مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

روى أبو عبد الله الصادق (عليه السّلام) : «إنّ الحسين دخل على أخيه الحسن في مرضه الذي استشهد فيه فلمّا رأى ما به بكى ، فقال له الحسن : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال : أبكي لما صنع بك ، فقال الحسن (عليه السّلام) : إنّ الذي اُوتي إليَّ سمّ اُقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنّهم من اُمّة جدّنا محمّد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة ، وتمطر السّماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار» (١).

وكتب ابن زياد إلى ابن سعد : إنّي لَم أجعل لك علّة في كثرة الخيل والرجال ، فانظر لا تمسي ولا تصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية. وكان يستحثّه على الحرب لست خلون من المحرم (٢).

حشدت كتائبها على ابن محمّد

بالطَّف حيث تذكَّرت آباءها

الله أكبر يا رواسي هذه الأ

رض البسيطة زايلي ارجاءها

يلقى ابن منتجع الصلاح كتائباً

عقد ابن منتجع السّفاح لواءها

ما كان أوقحها صبيحة قابلت

بالبيض جبهته تريق دماءها

المشرعة

ما بلَّ أوجهها الحيا ولو أنّه

قطع الصفا بلَّ الحيا ملساءها

من أين تنجل أوجهٌ اُمويّةٌ

سكبت بلذّات الفجور حياءها

قهرت بني الزهراء في سلطانها

واستأصلت بصفاحها امراءها

ملكت عليها الأمر حتّى حرَّمت

في الأرض مطرح جنبها وثواءها

__________________

(١) أمالي الصدوق ص ٧١ المجلس الثلاثون ، وفي مطالب السؤول : إنّهم عشرون ألفاً. وفي هامش تذكرة الخواص : أنّهم مئة ألف. وفي تحفة الأزهار لابن شدقم : ثمانون ألفاً. وفي أسرار الشهادة ص ٢٣٧ : سنة آلاف فارس وألف ألف راجل. ولم يذكر أبو الفدا في تأريخه ٢ ص ١٩٠ : غير خروج ابن سعد في أربعة آلاف والحر في ألفين. وفي عمدة القارئ للعيني ٧ ص ٦٥٦ : كتاب المناقب كان جيش ابن زياد ألف فارس رئيسهم الحر ، وعلى مقدمتهم الحصين بن نمير.

(٢) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٠١ ، ومقتل محمّد بن أبي طالب.

٢٠١

ضاقت بها الدنيا فحيث توجَّهت

رأت الحتوف امامها ووراءها

فاستوطأت ظهر الحِمام وحوَّلت

للعزِّ عن ظهر الهوان وطاءها

طلعت ثنيّات الحتوف بعصبة

كان السيوف قضاءها ومضاءها

لقلبوبها امتحن الإله بموقف

محضته فيهِ صبرها وبلاءها

كانت سواعد آل بيت محمّد

وسيوف نجدتها على من ساءها

كره الحمام لقاءها في ضنكه

لكنْ أحبَّ الله فيه لقاءها

فثوت بأفئدة صواد لم تجد

رياً يبلُّ سوى الردى أحشاءها

وأراك تنشىء يا غمام على الورى

ظلا وتروي من حياك ظماءها

وقلوب أبناء النبي تفطَّرت

عطشاً بقفر ارمضت أشلاءها

وامضّ ما جرعت من الغصص التي

قدحت بجانحة الهدى ايراءها

هتك الطغاة على بنات محمّد

حجب النبوة خدرها وخباءها

فتنازعت احشاءها حرق الجوى

وتجاذبت أيدي العدوُّ رداءها

عجباً لحلم الله وهي بعينه

برزت تطيل عويلها وبكاءها

ويرى من الزفرات تجمع قلبها

بيد وتدفع في يد اعداءها

ما كان اوجعها لمهجة (أحمد)

وامضَّ في كبد (البتولة) داءها (١)

وأنزل ابن سعد الخيل على الفرات فحموا الماء وحالوا بينه وبين سيّد الشهداء ، ولَم يجد أصحاب الحسين طريقاً إلى الماء حتّى أضرّ بهم العطش ، فأخذ الحسين فأساً وخطا وراء خيمة النّساء تسع عشرة خطوة نحو القبلة وحفر فنبعت له عين ماء عذب ، فشربوا ثمّ غارت العين ولَم يرَ لها أثر ، فأرسل ابن زياد إلى ابن سعد : بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه فانظر إذا ورد عليك كتابي ، فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم غاية التضيّيق. فبعث في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ونزلوا على الشريعة (٢) ، وذلك قبل مقتل الحسين بثلاثة أيّام (٣).

__________________

(١) من قصيدة للسيّد حيدر الحلّي رضوان الله عليه.

(٢) نفس المهموم للمحدث القمي ص ١١٦ ، ومقتل الخوارزمي ١ ص ٢٤٤ ، ومقتل العوالم ص ٧٨.

(٣) الطبري ٦ ص ٢٣٤ ، وإرشاد المفيد ، ومقتل الخوارزمي الجزء الأول ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٢٢.

٢٠٢

اليوم السّابع

وفي اليوم السّابع اشتدّ الحصار على سيّد الشهداء ومَن معه ، وسُدّ عنهم باب الورود ونفد ما عندهم من الماء ، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش. وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة وتضور ونشيج ومتطلّب للماء إلى متحر له بما يبلّ غلّته وكلّ ذلك بعين أبي علي والغيارى من آله والأكارم من صحبه ، وماعسى أنْ يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة ، لكن ساقي العطاشى لَم يتطامن على تحملّ تلك الحالة.

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبصدر صعدته الفرات المفعم

ولَو استقى نهر المجرّة لارتقى

وطويل ذابله إليها سُلَّم

لَو سدَّ ذو القرنين دون وروده

نسَفَته همَّته بما هو أعظم

في كفِّه اليسرى السّقاء يقلّه

وبكفّه اليُمنى الحسام المخذم

مثل السّحابة للفواطم صوبه

فيصيب حاصبه العدو فيرجم (١)

هنا قيض أخاه العبّاس لهذه المهمّة ، في حين أنّ نفسه الكريمة تنازعه إليه قبل المطلب ، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية ، وضمّ إليه عشرين راجلاً مع عشرين قربة ، وقصدوا الفرات بالليل غير مبالين بمَن وُكِّل بحفظ الشريعة ؛ لأنّهم محتفون بأسد آل محمّد وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء ، فصاح عمرو بن الحَجّاج : مَن الرجل؟ قال : جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال : اشرب هنيئاً ولا تحمل إلى الحسين منه. قال نافع : لا والله ، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى.

وصاح نافع بأصحابه : املأوا أسقيتكم. فشدّ عليهم أصحاب ابن الحَجّاج فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل وحاميهم ابن بجدتها المتربّي في حجر البسالة الحيدريّة أبو الفضل ، فجاؤا بالماء. وليس في أعدائهم من تحدثه

__________________

(١) من قصيدة للسيّد جعفر الحلّي نوّر الله ضريحه.

٢٠٣

نفسه بالدنوّ منهم فرقاً من ذلك البطل المغوار ، فبلت غلة الحرائر والصبية الطيّبة من ذلك الماء (١).

ولكن لا يفوتنا أنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أن تجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين رجالاً ونساءً وأطفالاً أو أنّهم ينيفون على المئتين ، ومن المقطوع به أنّه لَم ترو أكبادهم إلاّ مرّة واحدة فسرعان أنْ عاد إليهم الظما ، وإلى الله ورسوله المشتكى.

إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر

فساقي عطاشي كربلاء أبو الفضل

على أنّ الناس في الحشر قلبه

مريع وهذا بالظلما قلبه يغلي

وقفتُ على ماء الفرات ولَم أزل

أقول له والقول يحسنه مثلي

علامك تجري لا جريت لوارد

وأدركت يوماً بعض عارك بالغسل

أما نشفت أكباد آل محمّد

لهيباً ولا ابتلَّت بعلٍّ ولا نهل

من الحقّ أنْ تذوي غصونك ذبّلا

أسىً وحياء من شفاههِمُ الذُبل

فقال استمع للقول إنْ كنت سامعاً

وكنْ قابلا عذري ولا تكثرنْ عذلي

ألا إنّ ذا دمعي الذي أنت ناظر

غداى جعلت النوح بعدهُمُ شغلي

برغمي أرى مائي يلذ سواهمُ

به وهم صرعي على عطش حولي

جزى الله عنهم في المواساة عمَّهم

أبا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لقد كان سيفاً صاغه بيمينه

عليّ فلم يحتج شباه إلى الصقل

إذا عدَّ ابناء النبيِّ محمّد

رآه أخاهم من رآه بلا فضل

ولم أرَ ظامٍ (٢) حوله الماء قبله

ولَم يرو منه وهو ذو مهجة تغلي

وما خطبه إلاّ الوفاء وقلَّ ما

يرى هكذا خلا وفيّاً مع الخلِّ

يميناً بيمناك القطيعة والتي

تسمى شمالاً وهي جامعة الشمل

بصبرك دون ابن النبيِّ بكربلا

على الهَول امر لا يحيط به عقلي

ووافاك لا يدري افقدك راعه

أم العرش غالته المقادير بالثل

__________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب. وعلى هذه الرواية يكون طلبهم للماء في السابع ، ولعلّه هو المنشأ في تخصيص ذكر العبّاس بيوم السابع. وفي أمالي الصدوق ص ٩٥ ، المجلس الثالث : أرسل الحسين بن علي ولده علياً الأكبر في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء.

(٢) كذا ورد في ديوان الشاعر أبي الحب.

٢٠٤

أخي كنتَ لي درعاً ونصلا كلاهما

فقدتُ فلا درعي لديَّ ولا نصلي (١)

غرور ابن سعد

وأرسل الحسين عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين ، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً ، وأمر الحسين مَن معه أنْ يتأخّر إلاّ العبّاس وابنه علياً الأكبر ، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه.

فقال الحسين : «يابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! فأنا ابن مَن قد علمتَ! ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟»

قال عمر : أخاف أنْ تهدم داري. قال الحسين : «أنا أبنيها لك». فقال : أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي. قال (عليه السّلام) : «أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز» (٢) ، ويروى أنّه قال لعمر : «أعطيك البغيبغة» ، وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير ، دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلَم يبعها منه (٣). فقال ابن سعد : إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل.

ولما أيس منه الحسين قام وهو يقول : «مالك ، ذبحك الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو أنْ لا تأكل من بَرّ العراق إلا يسيراً». قال ابن سعد مستهزءاً : في الشعير كفاية (٤).

وأول ما شاهده من غضب الله عليه ذهاب ولاية الري ، فإنّه لمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية الري ، فادّعى ابن سعد ضياعه ، فشدّد عليه باحضاره ، فقال له ابن سعد : تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذاراً منهن ، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحة لَو نصحتها أبي سعداً كنت قد أديت حقّه. فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله : صدق ، وددتُ أنّ في أنف كلّ

__________________

(١) للشيخ محسن أبو الحب الحائري رحمه الله.

(٢) مقتل العوالم ص ٧٨.

(٣) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٠٣.

(٤) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٠٣ ، ومقتل الخوارزمي ١ ص ٢٤٥.

٢٠٥

رجل من بني زياد خزامة إلى يوم القيامة وإنّ الحسين لَم يُقتل (١).

وكان من صنع المختار معه أنّه لمّا أعطاه الأمان ، استأجر نساء يبكين على الحسين ويجلسن على باب دار عمر بن سعد ، وكان هذا الفعل يلفت نظر المارّة إلى أنّ صاحب هذا الدار قاتل سيّد شباب أهل الجنّة ، فضجر ابن سعد من ذلك وكلّم المختار في رفعهن عن باب داره ، فقال المختار : ألا يستحقّ الحسين البكاء عليه (٢). ولمّا أراد أهل الكوفة أنْ يؤمّروا عليهم عمر بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية ؛ لينظروا في أمرهم ، جاءت نساء همدان وربيعة ، إلى الجامع الأعظم صارخات يقلن : ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أنْ يتأمّر. فبكى النّاس وأعرضوا عنه (٣).

افتراء ابن سعد

وافتعل ابن سعد علي أبي الضيم ما لَم يقله ، وكتب إلى ابن زياد زعماً منه أنّ فيه صلاح الاُمّة وجمال النظام فقال في كتابه : أمّا بعد فإنّ الله أطفأ النّائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة ، وهذا حسين أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور ، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا رضىً لكم وللاُمّة صلاح (٤).

وهيهات أنْ يكون ذلك الأبي ومَن علَّم النّاس الصبر على المكاره وملاقاة الحتوف ـ طوع ابن مرجانة ومنقاداً لابن آكلة الأكباد! أليس هو القائل لأخيه الأطرف : «والله لا أعطي الدنيّة من نفسي». ويقول لابن الحنفيّة : «لَو لَم يكن ملجأ لما بايعت يزيد». وقال لزرارة بن صالح : «إنّي أعلم علماً يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي ، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي». وقال لجعفر بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٨.

(٢) العقد الفريد ، باب نهضة المختار.

(٣) مروج الذهب ٢ ص ١٠٥ ، في أخبار يزيد.

(٤) الاتحاف بحبّ الأشراف ص ١٥ ، وتهذيب التهذيب ٢ ص ٢٥٣.

٢٠٦

سليمان الضبعي : «إنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي». وآخر قوله يوم الطف : «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة ، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة من أنْ تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وإنّ حديث عقبة بن سمعان يفسّر الحال التي كان عليها أبو عبد الله (عليه السّلام) ، قال : صحبت الحسين من المدينة إلى مكّة ومنها إلى مكّة ومنها إلى العراق ولَم اُفارقه حتّى قُتل ، وقد سمعت جميع كلامه فما سمعتُ منه ما يتذاكر فيه النّاس من أنْ يضع يده في يد يزيد ولا أنْ يسيره إلى ثغر من الثغور لا في المدينة ولا في مكّة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكره إلى حين قتله ، نعم سمعته يقول : «دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة» (١).

طغيان الشمر

ولمّا قرأ ابن زياد كتاب ابن سعد قال : هذا كتاب ناصح مشفق على قومه. وأراد أن يجيبه ، فقام الشمر (٢) ، وقال : أتقبل هذا منه بعد أنْ نزل بأرضك؟ والله ،

__________________

(١) الطبري ٦ ص ٢٣٥.

(٢) في البداية لابن كثير ج ٨ ص ١٨٨ كان الحسين يحدث أصحابه في كربلا بما قاله جده (صلّى الله عليه وآله) : كأني انظر إلى كلب ابقع يلغ في دماء أهل بيتي ولما رأى الشمر ابرص قال هو الذي يتولى قتلي! وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين ابرص. وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ ص ٤٤٩ كان شمر بن ذي الجوشن احد قتلة الحسين (عليه السلام) فليس للرواية بأصل ولما قيل له كيف اعنت على ابن فاطمة قال : ان امراءنا امرونا فلو خالفناهم كنا أشد من الحمر الشقاء قال الذهبي وهذا عذر قبيح فانما الطاعة في المعروف. وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٠٣ وما بعدها. طبع مصر : كان شمر بن ذي الجوشن مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين ، وخرج من أصحاب معاوية (أدهم بن محرز) يطلب المبارزة فخرج اليه شمر بن ذي الجوشن واختلفا بضربتين ، ضربه أدهم على جبينه فاسرع السيف حتى خالط العظم وضربه شمر فلم يصنع فيه شيئاً ، فرجع الشمر الى عسكره يشرب الماء واخذ رمحاً وقال :

(إني زعيم لاخي بأهلة

بطعنة ان لم امت عاجلة

وضربة تحت الوغى فاصلة

شبيهة بالقتل أو قاتله)

فحمل على أدهم وهو ثابت فطعنه فوقع عن فرسه وحمله أصحابه فانصرف شمر ...

وفي نفح الطيب للمقريزي ج ٢ ص ١٤٣ مطبعة ١ عيسى البابي مطبوعات دار المأمون ان الصميل بن حاتم بن الشمر بن ذي الجوشن كان رأس المضرية متحاملاً على اليمانية (وهذه العبارة واردة في طبعة بيروت ج ١ ص ٢٢٢

٢٠٧

لئن رحل من بلادك ولَم يضع يده في يدك ليكونّن أولى بالقوّة وتكون أولى بالضعف والوهن ، فاستصوب رأيه وكتب إلى ابن سعد : أمّا بعد ، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السّلامة ولا لتكون له عندي شفيعاً ، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي ، فابعث بهم إليَّ سِلماً. وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقّون ، فإنْ قُتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره ، ولستُ أرى أنّه يُضرّ بعد الموت ، ولكن على قول قلته : لَو قتلتُه لفعلتُ هذا به. فإنْ أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع ، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بذلك (١).

فلمّا جاء الشمر بالكتاب ، قال له ابن سعد : ويلك لا قرب الله دارك ، وقبّح الله ما جئت به ، وإنّي لأظنّ أنّك الذي نهيته وافسدت علينا أمراً رجونا أنْ يصلح ، والله لا يستسلم حسين فانّ نفس أبيه بين جنبَيه.

فقال الشمر : أخبرني ما أنت صانع ، أتمضي لأمر أميرك؟ وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر. قال له عمر : أنا أتولّي ذلك ، ولا كرامة لك ، ولكن كن أنت على الرجّالة (٢).

__________________

تحقيق محمد محيي الدين).

وفي حاشية الكتاب ، كان حاتم بن الشمر مع أبيه في الكوفة ولما قتل المختار شمر بن ذي الجوشن هرب ابنه الى قنسرين. وفي ص ١٤٥ ذكر ان الصميل كان والياً على سر قسطة ثم فارقها وتولى على طليطلة. وفي كتاب الحلة السيراء لابن الأبار ج ١ ص ٦٧ لما ظهر المختار بالكوفة فر الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين بن علي الى الشام بأهله وولده ، فاقام بها في عز ومنعة ، وقيل قتله المختار وفر ولده إلى ان خرج كلثوم بن عياض القشيري غازياً الى المغرب ، فكان الصميل ممن ضرب عليه البعث في اشراف أهل الشام ودخل الأندلس في طاعة بلج بن بشر وهو الذي قام بأمر المضرية في الاندلس عندما أظهر أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي العصبية لليمانية ومات الصميل في سجن عبد الرحمن بن معاوية سنة ١٤٢ وكان شاعراً. وفي تاريخ علماء الاندلس لابن الفوطي ج ١ ص ٢٣٤ باب الشين ، شمر بن ذي الجوشن الكلاعي من أهل الكوفة هو الذي قدم برأس الحسين (عليه السلام) على يزيد بن معاوية ولما ظهر المختار هرب بعياله منه ثم خرج كلثوم بن عياض غازياً المغرب ودخل الى الاندلس في طالعة بلج ، وهو جد الصميل بن حاتم بن شمر القيسي صاحب الفهرى اهـ والاصح ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال ٢٩٦ ان شمر بن ذي الجوشن قتله أصحاب المختار بالمذار وبعث برأسه الى محمد ابن الحنفية وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن ابرص وفي تاريخ الطبري ج ٧ ص ١٢٢ وكامل ابن الاثير ج ٤ ص ٩٢ حوادث سنة ٦٥ كان الشمر ابرص يرى بياض برصه على كشحه.

(١) ابن الأثير ٤ ص ٢٣.

(٢) الطبري ٦ ص ٢٣٦.

٢٠٨

الأمان

وصاح الشمر بأعلى صوته : أين بنو اُختنا (١)؟ أين العبّاس وإخوته؟ ، فأعرضوا عنه ، فقال الحسين : «أجيبوه ولَو كان فاسقاً» ، قالوا : ما شأنك وما تريد؟ قال : يا بني اُختي أنتم آمنون ، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين ، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال العبّاس : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له (٢) ، وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء (٣).

أيظنّ هذا الجلف الجافي أن يستهوي رجل الغيرة والحميّة إلى الخسف والهوان ، فيستبدل أبو الفضل الظلمة بالنور ، ويدع عَلَم النبوّة وينضوي إلى راية ابن ميسون؟! كلاّ.

ولمّا رجع العبّاس ، قام إليه زهير بن القين وقال : اُحدّثك بحديث وعيته؟ قال : بلى ، فقال : لمّا أراد أبوك أن يتزوّج ، طلب من أخيه عقيل ـ وكان عارفاً بأنساب العرب ـ أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب ؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً شجاعاً ينصر الحسين بكربلاء ، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم ، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك.

فقال العبّاس : أتشجّعني يا زهير في مثل هذا اليوم؟! والله لأرينّك شيئاً ما رأيتَه (٤) ، فجدّل أبطالاً ونكس رايات في حالة لَم يكن من همّه القتال ولا مجالدة الأبطال ، بل همّه إيصال الماء إلى عيال أخيه.

__________________

(١) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ٢٦١ و ٢٦٥ قال : أولاد كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر ، أحد عشر ولداً منهم ؛ كعب ، والضباب. فمن ولد كعب بنو الوحيد الذين منهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد كانت تحت علي بن أبي طالب فولدت له محمداً الأصغر وعثمان وجعفر والعبّاس ، وفي صفحة ٢٧٠ ذكر بني الضباب فقال : منهم الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين واسم ذي الجوشن جميل بن الأعور عمرو بن معاوية وهو الضاب. ومن ولده الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ساد بالاندس وله بها عقب ونزالتهم بالخشيل من شوذر من عمل جيّان.

وفي العقد الفريد ٢ ص ٨٣ عند ذكر مذحج قال : الضباب في بني الحارث بن كعب مفتوحة الضاد وفي بني عامر بن صعصعة مسكورة وحيث أنّ الشمر من بني عامر بن صعصعة يكون الضباب بكسر الضاد.

(٢) تذكرة الخواص ص ١٤٢ : حكاه عن جده أبي الفرج في المنتظم وإعلام الورى ص ٢٨.

(٣) ابن نما ص ٢٨.

(٤) أسرار الشهادة ص ٣٨٧.

٢٠٩

يمثل الكرّار في كرّاته

بل في المعاني الغرّ من صفاته

ليس يد الله سوى أبيه

وقدرة الله تجلَّت فيه

فهو يد الله وهذا ساعده

تغنيك عن إثباته مشاهده

صولته عند النزال صولته

لولا الغلوُّ قلت جلت قدرته (١)

بنو أسد

واستأذن حبيب بن مظاهر من الحسين أنْ يأتي بني أسد وكانوا نزولاً بالقرب منهم فأذِن له ، ولمّا أتاهم وانتسب لهم عرفوه ، فطلب منهم نصرة ابن بنت رسول الله فإنّ معه شرف الدنيا والآخرة ، فأجابه تسعون رجلاً ، وخرج من الحي رجل أخبر ابن سعد بما صاروا إليه ، فضمّ إلى الأزرق أربعمئة رجل وعارضوا النّفر في الطريق واقتتلوا ، فقُتل جماعة من بني أسد وفرّ مَن سلِم منهم إلى الحي فارتحلوا جميعاً في جَوف الليل خوفاً من ابن سعد أنْ يبغتهم ، ورجع حبيب إلى الحسين وأخبره ، فقال : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم» (٢).

اليوم التاسع

ونهض ابن سعد عشيّة الخميس لتسع خلون من المحرّم ، ونادى في عسكره بالزحف نحو الحسين ، وكان (عليه السّلام) جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه ، وخفق برأسه فرأى رسول الله يقول : انّك صائر إلينا عن قريب. وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها : قد اقترب العدوّ منّا.

فقال لأخيه العبّاس : «اركب بنفسي أنت (٣) حتّى تلقاهم ، واسألهم عمّا

__________________

(١) للحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين الاصفهاني قدس سره.

(٢) البحار عن مقتل محمّد بن أبي طالب الحائري ، ومقتل الخوارزمي ١ ص ٢٤٣.

(٣) الطبري ٦ ص ١٣٧ ، وروضة الواعظين ص ١٥٧ ، والارشاد للمفيد ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٧٦.

غير خاف ما في هذه الكلمة الذهبية من مغزى دقيق ، ترى الفكر يسف عن مداه وأنّى له أن يحلق إلى ذروة الحقيقة من ذات طاهرة تُفتدى بنفس الإمام علّة الكائنات والفيض الأقدس للممكنات.

٢١٠

جاءهم وما الذي يريدون؟» ، فركب العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهير وحبيب ، وسألهم عن ذلك قالوا : جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم النّزول على حكمه ، أو ننازلكم الحرب.

فانصرف العبّاس (ع) يُخبر الحسين بذلك ، ووقف أصحابه يعظون القوم. فقال لهم حبيب بن مظاهر : أما والله لبئس القوم عند الله غداً ، قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته وأهل بيته وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيراً. فقال له عزرة بن قيس : إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت.

فقال زهير : يا عزرة ، إنّ الله قد زكّاها وهداها فاتّق الله يا عزرة ، فإنّي لك من النّاصحين ، اُنشدك الله يا عزرة أنْ لا تكون ممَّن يعين أهل الضلالة على قتل النّفوس الزكيّة.

ثمّ قال عزرة : يا زهير ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنّما كنتَ على غير رأيهم. قال زهير : أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم ، أما والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولا وعدته نصرتي ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله ومكانه منه ، وعرفتُ ما يقدم عليه عدوّه ، فرأيت أنْ أنصره وأن أكون من حزبه وأجعل نفسي دون نفسه ؛ لما ضيّعتم من حقّ رسوله.

وأعلم العبّاس أخاه أباعبد الله بما عليه القوم فقال (ع) : «ارجع إليهم ، واستمهلهم هذه العشيّة إلى غد ، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو

__________________

نعم ، عرفها البصير الناقد بعد أنْ جربها بمحك النزاهة فوجدها مشبوبة بجنسها ثمّ أطلق عليها تلك الكلمة الغالية ، ولا يعرف الفضل إلاّ أهله.

ولا يذهب بك الوهم أيّها القارئ إلى القول بعدم الأهميّة في هذه الكلمة بعد قول الإمام (ع) في زيارة الشهداء من زيارة وارث : «بأبي أنتم واُمّي ، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم» ؛ لأنّ الإمام (ع) في هذه الزيارة لَم يكن هو المخاطب لهم وانّما هو (عليه السّلام) في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يخاطبهم بذلك ، فإنّ الرواية تنصّ كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي أنّ صفوان استأذن الصادق في زيارة الحسين وأنْ يعرّفه ما يقوله ويعمل عليه فقال له : «يا صفوان ، صم قبل خروجك ثلاثة أيّام ـ إلى أنْ قال ـ : ثمّ إذا أتيت الحائر فقُل : الله أكبر ـ ثمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال ـ : ثمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلَي علي بن الحسين وتوجّه إلى الشهداء وقُل : السّلام عليكم يا أولياء الله ...» إلى آخرها.

فالإمام الصادق (ع) في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على الشهداء ذلك ، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّه (عليه السّلام) كيف يقول لو أراد السّلام على الشهداء.

٢١١

يعلم أنّي اُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».

فرجع العبّاس واستمهلهم العشيّة. فتوقّف ابن سعد وسأل من النّاس فقال عمرو بن الحَجّاج : سبحان الله! لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليه. وقال قيس بن الأشعث : أجبهم إلى ما سألوك ، فلَعمري ليستقبلك بالقتال غدوة. فقال ابن سعد : والله لو أعلم أنّه يفعل ما أخّرتهم العشية. ثمّ بعث إلى الحسين : إنّا أجّلناكم إلى غد ، فإنْ استسلمتم سرحنا بكم إلى الأمير ابن زياد ، وإنْ أبيتم فلسنا تاركيكم (١).

ضلّت اُميّة ماتر

يد غداة مقترع النصول

رامت تسوق المصعب

الهدار مستاق الذليل

ويروح طوع يمينها

قود الجنيب أبو الشبول

رامت لعمرو ابْن النبي

الطُّهر ممتنع الحصول

وتيمَّمت قصد المحال

فما رعت غير المحول

ورنت على السغب السرا

ب بأعين في المجد حول

وغوى بها جهل بها

والبغي من خلق الجهول (٢)

الضمائر الحرّة

وجمع الحسين أصحابه قرب المساء قبل مقتله بليلة (٣) فقال : «اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً ، ولَم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً (٤).

__________________

(١) الطبري ٦ ص ٣٣٧.

(٢) للكعبي رحمه الله.

(٣) اثبات الرجعة للفضل بن شاذان ، هكذا عرفه وهو بالغيبة أنسب فانّه لو يوجد فيه من أخبار الرجعة إلا حديث واحد.

(٤) الطبري ٦ ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٣٤.

٢١٢

وقد أخبرني جدّي رسول الله (ص) بأنّي ساُساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء ، وفيها اُستشهد. وقد قرب الموعد.(١)

ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإنّي قد أذِنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ، فإنّ القوم إنّما يطلبونني ، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري».

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي وتابعه الهاشميّون.

والتفت الحسين إلى بني عقيل وقال : «حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذِنت لكم». فقالوا : إذاً ما يقول النّاس ، وما نقول لهم؟ أنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام؟! ولَمْ نرمِ معهم بسهم ولَمْ نطعن برمح ولَمْ نضرب بسيف ، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله لا نفعل ، ولكن نفيدك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، نقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك (٢).

نفوس أبت إلاّ تراب أبيهم

فهم بين موتور لذاك وواتر

لقد ألفت أرواحهم حومة الوغى

كما أنست أقدامهم بالمنابر (٣)

وقال مسلم بن عوسجة : أنحن نخلّي عنك؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله ، لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لَمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.

وقال سعيد بن عبدالله الحنفي : والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد

__________________

(١) إثبات الرجعة.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٣٨ ، والكامل ٤ ص ٢٤ ، والإرشاد للمفيد ، وإعلام الورى ص ١٤١ ، وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ ص ٢٠٢.

(٣) مثير الأحزان لابن نما ص ١٧.

٢١٣

حفظنا غيبة رسوله فيك ، أما والله لو علمتُ أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ، لَما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

وقال زهير بن القين : والله وددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف مرّة ، وإنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضاً فجزّاهم الحسين خيراً (١).

وفي هذا الحال قيل لمحمد بن بشير الحضرمي قد اُسِر ابنك بثغر الري فقال : ما اُحبّ أنْ يؤسر وأنا أبقى بعده حيّاً فقال له الحسين : «أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ولدك» ، قال : لا والله لا أفعل ذلك ، أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك. فقال (عليه السّلام) : «إذاً اعط ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل في فكاك أخيه» ـ وكان قيمتها ألف دينار ـ (٢).

وتناديت للذبّ عنه عصبة

ورثوا المعالي اشيباً وشبابا

من ينتدبهم للكريهة ينتدب

منهم ضراغمة الاسود غضابا

خفّوا لداعي الحرب حين دعاهم

ورسوا بعرصة كربلاء هضابا

اسد قد اتخذوا الصوارم حلية

وتسربلوا حلق الدروع ثيابا

تخذت عيونهم القساطل كحلها

واكفُّهم فيض النجيع خضابا

يتمايلون كأنّما غنى لهم

وقع الظّبي وسقاهم اكوابا

برقت سيوفهم فأمطرت الطّلي

بدمائها والنقع ثار سحابا

وكأنّهم مستقبلون كواعباً

مستقبلين أسنّة وكعابا

وجدوا الردى من دون آل محمّد

عذباً وبعدهم الحياة عذابا (٣)

ولمّا عرف الحسين منهم صدق النيّة والإخلاص في المفاداة دونه ، أوقفهم على غامض القضاء فقال : «إنّي غداً اُقتل وكلّكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (٤)

__________________

(١) إرشاد المفيد وتاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٣٩.

(٢) اللهوف ص ٥٣.

(٣) للعلامة السيد رضا الهندي رحمه الله.

(٤) نفس المهموم ص ١٢٢.

٢١٤

حتّى القاسم وعبد الله الرضيع ، إلاّ ولدي علياً زين العابدين ؛ لأنّ الله لَمْ يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية» (١).

فقالوا بأجمعهم الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك ، أولا نرضى أنْ نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟ ، فدعا لهم بالخير (٢) ، وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرّفهم منازلهم فيها (٣) ، وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز ، ولا في تصرّفات الإمام بغريب ، فإنّ سحرة فرعون لمّا آمنوا بموسى (ع) وأراد فرعون قتلهم أراهم النّبي موسى منازلهم في الجنّة (٤).

وفي حديث أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) قال لأصحابه : «أبشروا بالجنّة ، فوالله إنّا نمكث ماشاء الله بعد ما يجري علينا ثمّ يخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين ، وأنا وأنتم نشاهدهم في السّلاسل والأغلال وأنواع العذاب» فقيل له : من قائمكم يابن رسول الله؟ قال : «السّابع من ولد ابني محمّد بن علي الباقر وهو الحُجّة ابن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي ، ابني وهو الذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً» (٥).

ليلة عاشوراء

كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرّت على أهل بيت الرسالة ، حُفّت بالمكاره والمحن وأعقبت الشرّ وآذنت بالخطر وقد قطعت عنهم الحالة القاسية من بني اُميّة وأتباعهم كلّ الوسائل الحيويّة وهناك ولولة النساء وصارخ الاطفال من العطش المبرح والهم المدلهم.

إذاً فما حال رجال المجد من الأصحاب وسروات الشرف من بني هاشم

__________________

(١) أسرار الشهادة.

(٢) نفس المهموم ص ١٢٢.

(٣) الخرايج للراوندي.

(٤) أخبار الزمان للمسعودي ص ٢٤٧.

(٥) إثبات الرجعة.

٢١٥

بين هذه الكوارث ، فهل أبقت لهم مهجة ينهضون بها أو أنفساً تعالج الحياة والحرب في غد؟!

نعم كانت ضراغمة آل عبد المطّلب والصفوة من الأصحاب عندئذ في أبهج حالة وأثبت جأش ، فرحين بما يلاقونه من نعيم وحبور ، وكلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً بين ابتسامة ومداعبة إلى فرح ونشاط.

ومذ أخذت في نينوى منهم النوى

ولاح بها للغدر بعض العلائم

غدا ضاحكا هذا وذا متبسّماً

سروراً وما ثغر المنون بباسم

هازل برير عبد الرحمن الأنصاري ، فقال له عبد الرحمن : ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير : لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ، ولكنّي مستبشر بما نحن لا قون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، ولوددتُ أنّهم مالوا علينا السّاعة (١).

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك ، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني : ما هذه ساعة ضحك. قال حبيب : وأي موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور (٢).

تجري الطلاقة في بهاء وجوههم

أنْ قطبت فرقاً وجوه كماتها

وتطلّعت بدجى القتام أهلَّة

لكن ظهور الخيل من هالاتها

فتدافعت مشي النزيف إلى الردى

حتّى كأنَّ الموت من نشواتها

وتعانقت هي والسّيوف وبعد ذا

ملكت عناق الحور في جنّاتها (٣)

فكأنّهم نشطوا من عقال ، بين مباشرة للعبادة ، وتأهّب للقتال ، لهم دوي كدويّ النّحل ، بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

قال الضحّاك بن عبد الله المشرقي : مرّت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسين (ع) يقرأ (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤١.

(٢) رجال الكشي ص ٥٣ ، طبعة الهند.

(٣) للعلامة السيّد محمّد حسين الكيشوان رحمه الله.

٢١٦

فقال الرجل نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم.

قال له برير : يا فاسق ، أنت يجعلك الله في الطيّبين؟! هلمّ إلينا وتُب من ذنوبك العظام ، فوالله لنحن الطيّبون وأنتم الخبيثون. فقال الرجل مستهزئاً : وأنا على ذلك من الشاهدين (١).

ويقال : أنّه في هذه الليلة انضاف إلى أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً (٢) حين رأوهم متبتّلين متهجدين عليهم سيماء الطاعة والخضوع لله تعالى.

قال علي بن الحسين : «سمعتُ أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها يقول ، وهو يصلح سيفه :

يا دهر اُفٍّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

مِنْ صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وانّما الأمر إلى الجليل

وكلّ حيٍّ سالك سبيل

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، ففهمتُها وعرفتُ ما أراد وخنقتني العبرة ، ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب لمّا سمعتْ ذلك وثبتْ تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه وقالت : وآثكلاه! ليتَ الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي عليٌ وأخي الحسن (٣) ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فعزّاها الحسين وصبَّرها وفيما قال : يا اُختاه تعزّي بعزاء الله واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأهل السّماء لا يبقون وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله اُسوة حسنة.

فقالت (عليها السّلام) : افتغصب نفسك اغتصاباً ، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٠ ، الطبعة الاُولى.

(٢) اللهوف ، وتاريخ اليعقوبي ٢ ص ٢١٧ ، طبعة النجف ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ ص ٢١٠.

(٣) تايخ الطبري ٤ ص ٢٤٠ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٢٤ ، ومقتل الخوارزمي ١ ص ٢٣٨ ، الفصل الحادي عشر ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج ص ٤٥ ، طبعة ايران.

(٤) اللهوف.

٢١٧

وبكت النّسوة معها ولطمن الخدود ، وصاحت اُمّ كلثوم : وآ محمداه! وآ علياه! وآ اُمّاه! وآ حسيناه! وآ ضيعتنا بعدك!

فقال الحسين : يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، يا فاطمة ، يا رباب ، انظرْنَ اذا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً» (١). ثمّ إنّ الحسين أوصى اُخته زينب بأخذ الأحكام من علي بن الحسين (ع) وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه. وبذلك يحدِّث أحمد بن إبراهيم قال : دخلتُ على حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا ، اُخت أبي الحسن العسكري (ع) سنة ٢٨٢ بالمدينة ، وكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها ، فسمّت من تأتمّ بهم ، وقالت : فلان بن الحسن. قلت : معاينةً أو خبراً؟ قالت : خبر عن أبي محمّد (ع) كتب به إلى اُمّه. قلت لها : أقتدي بمَن وصيّته إلى امرأة؟! قالت : اقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فإنّه أوصى إلى اُخته زينب في الظاهر ، فكان ما يخرج من علي بن الحسين (ع) من علم ينسب إلى زينب ؛ ستراً على علي بن الحسين (ع). ثمّ قالت : إنّكم قوم أخبار ، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه في الحياة؟. إكمال الدين للصدوق ص ٢٧٥ ، باب ٤٩ ، طبع حجر أول.

ثمّ إنّه (عليه السّلام) أمر أصحابه أنْ يقاربوا البيوت بعضها من بعض ؛ ليستقبلوا القوم من وجه واحد. وأمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب ويلقى عليه النّار إذا قاتلهم العدو ؛ كيلا تقتحمه الخيل ، فيكون القتال من وجه واحد (٢).

وخرج (عليه السّلام) في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات ، فتبعه نافع بن هلال الجملي ، فسأله الحسين عمّا أخرجه قال : يابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي ، فقال الحسين : «إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي ؛ مخافة أنْ تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون». ثمّ رجع (عليه السّلام) وهو قابض على يد نافع ويقول : «هي هي والله ، وعد لا خلف فيه».

ثمّ قال له : «ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟»

__________________

(١) الإرشاد.

(٢) تاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٤٠.

٢١٨

فوقع نافع على قدمَيه يقبّلهما ويقول : ثكلتني اُمّي ، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله ، فوالله الذي مَنّ بك عليَّ ، لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فرّي وجرّي.

ثمّ دخل الحسين (ع) خيمة زينب ، ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له : هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أنْ يسلّموك عند الوثبة.

فقال لها : «والله ، لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس ، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب اُمّه».

قال نافع : فلمّا سمعتُ هذا منه ، بكيتُ وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن اُخته زينب.

قال حبيب : والله ، لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة. قلت : إنّي خلّفته عند اُخته وأظنّ النّساء أفقن وشاركنها في الحسرة ، فهل لك أنْ تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهن؟ فقام حبيب ونادى : يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة. فتطالعوا من مضاربهم كالاُسود الضارية ، فقال لبني هاشم : ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم.

ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع ، فقالوا بأجمعهم : والله الذي مَنّ علينا هذا الموقف ، لو لا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا السّاعة ، فطب نفساً وقر عيناً. فجزّاهم خيراً.

وقال هلمّوا معي لنواجه النّسوة ونطيّب خاطرهنّ ، فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح : يا معشر حرائر رسول الله ، هذه صوارم فتيانكم آلَوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب مَن يريد السّوء فيكم ، وهذه أسنّة غلمانكم أقسَموا ألاّ يركزوها إلاّ في صدور مَن يفرّق ناديكم.

فخرجن النّساء إليهم ببكاء وعويل وقلن : أيّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين.

فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم (١).

__________________

(١) الدمعة الساكبة ص ٣٢٥ ، وتكرّر في كلامه (هلال بن نافع) وهو اشتباه فإنّ المضبوط (نافع بن هلال) كما في زيارة الناحية ، وتاريخ الطبري ، وكامل ابن الأثير.

٢١٩

وفي السّحر من هذه الليلة خفق الحسين خفقة ثمّ استيقظ وأخبر أصحابه بأنّه رأى في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه وأشدّها عليه كلب أبقع ، وإنّ الذي يتولّى قتله من هؤلاء رجل أبرص.

وإنّه رأى رسول الله (ص) بعد ذلك ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له : «أنت شهيد هذه الاُمّة ، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى وليكن افطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر ، فهذا ملك قد نزل من السّماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء» (١).

وانصاع حامية الشريعة ظامئاً

ما بلَّ غلَّته بعذب فراتها

أضحى وقد جعلته آل اُميّة

شبح السهام رميَّة لرماتها

حتّى قضى عطشاً بمعترك الوغى

والسمر تصدر منه في نهلاتها

وجرت خيول الشرك فوق ضلوعه

عدواً تجول عليه في حلباتها

ومخدَّرات من عقائل أحمد

هجمت عليها الخيل في أبياتها

من ثاكل حرّى الفؤاد مروعة

أضحت تجاذبها العدى حبراتها

ويتمية فزعت لجسم كفيلها

حسرى القناع تعجُّ في أصواتها

أهوت على جسم الحسين وقلبها

المصدوع كاد يذوب من حسراتها

وقعت عليه تشمُّ موضع

نحره وعيونها تنهلُّ في عبراتها

ترتاع من ضرب السّياط فتنثني

تدعو سرايا قومها وحماتها

أين الحفاظ وفي الطّفوف دماؤكم

سُفكت بسيف اُميّة وقناتها

أين الحفاظ وهذه أشلاؤكم

بقيت ثلاثاً في هجير فلاتها

أين الحفاظ وهذه أبناؤكم

ذُبحت عطاشى في ثرى عرصاتها

أين الحفاظ وهذه فتياتكم

حُملت على الأقتاب بين عداتها

حملت برغم الدين وهي ثواكل

عبرى تردّد بالشّجى زفراتها

فمَن المعزِّي بعد أحمد فاطماً

في قتل أبناها وسبي بناتها (٢)

__________________

(١) نفس المهموم ص ١٢٥ ، عن الصدوق.

(٢) للعلامة السيد محمّد حسين الكيشوان ترجمته في شعراء الغري ٨ ص ٣.

٢٢٠