مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

ابن عبّاس إلى الخوارج بالنهروان فرجع بعضهم إلى الطاعة (١).

وحديث مناظرة ابن عبّاس مع الخوارج مذكور في آخر خصائص أمير المؤمنين للنسائي / ٤٨.

وقال الشهاب الخفاجي ، المتوفّى سنة (١١٠٠) هـ : حديث النّبي (ص) : «تقتل عمّار الفئة الباغية» ، وقد قتله أصحاب معاوية وكان مع عليّ (ع) بصفّين ، وهو صريح في أنّ الخليفة هو عليّ (ع) ، وأنّ معاوية مخطئ في اجتهاده. والباغية من البغي : وهو الخروج بغير حقّ على الإمام. وفي الحديث عنه (صلّى الله عليه وآله) : «إذا اختلف الناس ، كان ابن سميّة مع الحقّ». وابن سميّة : هو عمّار ، كان مع علي (ع). وهذا هو الذي ندين الله به ، وهو أنّ علياً كرّم الله وجهه على الحقِّ ، ومجتهد مصيب في عدم تسليم قتلة عثمان (٢).

وقال الشوكاني ، المتوفى سنة (١٢٥٥) هـ : في حديث أبي سعيد عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) : «تكون اُمّتي فرقتين ، يخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحقّ» دلالة على أنّ علياً (ع) ومَن معه هم المحقّون ، ومعاوية ومَن معه هم المبطلون (٣).

وحكى أبو الثناء الآلوسي المفسّر عن بعض الحنابلة : التصريح بوجوب قتال الباغين ؛ لأنّ علياً (ع) اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد ، فهو إذاً أفضل من الجهاد. ثمّ ذكر ندم عبد الله بن عمر على تركه المشاركة مع علي (ع) في قتال الباغين ، ولمْ يتعقّبه الآلوسي بشيء (٤). وقال محمّد كرد علي : ما خالف علي في البراءة من قتلة عثمان ، وقد كان قتلته من أكثر القبائل ، وكانوا عدداً ضخماً لا طاقة لعليّ عليهم. ومن المتعذّر عليه أن يسلّمهم أو بعضهم ؛ وهم عضده ولو كان يعرفهم بأعيانهم. وقد وقعت المسألة على غير رضاه ، وليس من مصلحته أن يستهدف لغضب عشائر كثيرة تقوم بنصرته اليوم. وكان علي (ع) يحلف بالله أن بني اُميّة لو أرادوا منه أن يأتيهم بخمسين

__________________

(١) تحفة المحتاج ٤ ص ١١٠ ، ١١٢.

(٢) شرح الشفا ٢ ص ١٦٦ ط سنة ص ١٣٢٦.

(٣) نيل الاوطار للشوكاني ٧ ص ١٣٨.

(٤) روح المعاني ٢٦ ص ١٥١ ط مصر.

٨١

غلاماً من بني هاشم يحلفون بالله أنّه ما قتل عثمان ولا مالأ عليه (١).

هذه نصوص علماء السنّة في أحقية علي (ع) بالخلافة من غيره ، وأن الخارج عليه باغ يستحق القتال حتّى يثوب إلى الحقِّ ؛ ولذا كان خيار الصحابة والتابعين معه ، ومنهم اُويس القرني ، فإنّه كان في الرجّالة يوم صفين (٢).

وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ما وجدت في نفسي من شيءٍ ؛ مثل ما وجدت أني لم اُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى. وكان يحدّث بما أخبر به النبي (ص) : أن أبن سميّة عمّاراً تقتله الفئة الباغية ، وأن البُغاة على الإمام علي (ع) هم : معاوية وأصحابه. ولمّا سئل عن المشاركة مع علي بن أبي طالب يوم صفين ؛ اعتذر بما لا يجديه يوم فصل الخطاب ، فقال : إني لم أضرب بالسيف ، ولم أطعن بالرمح ، ولكن رسول الله (ص) قال : «أطع أباك» فأطعته (٣).

هذا هو التمويه والخداع! كيف يسوّغ التذرع عن مخالفة الحقِّ بحمل كلام النبي (ص) على غير حقيقته؟ أتجوّز الشريعة حمل الحديث على وجوب طاعة الأب حتّى إذا استلزمت ترك الفرائض ، أو ارتكاب المحرمات؟ كلا ، إن طاعة الإمام الذي تمّت له البيعة ، كانت مفروضة في أعناق المسلمين ، لا مناص للامّة حينئذ إلا الخضوع له ، ووجوب امتثال أمره فيما يدعوهم إليه. ولا طاعة للأبوين في قبال طاعة الإمام (ع) ؛ ولعل قوله تعالى : (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا) شامل لذلك ، فإن المراد من الشرك المنهي عنه : الكناية عن ترك الإنقياد لله سبحانه ، ويدخل فيه الإعراض عن طاعة النبي (ص) والإمام الذي تمت له البيعة في أعناق المسلمين ؛ ولذلك كانت عائشة تتم في سفرها إلى البصرة في قتال علي (ع) ، فإن القصر عندها إنما يكون في سفر طاعة (٤).

إنّ الشريعة المقدسة أوجبت على إمام الاُمّة إقامة الحُجّة على كلِّ مَن عانده ،

__________________

(١) الاسلام والحضارة العربية ٢ ص ٣٨٠.

(٢) عمدة القارئ للعيني ١١ ص ٣٤٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) نيل الاوطار ٢ ص ١٧٩ صلاة المسافر ـ باب من اجتاز في بلد فتزوّج فيها.

٨٢

وخرج عن طاعته ، بتذكير آلاء الله تعالى المتتابعة على العباد مع ما هم عليه من التمرد والطغيان.

ثمّ يعرّفهم بأن الدنيا الزائلة لا تعود على المنهمك فيها إلا بالخسران ، إذ لعل بالمواعظ القدسية ، وتلاوة الآيات المحكمة ، يستنير من أعمته الشهوات ؛ فيبصر سبيل الرشاد ، ويلمس الحقيقة الناصعة.

ولقد سار أمير المؤمنين (ع) على هذه الخطّة التي سنّها قانون الإسلام في أيامه الثلاثة ، بعد الهتاف بأصحابه ألا يتعدوا مقررات الشريعة ، ومنها : عدم الأستعجال في القتال حتّى تكون الفرقة المقابلة لهم هي العادية بقتال المؤمنين ؛ لتثبت الحُجّة على البادي بالظلم (١).

وقد أكثر سلام الله عليه وعلى أبنائه المعصومين ، من وعظ أهل الجمل وصفين والنهروان ؛ كي لا يبقى لأحد عذر يوم نشر الصحف ، وتُدحض حجة كلِّ مَن بلغته دعوته وأصر على الخلاف والعناد ، فاستضاء بأنوار إرشاداته مَن هداه الله إلى الإيمان ، وضلّ مَن ضلّ عن سبيل الحقِّ.

الحسين يوم الطفّ

وعلى هذه السنن مشى أبو عبد الله الحسين (ع) يوم الطفّ ، فلم يبدأ القوم بقتال مهما رأى من أعدائه التكاتف على الضلال ، والمقابلة له بكلِّ ما لديهم من حول وطول حتّى منعوه وعياله وصحبه من الماء ، الذي لم يزل صاحب الشريعة (ص) يجاهر بأنّ الناس في الماء والكلأ شرع سواء ؛ لأنّه (ع) أراد إقامة الحُجّة عليهم. فوقف في ذلك الملأ المغمور بالأضاليل ، ونادى بحيث يعي الجماهير حُجّته ، فعرَّفهم أولاً ، خسارة هذه الدنيا الفانية لمَن تقلّب فيها ، فلا تعود عليهم إلا بالخيبة. ثمّ تراجع ثانية إلى التعريف بمنزلته من نبيّ الإسلام ، وشهادته له ولأخيه المجتبى (عليهما السّلام) بأنهما سيّدا شباب أهل الجنة. وناهيك بشهادة مَن لا ينطق عن الهوى ، وكان محبوّاً بالوحي الإلهي أنْ تؤخذ ميزاناً للتمييز بين الحقِّ والباطل. وفي الثالثة ، عرَّفهم أنّه يؤدّي كلَّ ما لهم عنده من مال وحرمات. وفي الرابعة ، نشر المصحف

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ ص ٣٠٤ في وصاياه (ع).

٨٣

الكريم على رأسه ، ودعاهم إلى حُكمه. وحتّى إذا لم تجدِ هذه النصائح القيّمة فيهم ، ووضح لديه إصرارهم على الغيِّ والعناد لله تعالى ولرسوله (ص) ، كشف السّتار عن الإباء العلوي ، الذي انحنت عليه أضالعه ، ورفع الحجاب عن الأنفة التي كان أبناء علي (ع) يتدارسونها ليلاً ونهاراً ، وتلهج بباب أنديتهم ، فقال صلوات الله عليه :

«ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة. يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجورٌ طابت وطهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد ، وخذلان الناصر».

كيف يلوي على الدنية جِيدا

لسوى الله ما لواه الخضوعُ

ولديه جأش أردُّ من الدرعِ

لظمأى القنا وهنَّ شروعُ

وبه يرجع الحفاظ لصدرٍ

ضاقت الأرض وهي فيه تضيعُ

فأبى أن يعيش إلا عزيزا

أو تجلّى الكفاح وهو صريعُ (١)

هذه وصايا الشريعة المطهّرة ، وأحكامها الباتّة في الدعوة إلى الحقِّ ، والنّهضة لسدِّ باب الباطل. وكما ألزمت جهاد المضلّين المشركين أباحت ترك الجهاد للصبي ، والمقعد ، والأعمى ، والشيخ الكبير ، والمرأة ، والبالغ الذي لم يأذن له أبواه. لكن مشهد (الطفِّ) خرق ناموسها الأكبر ، وجاز تلك المقررات جرياً على المصالح والأسرار التي قصرت عنها أحلام البشر ، وقد تلقّاها أبيّ الضَيم (عليه السّلام) من جدّه المنقذ الأكبر ، وأبيه الوصي المقدَّم.

فالحسين (ع) لم يشرِّع سُنّة اُخرى في الجهاد ، وإنّما هو درسٌ إلهيّ أثبته اللوح الأقدس في عالم الإبداع ، محدد الظرف والمكان ، تلقّاه الأمين جبرئيل (ع) وأفاضه على حبيب الله وصفيه محمّد (ص) ، فأودعه صاحب الدعوة الإلهية عند ولده سيد الشهداء (ع).

فكلُّ ما يُشاهَد في ذلك المشهد الدامي من الغرائب التي تنحسر عن الوصول إلى كنهها عقول الرجال ؛ فهو ممّا آثر المولى سبحانه به وليّه وحجّته أبا عبد الله الحسين (ع).

__________________

(١) من قصيدة في الحسين (ع) للسيد حيدر الحلّي رحمه الله.

٨٤

وعلى هذه السُّنن مشى شهيد الكوفة مسلم بن عقيل ، المُميّز في العلم والعمل ، ووفور العقل ، والملكات القدسية ، كما يقتضيها تأهّله للولاية والنّيابة عن الإمام الحُجّة (ع). وقد كابد من شدّة الظمأ ما يجوِّز له شرب النجس ، ولكن ابن عقيل كقمر الهاشميين رضيعا لبن واحد ، وخريجا مدرسة الإمامة والعصمة ، فحازا أرقى شهادة في الإخلاص بالمفاداة دون الدِّين الحنيف ، من أئمّة معصومين جعلتهما القدوة في الأعمال الصالحة. فكما أنّ مسلماً لم يذق الماء حتّى لفظ نفسه الأخير ، لم تسمح نفس أبي الفضل في الورود ، حين زلزل الصفوف عن مراكزها حتّى ملك الماء وحده ، وقد علم بعطش سيّد الشهداء (ع) ، وحرائر المصطفى (ص) ، والصبية الفاطميّة. فلم تجوّز له الشريعة التي تلقّاها من أبيه الوصي ، وأخويه الإمامين «إن قاما وإن قعدا» (١) على حدّ تعبير النبي (ص) ، الريَّ من ذلك المعين ؛ تداركاً لنفس حجّة الوقت ولو في آن يسير. غير أنّ المحتوم عاقه عن بلوغ الاُمنية :

لم يذُق الفرات اُسوة به

مُيمماً بمائه نحو الخِبا

لم يرَ في الدين يبلّ غلّة

وصنوه فيه الظّما قد ألهبا

لذاك قد أسنده لدينه

وعن يقينٍ فيه لن يضطربا

هذا من الشرع يرى فعلتَه

ومن صراط أحمدٍ ما ارتكبا

ومثله الحسين لمّا ملك ال

ماءَ فقيل رحله قد نُهبا

أمَّ الخيام نافضاً لمائه

إذ عظم الأمر به واعصوصبا

فكان للعبّاس فيه اُسوةٌ

إذ فاض شهماً غير مفلول الشبا (٢)

لقد نهض أبو عبد الله الحسين (ع) بذلك الجمع النزر ، المؤلّف من شيوخ وصبية ورضّع ونساء ، مع العلم بأن مقابليه لا يرقبون فيه إلاً ولا ذمة. قادمين على استئصال شأفة النبي (ص) في أهله وذويه ، لكن سياسة (شهيد الطفّ) ـ التي لا يُدرك مداها ، وتنحسر العقول عن تفسير مغزاها ـ عرَّفت الأجيال الواقفين على هذه الملحمة ـ التي لم يأت الدهر بمثلها ـ بأعمال هؤلاء الجبابرة ، الذين لم يُسلم أسلافهم حين أظهروه إلا فرقاً من سيف الإسلام. وقد أصاب أبو عبد الله (ع)

__________________

(١) كشف الغمة للأربلي ص ١٥٩ في أحوال الحسين (ع).

(٢) للحجة الميرز محمّد علي الغروي الأردوبادي.

٨٥

شاكلة الغرض يوم تقشّعت سحب الأوهام بأنوار نهضته الوضيئة ، وهتاف حرمه الذي بلبل الأفكار ، وأقلق الأدمغة حتّى راحت الأندية تلهج بما احتقبه هؤلاء الطغاة ومَن قبلهم ، من الشنار والعار.

الرخصة في المفارقة

وعلى هذا النّهج القويم تكون مصارحة سيّد الشهداء بكلمته الثمينة ، البعيدة المغزى ، الحكيمة الأساس ، المتضمنة تجويزه لأهل بيته وصحبته بمفارقته.

ونص ما يتحدث به المؤرخون عن ذلك ؛ قوله (عليه السّلام) لأهل بيته وصحبه عشيّة التاسع من المحرم : «إنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني جميعاً. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء غداً ، وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً. وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم ؛ فإن القوم إنما يطلبوني ، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري» (١).

ما أجلّ مغزاك يا أبيَّ الضيم! وما أسمى ما ترمي إليه يا سيّد الشهداء! وما أحكم أقوالك وأفعالك يا روح النبوّة! بلى إنّ هذه الجملة الذهبيّة كتبت بأحرف نوريّة على جبهة الدهر : إنّ اُولئك الصفوة الميامين ـ الذين وصفهم أمير المؤمنين (ع) بأنّهم سادة الشهداء ، وأنّهم لم يسبقهم سابق ، ولا يلحقهم لاحق (٢) ـ زبدة العالم ، ونخبة الكون. وقد استضأنا من تلك الإشعاعات طوايا نيّاتهم ؛ من الحزم والثبات ، والإخلاص في المفاداة ، والتضحية القدسيّة ، وفي كلّ ذلك دروس راقية لمَن يريد اقتصاص أثر اُولئك الاُباة في الترفّع عن الدنايا ، والموت تحت راية العزم ، وعدم الخضوع للسّلطة الغاشمة ، إمّا ظفر بالأمنية ، أو فوز بالشهادة والسّعادة.

ولولا تلك الرخصة بالمفارقة الصادرة من أمين الشرع والشريعة ، وتلك

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٣٨ ، الكامل في التاريخ ٤ ص ٢٤ ، البداية والنهاية ٨ ص ١٧٨ وقد ذكر اذنه بالمفارقة ، وإصرار أصحابه وأهل بيته على المفاداة. ورواه الفضل بن شاذان النيسابوري في (اثبات الرجعة) عن أبي جعفر (ع) ، ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد ، والطبرسي في إعلام الورى ، والفتّال النيسابوري في روضة الواعظين ، وذكره الخوارزمي في المقتل ١ ص ٢٤٦.

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه ص ٩٧٠ ـ ٩٩٩.

٨٦

الكلمات التي أباحتها نفوسهم الطاهرة ، لما أمكن للأجيال معرفة مبلغهم من العلم واليقين ، وتفاضلهم في الملكات ، وطموحهم إلى أبعد الغايات السامية ، والثبات على المبدأ بإخلاص وبصيرة.

فسيّد الشهداء أراد بذلك اختبار نفوسهم ـ والإختبار من الحكيم العالم بما كان ويكون ، لا يحطُّ من علمه ووقوفه على الخفايا بعد أن كانت الغاية الملحوظة له ثمينة ، والمقصد سام. وهو الذي أشرنا إليه من التعريف بملكات أصحابه ، وأهل بيته (عليهم السّلام) ـ ولا غرابة في هذا الإختيار بعد أن صدر مثله من (فاطر الأكوان) جلّ شأنه ، الذي لا يغادر علمه صغيراً ولا كبيراً ؛ فيأمر خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وهو لا يريده ، مع العلم بطاعة رسوله الخليل ، وثبات نبيّه إسماعيل ، لولا المصلحة التي يعلمها ربّ العالمين وإن انحسرت عن إدراكها العقول. وقصّة الأقرع ، والأبرص ، والأعمى تشهد بأنّ الله تعالى إنّما أراد بالإنعام عليهم ؛ التعريف لمن يقف على قصّتهم بلزوم الشكر على الإنعام ، وإنّ الكفران عاقبته الخسران (١).

وأبو عبد الله (ع) أراد بهذا الإختبار ؛ تعريف الأجيال مبوّأ أهل بيته وصحبه من الشرف ، والعزِّ ، وطهارة أعراقهم ، وخضوعهم لما فيه مرضاة الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

إنّ العلم بمبلغ أي رجل في العالم من الطهارة ، والثبات على المبدأ ، والطاعة للأصلح المرضي للمولى تعالى ، لا يحصل إلا بأقواله المشفوعة بالعمل الصحيح ، أو بشهادة مَن له الوقوف على حركاته وسكناته. ولم يخفَ على كلّ أحد قصور التأريخ الذي بأيدينا ، عن كثير من أعمال الرجال الصالحين ، الذين بذلوا كلَّ ما لديهم من جاه وحرمات في سبيل تأييد الشريعة الحقّة ، ولم يحمل التأريخ شيئاً من أعمال اُولئك الصفوة (شهداء كربلاء) ؛ لنتشوَّف منه قداسة ضمائرهم ، وخلوص نيّاتهم ، وتزكية تفوسهم ، غير ذلك المشهد الدامي. ولولا تلك الأقوال التي صارح بها أصحابُ الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته ، حينما أبدى لهم الرخصة في مفارقته ، وأباح لهم تخليهم عنه مع القوم الذين تجمهروا عليه ، لما عرفنا تفاضلهم في الملكات ، وتفاوتهم في النظرات البعيدة الغور ، والفضيلة التي لمْ يستوفها البشر

__________________

(١) صحيح البخاري كتاب الأنبياء ـ باب الأقرع والأبرص ٤ ص ١٤٦ وفتح الباري ٦ ص ٣٢٣ في هذا الباب.

٨٧

والعلم نور يقذفه الله تعالى في قلب مَن يشاء من عباده ، مع التفاوت شدّةً وضعفاً.

فهذا مسلم بن عوسجة الأسدي ، لم يكشف التأريخ عن أعماله الخالدة ، ومزاياه الصالحة بقليل ولا كثير ، غير كلمة شبث بن ربعي : أنّه غزا مع المسلمين (آذربيجان) وقتل ستّة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين. وما عسى أن يعرف منها القارئ إلا مدى ولائه الأكيد لخلفاء النّبي (ص) ، وعدم تغيّره بتطوّر الزمن وملابسات الأحوال ، ولكنّ قوله للحسين (ع) : أنحن نخليِّ عنك ولمّا نعذر إلى الله تعالى في أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقابلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.

أفادنا بصيرة بثبات الرجل على المبدأ في آخر مرحلة من مراحل الوجود ، وأنّه لا يهمه في سبيل مرضاة الله تعالى ورسوله كلّ ما يلاقيه من آلام وجروح دامية. وقد شفّع هذا القول بالجهود في العمل حين استقبل السيوف والرماح بصدره ونحره ، كما لم يقتنع بهذا حتّى أوصى حبيب بن مظاهر الأسدي ـ ذلك الذي استفاد علم المنايا والملاحم من أمير المؤمنين (ع) ـ بنصرة الحسين (عليه السّلام) ؛ ولأنّه لا يعذر عند رسول الله (ص) بالتقصير في حقّه وهو في آخر رمق من الحياة ، وفاضت نفسه الغالية على هذه العقيدة والطاعة (١).

وتابعه في إخلاص الولاء والمفاداة سعيد بن عبد الله الحنفي ، إذ يقول : والله لا نخلِّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك ، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ أُذرَّى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!.

فوقف دون أبي عبد الله (ع) ، ونصح في الذّب عنه ، ولمْ يقنعه ما أصابه من الجروح الدامية ، حين استُهدف لأعداء الله تعالى دون الحسين (عليه السّلام) وهو

__________________

(١) يذكرني هذا التفاني دون ابن بنت المصطفى اعتذار سعد بن أبي وقّاص لمّا طلب منه أمير المؤمنين (ع) نصرته ، فقال : إني أكره الخروج في هذه الحرب فاصيب مؤمناً إلا أن تعطيني سيفاً يعرف المؤمن من الكافر!!. كتاب الجمل للشيخ المفيد ص ٥٩ ط ٢.

٨٨

يصلّي الظهر في حومة الميدان حتّى استفهم من أبيِّ الضيم : أنّه أدّى أجر الرسالة ، ووفي بما أوجبه الله عليه ؛ فيموت جذلاً برضى الربِّ تعالى ، أم هو التقصير فالخيبة والخسران؟ فطمأنه أبو عبد الله (ع) بنيل السّعادة بالشهادة ، ولقاء الرسول (ص) قبله.

وما إن فرغ من خطابه حتّى قام زهير بن القين البجلي ، يتلو على مسامع الأجيال تعاليم راقيةً في الدعوة إلى الدين ، أعقبت له الخلود إلى الأبد. فيقول للحسين (ع) : والله لوددت أنّي قُتلت ، ثمّ نُشرت ، ثمّ قتلت حتّى اُقتل على هذه ألف مرّة ، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

لا شك قي قبول الطاعة من العبد لو كان ما يأتي به من الأعمال بلحاظ الربح يوم الخلود ، ولكن هناك ما هو أبعد غوراً وأسمى قصداً ، وهو طاعة أهل اليقين الذين لا يهمهم في أداء ما وجب عليهم ؛ إلا كون المولى سبحانه أهلاً للعبادة. وزهير هذا هو وعاء اليقين والإيمان الخالص ، أقرأنا في هذا الموقف نظراته البعيدة ، وعقائده الحقّة ، وغاياته السّامية من حفظ شخص الإمامة الواجبة من قبل الله تعالى ، والنّفوس العزيزة لرسول الله (ص). وإنّه لا يريد بعبادته لله تعالى في جهاد أعدائه ، ثواب الآخرة ، والمجازات على الجهود يوم تقسّم الاُجور على الصالحات ، وإنّما أراد بهذه العبادة دفع اليد العادية عمّا يسوء شخص الرسالة الممتزجة بشخصيّة حُجّة الوقت على حدّ تعبير النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنها.

«حسين منّي ، وأنا من حسين» (١). فإنّ صاحب الشريعة لم يرد بهذا التعبير تعريف الاُمّة بكون شهيد الطفِّ بضعة منه ؛ لما فيه من الركاكة التي يأباها كلام سيّد البلغاء ، لإنّ كلّ ولد بضعة من أبيه فلا امتياز للحسين (ع) ، ولكنه أراد (ص) بهذه الجملة الذهبيّة ، الإشارة إلى ما ينوء به سيّد الشهداء من توطيد اُسس

__________________

(١) رواه من الامامية السيد المرتضى في أماليه ١ ص ١٥٧ المجلس الخامس عشر ، وابن قولويه في كامل الزيارات ص ٥٣. ومن أهل السنة الترمذي في جامعه في مناقب الحسين (ع) ، والحاكم في المستدرك ٣ ص ١٧٧ ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ١٤ ص ١٤٩ ، وابن حجر في مجمع الزوائد ٩ ص ١٨١ ، والهيثمي في الصواعق المحرقة ص ١١٥ حديث ٢٣ ، والبخاري في الأدب المفرد ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٧ ص ١٠٧ وغيرهم الكثير.

٨٩

الإسلام ، وكسح أشواك الباطل عن صراط شريعة العدل ، وتنبيه الاُمم على جرائم أعمال مَن يعبث بقداسة الدِّين. فكما أنّ النّبي (ص) أول ناهض لنشر الدعوة الإلهيّة ، يكون الحسين آخر ناهض لتثبيت دعامتها :

قد أصبح الدينُ منه شاكياً سقماً

وما إلى أحدٍ غيرِ الحسين شكا

فما رأى السبط للدين الحنيف شفا

إلا إذا دمه في كربلا سُفكا

وما سمعنا عليلاً لا دواء له

إلا بنفس مداويه إذا هلكا

بقتله فاح للإسلام نشرُ هدىً

فكلّما ذكرته المسلمون ذكا (١)

ولولا هذه المصارحة من (ابن القين) ، لَما أمكننا استطلاع ما اختبأ بين جوانحه من الولاء الأكيد لِمَن وجبت لهم العصمة من المهيمن سبحانه ، وقيّضهم أعلاماً لعباده وحفظة لشرعه ، مع أنّ التاريخ لم يسجّل له غير الموالاة (لعثمان بن عفّان) ، ومقت ابن الرسول الأطهر (ع).

أمّا موقف عابس بن أبي شبيب الشاكري يوم البيعة لمسلم بن عقيل بالكوفة ، ويوم الطفِّ ، فيفسِّر فضله الكثير ، وعقيدته الراسخة بمحبّة أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإنّه لا يهمّه في سبيل حفظ الإمام (ع) ـ ولو في بعض الأناة ـ إزهاق نفسه ، وبذل كلِّ ما لديه من نفيس. فيقول لمسلم بن عقيل حينما شاهد تلك النفوس الخائنة متداكة على البيعة له : إني لا اُخبرك عن الناس ، ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم. ووالله إني اُحدثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه ؛ والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولاُقاتلنّ معكم عدوّكم ، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا اُريد بذلك إلا ما عند الله (٢).

ففسّر بهذه الكلمة الموجزة نوايا القوم وخور عزائمهم ، وأنّهم مجبولون على الغدر والنّفاق ومتابعة الأهواء ، وأنّهم لم يرقهم المكاشفة في الميل عنه ؛ لئلا يعود ذلك فتّاً في عضد البيعة الواهية ، ومثاراً للإحن. فأجملوا القول وهم ينتظرون نواجم العاقبة ، وإلا فلم لم يحصل لمسلم بن عقيل الواحد من هؤلاء الآلاف مَن يدلّه على الطريق يوم اظلمت عليه الآفاق ، فلم يدرِ إلى أين يتوجّه؟!.

__________________

(١) من قصيدة في الحسين (ع) للسيد جعفر الحلي طبعت في ديوانه.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ١٩٩.

٩٠

ثمّ يقول ابن أبي شبيب للحسين (ع) يوم الطفِّ : ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ علي منك ، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعزّ عليَّ من نفسي لفعلت (١).

بلى يابن أبي شبيب ، إنّ الرجال المخلصين لله تعالى ، المتفانين في خدمته لا يرون الوجود إلا متلاشي الأطراف ، والبقاء الأبدي بنصرة الإمام علّة الكائنات ومدار الموجودات.

ثمّ يقوم نافع بن هلال فيقول : والله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، إنّا على نيّاتنا وبصائرنا ؛ نوالي من والاك ونعادي من عاداك. ويتكلّم أصحابه بما يشبه ذلك.

ولمّا أذِن (عليه السّلام) لأهل بيته بالإنصراف قالوا بأجمعهم بصوت واحد : أنفعل ذلك لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً ، ثمّ التفت إلى بني عقيل وقال : «حسبكم من القتل بمسلم ، قد أذِنتُ لكم». فانطلقت ألسنتهم تعبّر عمّا أضمر في جوانحهم من النصرة للدِّين ، والذبِّ عن شخص الإمام الحُجّة (ع) ، فقالوا : إذَن ما نقول للناس؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولمْ نرمِ معهم بسهم ، ولمْ نطعن برمح ، ولمْ نضرب بسيف؟ لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ؛ نقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.

إنّ هذه المفاداة في ذلك المأزق الحرج ، الذي تقطّعت فيه خطوط المدد ، وسدّ دونهم باب الورود المباح للحيوانات ، تكشف عن بلوغهم أسمى صفات الكمال ، وتجرّدهم عن عوارض الدنيا الفانية. ولو كانوا يحملون أقلّ شيء من الرغبة في البقاء والتبلغ في هذا الوجود ؛ لاتّخذوا الإذن بالمفارقة ذريعة يتذرّعون بها يوم الحساب ، ولكنّ هذه النّفوس التي فطرها ربّ العالمين من طينة القداسة ، وامتزجت بنور اليقين لا ترغب في البقاء إلا أن تحقّ الحقّ ، أو تبطل الباطل. وهل تستمرئ العيش وهي تعلم ما يلاقيه فلذة كبد الرسول (ص) ، ومهجة الإسلام من الجروح الدامية ، والأوام المبرح :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٤.

٩١

نفوس أبتْ إلا ترات أبيهُمُ

فهم بين موتور لذاك وواترِ

لقد ألفت أرواحُهمْ حومة الوغى

كما أنِست أقدامهم بالمنابرِ (١)

وفي هذا الحين اُنهيَ إلى محمّد بن بشير الحضرمي خبر أسر ابنه بثغر الرّي ، فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما اُحبّ أنْ يؤسر وأبقى بعده. فلمّا سمع الحسين (ع) هذا منه أذِن له بالمفارقة ، وحلّ عقد البيعة ؛ ليعمل في فكاك ابنه. فلمّا سمع ذلك من سيّد الشهداء ثارت به حمية الدين ، وحفّزه الولاء الصادق إلى إظهار عقيدته الراسخة في التفاني دون شخص الإمام (ع) ، فقال : يا أبا عبد الله ، أكلتني السّباع حياً إن فارقتك.

إنّ الإيمان الثابت ، والطاعة لله تعالى وللرسول (ص) يرفعان مَن تمكّنا فيه إلى أوج العظمة ، وفوق مستوى الفضيلة. ولو كان ابن بشير متزلزل العقيدة ؛ لاغتنم فرصة الإذْن بالإنصراف عذراً عند المولى سبحانه وعند الناس.

إنّ (الشهامة الحسينيّة) لم تترك لصاحبها منتدحاً دون المجاهرة بالإفراج عن العبد الأسود (جون مولى أبي ذر الغفاري) ؛ لئلا يقيّده الحياء عن الفرار. ولكن سيّد الشهداء (ع) ، بعد أن عرف صبره ، وثباته عند الهزاهز أراد بامتحانه ؛ تعريف المتجمهرين عليه ، ومَن يأتي من الاُمم نفسيّة هذا العبد الأسود ، ومبلغ موقفه في الذبِّ عن الشريعة ـ التي تلاعبت بها أيدي الخائنين ـ مهما تفاقم الخطب ، وتراكمت الأهوال. فأباح له حلَّ العهد والنّجاة بنفسه ، فقال له : «يا جون ، إنّما تبعتنا طلباً للعافية ، فلا تبتل بطريقتنا». فعندها تسابقت دموعه ؛ خوفاً من عدم التوفيق لنيل السّعادة الخالدة ، وقد مزجها بقوله الذي لمْ يزل رجع صداه في مسامع الأجيال ، معرفاً بنجاح الصابر عند الهزاهز (وإنّما الراحة بعد العنا).

فقال : أنا في الرخاء ألحَس قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم! إن ريحي لنتن ، وحسبي لئيم ، ولوني أسود فتنفس عليَّ بالجنة ؛ ليطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضّ لوني. لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم (٢).

ولولا هذه المصارحة من الحسين (ع) ، لما تسنّى لكلّ أحد الوقوف على

__________________

(١) مثير الأحزان لابن نما ص ٣٨.

(٢) الملهوف على قتلى الطفوف ص ٦١ ط صيدا.

٩٢

طهارة ضمير هذا العبد ونواياه الحسنة. وإنَّ ثباته على القتل ، بعد الإفراج والإذن بالمفارقة يخبر عن عقيدة راسخة.

الخلاصة

إنّ حفظ شخص الإمام (ع) كحفظ شخص النّبي (ص) مما يلزم به العقل والشرع ، ولا يسع كلّ أحد التخلّف عنه وتركه ومَن يريد استئصاله ، بل الواجب بذل النّفس والنّفيس دونه ؛ ليدرأ بذلك العدوان عن نفس الإمام الذي هو حياة الوجود وبقاء الكون. كما يجب على الإمام (ع) الدعوة إلى نصرته والدفاع عنه ، مع العلم بأنّ الموافق له قادم على إزهاق نفسه القدسيّة ، وأنّه لا ندحة له عن دفع الموت ، فيجوز له عدم إلزام أي أحد بالدفاع عنه ؛ لخلوّه عن الفائدة.

والحسين (ع) كان عالماً بما يجري عليه من أعدائه ، وعدٌ لا خلف فيه ، وقضاء غير مردود ، كما أنبأ اُمّ سلمة بقوله : «إنْ لمْ أخرج اليوم خرجتُ في غد ، وإنْ لمْ أخرج في غد فبعد غد. وهل من الموت بُدّ! أتظنين أنّك تعلمين ما لمْ أعلمه؟».

إذاً فلا يجب عليه إلزام الغير بالدفاع عنه. نعم ، لا يسقط التكليف عمّن فقد العلم بالمقدّرات الإلهيّة من البشر في القيام بالدفاع عن شخص الإمام الحُجّة ، ولا يُعذر مَن يبصر حصار القوم لمَن أهَّله الله تعالى خليفة على العباد ، وقطعهم خطوط المدد عنه ، وسدّ باب الورود عليه ، فلم ينهض لردِّ العادية عنه ؛ كي لا يخلص إليه ما يزهق نفسه القدسيّة. ولا يقبل الله تعالى حجّة مَن ينظر هذا الحال ، ثمّ يتقاعس عن النّصرة وإنْ اعصوصب الأمر وتفاقم الخطب ، أللهم إلا أنْ يأذن حُجّة الزمن بمفارقته ، وتخليته مع أعدائه ؛ لكونه العالم بالمصالح تعليماً من لدن حكيم عليم ، تعالى شأنه. وحينئذ لا يلزم العقل ، ولا الشرع بالبقاء معه والدفاع عنه ، ولا يكون مَن يفارقه متعدياً على مقررات الشريعة ، ويصحّ له العذر ـ يوم نشر الصحف ـ بترخيص الإمام (ع) في ترك نصرته. ولا يكون الإمام مجازفاً لو أباح للغير إفراده وأعداءه ، وحلّ عقدة العهد ، بعد التسليم بأنّه لا يتخطّى المصالح الواقعيّة قيد شعرة. هذا ما يقتضيه تكليف الإمام. وأمّا تكليف المأذون بالإنصراف ، فإنّه إذا لم يشاهد استغاثة الإمام واستنصاره ، فلا تبعة عليه ولا مسؤوليّة. وأمّا مع مشاهدته حيرة الإمام ، وتتابع استغاثته ، فلا يسوغ له ترك النّصرة ؛ للقطع بأنّه في هذا الحال

٩٣

بحاجة ماسّة إلى الذبّ عنه ، فلا يُقبل منه العذر يوم الحساب.

وإن كلمة أبي عبد الله (ع) لعبيد الله بن الحرّ الجعفي ، يوم اجتمع معه في قصر بني مقاتل لمّا استنصره فأبى عليه ، قال له الحسين (ع) : «إنّي أنصحك إنْ استطعت أنْ لا تسمع واعيتنا وصراخنا ، ولا تشهد وقعتنا فافعل ؛ فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلا أكبّه الله على منخريه في نار جهنّم» ، تؤيّد ما سجّلناه من دحض حُجّة مَن يسمع استغاثة الإمام ثمّ لا ينصره. وأمّا مَن لمْ يسمع الواعية ، وقد أباح له المفارقة ، فهو معذور.

فالضحّاك بن عبد الله المشرقي لا يُعذر يوم الحساب ؛ لأنّ استنصار الحسين (ع) في مسامعه ، ويراه مكثوراً ، فالواجب عليه الدفاع إلى آخر نفس يلفظه.

وهذا الرجل جاء إلى الحسين (ع) قبل اشتباك الحرب ، وقال له : إني اُقاتل معك ما رأيت معك مقاتلاً ، فإذا لم أرَ أحداً ، فأنا في حلّ؟. فقال له الحسين (ع) : «نعم». فخبّأ فرسه في بعض الأبنية لمّا رأى خيل أصحاب الحسين (ع) تُعقر ، وصار يقاتل راجلاً. ولمّا بقي الحسين (ع) وحده قال له الضحّاك : إني على الشرط؟ ، قال : «نعم ، أنت في حلٍّ إن قدرت على النجاة». فأخرج فرسه من الفسطاط وركبها وغار على القوم فأفرجوا له ، وتبعه خمسة عشر رجلاً ، فانتهى إلى (شفية) ، ولحقه القوم وعرفه أيوب بن مشرح الخيواني ، وكثيّر بن عبد الله الشعبي ، وقيس بن عبد الله الصائدي ، وقالوا لإخوانهم : هذا ابن عمّنا ، ننشدكم الله لما كففتم عنه ، فنجا منهم (٢). وقول الحسين (ع) : «أنت في حلٍّ» لا يكون عذراً له يوم الحساب ؛ لأنّ أبا عبد الله (ع) لا يسعه أنْ يقول له : إصبر على القتل ، وهو يعرف مقام الإصرار على الذهاب. والمولى سبحانه لا يعذره يوم الحشر ؛ لأنّه يسمع استنصار (أبيِّ الضيم) ، ومَن يسمع الاستغاثة ولا ينصره ، أكبّه الله على وجهه في النّار.

بقاء الشريعة بالحسين

لقد كانت نهضة الحسين (ع) الجزء الأخير من العلّة التامّة لاستحكام عروش

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٥.

٩٤

الدِّين ؛ حيث إنّها فرّقت بين دعوة الحقِّ والباطل ، وميّزت أحد الفريقين عن الآخر حتّى قيل : إنّ الإسلام بدؤه محمديّ وبقاءه حسينيّ ؛ ولذلك لمْ يجد أئمّة الهدى وسيلة لنشر أمرهم في الإصلاح ، ونفوذ كلمتهم في إحياء شرع جدّهم الأقدس (ص) إلا لفت الأنظار إلى هذه النّهضة الكريمة ، لمّا اشتملت عليه من فجائع تفطر الصخر الأصم ، ويشيب لها فود الطفل ، ويذوب الفؤاد. فطفقوا (عليهم السّلام) يحثّون الاُمّة على تأييدها ، والقيام بذكر ما لاقاه شهيد الإصلاح من القسوة والإضطهاد ، وإعلام الاُمّة بما حدث في تلكم المشاهد الدمويّة من مظلوميّة الحسين وأهله وذويه (ع) ؛ لأنّهم صلوات الله عليهم علموا أن في إظهار مظلوميّته مجلبة للعواطف ، واسترقاقاً للأفئدة. فبطبع الحال ، يتحرّى السامع لتلكم الفجائع الوقوف على مكانة هذا المضطهد ، وأسباب ما ارتُكب منه من أعمال قاسية.

وطبعاً يعلم أن سبط النبوّة إمام عدل لم يرضخ للدنايا ، ولم يصخ إلى دعوة المبطلين ، وأن إمامته موروثة له من جدّه (ص) وأبيه (الوصي) (ع) ، وأنّ من ناواه لا يملك من منصّة الخلافة موضع قدمه ، وكذا كلّ مَن حذا حذوه وذهب على شاكلته.

وإذا عرف السّامع هذا ، وعلِم أنّ الحقَّ كلَّه في جانب الحسين ومن خلفه من أئمّة الدِّين (عليهم السّلام) ، لمْ تدع له عقليته إلا السّير معهم ، واعتناق طريقتهم المثلى ؛ وبذلك تتوطد اُسس السّلام والوئام.

لقد أقعدت السّلطة الغاشمة من بني اُميّة وبني العبّاس أهل البيت (عليهم السّلام) في دورهم ، وأوصدت عليهم أبواب الإجتماع بشيعتهم ، فلاقوا منهم ضروب الأذى والتنكيل ؛ فآثروا العزلة على الخروج بالسّيف في وجه دعاة الباطل ، مع ما يشاهدونه من تمادي اُولئك في الطغيان ، وظلم شيعة أمير المؤمنين (ع) وأبنائه ، وتتبعهم تحت كلّ حجر ومدر ، وإبادتهم العلويين من جديد الأرض. وكان بمرأى منهم بناء المنصور والرشيد الإسطوانات على ذريّة فاطمة (عليها السّلام) ، ظلماً وعدوانا (١).

ولكن لم يفُتْهم الجهاد الأكبر بتحريض شيعتهم على عقد المحافل (٢) لذكر

__________________

(١) عيون أخبار الرضا (ع) ٢ ص ١٠٢.

(٢) عقد المحافل للتذكير بتلك الفاجعة المؤلمة لا يقتصر فيه على ذكرها في البيوت فقط ، فإنه خلاف إطلاق الأخبار. ففي أمالي الصدوق ص ١٣١ عن الرضا (ع) : «مَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى ، لم تبك عينه يوم تبكي العيون». وفي

٩٥

حادثة الطفِّ الخالدة وتواصل الإستياء ؛ لِما هنالك من فجائع ومصائب ، وإسبال الدموع لكارثتها المؤلمة. وأكثروا من بيان فضل ذلك إلى حدٍّ بعيد ؛ لأنّهم علموا أنّ هذا هو العامل القوي في إبقاء الرابطة الدينيّة ، التي لأجلها لاقى أمير المؤمنين (ع) ما لاقاه ، وأصاب ولده الحسن (ع) ما أصابه. ومصاب الحسين (ع) يدكدك الجبال الرواسي.

فكان أهل البيت (عليهم السّلام) يتحرون أساليب مختلفة من البيان ، توجب توجيه النّفوس نحو التذكارات الحسينيّة ؛ لِما لها من العلاقة التامّة لحفظ المذهب عن الإندراس ، فعبّروا عنها بالعموم تارة ، وبالخصوص اُخرى. يقول الإمام الصادق (ع) : «رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكرا في أمرنا ، فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما. وما اجتمع إثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة ، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر ، فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم احياءنا ، وخير النّاس من بعدنا مَن ذاكر بأمرنا ، ودعا إلى ذكرنا».

ويقول (ع) للفضيل بن يسار : «تجلسون وتحدثون؟» قال : نعم ، جعلت فداك. قال (ع) : «إنّ تلك المجالس اُحبّها ، فأحيوا أمرنا يا فضيل ، فرحم الله من أحيا أمرنا». ويقول (ع) أيضاً «مَن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا ، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».

فالأئمّة (عليهم السّلام) أرادوا بهذا النّحو من البيان حمل الاُمّة على الإعتقاد بإمامتهم ، وما أوجبه المولى سبحانه من عصمتهم ، وما أهّلهم له من الفضائل والفواضل ، وأنّ الدعوة إليهم ملازمة لاعتقاد خلافتهم دون من اغتصب ذلك المنصب الإلهي.

إنّ التذكارات الحسينيّة على اختلاف صورها ؛ من عقد العزاء والمآتم (١)

__________________

قرب الإسناد ص ٢٦ عن أبي عبد الله (ع) : «مَن ذكرنا أو ذُكرنا عنده ، فخرج من عينه مثل جناح الذباب ، غفر الله ذنوبه». وفي كامل الزيارات ص ١٠٠ عن أبي هارون المكفوف عن أبي عبد الله (ع) وفيه : «مَن ذُكر الحسين (ع) عنده ، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناج الذباب ، كان ثوابه على الله ، ولم يرضَ له بدون الجنة». وهذه الأخبار ونظائرها الكثير تحث بعمومها على كل وسيلة يتذكر بها مصاب الحسين ، أو مصاب أهل البيت (عليهم السّلام) ، سواء في ذلك عقد المأتم ، أو بذل المال لأجله ، أو نظم الشعر ، أو كتابة تلك الفوادح أو تدوينها أو إنشاد ما جرى عليهم ، أو تصوير تلك الفاجعة أمام الناس بكل مظهر من مظاهره ، فإن الجامع لهذه الانحاء قوله (ع) «مَن ذكّر بمصابنا».

(١) في مصباح المجتهد ص ٧٧٢ ، وكامل الزيارات ص ١٧٤ عن مالك الجهني : إن الامام الباقر (عليه السّلام) كان يقول في يوم عاشوراء «... ثمّ ليندب الحسين (ع) ويبكيه ، ويأمر مَن في داره ـ ممّن لا يتّقيه ـ بالبكاء عليه ، ويقيم في داره المصيبة باظهار الجزع عليه

٩٦

واللطم (١) في الدور والشوارع أوجبت تقدّم الطائفة ، وكان عمل الشبيه أوضح المصاديق والحجج على القساوة التي جاء بها الاُمويّون ولفيفهم من تلاوة الشعر. وإنّ ذكر المصاب ؛ لتسرب ذلك بوضوح إلى أدمغة الأطفال والعامّة ، الذين لا يفهمون ما يشتمل عليه القريض والكتب من دقائق الحادثة ، هو أحكم وآكد في تأثّر النّفوس ، واحتدام القلوب في حفظ الروابط المذهبيّة بين الأئمّة (عليهم السّلام) ومواليهم ، وله نصيب وافر في رسوخ العقيدة.

ولقد قلّد الشيعة في تمثيل فاجعة الطفِّ غيرهم من الهنود وبعض فرق الإسلام ، وهم في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلاميّة (٢).

فكان لفت الأنظار نحو هذه التذكارات ، والإعتناق بها أمسّ في إحياء أمر المعصومين (ع) ، المحبوب لديهم التحدّث والتذاكر فيه. ولعلّ جملة من هذه الفوائد لا تفهم الاُمّة منها النكتة المهمّة ، بل غاية ما يتصوّرون من فائدة عملهم ، هو الثواب عليه في الآخرة فقط ، ولكنّ الواقف على أسرار أهل البيت (عليهم السّلام) ، والمستشرف لمغازي أقوالهم وأفعالهم يتجلّى له ما ألمعوا إليه من هذه النّوادي والمجتمعات ، وحثّوا شيعتهم عليه بمزيد لطفهم وواسع علمهم.

البكاء على الحسين

من تلك الفوائد ، ما ورد من الحثِّ الكثير البالغ حدِّ التواتر على البكاء لما أصاب سيّد الشهداء (ع) حتّى جاء في ثواب مَن خرج من عينه كجناح ذبابة ، أنّه يطفئ حَرّ جهنّم. فإنّ الغرض ليس إلا أنّ الدمعة لا تفاض إلا عند انفعال النّفس ، وتأثّرها ممّا يصيبها ، أو يصيب مَن تمتُّ به بنحو من أسباب الصلة. ولا

__________________

ويتلاقون بالبكاء عليه بعضهم بعضاً في البيوت وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين (ع) ، وأنا الضامن على الله لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ثواب ألفي ألف حجة وعمرة وغزوة مع رسول الله والأئمة الراشدين عليهم السلام».

(١) روى الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ ص ٢٨٣ عن الصادق (عليه السّلام) أنه قال : «ولقد شققن الفاطميات الجيوب ، ولطمن الخدود على الحسين بن علي ، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب». وذكره الشهيد في كتابه (الذكرى) ، في البحث الرابع من المطلب الثالث من أحكام الأموات.

(٢) ذكر الدكتور (جوزف) الفرنسي في كتابه (الإسلام والمسلمون) ، الذي نشرت جريدة (الحبل المتين) منه فصلاً بالفارسية في العدد ٢٨ من سنتها ١٧ : إن التمثيل والشبيه تداولا بين الشيعة من زمن الصفوية ، الذين نالوا السلطة بقوّة المذهب ؛ بفضل مساعدة علمائهم الروحانيين.

٩٧

شكّ إنّا نرى النّفس عند تأثّرها بذلك تكون متأثّرة بشيء آخر ، وهو العداء والبغض لكلّ مَن أوقع الفوادح والآلام. فالأئمّة ، حيث إنّهم أعرف النّاس بمقتضيات الأحوال والملابسات التي تؤكّد دعوتهم ، كانوا يتحرّون التوصّل إلى أغراضهم بكلّ صورة ، وكان من الوسائل التي توجب انحراف الاُمّة عن أعداء الله ورسوله (ص) أمرهم بالبكاء على مصاب الحسين (ع) ؛ لِما فيه من استلزام تذكّر تلك القساوة انفعال النفس وانقباضها عمّا لا يلائم خطّتهم ، وهذا هو المغزى لقول الحسين (عليه السّلام) : «أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر» (١). فالمؤمن حيث يمتُّ إلى الحسين (ع) بالولاء والمشايعة ، كان ذلك موجباً لتأثّر نفسه ، واحتدام قلبه على كلّ مَن يوجّه إليه الأضرار والأخطار ، ويشتدّ هذا التأثّر عند تناهي تلك الفوادح.

(وبالجملة) لمْ يقصد سيد الشهداء بهذه الجملة «أنا قتيل العبرة» خصوص التعريف بأنّ قتله كان لأجل أنْ يُبكى عليه ؛ فيستحقّ به الأجر في الآخرة ، بحيث لا يكون هناك أثر آخر يترتّب عليه قتله سوى البكاء عليه. كيف؟ وهنالك آثار اُخرى ، أهمّها : إحياء شريعة الحقِّ ، وتقويم ما اعوجّ من علم الهداية ، ونشر الإصلاح بين الاُمّة ، وتعريف الملأ ما عليه اُمراء الجَور من السّير وراء المطامع.

ولكنّ الوجه في هذه الإضافة هو تأكّد الصلة بين ذكر مقتله ، وبين البكاء عليه ، فإنّ لوعة المصاب به لا تطفأ ، ومضض الإستياء له لا تنفد ؛ لاجتماع الكوارث عليه ، وملاقاته لها بصدر رحيب ، وصبر تعجبت منه ملائكة السّماء. فأول ما يتأثر به السّامع لها أنْ تستدر دموعه ، فلا يذكر الحسين (ع) إلا والعبرة تسبق الذكر ، أضف إلى ذلك المودّة الكامنة له في قلوب أحبّائه ؛ بحيث إذا انضمّت إلى تلك ، كانت أدعى لتأكّد الصلة بين ذكره ، وبين البكاء عليه. فمن هنا استحقّ إضافة القتل إليه ، فقال : «أنا قتيل العبرة».

وعلى هذا سار العرب في كلامهم ، فإنّهم إذا رأوا بين الإنسان ، وبين بعض حالاته وصفاته صلة أكيدة ، أضافوه إلى ذلك الحال ، فقالوا : (مضر الحمراء) ، و (ربيعة الخيل) ، و (زيد النّار) ، و (صبية النّار) ، و (مُسمّة الأزواج) ؛ فإنّ ربيعة ومضر لم يتخلّيا عن

__________________

(١) كامل الزيارات ص ١٠٨.

٩٨

كلّ صفة حميدة سوى اللواء والخيل ، ولا زيد ابن الامام موسى بن جعفر (ع) لم يتّصف بشيءٍ حسن ، أو قبيح إلا حرقه دور بني العبّاس بالبصرة ، ولا أنّ أولاد ابن أبي معيط لم يحصلوا على نعت من نعوت الإنسانيّة إلا النّار ، التي أضافها لهم رسول الله (ص) يوم أمر بقتل عقبة بن أبي معيط ، وكان كافراً ، فقال : ي محمّد ، مَن للصبية؟. قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) : «لهم النّار».

ولا أنّ جعدة بنت الأشعث لم تتصف بالرذائل إلا السمّ ، الذي ناولته أب محمّد الحسن السّبط (ع) ، ولكن لمّا كانت هذه الآثار هي الظاهرة بين النّاس ؛ قيل لمضر : (الحمراء) ، ولربيعة (الخيل) ، ولزيد (النّار) ، ولجعدة (مُسمّة الأزواج).

فقول الحسين (ع) : «أنا قتيل العبرة» ، وقول الصادق (ع) : «بأبي قتيل العبرة» من هذا القبيل ، وهو ما ذكرناه من تأكّد الصلة بين ذكر مقتله ، وبين استدرار الدموع.

التباكي

لقد راق أئمّة الهدى (عليهم السّلام) أنْ تبقى تلك الذكريات الخالدة مدى الدهر ، تتحدّث بها الأجيال المتعاقبة ؛ علماً منهم ببقاء الدِّين غضّاً طرياً ، ما دامت الاُمّة تتذاكر تلك الفاجعة العظمى. ولم يقتصروا على لازمها ، وهو البكاء حتّى رغّبوا إلى التباكي ، وهو : التشبيه بالباكي من دون أن يخرج منه دمع. فيقول الإمام الصادق : «من تباكى ، فله الجنة» (١).

ومعلوم أنّ التباكي إنّما يتصوّر فيمن تتعسّر عليه الدمعة ، لكنّه لم يفقد التأثّر لأجل المصاب ، كما يشاهد في كثير من النّاس. فالتأثّر النّفساني بتصوّر ما ورد على المحبوب من آلام وفوادح ، يستلزم قهراً النفرة عمّن أورد ذلك العدوان.

وفي الحديث عن النّبي (ص) ، أنه قرأ آخر الزمر : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا) على جماعة من الأنصار ، فبكوا إلا شاباً منهم ، قال : لم تقطر من عيني قطرة ، وإنّي تباكيت. قال (ص) : «مَن تباكى ، فله الجنة» (٢).

__________________

(١) أمالي الصدوق ص ٨٦ ، المجلس التاسع والعشرون.

(٢) كنز العمال ١ ص ١٤٧.

٩٩

وروى جرير عنه (ص) أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال : «إنّي قارئ علكيم (ألهاكم التكاثر) ، مَن بكى فله الجنة ، ومَن تباكى فله الجنة» (١).

وحدّث أبو ذر الغفاري عن النّبي (ص) ، أنّه قال : «إذا استطاع أحدكم أن يبكي ، فليبكِ ، ومَن لم يستطع ، فليستشعر قلبه الحزن وليتباكَ ، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله» (٢).

وهذه الأحاديث تدلّنا على أنّ التباكي منبعث عن حزن القلب ، وتأثّر النّفس كالبكاء ، لكن في باب الرهبة منه سبحانه وتعالى يكون الحزن والتأثّر ؛ لأجل تصوّر ما يترتّب على مخالفة المولى من الخزي في الآخرة ، فيتباعد عنه ، ويعمل ما يقرّبه من المولى زلفة. وفي باب تذكّر مصائب آل الرسول (ص) ، يستوجب بغض مَن ناوأهم ، وأوقع بهم ، وأساء إليهم.

ولعلّ ما أشرنا إليه ، هو مراد الشيخ محمّد عبده ، فإنّه قال : التباكي : تكلّف البكاء لا عن رياء (٣).

ويقول الشريف الجرجاني : باب التفاعل أكثره إظهار صفة غير موجودة ، كالتغافل والتجاهل والتواجد. وقد أنكره قوم ؛ لِما فيه من التكلّف والتصنّع ، وأجازه قوم لِمن يقصد به تحصيل الصفة. والأصل فيه ، قوله (صلّى الله عليه وآله) : «إن لمْ تبكوا فتباكَوا» ، أراد به : التباكي ممّن هو مستعدّ للبكاء ، لا تباكي الغافل اللاهي (٤).

فالباكي والمتباكي مشتركان في احتراق القلب ، وتأثّر النّفس ؛ لأجل تصوّر ما ورد من الظلم على أهل البيت (ع) ، ومشتركان في لازمه ، وهو النفرة والتباعد عن كلّ مَن دفعهم عن مقامهم.

ومَن لا يفقه مغازي كلام المعصومين (عليهم السّلام) ، يحكم بالرياء على المتباكي. وبعدما أوضحنا من السّر تعرف قيمة البلاغة وقدر البلغاء.

وكم لأهل البيت (عليهم السّلام) من أسرار غامضة ، لا يقف عليها إلا من

__________________

(١) كنز العمال ١ ص ١٤٨.

(٢) اللؤلؤ والمرجان للنوري ص ٤٧ ، ومجموعة شيخ ورام ص ٢٧٢.

(٣) تفسير المنار ٨ ص ٣٠١.

(٤) التعريفات ص ٤٨.

١٠٠