مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

وأمرهم أنْ يحفروا حفرتين ، ووضع في الاُولى بني هاشم ، وفي الثانية الأصحاب (١).

وأمّا الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن وقيل : أنّ اُمّه كانت حاضرة فلمّا رأت ما يُصنع بالأجساد ، حملت الحر إلى هذا المكان (٢).

وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ولده الأكبر (عليه السّلام) ، وفي ذلك يقول الإمام الصادق (ع) لحمّاد البصري : «قُتل أبو عبد الله غريباً بأرض غربة ، يبكيه مَن زاره ، ويحزن له مَن لم يزره ، ويحترق له مَن لَم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجلَيه في أرض فلاة ولا حميم قربه ، ثمّ منع الحقّ وتوازر عليه أهل الردّة حتّى قتلوه وضيّعوه وعرضوه للسّباع ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب وضيّعوا حقّ رسول الله (ص) ووصيّته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفواً في حفرته صريعاً بين قرابته وشيعته ، قد اوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه والمنزل الذي لا يأتيه إلاّ مَن امتحن الله قلبه للإيمان وعرف حقنا».

ولقد حدّثني أبي : أنّه لَم يخل مكانه منذ قُتل من مصلّ عليه من الملائكة أو من الجنّ والإنس أو من الوحش ، وما من أحد إلاّ ويغبط زائره ويتمسّح ويرجو في النّظر إليه الخير لنظره إلى قبره.

وإنّ الله تعالى لَيباهي الملائكة بزائريه.

وأمّا ما له عندنا فالترحّم عليه كلّ صباح ومساء.

ولقد بلغني أنّ قوماً من أهل الكوفة وناساً غيرهم من نواحيها يأتونه في

__________________

(١) الكبريت الأحمر ، وأسرار الشهادة ، والإيقاد.

(٢) الكبريت الأحمر ، ونقل السيّد الجزائري في الأنوار النّعمانية ص ٣٤٤ ما يشهد بذلك ، فإنّه نقل : أنّ إسماعيل الصفوي نبش الموضع ، فظهر له رجل كهيئته لمّا قُتل ، وعلى رأسه عصابة ، فلمّا حلّها انبعث الدم ولَم ينقطع إلاّ بشدّها ، فبنى على القبر قبّة ، وعيّن له خادماً. وعليه فإنكار النّوري في اللؤلؤ والمرجان دفنَه هنا لَم يُدعم بقرينة. وفي تحفة العالم للسيّد جعفر بحر العلوم ١ ص ٣٧ : إنّ حمد الله المستوفي ذكر في نزهة القلوب : إنّ في ظاهر كربلاء قبر الحر تزوره النّاس وهو جدّه الثامن عشر. وكان أحدهم يقول :

أشِرْ للحرِّ من قرب وبعد

فإنَّ الحرَّ تكفيه الاشاره

فردّ عليه الحجّة السيد محمّد القزويني :

زر الحرَّ الشهيد ولا تؤخر

زيارته على الشهداء قدم

ولا تسمع مقالة من ينادي

أشر للحر من بعد وسلم

٣٢١

النّصف من شعبان ، فبين قارئ يقرأ وقاصًّ يقصّ ونادب يندب ، ونساء يندبنه ، وقائل يقول المراثي!

فقال حمّاد : قد شهدت بعض ما تصف.

قال (عليه السّلام) : «الحمد لله الذي جعل في النّاس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوّنا مَن يطعن عليهم ويهدّدونهم ويقبّح ما يصنعون» (١).

ثوى اليوم احماها عن الضّيم جانباً

واصدقها عند الحفيظة مخبرا

واطعمها للوحش من جثث العدى

واخضبها للطير ظفرا ومنسرا

قضى بعد ما ردّ السّيوف على القنا

ومرهفه فيها وفي الموت اثَّرا

ومات كريم العهد عند شبا القنا

يواريه منها ما عليه تكسّرا

فإنْ يمس مُغبرّ الجبين فطالما

ضحى الحرب في وجه الكتيبة غبَّرا

وإن يقض ظمآناً تفطّر قلبه

فقد راع قلب الموت حتّى تفطَّرا

وألقحها شعواء تشقى بها العدى

ولود المنايا ترضع الحتف ممقّرا

فظاهر فيها بين درعين نثرة

وصبر ودرع الصبر اقواهما عرى

سطا وهو أحمى مَن يصون كريمة

وأشجع مَن يقتاد للحرب عسكرا

فرافده في حرمة الضرب مرهف

على قلّة الأنصار فيه تكثّرا

تعثَّر حتّى مات في إلهام حدّه

وقائمه في كفّه ما تعثَّرا

كأنّ أخاه السّيف اُعطي صبره

فلم يبرح الهيجاء حتّى تكسَّرا

له الله مفطوراً من الصّبر قلبُه

ولَو كان من صمّ الصفا لتفطَّرا

ومنعطف أهوى لتقبيل طفله

فقبّل منه قلبه السّهم منحرا

لقد ولدا في ساعةٍ هو والردى

ومن قبله في نحره السّهم كبَّرا

وفي السَّبى ممّا يصطفي الخدّ نسوة

يعزّ على فتيانها أن تسيَّرا

حمت خدرها تقضي وودّت بنومها

تردّ عليها جفنها لا على الكرى

مشى الدهر يوم الطّف أعمى فلَم يدع

عماداً لها إلاّ وفيه تعثّرا

وجشّمها المسرى ببيداء فقرة

ولَم تدرِ قبل الطّف ما البيد والسرّى

ولَم ترَ حتّى عينها ظلّ شخصها

إلى أنْ بدت في الغاضريّة حسرّا (٢)

__________________

(١) كامل الزيارات ص ٣٢٥ ، وعنه في مزار البحار ص ١٢٤.

(٢) للسيّد حيدر الحلّي (نوّر الله ضريحه).

٣٢٢

في قصر الإمارة (١)

لمّا رجع ابن زياد من معسكره بالنّخيلة ودخل قصر الإمارة (٢) ووضع أمامه الرأس المقدّس ، سالت الحيطان دماً (٣) وخرجت نار من بعض نواحي القصر وقصدت سرير ابن زياد (٤) فولّى هارباً منها ودخل بعض بيوت القصر فتكلّم الرأس الأزهر بصوت جهوري ـ سمعه ابن زيد وبعض مَن حضر ـ :

«إلى أين تهرب فإنْ لَم تنلك في الدنيا فهي في الآخرة مثواك» ، ولَم يسكت حتّى ذهبت النّار. واُدهش مَن في القصر لهذا الحادث الذي لَم يشاهد مثله (٥) ولَم يرتدع ابن زياد لهذا الحادث بل أذِن للنّاس إذناً عامّاً ، وأمر بإدخال السّبايا مجلسه ، فاُدخلت عليه حرم رسول الله بحالة تقشعّر لها الجلود (٦).

أبرزت حاسرة لكن على

حالة لَم تبقَ للجلد اصطبارا

لا خمار يستر الوجه وهل

لكريمات الهدى أبقَوا خمارا

لا من ألبسها من نوره

أزراً مذ سلبوا عنها الازارا

لم تُدع يا شلّتِ الأيدي لها

من حجاب فيه عنهم تتوارى (٧)

ووضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يدَيه ، وجعل ينكت بالقضيب ثناياه

__________________

(١) في كتاب صفّين لنصر بن مزاحم ص ٨ ، طبعة مصر : لمّا دخل علي (ع) الكوفة ، قيل : أي القصرين ننزلك؟ قال : «قصر الخبال لا تنزلونيه». فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي. والخبال كما في الفائق للزمخشري والنّهاية لابن الأثير ومقاييس اللغة لابن فارس : مادة (خبل) ، الخبل : الفساد ، وحراقة صديد أهل النّار ، والمراد هنا منزل أهل الجَور والفساد.

(٢) في لطائف المعارف للثعالبي ص ١٤٢ ، الباب التاسع : روى عبد الملك بن عمير اللخمي قال : رأيت في قصر الإمارة رأس الحسين بن علي بن أبي طالب عند عبيد الله بن زياد على ترس ، ورأيت رأس عبيد الله بن زياد عند المختار على ترس ، ورأيت رأس المختار عند مصعب بن الزبير على ترس ، ورأيت رأس مصعب بين يدَي عبد الملك بن مروان على ترس ، ولمّا حدّثت بذلك عبد الملك تطيّر منه وفارق مكانه. ورواه السّيوطي في تاريخ الخلفاء ص ١٣٩ ، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص ١٤٨ ، طبعة ايران.

(٣) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ ، وذخائر العقبى ص ١٤٥ ، وابن طاووس في الملاحم ص ١٢٨ الطبعة الاُولى.

(٤) كامل ابن الأثير ٤ ص ١٠٣ ، ومجمع الزوائد لابن حجر ٩ ص ١٩٦ ، والمقتل للخوارزمي ٢ ص ٨٧ ، والمنتخب للطريحي ص ٣٣٩ ، المطبعة الحيدريّة ، والبداية لابن كثير ٨ ص ٢٨٦.

(٥) شرح قصيدة أبي فراس ص ١٤٩.

(٦) أخبار الدول ١ ص ٨ ، لأبي العبّاس أحمد بن يوسف بن أحمد القرماني.

(٧) من قصيدة للسيّد عبد المطّلب الحلّي ذكرت في شعراء الحلّة ٣ ص ٢١٨.

٣٢٣

ساعة ، فقال له زيد بن أرقم : ارفع القضيب عن هاتين الشفتين ؛ فوالله الذي لا إله إلاّ هو لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبّلهما. ثمّ بكى ، فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك ، فوالله لَولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج زيد من المجلس وهو يقول : ملك عبد عُبُداً فاتخذهم تلداً ، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم ، قتلتم ابن فاطمة ، وأمّرتم ابن مرجانة ، يقتل خياركم ويستعبد شراركم ، فرضيتم بالذلّ فبُعداً لمَن رضي بالذلّ (١).

وانحازت زينب ابنة أمير المؤمنين (ع) عن النّساء وهي متنكّرة ، لكن جلال النبوّة وبهاء الإمامة المنسدل عليها استلفت نظر ابن زياد فقال : من هذه المتنكّرة؟

قيل له : ابنة أمير المؤمنين زينب العقيلة.

فأراد أنْ يحرق قلبها بأكثر ممّا جاء إليهم فقال متشمّتاً : الحمد لله الذي فضحكم ، وقتلكم وأكذب اُحدوثتكم.

فقالت (عليها السّلام) : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا.

قال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ قالت (عليها السّلام) : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصم (٢) فانظر لمَن الفلج يومئذ ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة (٣).

فغضب ابن زياد ، واستشاط من كلامها معه في ذلك المحتشد وهمَّ بها.

فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، وهل تؤاخذ بشيء من منطقها ، ولا تلام على خطل.

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١١٨ ، وفي تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٢ والبداية والنهاية لابن كثير ٨ ص ١٩٠ ، ومجمع الزوائد ٩ ص ١٩٥ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٤٠ ، ذكروا وانكاره عليه ولا ينافي كونه أعمى على تقدير صحته ؛ لجواز أنّه سمع بذلك فأنكر عليه. وعبارة ابن عساكر (كان زيد حاضراً) تؤيّده.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٢.

(٣) اللهوف ص ٩٠.

٣٢٤

فالتفت إليها ابن زياد وقال : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.

فرقّت العقيلة وقالت : لَعمري لقد قتلت كهلي ، وابرزت أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإنْ يشفك هذا فقد اشتفيت (١).

والتفت إلى علي بن الحسين (ع) وقال له : ما اسمك؟ قال : «أنا علي بن الحسين». فقال له : أوَلَم يقتل الله علياً؟

فقال السّجاد (ع) : «كان لي أخ أكبر منّي (٢) يُسمّى علياً قتله النّاس». فردَّ عليه ابن زياد بأنّ الله قتله.

قال السّجاد (ع) : «الله يتوفّى الأنفس حين موتها ، وما كان لنفس أنْ تموت إلاّ بإذن الله».

فكبر على ابن زياد أنْ يرد عليه ، فأمر أنْ تضرب عنقه.

لكن عمتّه العقيلة اعتنقته وقالت : حسبك يابن زياد من دمائنا ما سفكت ، وهل أبقيت أحداً (٣) غير هذا؟ فإنْ أردت قتله ، فاقتلني معه.

فقال السّجاد (ع) : «أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة؟!» (٤) فنظر ابن زياد إليهما وقال : دعوه لها ، عجباً للرحم! ودَّت أنّها تُقتل معه (٥).

وأخذت الرباب زوجة الحسين (ع) الرأس ووضعته في حجرها وقبّلته وقالت :

__________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٣ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٤٢ ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٣ ، وإرشاد المفيد ، وإعلام الورى للطبرسي ص ١٤١. وفي كامل المبرّد ٣ ص ١٤٥ طبعة سنة (١٣٤٧) : لقد أفصحت زينب بنت علي وهي أسنّ مَن حمل إلى ابن زياد وأبلغت وأخذت من الحجّة حاجتها فقال ابن زياد لها : إنْ تكوني بلغت من الحجّة حاجتك فقد كان أبوكِ خطيباً شاعراً. فقالت : ما للنّساء والشعر. وكان ابن زياد ألكناً يرتضخ الفارسيّة اهـ.

(٢) نصّ عيه ابن جرير الطبري في المنتخب من الذيل ص ٨٩ ، ملحق بالتاريخ ص ١٢ ، وأبو الفرج في المقاتل ص ٤٩ طبعة ايران ، والدميري في حياة الحيوان بمادّة (بغل) ، والمنتخب للطريحي ص ٢٣٨ المطبعة الحيدريّة ونسب قريش لمصعب الزبيري ص ٥٨ ، وذكرنا في رسالة (علي الأكبر) ص ١٧ ، نصوص المؤرخين : على أنّ المقتول هو الأكبر.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٣.

(٤) اللهوف ص ٩١ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ١٣.

(٥) ابن الأثير ٤ ص ٣٤.

٣٢٥

وا حسيناً فلا نسيت حسيناً

اقصدته أسنَّة الاعداء

غادروه بكربلاء صريعاً

لا سقى الله جانبي كربلاء (١)

ولمّا وضح لابن زياد ولولة النّاس ولغط أهل المجلس خصوصاً لمّا تكلّمت معه زينب العقيلة خاف هياج النّاس فأمر الشرطة بحبس الاُسارى في دار إلى جنب المسجد الأعظم (٢) قال حاجب ابن زياد : كنت معهم حين أمر بهم إلى السّجن فرأيت الرجال والنّساء مجتمعين يبكون ويلطمون وجوههم (٣).

فصاحت زينب بالنّاس : لا تدخل علينا إلاّ مملوكة أو اُمّ ولد ؛ فإنّهنّ سُبين كما سُبينا (٤). تشير الحوراء العقيلة إلى أنّ المسبيّة تعرف مضض عناء الذلّ فلا يصدر منها غير المحمود من شماتة وغيرها ، وهذا شيء معروف لا ينكر ، فقد ورد أنّ جسّاس بن مرّة لمّا قَتل كليب بن ربيعة ، وكانت اُخت جسّاس زوجة كليب ، واجتمع نساء الحي للمأتم على كليب ، قلن لأخت كليب : رحّلي جليلة عن مأتمك ؛ فإنّ قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب فإنّك اُخت واترنا وقاتلنا ، فخرجت وهي تجرّ أذيالها ولمّا رحلت قالت اُخت كليب : رحلة المعتدي وفراق الشامت (٥).

ودعا بهم ابن زياد مرّة اُخرى فلمّا اُدخلوا عليه ، رأين النّسوة رأس الحسين (ع) بين يدَيه والأنوار الإلهيّة تتصاعد من أساريره إلى عنان السّماء ، فلم تتمالك الرباب زوجة الحسين (ع) دون أنْ وقعت عليه تقبّله ، وقالت :

إنَّ الذي كان نوراً يستضاء به

بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبيّ جزاك الله صالحة

عنّا وجنبت خسران الموازين

قد كنتَ لي جبلاً صعبا ألوذ به

وكنتَ تصحبنا بالرحم والدِّين

مَن لليتامى ومَن للسائلين ومَن

يعنى ويأوى إليه كلّ مسكين

__________________

(١) تذكرة الخواص ص ١٤٨ : ومن الاشتباه وعدم التدبّر ما جاء في الحماسة البصريّة ١ ص ٢١٤ ، رقم ١٨ ، باب المراثي ، نسبة هذين البيتين إلى عاتكة بنت نفيل زوجة الحسين (ع) فإنّه لَم يذكر الثقات من المؤرّخين تزويج الحسين (ع) منها.

(٢) اللهوف ص ٩١ ، والمقتل الخوارزمي ٢ ص ٤٣.

(٣) روضة الواعظين ص ١٦٣.

(٤) اللهوف ص ٩٢ ، ومقتل العوالم ص ١٣٠.

(٥) الأغاني ٤ ص ١٥٠.

٣٢٦

والله لا ابتغي صهراً بصهركُمُ

حتّى أغَيَّبَ بين الماء والطين (١)

ابن عفيف

قال حميد بن مسلم : أمر ابن زياد أنْ ينادى الصلاة جامعة ، فاجتمعوا في الجامع الأعظم ، ورقى ابن زياد المنبر فقال : الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه ، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن علي وشيعته (٢).

فلم ينكر عليه أحد من اُولئك الجمع الذي غمره الضلال إلاّ عبد الله بن عفيف الأزدي ثمّ الغامدي أحد بني والبة فإنّه قام إليه وقال :

يابن مرجانة ، الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه ، يابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بكلام الصدّيقين؟! (٣) فقال ابن زياد : مَن هذا المتكلّم؟

قال ابن عفيف : أنا المتكلّم يا عدوّ الله! تقتلون الذريّة الطاهرة التي أذهب الله عنهم الرجس ، وتزعم أنّك على دين الإسلام؟! وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّد رسول ربّ العالمين.

فازداد غضب ابن زياد وقال : عليّ به. فقامت إليه (٤) الشرطة.

فنادى ابن عفيف بشعار الازد : (يا مبرور). فوثب إليه عدد كثير ممَّن حضر من الأزد وانتزعوه وأتَوا به أهله.

وقال له عبد الرحمن بن مخنف الأزدي : ويح غيرك لقد أهلكت نفسك وعشيرتك (٥).

__________________

(١) الأغاني ١٤ ص ١٥٨ ، طبعة ساسي.

(٢) ابن الأثير ١ ص ٣٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٣.

(٤) اللهوف.

(٥) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٣.

٣٢٧

ثمّ أمر ابن زياد بحبس جماعة من الأزد ، فيهم عبد الرحمن بن مخنف الأزدي (١) وفي الليل ذهب جماعة من قِبل ابن زياد إلى منزله ؛ ليأتوه به ، فلمّا بلغ الأزد ذلك تجمَّعوا وانضمَّ إليهم أحلافهم من اليمن ، وبلغ ابن زياد تجمّعهم فأرسل مضر مع محمّد بن الأشعث (٢) ، فاقتتلوا أشدّ قتال وقُتل من الفريقَين جماعة ، ووصل ابن الأشعث إلى دار ابن عفيف واقتحموا الدار ، فصاحت ابنته : أتاك القوم.

قال لها : لا عليك ، ناوليني سيفي. فجعل يذبّ به عن نفسه ، ويقول :

إنّ ابن ذي الفضل العفيف الطّاهر

عفيف شيخي وابن اُمّ عامر

كم دارعٍ من جمعكم وحاسر

وبطل جدّلته مغادر

وابنته تقول له : ليتني كنت رجلاً ، أذبّ بَين يدَيك هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة.

ولَم يقدر أحد منهم أنْ يدنو منه فإنّ ابنته تقول له : أتاك القوم من جهة كذا. ولمّا أحاطوا به صاحت : وا ذلاّه! يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به. وهو يدور بسيفه ويقول :

أقسمُ لو يفسح لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

وبعد أنْ تكاثروا عليه ، أخذوه وأتوا به إلى ابن زياد فقال له : الحمد لله الذي أخزاك. قال ابن عفيف : وبماذا أخزاني؟

والله لو فرج لي عن بصري

ضاق عليكم موردي ومصدري

قال ابن زياد : يا عدوّ الله ما تقول في عثمان؟

فشتمه ابن عفيف وقال : ما أنت وعثمان؟ أساء أم أحسن ، أصلح أم أفسد ، وإنّ الله تبارك وتعالى وليُّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحقّ ، ولكن سلني

__________________

(١) رياض الأحزان ص ٥٧ ، عن روضة الصفا.

(٢) في مثير الأحزان لابن نما الحلّي : أرسل ابن زياد محمّد بن الأشعث ، وحيث إنّه قُتل يوم عاشوراء بدعاء الحسين (عليه السّلام) أصابته عقرب فمات منها ، فيكون المرسَل هذا أحد بني الأشعث.

٣٢٨

عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه.

فقال ابن زياد : لا سألتك عن شيء ولتذوق الموت غصّة بعد غصّة.

قال ابن عفيف : الحمد لله ربّ العالمين أمّا إنّي كنت أسأل ربّي أنْ يرزقني الشهادة من قبل أنْ تلدك اُمّك ، وسألت الله أنْ يجعلها على يدَي العن خلقه وأبغضهم إليه ولمّا كفّ بصري يئست من الشهادة ، أمّا الآن والحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منه ، وعرّفني الإجابة في قديم دعائي. فأمر ابن زياد بضرب عنقه ، وصلبه في السّبخة (١).

ودعا ابن زياد بجندب بن عبد الله الأزدي ، وكان شيخاً كبيراً ، فقال له : يا عدوّ الله ألست صاحب أبي تراب في صفّين؟ قال : نعم ، وإنّي لاُحبّه وأفتخر به ، وأمقتك وأباك سيّما الآن ، وقد قتلت سبط الرسول وصحبه وأهله ، ولَم تخف من العزيز الجبّار المنتقم. فقال ابن زياد : إنّك لأقلّ حياءً من ذلك الأعمى وإنّي ما أراني إلاّ متقرّباً إلى الله بدمك. فقال ابن جندب : إذاً لا يقرّبك الله. وخاف ابن زياد من نهوض عشيرته فتركه وقال : إنّه شيخ ذهب عقله وخرف. وخلي سبيله (٢).

المختار الثقفي

لمّا أحضر ابن زياد السّبايا في مجلسه ، أمر بإحضار المختار ، وكان محبوساً عنده من يوم قَتْل مسلم بن عقيل ، فلمّا رأى المختار هيئة منكرة زفر زفرة شديدة وجرى بينه وبين ابن زياد كلام أغلظ فيه المختار فغضب ابن زياد وارجعه إلى الحبس (٣) ويقال ضربه بالسّوط على عينه فذهبت (٤).

وبعد قَتْل ابن عفيف كان المختار بن أبي عبيد الثقفي مطلق السراح بشفاعة عبد الله بن عمر بن الخطاب عند يزيد ؛ فإنّه زوج اُخته صفيّة بنت أبي

__________________

(١) مثير الأحزان لابن نما الحلّي ص ٥٠ ، واللهوف لابن طاووس ص ٩٢ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٥٣. واختصر قصّته في تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٣ ، والمحبر لابن حبيب ص ٤٨٠ ، والإرشاد للشيخ المفيد ، والكل اتّفقوا على صلبه في الكناسة ، وذكره الأربلي في كشف الغمّة ص ١١٦.

(٢) مثير الأحزان ص ٥١ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٥٥ ، ورياض الأحزان ص ٥٨.

(٣) رياض الأحزان ص ٥٢.

(٤) الأعلاق النفسيّة لابن رسته ص ٢٢٤.

٣٢٩

عبيد الثقفي ، ولكن ابن زياد أجّله في الكوفة ثلاثاً ، ولمّا خطب ابن زياد بعد قَتْل ابن عفيف ونال من أمير المؤمنين (ع) ، ثار المختار في وجهه وشتمه وقال : كذبت يا عدوّ الله وعدوّ رسوله ، بل الحمد لله الذي أعزَّ الحسين (ع) وجيشه بالجنّة والمغفرة وأذلَّك وأذلَّ يزيد وجيشه بالنّار والخزي. فحذفه ابن زياد بعمود حديد فكسر جبهته ، وأمر به إلى السّجن ولكن النّاس عرّفوه بأنّ عمر بن سعد صهره على اُخته وصهره الآخر عبد الله بن عمر وذكروا ارتفاع نسبه ، فعدل عن قتله وأبقاه في السّجن. ثمّ تشفّع فيه ثانياً عبد الله بن عمر عند يزيد ، فكتب إلى عبيد الله بن زياد بإطلاقه (١). ثمّ أخذ المختار يخبر الشيعة بما علمه من خواص أصحاب أمير المؤمنين (ع) من نهضته بثأر الحسين (ع) وقتله ابن زياد والذين تألبوا على الحسين (ع) (٢).

ومن ذلك إنّه كان في حبس ابن زياد ، ومعه عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب ، وميثم التمّار. فطلب عبد الله بن الحارث حديدة يزيل بها شعر بدنه وقال : لا آمن من ابن زياد القتل فأكون قد ألقيت ما على بدني من الشعر ، فقال له المختار : والله لا يقتلك ولا يقتلني ولا يأتي عليك إلاّ القليل حتّى تلي البصرة ، وميثم يسمع كلامهما فقال للمختار : وأنت تخرج ثائراً بدم الحسين (ع) وتقتل هذا الذي يريد قتلنا وتطأ بقدميك على وجنتيه (٣). فكان الأمر كما قالا. خرج عبد الله بن الحارث بالبصرة بعد هلاك يزيد ، وأمّره أهل البصرة ، وبقي على هذا سنة ، وخرج المختار طالباً بدم الحسين (ع) فقتل ابن زياد ، وحرملة بن كاهل ، وشمر بن ذي الجوشن إلى العدد الكثير من أهل الكوفة الخارجين على الحسين (ع) ، فبلغ من قتلهم ثمانية عشر ألفاً ـ كما يحدّث به ابن نما الحلّي ـ وهرب منهم إلى مصعب الزبيري زهاء عشرة آلاف (٤) فيهم شبث بن ربعي جاء راكباً بغلة قد قطع اُذنها وذنبها في قباء مشقوق وهو ينادي : وا غوثاه! سِر بنا إلى محاربة هذا الفاسق الذي هدم دورنا وقتل أشرافنا (٥).

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ ص ١٧٨ ـ ١٧٩ ، واختصره في رياض الأحزان ص ٥٨.

(٢) البحار ١٠ ص ٢٨٤ ، عن أخذ الثأر لابن نما.

(٣) شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ ص ٢١٠ طبعة مصر ، والبحار ١٠ ص ٢٨٤ ، والإرشاد للمفيد.

(٤) الأخبار الطوال ص ٢٩٥.

(٥) تاريخ الطبري ٧ ص ١٤٦.

٣٣٠

كلام الرأس المقدّس

لهفي لرأسك فوق مسلوب القنا

يكسوه من أنواره جلبابا

يتلو الكتاب على السّنان وإنّما

رفعوا به فوق السّنان كتابا (١)

لَم يزل السّبط الشهيد حليف القرآن منذ أنشأ كيانه ؛ لأنّهما ثقلا رسول الله وخليفتاه على اُمّته. وقد نصّ الرسول الأعظم (ص) بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض ، فبذلك كان الحسين (ع) غير مبارح تلاوته طيلة حياته في تهذيبه وإرشاده وتبليغه في حلّه ومرتحله حتّى في موقفه يوم الطفّ بين ظهراني اُولئك المتجمهرين عليه ليتمّ عليهم الحجّة ويوضح لهم المحَجّة. هكذا كان ابن رسول الله يسير إلى غايته المقدّسة سيراً حثيثاً حتّى طفق يتلو القرآن رأسه المطهّر فوق عامل السنان ؛ عسى أن يحصل في القوم من يكهربه نور الحقّ ، غير أنّ داعية الهدى لَم يصادف إلاّ قصوراً في الإدراك وطبعاً في القلوب وصمما في الآذان (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ).

ولا يستغرب هذا مَن يفقه الأسرار الالهيّة ، فإنّ المولى سبحانه بعد أنْ أوجب على سيّد الشهداء النّهضة لسدّ أبواب الضلال بذلك الشكل المحدّد الظرف والمكان والكيفيّة لمصالح أدركها الجليل جلّ شأنه ، فأوحى إلى نبيّه الأقدس أنْ يقرأ هذه الصفحة الخالصة على ولده الحسين (ع) ، فلا سبيل إلاّ التسليم والخضوع للأصلح المرضي لربّ العالمين (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ). وحيث أراد المهيمن تعالى بهذه النّهضة المقدّسة تعريف الاُمّة الحاضرة والأجيال المتعاقبة ضلال الملتوين عن الصراط السّوي العابثين بقداسة الشريعة ، أحبّ الإتيان بكلّ ما فيه توطيد اُسس هذه الشهادة التي كتبت بدمها الطاهر صحائف نيّرة من أعمال الثائرين في وجه المنكر ، فكانت هذه محفوفة بغرائب لا تصل إليها الأفهام ، ومنها استشهاد الرأس المعظّم بالآيات الكريمة ، والكلام من رأس مقطوع أبلغ في إتمام الحجّة على مَن أعمته الشهوات عن إبصار الحقائق ، وفيه تركيز العقائد على أحقيّة دعوته التي لَم يقصد بها إلاّ الطاعة لربّ العالمين ووخامة عاقبة مَن مدّ عليه يد السّوء والعدوان ، كما نبّه الاُمّة على ضلال مَن جرّأهم على

__________________

(١) في الدرّ النّضيد ص ٣٦ ، للسيد محسن الأمين ، أنّهما للسيد رضا الهندي.

٣٣١

الطغيان. ولا بدع القدرة الإلهيّة إذا مكّنت رأس الحسين (ع) من الكلام للمصالح التي نقصر عن الوصول إلى كنهها بعد أن اُودعت في الشجرة (١) قوّة الكلام مع نبي الله موسى بن عمران (عليه السّلام) عند المناجاة ، وهل تقاس الشجرة برأس المنحور في طاعة الرحمن سبحانه؟ ... كلاّ.

قال زيد بن أرقم : كنت في غرفة لي فمرّوا عليَّ بالرأس وهو يقرأ (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) فوقف شعري وقلت : والله يابن رسول الله رأسك أعجب وأعجب (٢).

ولمّا نُصب الرأس الأقدس في موضع الصيارفة وهناك لغط المارّة وضوضاء المتعاملين ، فأراد سيّد الشهداء توجيه النّفوس نحوه ليسمعوا بليغ عظاته ، فتنحنح الرأس تنحنحاً عالياً فاتّجهت إليه النّاس واعترتهم الدهشة ؛ حيث لَم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين (ع) ، فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى).

وصُلب على شجرة فاجتمع النّاس حولها ينظرون إلى النّور السّاطع ، فأخذ يقرأ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(٣).

قال هلال بن معاوية : رأيت رجلا يحمل رأس الحسين (ع) والرأس يخاطبه : فرَّقت بين رأسي وبدني فرق الله بين لحمك وعظمك وجعلك آية ونكالا للعالمين فرفع السوط واخذ يضرب الرأس حتّى سكت (٤).

وسمع سليمة بن كهيل الرأس يقرأ وهو على القناة (فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٥).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ ص ١١٩ : آية (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ). والبحار ٥ ص ٢٧٨ : نقلاً عن المهج. وفي قصص الأنبياء للثعالبي ص ١٢٠ الباب الثامن : خروج موسى من مدين.

(٢) إرشاد المفيد ، والخصائص الكبرى ٢ ص ١٢٥.

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ ص ٣٦٢ : كان زيد بن أرقم من المنحرفين عن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) فإنّه كتم الشهادة لأمير المؤمنين بالولاية يوم الغدير ، فدعا عليه بالعمى ؛ فكفّ بصره إلى أنْ مات. وفي كامل ابن الأثير ٤ ص ٢٤ : أمر ابن زياد ، فطيف برأس الحسين (ع) في الكوفة. ومثله في البداية لابن كثير ٨ ص ١٩١ ، والخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٨.

(٣) ابن شهر آشوب ٢ ص ١٨٨.

(٤) شرح قصيدة أبي فراس ص ١٤٨.

(٥) أسرار الشهادة ص ٤٨٨.

٣٣٢

ويحدّث ابن وكيدة أنّه سمع الرأس يقرأ سورة الكهف ، فشكّ في أنّه صوته أو غيره فترك (عليه السّلام) القراءة والتفت إليه يخاطبه : «يابن وكيدة أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربهم يرزقون؟».

فعزم على أنْ يسرق الرأس ويدفنه. وإذا الخطاب من الرأس الأزهر : «يابن وكيدة ، ليس إلى ذلك من سبيل ، إنّ سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييري على الرمح ، فذرهم فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسّلاسل يسحبون» (١).

قال المنهال بن عمرو : رأيت رأس الحسين (ع) بدمشق على رمح وأمامه رجل يقرأ سورة الكهف حتّى إذا بلغ إلى قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً)

نطق الرأس بلسان فصيح : «أعجب من أصحاب الكهف ، قتلي وحَملي» (٢).

ولمّا أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم حيث أنكر عليه فعلته نطق الرأس بصوت رفيع : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله» (٣).

أروحك ام روح النبوّة تصعد

من الأرض للفردوس والحور سجَّد

ورأسك أم رأس الرسول على القنا

بآيه أهل الكهف راح يردّد

وصدرك أم مستودع العلم والحجى

لتحطيمه جيش من الجهل يعمد

واُمّك أم اُمّ الكتاب تنهَّدت

فذاب نشيجاً قلبها المتنهّد

وشاطرت الأرضُ السّماءَ بشجوها

فواحدة تنعى واُخرى تعدّد

وقد نصب الوحي العزاء ببيته

عليك حداداً والمعزّى محمَّد

يلوح له الثقلان ثقل ممزّق

بسهم وثقل بالسّيوف مقدَّد

فعترته بالسّيف والسّهم بعضها

شهيد وبعض بالفلاة مشرَّد

وأيّ شهيد أصلت الشمس جسمه

ومشهدها من أصله متولَّد

وأيّ ذبيح داست الخيل صدره

وفرسانها من ذكره تتجمَّد

__________________

(١) شرح قصيدة أبي فراس ص ١٤٨.

(٢) الخصائص للسيوطي ٢ ص ١٢٧.

(٣) مقتل العوالم ص ١٥١.

٣٣٣

ألم تك تدري أنَّ روح محمَّد

كقرآنه في سبطه متجسَّد

فلو علمت تلك الخيلول كاهلها

بأنَّ الذي تحت السنابك أحمد

لثارت على فرسانها وتمرَّدت

عليهم كما ثاروا بها وتمرَّدوا

فرى الغيّ نحراً يغبط البدر نوره

وفي كل عرق منه للحق فرقد

وهشَّم أضلاعاً بها العطف مودع

وقطَّع أنفاساًبها اللطف موجد

وأعظم ما يشجي النّفوس حرائر

تضام وحاميها الوحيد مقيَّد

فمن موثَق يشكو التشدّد من يد

وموثقة تبكي فتلطمها اليد

كأنَّ رسول الله قال لقومه

خذوا وتركم من عترتي وتشدَّدوا (١)

طغيان الأشدق

قال ابن جرير : أرسل ابن زياد عبد الملك بن الحارث السّلمي إلى المدينة ليبشّر عمرو بن سعيد الأشدق (٢) بقتل الحسين ، فاعتذر بالمرض ، فلم يقبل منه ، وكان ابن زياد شديد الوطأة لا يصطلى بناره ، وأمره أن يجدَّ السّير ، فإن قامت به الراحلة يشتري غيرها ، ولا يسبقه الخبر من غيره ، فسار مجدَّاً حتّى إذا وصل المدينة لقيه رجل من قريش وسأله عمّا عنده فقال له : الخبر عند الأمير. ولمّا أعلم ابن سعيد بقتل الحسين ، فرح واهتزّ بشراً وشماتة.

وأمر المنادي أن يعلن بقتله في أزقّة المدينة ، فلم يسمع ذلك اليوم واعية مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على سيّد شباب أهل الجنّة واتّصلت الصيحة بدار الأشدق فضحك وتمثّل بقول عمرو بن معد يكرب :

عجَّت نساء بني زياد عجَّة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

ثمّ قال : واعية بواعية عثمان (٣).

__________________

(١) من قصيدة للسيد صالح ابن العلامة السيّد مهدي بحر العلوم.

(٢) في مجمع الزوائد لابن حجر الهيثمي ٥ ص ٢٤٠ ، وتطهير الجنان على هامش الصواعق المحرقة ص ١٤١ : عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : «ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بني اُميّة فيسيل رعافه» وقد رعف عمرو بن سعيد وهو على منبره (ص) حتّى سال رعافه.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٨.

٣٣٤

والتفت إلى قبر رسول الله وقال : يوم بيوم بدر يا رسول الله. فأنكر عليه قوم من الأنصار (١).

ثمّ رقى المنبر وقال : أيّها النّاس ، إنّها لدمة بلدمة وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة حكمة بالغة فما تغني النّذر ، لقد كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله ، كعادتنا وعادته ، ولكن كيف نصنع بمَن سلَّ سيفه علينا يريد قتلنا إلاّ أنْ ندفعه عن أنفسنا.

فقام إليه عبد الله بن السائب وقال : لَو كانت فاطمة حيَّة ورأت رأس الحسين لبكت عليه.

فزجره عمرو بن سعيد وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا وزوجها أخونا واُمّها ابنتنا ، ولَو كانت فاطمة حيَّة لبكت عينها وما لامت من قتله ودفعه عن نفسه (٢).

وكان عمرو فظّا غليظاً قاسياً ، أمر صاحب شرطته على المدينة عمرو بن الزبير بن العوام (٣) بعد قتل الحسين (ع) أنْ يهدم دور بني هاشم ، ففعل وبلغ منهم كلّ مبلغ وهدم دار ابن مطيع ، وضرب النّاس ضرباً شديداً ، فهربوا منه إلى ابن الزبير (٤). وسمّي بالأشدق ؛ لأنّه أصابه اعوجاج في حلقه إلى الجانب الآخر ؛ لإغراقه في شتم علي بن أبي طالب (ع) (٥) ، وعاقبه الله شرّ عقوبة حيث حُمل إلى عبد الملك بن مروان مقيّداً بالحديد ، وبعد أنْ أكثر من عتابه أمر به فقُتل (٦).

وخرجت بنت عقيل بن أبي طالب في جماعة من نساء قومها حتّى انتهت إلى قبر النّبي (ص) ، فلاذت به وشهقت عنده ، ثمّ التفتت إلى المهاجرين والأنصار تقول :

__________________

(١) نفس المهموم ص ٢٢٢ ، وشرح النّهج لابن أبي الحديد ١ ص ٣٦١.

(٢) مقتل العوالم ص ١٣١.

(٣) في أنساب الأشراف للبلاذري ٤ ص ٢٣ : كانت اُمّ عمرو بن الزبير أمة بنت خالد بن سعد بن العاص ، وكان على جيش أرسله عمرو بن سعد الأشدق إلى محاربة عبد الله بن الزبير بمكّة ، فقبض جيش عبد الله على عمرو بن الزبير ، فأمر عبد الله أنْ يضربه بالسّياط كلّ من له مظلمة عنده فمات من ذلك.

(٤) الأغاني ٤ ص ١٥٥.

(٥) معجم الشعراء للمرزباني ص ٢٣١.

(٦) (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري ص ٩ ، طبعة الهند ، مادة : أمكراً وأنت في الحديد.

٣٣٥

ماذا تقولون إنْ قال النّبي لكم

يوم الحساب وصدق القول مسموع

خذلتموا عترتي أو كنتم غيبا

والحقّ عند وليّ الأمر مجموع

اسلمتموهم بأيدي الظالمين فما

منكم له اليوم عند الله مشفوع

ما كان عند غداة الطَّف إذ حضروا

تلك المنايا ولا عنهنَّ مدفوع

فأبكت مَن حضر ، ولَم يرَ باكٍ وباكية أكثر من ذلك اليوم (١). وكانت اُختها زينب تندب الحسين (ع) بأشجى ندبة وتقول :

ماذا تقولون إذ قال النّبي لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الاُمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم اُسارى ومنهم ضرَّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي (٢)

اُمّ البنين

لَم أعثر على نصّ ، يوثق به يدلّ على حياة اُمّ البنين يوم الطفّ ، وما

__________________

(١) أمالي ابن الشيخ الطوسي ص ٥٥ ، وسمّاها ابن شهر آشوب في المناقب ٢ ص ٢٢٧ أسماء.

(٢) الأبيات بهذا اللفظ في مثير الاحزان لابن نماص ٥١ واللهوف لابن طاووس ص ٩٦ والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٦ وعنده انها لبنت عقيل بن أبي طالب ومثله أبو الريحان البيروني في الآثار الباقية ص ٣٢٩. وابن جرير في التاريخ ج ٦ ص ٢٦٨ الا انه ذكر الأول والثاني وفي رواية ابن قتيبة في عيون الاخبار ج ١ ص ٢١٢ للابيات خلاف ، وفي مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ٧٦ : ان زينب بنت عقيل بن أبي طالب قالت البيتين الأولين ، وفي رواية اخرى ان بنت عقيل بن أبي طالب قالت وذكر أربعة أبيات والرابع منهما :

ضيعتم حقنا والله أوجبه

وقد رعى الفيل حق البيت والحرم

ونسب ابن شهر اشوب في المناقب الى زينب بنت امير المؤمنين (عليه السلام) انها انشأت الابيات الثلاثة بعد خطبتها بالكوفة. وفي تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص ١٥١ : ان زينب بنت عقيل بن أبي طالب قالت قالت ، وذكر اربعة ابيات وكان الرابع في روايته

ذريتي وبنو عمي بمضيعة

منهم اسارى وقتلى ضرجوا بدم

ونسب ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٠٠ الأبيات الثلاثة الى زينب بنت عقيل بن أبي طالب ثم قال وقال أبو الاسود الدؤلي

أقول وزادني حنقاً وغيظاً

ازال الله ملك بني زياد

وأبعدهم كما بعدوا وخانوا

كما بعدت ثمود وقوم عاد

ولا رجعت ركائبهم إليهم

اذا وقفت الى يوم التناد

وفي الارشاد للشيخ المفيد ، لما سمعت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب نعي الحسين خرجت تنعاه ومعها من اخواتها أم هاني واسماء ورملة وزينب وذكر الأبيات الثلاث.

٣٣٦

يذكر لحياتها في ذلك اليوم مردّه أقوال ثلاثة :

الأول : قول العلامة محمّد حسن القزويني في رياض الأحزان / ٦٠ : اُقيم العزاء والمصيبة في دار اُمّ البنين زوجة أمير المؤمنين واُمّ العبّاس وإخوته.

الثاني : قول السّماوي في إبصار العين / ٣١ الطبعة الأولى : وأنا أسترقّ جدّاً من رثاء اُمّه فاطمة اُمّ البنين الذي أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل ، وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه وتحمل ولده عبد الله ، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة ، وفيهم مروان بن الحكم فيبكون لشجّي الندبة (اهـ).

الثالث : رواية أبي الفرج في مقاتل الطالبيين في مقتل العبّاس : عن محمّد بن علي بن حمزة عن النوفلي عن حمّاد بن عيسى الجهني عن معاوية بن عمّار عن جعفر : أنّ اُمّ البنين ـ اُمّ الإخوة الأربعة القتلى ـ تخرج إلى البقيع تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع النّاس إليها ليسمعوا منها ، وكان مروان يجيء فيمَن يجيء لذلك ، فلا يزال يسمع ندبتها (اهـ).

هذا كلّ ما وجدناه ممّا يمكن أن يكون مصدراً لحياتها يوم الطفّ ، فالأول لا دلالة فيه فإنّ غايته أنّ العزاء اُقيم في دار اُمّ البنين ، وأمّا كونها موجودة ، فلا صراحة فيه على أنّه لا يعدو الحكاية التي سجّلها أبو الفرج وأخذها قليل التفكير في التنقيب. والثاني : واضح الدلالة على استقائه من أبي الفرج فإنّ نصّ (إبصار العين للسماوي) مثل ما في مقاتل الطالبيين ، واذاً فلا يعد رأياً ثانياً ...

وشرح الكامل المنسوب للأخفش لَم أجد واحداً من أرباب التراجم ناصّاً عليه مع فحصي الكثير لتراجم كلّ مَن سُمّي بالأخفش. وأمّا الشيخ السّماوي فكثيراً ما سألته عن مصدر هذا الشرح فلَم أجد منه إلاّ السّكوت ، وقد صارحته بمعتقدي في كَون (الأبيات) له وأراد تمشية الكلام بهذا البيان ، فعلى المولى سبحانه أجره ...

ومثله المجلسي في البحار ١٠ / ٢٠١ ، حاكياً عن أبي الفرج ، وحديث أبي الفرج في هذه القصّة فيه اُمور :

٣٣٧

١ ـ إنّ رجال إسناده لا يعبأ بهم ، فإنّ النّوفلي وهو يزيد بن المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب بن هاشم ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب ١١ / ٣٤٧ ، وحكي عن أحمد : إنّ عنده مناكير ، وعند أبي زرعة ، ضعيف الحديث ، وعامّة ما يرويه غير محفوظ ، وقال أبو حاتم : منكر الحديث جداً ، وقال النّسائي : متروك الحديث ...

ومعاوية بن عمار بن أبي معاوية في تهذيب التهذيب ١٠ / ٢١٤ ، قال أبو حاتم : لا يحتجّ بحديثه ، وإنْ اُريد غير هذا فمجهول.

٢ ـ إنّ اُمّ البنين اقتبست من سيّد الأوصياء ومن سيّدَي شباب أهل الجنّة المعارف الإلهيّة والآداب المحمّديّة ما يأخذ بها إلى أسمى درجة من اليقين ، فلا يصدر منها ما لا يتّفق مع قانون الشريعة النّاهي عن تعرّض المرأة للأجانب تحريماً أو تنزيهاً ، إذا لَم تكن ضرورة هناك ، ومن البديهي أنّ اللازم للمرأة عند ندبة فقيدها الجلوس في بيتها والتحصّن به عن رؤية الأجانب لها ، وسماع صوتها الذي لَم تدع الضرورة إليه ، وإذا كان السجّاد (عليه السّلام) يقول لأبي خالد الكابلي ـ حينما تعجّب من فتح باب الدار ـ : «يا أبا خالد ، إنّ جارة لنا خرجت ولا علم لها بالتواء الباب ، ولا يجوز لبنات رسول الله أن يخرجن فيصفقن الباب» (١).

وإذاً من تربّى في بيتهم وتأدّب بآدابهم لا يمرق عن طريقتهم. ولا يمكن التشكيك في تجاوز اُمّ البنين الحدود الالهيّة التي وضعتها الشريعة في أعناق النّساء.

وأمّا الصدّيقة الزهراء (عليها السّلام) فقد ألجأها شيوخ المدينة على الخروج إلى البقيع لندبة أبيها (ص) فصنع لها أميرالمؤمنين بيتاً من جريد النّخل تتحصّن به من الأجانب سمّاه (بيت الأحزان) (٢) ، ولَم ينقل المؤرخون إنّ النّاس يحضرون

__________________

(١) مدينة المعاجز للسيّد هاشم البحراني ص ٣١٨ ، الحيدث السّادس والثمانون.

(٢) في الإشارات لمعرفة الزيارات لأبي محسن علي بن أبي بكر الهروي ص ٩٣ : بيت الأحزان في البقيع لفاطمة (عليها السّلام).

وفي وفاء الوفاء للسمهودي ٢ ص ١٠٣ ، طبعة مصر (سنة ١٣١٦ ـ) : عن ابن جبير : بالقرب من قبّة العبّاس بيت الحزن الذي تأوي إليه فاطمة عند وفاة أبيها والتزمت الحزن فيه.

وفي المختار من نوادر الأخبار لأبي عبد الله محمّد بن أحمد المقري الأنباري على هامش العلوم لأبي بكر الخوارزمي ص ١٩١ الطبعة الاُولى (سنة ١٣١٠ ـ) : إنّ علياً (ع) صنع للزهراء بيتاً من جريد النّخل بظاهر المدينة تبكي فيه على أبيها.

وفي فتح القدير لابن همام الحنفي ٢ ص ٣٢٨ : يصلّي في مسجد فاطمة بنت رسول الله بالبقيع وهو المعروف بـ (بيت الأحزان).

٣٣٨

لسماع ندبتها ، فيبكون على اُفول شمس النبوّة وانقطاع وحي السّماء ، وطموس النصائح الالهيّة.

٣ ـ إنّ المرأة إنّما تبكي فقيدها في الجبانة إذا كان مقبوراً هناك. ولَم ينقل أحد خروج المرأة إلى المقبرة على حميمها وهو مدفون في غيرها والعادة متساوية في جميع العصور ... ونسبة (أبي الفرج) خروج اُمّ البنين إلى البقيع فرية واضحة ؛ إذ لا شاهد عليها ، وغايته التعريف بأنّ مروان بن الحكم رقيق القلب ، فاستدرار الدمعة إنّما يتسبّب من انفعال النّفس بتصوّر العدوان الوارد على مَن يمتّ بحميمه بنحو من أسباب الصلة فيحتدم القلب وتهيج العاطفة فسريع الدمعة تهمل عينه وعصيّها تجيش نفسه بالبكاء ، ومروان بن الحكم هو المتشفّي بقتل الحسين (ع) وقد أظهر الفرح والشماتة بقوله لمّا نظر إلى رأس الحسين (ع) :

يا حبّذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدّين

كأنّه بات بعسجدين

شفيت نفسي من دم الحسين

٤ ـ إنّ أبا الفرج في (المقاتل) ناقض نفسه حيث قال في مقتل العبّاس (ع) : وكان آخر من قُتل من إخوته من اُمّه وأبيه فحاز مواريثهم (اهـ).

وروايته هذه توافق النصّ الذي سجّله مصعب الزبيري في نسب قريش / ٤٣ فإنّه قال : ورث العبّاس إخوته إذ لَم يكن لهم ولد ، وورث العبّاس ابنه عبيد الله ، وكان محمّد وعمر حيَّين فسلّم محمّد لعبيد الله ميراث عمومته وامتنع عمر حتّى صولح ورضي من حقه (اهـ). وقال أبو نصر البخاري في سرّ السلسلة العلويّة / ٨٩ المطبعة الحيدريّة بالنّجف : لمّا كان يوم الطفّ قدّم الحسين (ع) إخوة العبّاس جعفراً وعثمان وعبد الله فقُتلوا جميعاً ، فورثهم العبّاس ، ثمّ قُتل العبّاس فورثهم جميعاً ابنه عبيد الله بن العبّاس ، وهذا يفيدنا وثوقاً بوفاة اُمّ البنين يوم الطفّ فإنّها لَو كانت موجودة لكان ميراث إخوة العبّاس مختصّاً بها ؛ لكونها اُمّهم ، ولا يرثهم العبّاس حتّى ينتقل إلى ولده عبيد الله وعدم منازعة (محمّد بن الحنفيّة) لعبيد الله في ميراث عمومته على وفق الشريعة ؛ لأنّ العبّاس يتّصل بإخوته الشهداء بسببين : الأب والاُمّ ، ومحمّد يتصل بهم من جهة الأب ، وذو السّببين يقدّم في الميراث ، ولَم يفقه عمر الأطرف وجه المسألة ، وهو ابن علي باب مدينة العلم ، وكان عليه أنْ يراجع إمام الاُمّة زين العابدين (ع) كَي لا يقع في

٣٣٩

الهلكة ، إنْ كان ما ينسب إليه من المنازعة صحيحاً ولعلّ ما يذكر في عمدة الطالب طبعة النّجف يؤيّد هذه النّسبة وذلك : إنّه خرج إلى النّاس في ثياب معصفرة يقول : أنا الرجل الحازم ، حيث لَم أخرج فاقتل. وقد وضح التناقض في كلام أبي الفرج فإنّ تسجيل خروج (اُمّ البنين) إلى البقيع وندبتها أولادها يدلّ على حياتها يوم الطفّ ، ثمّ نصّه على ميراث العبّاس لإخوته يشهد بوفاتها ذلك اليوم ... وكم له من هفوات!

عبد الله بن جعفر

قال ابن جرير : لمّا ورد نعي الحسين (ع) جلس عبد الله بن جعفر للعزاء ، وأقبل النّاس يعزّونه فقال مولاه (أبو اللسلاس) (١) : هذا ما لقيناه من الحسين. فحذفه بنعله وقال : يابن اللخناء أللحسين تقول ذلك؟! والله لو شهدته لأحببت أنْ لا اُفارقه حتّى اُقتل معه ، والله إنّه لمِّما يسخى بنفسه عن ولديّ ويهون عليّ المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيَين له صابرَين معه. ثمّ أقبل على جلسائه وقال : الحمد لله لقد عزّ عليَّ المصاب بمصرع الحسين (ع) أنْ لا أكون واسيته بنفسي ، فلقد واساه ولداي (٢) ... ومن عجب التاريخ حديث البلاذري (٣) والمحسن التنوخي (٤) وفود عبد الله بن جعفر على (يزيد) وإكرامه إيّاه بأكثر ممّا يكرمه أبوه معاوية.

إنّ مَن يدرس نفسيّة ابن جعفر يتجلّى له كذب القصّة التي أرسلها المدائني واستند إليها البلاذري والتنوخي. فإنّ الواقف على الرجال الموتورين لا يعدّون الجزم بالتهاب قلوبهم ناراً على واترهم ويترقّبون الفرص للأخذ بالثأر. يشهد له حديث عبد الله بن اُبَي بن سلول مع النّبي ، وذلك إنّ اُبياً لمّا صدر منه ما حكاه الكتاب العزيز (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) فجاء عبد الله إلى نبيّ الإسلام وقال : لقد بلغتك هذه الكلمة من أبي

__________________

(١) في الإرشاد للشيخ المفيد ، وكشف الغمّة للأربلي ص ١٩٤ : أبو السلاسل.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢١٨.

(٣) أنساب الأشراف ٤ ص ٣.

(٤) المستجاد من فعلات الأجواد ص ٢٢.

٣٤٠