال : اسكت لا اُمّ لك (١).

وقال أبو برزة الأسلمي : أشهد لقد رأيت النّبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن (ع) ويقول : «أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، قَتل الله قاتلكما ، ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً». فغضب يزيد منه وأمر به فاُخرج سحباً (٢).

والتفت رسول قيصر إلى يزيد وقال : إنّ عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى ، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار ونهدي إليه النّذور ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم ، فأشهد إنّكم على باطل (٣). فأغضب يزيد هذا القول وأمر بقتله ، فقام إلى الرأس وقبَّله ، وتشهّد الشهادتين ، وعند قتله سمع أهل المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله» (٤).

ثمّ اُخرج الرأس من المجلس وصُلب على باب القصر ثلاثة أيّام (٥) ، فلمّا رأت هند بنت عمرو بن سهيل ، زوجة يزيد ، الرأس على باب دارها (٦) والنّور الإلهي يسطع منه ودمه طري لَم يجفّ ويُشمّ منه رائحةً طيّبةً (٧) دخلت المجلس مهتوكة الحجاب وهي تقول : رأس ابن بنت رسول الله على باب دارنا؟! فقام إليها

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٥ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٣٧. وعجز البيت الثاني في مجمع الزوائد لابن حجر ٩ ص ١٩٨ ، ومناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٦ : (وبنت رسول الله ليس لها نسل) وفي البداية لابن كثير ٨ ص ١٩٣ : كان الحصين ينشد وذكر البيت الثاني موافقاً لمجمع الزوائد. وفي مثير الأحزان لابن نما ص ٥٤ : روى أنّ الحسن بن الحسن ـ وهو المثنّى ـ لمّا رأى يزيد يضرب رأس الحسين (ع) بالقضيب قال واذلاّه!

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل

وفي تذكرة الخواص / ١٤٩ : لمّا بلغ الحسن البصري فعلة يزيد بالرأس ، تمثّل بالبيت الثاني. وفي الأغاني ١٢ / ٧١ : نسبهما إلى عبد الرحمن بن الحكم مع بيت ثالث. وفي مقتل الخوارزمي ٢ / ٥٦ : نسبهما إلى عبد الرحمن ابن الحكم أخي مروان.

(٢) اللهوف ص ١٠٢ ، واختصر الحديث في الفصول المهمّة ص ٢٠٥ ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٧ ، ومناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٦.

(٣) الصواعق المحرقة ص ١١٩.

(٤) مقتل العوالم ص ١٥١ ، ومثير الأحزان لابن نما. وفي مقتل الخوارزمي ٢ ص ٧٢ ، ذكر محاورة النّصراني مع يزيد وقتْله ولَم يذكر كلام الرأس الأطهر.

(٥) الخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٩ ، والاتحاف بحبّ الأشراف ص ٢٣ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٧٥ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ٢٠٤ ، وسِيَر أعلام النّبلاء ٣ ص ٢١٦.

(٦) مقتل العوالم ص ١٥١ ، وتقدّم في المقدّمة من هذا الكتاب تعريف أبيها وعند مَن كانت.

(٧) الخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٤.

٣٥٥

يزيد وغطّاها وقال لها : اعولي عليه يا هند ، فإنّه صريخة بني هاشم عجّل عليه ابن زياد (١).

وأمر يزيد بالرؤوس أنْ تُصلب على أبواب البلد والجامع الاُموي ، ففعلوا بها ذلك (٢).

وفرح مروان بقتل الحسين (ع) فقال :

ضربت دوسر فيهم ضربة

أثبتت أوتاد مُلكٍ فاستقر

ثمّ جعل ينكت بالقضيب في وجهه ويقول :

يا حبّذا بردك في اليدَين

ولونك الأحمر في الخدَّين

كأنّه بات بعسجدين

شفيت منك النّفس يا حسين(٣)

الشامي مع فاطمة

قال الرواة : نظر رجال شامي إلى فاطمة بنت علي (٤) فطلب من يزيد أنْ يهبها له لتخدمه ، ففزعت ابنة أمير المؤمنين وتعلّقت باُختها العقيلة زينب وقالت : كيف

__________________

(١) المقتل للخوارزمي ٢ ص ٧٤.

(٢) نفَس المهموم ص ٢٤٧.

(٣) رياض الأحزان ص ٥٩ ومثير الأحزان لابن نما ص ٥ واقتصر سبط ابن الجوزي على البيت الأول ويروي ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١ ص ٣٦١ مصر أن مروان كان أمير المدينة فلما وصل إليه الرأس قال :

يا حبذا بردك في اليدين

وحمرة تجري على خدين

 كأنما بات بعسجدين

ثم رمى بالرأس نحو القبر وقال يا محمد يوم بيوم بدر والخبر مشهور والصحيح أن مروان لم يكن أمير المدينة. وفي أقرب الموارد مادة (برد) البرد حب الغمام ويستعمل للأسنان الشديدة البياض، وفي آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ج ١ ص ٢٨٢ من شعر يزيد بن الطثرية قوله :

بنفسي من لو مر بنانه

على كبدي كانت شفاء أنامله

والبرد كما في تاج العروس ج ٢ ص ٢٩٨ السكون والفتور فكأنه أراد أن يكون قتله وإسكاته عن الحركة بيده وأنه الذي يضرج خديه بحمرة الدم، واستبعاد حضور مروان في الشام حينذاك يرده نص ابن جرير الطبري في التاريخ ج ٦ ص ٢٦٧ وابن كثير في البداية ج ٨ ص ١٩٦ كان مروان بن الحكم يسأل الجماعة الذين وردوا الشام مع العيال عما فعلوه بالحسين عليه السّلام.

(٤) تاريخ الطبري الجزء السادس ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٩٤ ، وأمالي الشيخ الصدوق ص ١٠٠ المجلس الواحد والثلاثون.

ويروي ابن نما في مثير الأحزان ص ٥٤ ، والخوارزمي في المقتل ٢ ص ٦٢ : إنّها فاطمة بنت الحسين (ع).

٣٥٦

أخدم؟ قالت العقيلة لا عليكِ إنّه لَن يكون أبداً. فقال يزيد : لَو أردتُ لفعلتُ. فقالت له : إلاّ أنْ تخرج عن ديننا. فردّ عليها : إنّما خرج عن الدِّين أبوكِ وأخوكِ. قالت زينب : بدين الله ودين جدّي وأبي وأخي اهتديت أنت وأبوك إنْ كنت مسلماً. قال : كذبتِ يا عدوّة الله. فرقّت (عليها السّلام) وقالت : أنت أمير مسلّط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك (١). وعاود الشامي الطلب ، فزبره يزيد ونهره وقال له : وهب الله لك حتفاً قاضياً (٢).

خطبة زينب (عليها السّلام)

قال ابن نما وابن طاووس (٣) : لمّا سمعت زينب بنت علي (عليهما السّلام) (٤) يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزبعري (٥).

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لستُ من خندف إنْ لَم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

قالت (عليها السّلام) :

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله

__________________

(١) ابن الاثير ٤ ص ٣٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٥.

(٣) ذُكرت هذه الخطبة في (بلاغات النّساء ص ٢١ طبعة النّجف) ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٦٤.

(٤) عرفها الخوارزمي في مقتل الحسين (ع) : أنّ اُمّها فاطمة بنت رسول الله (ص).

(٥) هذه الأبيات نسبها السيّد ابن طاووس في اللهوف ص ١٠٢ طبعة صيدا : إلى ابن الزبعري وليست كلّها له ، فإنّ الخوارزمي في مقتل الحسين (ع) ٢ ص ٦٦ ، وابن أبي الحديد في شرح النّهج ٣ ص ٣٨٣ الطبعة المصرية الاُولى ، وابن هشام في السّيرة في واقعة اُحد : ذكروا ستّة عشر بيتاً وليس فيها ممّا ذكره ابن طاووس إلاّ الأول والثالث ، وكان عجز الثالث في روايتهم (وعدلنا مَيل بدرٍ فاعتدل). وفي رواية أبي علي القالي في الأمالي ١ ص ١٤٢ ، والبكري في شرحه ١ ص ٣٧٨ : (وأقمنا مَيل بدرٍ فاعتدل). وفي رسالة الجاحظ في بني اُميّة ضمن مجموعة رسائله : ابن الزبعري قال : لَيت أشياخي إلى آخر ثلاثة أبيات كما في اللهوف مع تغيير يسير.

وذكرها البيروني في الآثار الباقية / ٣٣١ طبعة الاُوفست : عدا البيت الرابع.

٣٥٧

سبحانه حيث يقول : (ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السّوءى‏ أَن كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ). أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض ، وآفاق السّماء ، فأصبحنا نُساق كما تُساق الاُسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ، وإنّ ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ، نظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)؟!

أمن العدل يابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك وإماءك ، وسَوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هُتكت ستورهنَّ ، واُبديت وجوههنَّ ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنَّ أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفح وجوههنَّ القريب والبعيد والدني والشريف ، ليس معهنَّ من حماتهنَّ حمي ولا من رجالهنَّ ولي ، وكيف يرتجي مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن ، والاحن والاضغان؟! ثمّ تقول غير متأثم ولا مستعظم :

لأهلّوا واستهلَّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشل

منحياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذريّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب ، وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم فلتردنّ وشيكاً مَوردهم ، ولتودنّ أنّك شللت وبكمت ولَم تكن قلتَ ما قلت وفعلتَ ما فعلت.

اللهمّ خُذ لنا بحقّنا ، وأنتقم ممَّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله ما فريتَ إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم ، (وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ).

٣٥٨

وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً! وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب ، لقتل حزب الله النّجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعفّرها اُمّهات الفراعل ، ولئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا وشيكاً مغرما ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلّام للعبيد ، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصبْ جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تُميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك الا بدد؟ يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين.

والحمد لله ربّ العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسّعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ويُحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال يزيد :

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النّوح على النوائح

ومن جهْل يزيد وغيِّه وضلاله قوله بملء فمه غير متأثّم ولا مستعظم يُخاطب مَن حضر عنده من ذؤبان أهل الشام : أتدرون من أين أتى ابن فاطمة ، وما الحامل له على ما فعل ، والذي أوقعه فيما وقع؟ قالوا : لا ، قال : يزعم أنّ أباه خير من أبي ، واُمَّه فاطمة بنت رسول الله خير من اُميِّ ، وجدَّه خيرٌ من جَدِّي ، وإنّه خيرٌ منِّي وأحقّ بهذا الأمر منِّي ، فأمّا قوله أبوه خيرٌ من أبي فقد حاجَّ أبي أباه إلى الله عزَّ وجلَّ وعلم النّاس أيّهما حكم له ، وأمّا قوله اُمّه خيرٌ من اُمّي فلَعمري إنّ فاطمة بنت رسول الله خيرٌ من اُمِّي ، وأمّا قوله جدّه خيرٌ من جدِّي ، فلَعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يرى أنّ لرسول الله فينا عدلاً ولا نِدّاً ، ولكنّه

٣٥٩

إنّما اُتي من قلَّة فقهه ولَم يقرأ : (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) وقوله تعالى : (... وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ...) (١).

الخربة

ولقد أحدثت هذه الخطبة هزّة في مجلس يزيد ، وراح الرجل يحدّث جليسه بالضلال الذي غمرهم وإنّهم في أي وادٍ يعمهون ، فلم يرَ يزيد مناصاً إلاّ أن يُخرج الحرم من المجلس إلى خربة لا تكنّهم من حرٍّ ولا برد ، فأقاموا فيها ينوحون على الحسين (عليه السّلام) (٤) ثلاثة أيّام (٥).

وفي بعض الأيّام خرج الإمام السّجاد (ع) منها يتروّح ، فلقيه المنهال بن عمر وقال له : كيف أمسيت يابن رسول الله؟ قال (ع) : «أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منها ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته مقتولين مشرّدين ، فإنّا لله وإنّا اليه راجعون» (٦).

قال المنهال : وبينا يكلّمني إذ امرأة خرجت خلفه تقول له : إلى أين يا نِعم الخلَف؟ فتركني وأسرع إليها ، فسألتُ عنها قيل : هذه عمّته زينب (٧).

إلى المدينة

لقد سرَّ يزيدَ قتلُ الحسين (ع) ومَن معه وسَبي حريم رسول الله (صلّى الله عليه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٦ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٩٥.

(٢) اللهوف ص ٢٠٧ ، وأمالي الصدوق ص ١٠١ المجلس الواحد والثلاثون.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٤. وهذه الخربة ـ أو فقل المحبس ـ كما جاء في ذيل مرآة الزمان لليونيني ٤ ص ١٤٦ ، حوادث (سنة ٦٨١ ـ) قال : في ليلة الأحد ، عاشر شهر رمضان ، احترقت سوق اللبادين بدمشق بكمالها وجسر الكتبيين ، والفوارة وسوق القماش المعروف بسوق عسا الله وسقاية جيرون ، ووصلت النّار إلى درب العجم وسط جيرون وجدار المسجد العمري الذي على درج بدرب الجامع الملاصق لسجن زين العابدين ....

(٤) مثير الأحزان لابن نما ص ٥٨ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٧٢.

(٥) الأنوار النّعمانيّة ص ٣٤٠.

٣٦٠