مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

نفسها الذاهب ، وحمى خدرها المنثلم وعماد بيتها المنهدم (١).

لهفي على عقائل الرسالة

لمّا رأينه بتلك الحالة

علا نحيبهنَّ والصّياح

فاندهش العقول والأرواح

ناحت على كفيلها العقائل

والمكرمات الغرُّ والفضائل

لهفي لها إذ تندب الرسولا

فكادت الجبال أن تزولا

لهفي لها مذ فقدت عميدها

وهل يوازي أحد فقيدها

ومن يوازي شرفاً وجاها

مثال ياسين شبيه طاها

يا ساعد الله أباه مذ خبا

نيّره الأكبر في ظلّ الظّبي

رأى الخليل في منى الطفوف

ذبيحه ضريبة السّيوف

بكاه ما يُرى وما ليس يُرى

من ذروة العرش إلى تحت الثرى

بكاه حزناً ربُّ أرباب النّهى

ومَن هو المبدأ وهو المنتهى

ومَن بكاه سيّد البرايا

فرزؤه من أعظم الرزايا

بكته عين الرشد والهداية

ومَن هو المنصوص بالوصاية (٢)

ولسان حال أبيه يقول :

بُنَي اقتطعتك من مهجتي

علام قطعت جميل الوصال

بُنَي عراك خسوف الردى

وشأن الخسوف قبيل الكمال

بُنَي حرام عليّ الرقاد

وأنت عفير بحرّ الرمال

بُنَي أبيت سوى القاصرات

وخلّفت عندي سمر العوالي

بُنَي بكتك عيون الرجال

ليوم النّزيل ويوم النّزال

بكتك بَنَي صفات الكمال

وغضُّ الشباب وذات الجمال

عجلت لحوض أبيك النبيِّ

وسارعت بعد الظّما للزلال

سيرثيك منّي لسان السّنان

بنظم قلوب عيون الرجال (٣)

__________________

(١) في تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٦ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣١ : خرجت زينب بنت فاطمة صارخة فألقت بنفسها عليه ، وردّها الحسين إلى الخيمة. وإذا خرجت العميدة لتلك الفواقد المهدّئة لهن ، فهل يتصوّر بقاء واحدة منهنّ في الخيمة؟

(٢) من اُرجوزة آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدّس سره).

(٣) من قصيدة للعلامة السيد مهدي البحراني رحمه الله.

٢٦١

عبد الله بن مسلم

وخرج من بعده عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، واُمّه رقية الكبرى بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) (١) ، وهو يقول :

اليوم ألقى مسلماً وهو أبي

وعصبة بادوا على دين النبي

فقتل جماعة بثلاث حملات (٢). ورماه يزيد بن الرقاد الجهني (٣) ، فاتقاه بيده فسمرها إلى جبهته ، فما استطاع أنْ يزيلها عن جبهته (٤) فقال : اللهمّ انّهم استقلونا واستذلونا فاقتلهم كما قتلونا. وبينا هو على هذا إذ حمل عليه رجل برمحه فطعنه في قلبه ومات (٥). فجاء إليه يزيد بن الرقاد وأخرج سهمه من جبهته وبقي النّصل فيها وهو ميّت (٦).

حملة آل أبي طالب

ولمّا قُتل عبد الله بن مسلم ، حمل آل أبي طالب حملة واحدة ، فصاح بهم الحسين (عليه السّلام) : «صبراً على الموت يا بني عمومتي ، والله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم» (٧) ، فوقع فيهم عون بن عبد الله بن جعفر الطيّار ، واُمّه العقيلة زينب ، وأخوه محمّد ، واُمّه الخوصاء ، وعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب (٨) ، وأخوه جعفر

__________________

(١) نسب قريش لمصعب الزبيري ص ٤٥. قال : وهي اُمّ أخويه علي ومحمد.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٠.

(٣) في أنساب الأشراف ٥ ص ٢٣٨ : الجنبي بالنّون بعد الجيم.

(٤) المقاتل لأبي الفرج ص ٢٧ ، طبعة ايران.

(٥) الإرشاد ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٦ : إنّ عمرو بن صبيح الصدائي رماه بسهم ، ورماه بآخر ففلق قلبه. وفي أنساب الأشراف ٥ ص ٢٣٩ : الرامي يزيد بن الرقاد الجنبي.

(٦) تاريخ الطبري ٦ ص ١٧٩.

(٧) هذه الجملة هي الظاهرة مما ذكره ابن جرير في التاريخ ٦ ص ٢٥٦ : و (النداء بالصبر) نصّ عليه الخوارزمي في المقتل ٢ ص ٧٨ ، والسيد في اللهوف ص ٦٤.

(٨) في المحبر لابن حبيب النسابة ص ٥٧ : كانت خديجة بنت علي (عليه السلام) عند عبد الرحمن بن عقيل. وفي معارف ابن قتيبة ص ٨٩ ، عند ذكر أخبار علي (عليه السلام) : ولدت له سعيداً. وفي المحبر لابن حبيب ص ٥٧ : خلف على خديجة هذه أبو السنابل عبد الله بن عامر بن كريز.

٢٦٢

ابن عقيل ومحمد بن مسلم بن عقيل (١).

وأصابت الحسين المثنّى ابن الإمام الحسن السّبط (عليه السّلام) ثمانية عشر جراحة وقُطعت يده اليمنى ولَم يستشهد.

وخرج أبو بكر ابن أمير المؤمنين (عليه السّلام) (٢) واسمه محمد (٣) قتله زحر بن بدر النخعي (٤).

وخرج عبد الله بن عقيل فما زال يضرب فيهم حتّى اُثخن بالجراح وسقط إلى الأرض ، فجاء إليه عثمان بن خالد التميمي فقتله.

ما العرب إلاّ سماء للعلاء وما

أبناء عمرو العلى إلاّ دراريها

فللنبوّة تاج في مفارقها

وللإمامة عقد في تراقيها

حليان ليس سواها تحتلي بهما

شتّان عاطل أجياد وحاليها

من شيبة الحمد شبّان مشت مرحا

لنصرة الدِّين لا كبراً ولا تيها

بسّامة الثغر والأبطال عابسة

تفتّر منها الثنايا عن لئاليها

جرت بطوفان حرب في بواخرها

وما بواخرها إلا مذاكيها

لَو لَم يكن همّها نيل السّعادة ما

أبقت على الأرض شخصاً من أعاديها

ليست تبالي وللأسياف صلصلة

مطّبّق سعّة الغبراء داويها

وللرماح اصطكاك في أسنّتها

وللسهام اختلاف في مراميها

وللرؤوس انتثار عن كواهلها

وللصدور انتظام في مجانيها (٥)

__________________

(١) في سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ ص ٢١٧ : قُتل مع الحسين عبد الله وعبد الرحمن ابنا مسلم بن عقيل ابن أبي طالب.

(٢) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ١١٨ ، وصفوة الصفوة لابن الجوزي ١ ص ١١٩ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٩٨ : إنّ أبا بكر اُمّه ليلى بنت مسعود قُتل مع الحسين (عليه السّلام).

(٣) الإرشاد وأعلام الورى عند ذكر أولاد أمير المؤمنين (ع). وفي مقتل الخوارزمي ٢ ص ٢٨ اسمه عبد الله. وفي صفوة الصفوة ١ ص ١١٩ : محمّد الأصغر اُمّه اُمّ ولد قُتل مع الحسين (ع).

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢١. وفي مقتل الخوارزمي : زحر بن قيس النخعي. وفي مقاتل أبي الفرج : وجِد في ساقية ولم يعلم قاتله.

(٥) للحجة الشيخ عبد الحسين صادق العاملي قدس الله سره وستأتي في القاسم تتمتها.

٢٦٣

القاسم وأخوه

وخرج أبو بكر بن الحسن بن أمير المؤمنين (ع) ، وهو عبد الله الأكبر ، واُمّه اُمّ ولد (١) يقال لها رملة (٢) ، فقاتل حتّى قُتل (٣).

وخرج من بعده أخوه لاُمّه وأبيه القاسم (٤) ، وهو غلام لَم يبلغ الحلم ، فلمّا نظر إليه الحسين (عليه السّلام) اعتنقه وبكى (٥) ثمّ أذن له ، فبرز كأنّ وجهه شقّة قمر (٦) وبيده السّيف وعليه قميص وإزار وفي رجلَيه نعلان ، فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع نعله اليسرى (٧) ـ وأنف ابن النّبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يحتفي في الميدان ـ فوقف يشدّ شسع نعله (٨) وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله غير

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٩ ، ومقاتل أبي الفرج ص ٣٤.

(٢) في الحدائق الوردية : اُمّه واُمّ القاسم رملة ، وفي تذكرة الخواص ص ١٠٣ ، عن طبقات ابن سعد : نفيلة اُمّ القاسم وأبي بكر وعبد الله. وفي مقاتل أبي الفرج ، اُمّ ولد لا تُعرف. وفي نسب قريش ص ٥٠ ، لمصعب الزبيري : القاسم وأبو بكر قتلا بالطفّ ولا عقب لها.

(٣) في إعلام الورى الطبرسي ص ١٢٧ ، والمجدي في النسب لأبي الحسن العمري ، وإسعاف الراغبين على هامش نور الأبصار ، ٢٠٢ : إنّه تزوّج من سكينة بنت الحسين (ع). وفي المترادفات للمدائني ص ٦٤ في المجموعة الاُولى نوادر المخطوطات : كان عبد الله بن الحسن أبا عذرها. وفي تاج العروس ٤ ص ٣٨٧ : يقال : لله أبا عذرها ، إذا افترعها وافتضها.

(٤) كلّ ما يُذكر في عرس القاسم غير صحيح ؛ لعدم بلوغه سنّ الزواج ، ولم يرد به نصّ صحيح من المؤرّخين. والشيخ فخر الدين الطريحي عظيم القدر جليل في العلم ، فلا يمكن لأحد أنْ يتصوّر في حقّه هذه الخرافة ، فثبوتها في كتابه المنتخب ، مدسوسة في الكتاب ، وسيحاكِم الطريحي واضعها في كتابه. وما أدري من أين أثبت عرسه فضيلة السيّد علي محمّد اللكنهوي الملقّب بـ (تاج العلماء) فكتب رسالة في عرسه سمّاها (القاسميّة) ، كما جاء في الذريعة للطهراني ١٧ ص ٤ ، رقم ١٩.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٢٧. وذكر الخوارزمي : إنّ الحسين (ع) أبى أنْ يأذن له ، فما زال الغلام يقبّل يدَيه ورجلَيه حتّى أذن له. أقول : هذا الخبر ينافيه ، ما تقدّم من إخبار الحسين (ع) ليلة عاشوراء أصحابه وأهل بيته بقتلهم جميعاً حتّى القاسم والرضيع ، وهذا الحديث كحديث عرس القاسم لا صحّة له.

(٦) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٦ ، ومقاتل أبي الفرج ، والإرشاد ، وإعلام الورى ص ١٤٦ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٢٧.

(٧) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٦ ، ومقاتل أبي الفرج ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٢٧ ، وفي الإرشاد وإعلام الورى : شسع أحدهما.

(٨) ذخيرة الدارين ص ١٥٢ ، وإبصار العين ص ٣٧ : أقول : لا غرو من ابن المصطفى إذ أنف أنْ يحتفي في الميدان ، فهذا أبو الفرج يحدّث في الأغاني ١١ ص ١٤٤ : أنّ جعفر بن علية بن ربيعة بن عبد يغوث ، من بني الحارث بن كعب ، لمّا جيء به ؛ ليقاد مه ، فبينا هو يمشي إذ انقطع شسع نعله ، فوقف يصلحه. فقال له رجل : ألا يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ فقال جعفر :

أشدّ قبال نعلي أنْ يراني

عدوّي للحوادث مستكينا

٢٦٤

مكترث بالجمع ولا مبال بالاُلوف.

أهوى يشدّ حذاءه

والحرب مشرعة لأجله

ليسومها ما إن غلت

هيجاؤها بشراك نعله

متقلداً صمصامه

متفّيئاً بظلال نصله

لا تعجبنّ لفعله

فالفرع مرتهن بأصله

السُّحْبُ يخلفها الحيا

والليث منظور بشبله (١)

وبينا هو على هذا إذ شدّ عليه عمرو بن سعد بن نُفيل الأزدي ، فقال له حميد بن مسلم : وما تريد من هذا الغلام؟ يكفيك هؤلاء الذين تراهم احتوشوه. فقال : والله لأشدنّ عليه. فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ، فوقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه! فأتاه الحسين كالليث الغضبان ، فضرب عمراً بالسّيف فاتّقاه بالسّاعد فأطنّها (٢) من المرفق ، فصاح صيحةً عظيمةً سمعها العسكر ، فحملت خيل ابن سعد لتستنقذه ، فاستقبلته بصدرها ووطأته بحوافرها فمات.

وانجلت الغبرة وإذا الحسين (ع) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه. والحسين (ع) يقول : «بُعداً لقوم قتلوك! خصمهم بوم القيامة جدّك».

ثمّ قال : «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك ، صوتٌ والله كثر واتره وقلَّ ناصره». ثمّ احتمله وكان صدره على صدر الحسين (ع) ورجلاه يخطّان في الأرض ، فألقاه مع علي الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته (٣) ، ورفع طرفه إلى السّماء وقال : «اللهمّ أحصهم عدداً ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً ، صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» (٤).

ناهيك بالقاسم بن المجتبى حسن

مزاول الحرب لم يعبأ بما فيها

كأنَّ بيض مواضيها تكلِّمه

غيدٌ تغازله منها غوانيها

كأنّ سمر عواليها كؤوس طلا

تزفّها راح ساقيها لحاسيها

__________________

(١) للعلامة السيّد مير علي أبو طبيخ رحمه الله.

(٢) في الصحاح ضربه فأطنّ ساقه أي : قطعها ، يراد بذلك صوت القطع.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٧ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٨٦ ، والإرشاد.

(٤) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٢٨.

٢٦٥

لَو كان يحذر بأساً أو يخاف وغيً

ما انصاع يصلح نعلاً وهو صاليها

أمامه من أعاديه رمال ثرى

من فوق أسفلها ينهال عاليها

ما عممت بارقات البيض هامته

فاحمرّ بالأبيض الهنديّ هاميها

إلا غداة رأته وهو في سنةٍ

عن الكفاح غفول النفس ساهيها

وتلك غفوة ليث غير مكترث

ما ناله السّيف إلاّ وهو غافيها

فخرّ يدعو ، فلبّى السّبط دعوته

فكان ما كان منه عند داعيها

فقلّ به الأشهب البازي بين قطا

قد لفَّ اولها فتكاً بتاليها

جنى ولكن رؤوس الشوس يانعة

وما سوى سيفه البتار جانيها

حتّى إذا غصّ بالبتّار أرحبها

وفاض من علق البتّار واديها

تقشّعت ظلمات الخيل ناكصة

فرسانها عنه وانجابت غواشيها

وإذ به حاضن في صدره قمراً

يزين طلعته الغرّاء داميها

وافى به حاملاً نحو المخيم والآ

ماق في وجهه حمر مجانيها

تخطّ رجلاه في لوح الثرى صحفاً

الدمع منقطها والقلب تاليها

آه على ذلك البدر المنير محا

بالخسف غرّته الغراء ماحيها

إخوة العبّاس (ع)

ولمّا رأى العبّاس (عليه السّلام) كثرة القتلى من أهله قال لإخوته من اُمّه وأبيه ، عبد الله وعثمان وجعفر : تقدّموا يا بني اُمّي حتّى أراكم نصحتم لله ولرسوله. والتفت إلى عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر وقال : تقدّم يا أخي حتّى أراك قتيلاً وأحتسبك (١). فقاتلوا بين يدَي أبي الفضل حتّى قُتلوا بأجمعهم.

نعما قرابين الأله

مجزّرين على الفرات

خير الهداية أن يكون

الهدي من زمر الهداة

من بعد ما قضوا الصلاة

قضوا فداءاً للصلاة (٢)

__________________

(١) مقاتل أبي الفرج ص ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) العلامة ثقة الإسلام الشيخ محمّد طاهر آل الفقيه الشيخ راضي (قدس سره).

٢٦٦

شهادة العبّاس (ع)

ولَم يستطع العبّاس صبراً على البقاء بعد أنْ فُني صحبُه وأهلُ بيته ، ويرى حُجّة الوقت مكثوراً قد انقطع عنه المدد ، وملأ مسامعه عويل النّساء وصراخ الأطفال من العطش ، فطلب من أخيه الرخصة ، ولمّا كان العبّاس (ع) أنفس الذخائر عند السّبط الشهيد (ع) ؛ لأنّ الأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه ، والحرم مطمئنّة بوجوده مهما تنظر اللواء مرفوعاً ، فلَم تسمح نفس أبي الضيم القدسيّة بمفارقته فقال له : «يا أخي أنت صاحب لوائي» (١).

قال العبّاس : قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين واُريد أنْ آخذ ثأري منهم ، فأمره الحسين (ع) أنْ يطلب الماء للأطفال ، فذهب العبّاس إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار ، فلَم ينفع. فنادى بصوت عالٍ : يا عمر بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى ، فاسقوهم من الماء قد أحرق الظما قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند واُخلي لكم الحجاز والعراق. فأثّر كلامه في نفوس القوم حتّى بكى بعضهم ، ولكنّ الشمر صاح بأعلى صوته : يابن أبي تراب ، لو كان وجه الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا ، لَما سقيناكم منه قطرة ، إلاّ أنْ تدخلوا في بيعة يزيد.

فرجع إلى أخيه يخبره ، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش (٢) فلَم تتطامن نفسه على هذا الحال ، وثارت به الحميّة الهاشميّة :

يوم أبو الفضل تدعو الظاميات به

والماء تحت شبا الهنديّة الخذم

والخيل تصطكُّ والزغف الدلاص على

فرسانها قد غدت ناراً على علم

وأقبل الليث لا يلويه خوف ردى

بادي البشاشة كالمدعوّ للنعم

يبدو فيغدو صميم الجمع منقسماً

نصفَين ما بين مطروح ومنهزم (٣)

__________________

(١) البحار ١٠ ص ٢٥١ ، ومقاتل العوالم ص ٩٤.

(٢) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١١٨.

(٣) من قصيدة للحاج هاشم الكعبي ، ذُكرت في أعيان الشيعة بترجمته.

٢٦٧

ثمّ إنّه ركب جواده وأخذ القربة ، فأحاط به أربعة آلاف ورموه بالنّبال فلَم ترعه كثرتهم ، وأخذ يطرد اُولئك الجماهير وحده ولواء الحمد يرفّ على رأسه ، ولَم يشعر القوم أهو العبّاس يجدل الأبطال أم أنّ الوصي يزأر في الميدان؟! فلم تثبت له الرجال ، ونزل إلى الفرات مطمئنّاً غير مبال بذلك الجمع.

ودمدم ليث الغاب يعطو بسالة

إلى الماء لم يكبر عليه ازدحامها

وخاض بها بحرا يرفُّ عبابه

ضبا ويد الأقدار جالت سهامها

ألمت به سوداء يحْطف برقها

البصائر من رعب ويعلو قتامها

جلاها بمشحوذ الغرارين أبلج

يدبُّ به للدارعين حمامها

فحلّأها عن جانب النهر عنوة

وولّت هواديها يصلُّ لجامها

ثنى رجله عن صهوة المهر وامتطى

قرى النهر واحتلَّ السقاء همامها

وهبّ إلى نحو الخيام مشمّراً

لريِّ عطاشى قد طواها اوامها (١)

ولمّا اغترف من الماء ليشرب ، تذكّر عطش الحسين ومَن معه ، فرمى الماء (٢) وقال :

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون

وتشربين بارد المعين

تالله ما هذا فعال ديني (٣)

ثمّ ملأ القربة وركب جواده وتوجّه نحو المخيّم ، فقُطع عليه الطريق ، وجعل يضرب حتّى أكثر القتل فيهم وكشفهم عن الطريق وهو يقول :

لا أرهب الموت إذا الموت زقا (٤)

حتّى اُوارى في المصاليت لقى

__________________

(١) للشيخ حسن مصبح الحلّي ، ذُكرت في كتابنا (قمر بني هاشم).

(٢) المنتخب للطريحي ص ٣١١ ، الطبعة الثالثة ، المجلس التاسع ، الليلة العاشرة. وعند المجلسي في البحار ١٠ ص ٢٠١ ، وعنه في مقتل العوالم ص ٩٥ ، وعنه في تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١١٩ ، وفي رياض المصائب ص ٣١٣.

(٣) رياض المصائب ص ٣١٣ للسيّد محمّد مهدي الموسوي.

(٤) زقا : بمعنى صاح ، وكانت العرب تزعم أنّ للموت طائراً يصيح ويسمونه (الهامة) ، ويقولون إذا قُتل الإنسان ولَم يؤخذ بثأره ، زقّت هامته حتّى يثأر ، قال الشاعر :

فإنّ تلك بهراة تزقو

فقد ازقبت بالمردين هاما

وسمعت العالِم الفاضل الشيخ كاظم سبتي رحمه الله يقول : أتاني بعض العلماء الثقات وقال : أنا رسول العبّاس (ع) إليك ، رأيته في المنام يعتب عليك ويقول : لَم يذكر مصيبتي شيخ كاظم سبتي ، فقلتُ له : يا

٢٦٨

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقى

إني أنا العبّاس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

فكمِن له زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي ، فضربه على يمينه فبرأها فقال (عليه السّلام) :

والله إنْ قطعتُمُ يميني

إني أُحامي ابداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

نجل النبيِّ الطاهر الأمين

فلَم يعبأ بيمينه بعد أنْ كان همّه إيصال الماء إلى أطفال الحسين (ع) وعياله ، ولكن حكيم بن الطفيل كمِن له من وراء نخلة فلمّا مرّ به ضربه على شماله فقطعها (١) وتكاثروا عليه ، وأتته السّهام كالمطر ، فأصاب القربة سهم واُريق ماؤها ، وسهم أصاب صدره (٢) ، وضربه رجل بالعمود على رأسه ففلق هامته.

وهوى بجنب العلقميِّ فليته

للشاربين به يداف العلقم

وسقط على الأرض ينادي : عليك منّي السّلام أبا عبد الله. فأتاه الحسين (ع) (٣) وليتني علمت بماذا أتاه أبحياة مستطارة منه بهذا الفادح الجلل أم بجاذب من الاُخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب؟!

نعم حصل الحسين (ع) عنده وهو يبصر قربان القداسة فوق الصعيد قد غشيته الدماء وجللته النّبال ، فلا يمين تبطش ولا منطق يرتجز ولا صولة ترهب ولا عين تبصر ، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدد.

أصحيح أنّ الحسين (ع) ينظر إلى هذه الفجائع ومعه حياة ينهض بها؟ لَم يبقَ الحسين (ع) بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً معرّى عن لوازم الحياة ، وقد أعرب

__________________

سيّدي ما زلت أسمعه يذكر مصائبك ، فقال (ع) : قل له يذكر هذه المصيبة وهي : (إنّ الفارس إذا سقط من فرسه يتلقّى الأرض بيدَيه فإذا كانت السّهام في صدره ويداه مقطوعتان ، بماذا يتلقى الأرض؟).

(١) مناقب ابن شهر آشوب ١ ص ٢٢١.

(٢) رياض المصائب ص ٣١٥.

(٣) المنتخب للطريح ص ٣١٢ ، المطبعة الحيدرية سنة ٣٦٩ ، ورياض المصائب ص ٣١٥. وفي مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٢ : إن حكيم بن الطفيل ضربه بعمود من حديد على رأسه.

٢٦٩

سلام الله عليه عن هذا الحال بقوله : «الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي» (١).

وبان الانكسار في جبينه

فاندكّت الجبال من حنينه

وكيف لا وهو جمال بهجته

وفي محياه سرور مهجته

كافل أهله وساقي صبيته

وحامل اللوا بعالي همته (٢)

وتركه في مكانه ؛ لسرّ مكنون أظهرته الأيام ، وهو أن يدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء ؛ ليكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات ، وبقعة يزدلف إليها النّاس ، وتتزلف إلى المولى سبحانه تحت قبّته التي ضاهت السّماء رفعة وسناء ، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة وتعرف الاُمّة مكانته السّامية ومنزلته عند الله تعالى ، فتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد والزيارات المتواصلة ، ويكون (عليه السّلام) حلقة الوصل فيما بينهم وبين الله تعالى. فشاء حجّة الوقت أبو عبد الله (ع) كما شاء المهَيمن سبحانه أنْ تكون منزلة أبي الفضل الظاهريّة شبيهة بالمنزلة المعنويّة الاُخرويّة ، فكان كما شاءا وأحبّا.

ورجع الحسين (ع) إلى المخيّم منكسراً حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكُمّه ، وقد تدافعت الرجال على مخيّمه فنادى : «أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حقّ ينصرنا؟ أما من خائف من النّار فيذبّ عنّا؟» (٣) فأتته سكينة وسألته عن عمّها ، فأخبرها بقتله. وسمعته زينب فصاحت : وآ أخاه! وآ عبّاساه! وآ ضيعتنا بعدك! وبكين النّسوة وبكى الحسين معهنّ وقال : «وآ ضيعتنا بعدك!»

نادى وقد ملأ البوادي صيحة

صمُّ الصخور لهولها تتألم

أاُخيُّ من يحمي بنات محمد

إذ صرْنَ يسترحمْنَ مَن لا يرحم

ما خلت بعدك أن تشلَّ سواعدي

وتكفَّ باصرتي وظهري يقصم

لسواك يلطم بالأكفِّ وهذه

بيض الظبى لك في جبيني تلطم

ما بين مصرعك الفظيع ومصرعي

إلاّ كما أدعوك قبل وتنعم

هذا حسامك مَن يذلُّ به العدى

ولواك هذا مَن به يتقدّم

__________________

(١) البحار ١٠ ص ٢٥١ ، وتظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٢٠.

(٢) من اُرجوزة آية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين الاصفهاني (قدس سره).

(٣) المنتخب ص ٣١٢.

٢٧٠

هوّنت يابن أبي مصارع فتيتي

والجراح يسكنه الذي هو أألم

فأكبَّ منحنياً عليه ودمعه

صبغ البسيط كأنَّما هو عندم

قد رام يلثمه فلم يرَ موضعاً

لَم يدمه عضُّ السلاح فيلثم (١)

سيّد الشهداء (ع) في الميدان

ولمّا قُتل العبّاس التفت الحسين (ع) ، فلم يرَ أحداً ينصره ، ونظر إلى أهله وصحبه مجزّرين كالأضاحي ، وهو إذ ذاك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال صاح بأعلى صوته : «هل من ذابّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟» فارتفعت أصوات النّساء بالبكاء (٢).

ونهض السّجاد (ع) يتوكّأ على عصا ويجرّ سيفه ؛ لأنّه مريض لا يستطيع الحركة. فصاح الحسين باُمّ كلثوم : «احبسيه ؛ لئلاّ تخلو الأرض من نسل آل محمّد». فأرجعته إلى فراشه (٣).

ثمّ إنّه (عليه السّلام) أمر عياله بالسّكوت وودّعهم ، وكان عليه جبّة خز دكناء (٤) وعمامة مورَّدة أرخى لها ذوابتين ، والتحف ببردة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتقلّد بسيفه (٥).

وطلب ثوباً لا يرغب فيه أحد يضعه تحت ثيابه ؛ لئلاّ يجرّد منه فإنّه مقتول مسلوب ، فأتوه بتبان (٦) فلَم يرغب فيه ؛ لأنّه من لباس الذلّة (٧) ، وأخذ ثوباً خلقاً

__________________

(١) للسيّد جعفر الحلّي ، طبعت بتمامها في مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف الجواهري.

(٢) اللهوف ص ٦٥.

(٣) الخصائص الحسينيّة للشيخ جعفر الشوشتري (قدس سره) ص ١٢٩ ، الاستغاثة الرابعة .... وممَّن نصّ على مرضه يوم كربلاء ، مصعب الزبيري في نسب قريش ص ٥٨ ، واليعقوبي في تاريخه ٢ ص ٢١٧. وقال الخوارزمي في مقتل الحسين ٢ ص ٣٢ : خرج علي بن الحسين (ع) وهو أصغر من أخيه القتيل وكان مريضاً لا يقدر على حمل السّيف ، الخ.

(٤) روى الكليني في الكافي على هامش مرآة العقول ٤ ص ١٠٥ عن الباقر (ع) والآلوسي في روح المعاني ٨ ص ١١١ عند قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) ، وابن حجر في مجمع الزوائد ٩ ص ١٩٢ ، والخوارزمي في مقتل الحسين ٢ ص ٣٥ : كان على الحسين (ع) يوم عاشوراء جبة خز دكناء.

(٥) المنتخب ص ٣١٥ ، المطبعة الحيدرية سنة ١٣٦٩.

(٦) في الصحاح ، (بالضمّ والتشديد) ، هي سراويل صغيرة مقدار شبر ستر العورة المغلظة وفي شفاء الغليل ص ٥٢ : هو من الدخيل والأصوب فيه الضم.

(٧) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٢ ، والبحار ١٠ ص ٣٠٥.

٢٧١

وخرّقه وجعله تحت ثيابه (١) ، ودعا بسراويل حبرة ، ففزرها ولبسها ؛ لئلاّ يسلبها (٢).

الرضيع

ودعا بولده الرضيع يودّعه ، فأتته زينب بابنه عبد الله (٣) واُمّه الرباب فأجلسه في حجره يقبّله (٤) ويقول : «بُعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدّك المصطفى خصمهم» (٥). ثمّ أتى به نحو القوم يطلب له الماء ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين (ع) الدم بكفّه ، ورمى به نحو السّماء.

قال أبو جعفر الباقر (ع) : «فلَم تسقط منه قطرة» (٦). وفيه يقول حُجّة آل محمّد (عجّل الله فرجه) : «السّلام على عبد الله الرضيع ، المرمي الصريع المتشحط دماً ، والمصعد بدمه إلى السّماء ، المذبوح بالسّهم في حجر أبيه ، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه» (٧).

أعزز عليَّ وأنت تحمل طفل

ك الظامي وحرّ أوامه لا يبرد

قد بحَّ من لفح الهجيرة صوته

بمرنة منها يذوب الجلمد

وقصدت نحو القوم تطلب منهم

ورداً ولكن أين منك المورد

__________________

(١) مجمع الزوائد لابن حجر الهيثمي ٩ ص ١٩٣ ، والبحار ١٠ ص ٢٠٥.

(٢) اللهوف ص ٦٩ ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٩.

(٣) سمّاه ابن شهر آشوب في المناقب ٢ ص ٢٢٢ : علي الأصغر. وذكر السيد ابن طاووس في الإقبال زيارة للحسين (ع) يوم عاشوراء : وفيها صلّى الله عليك وعليهم وعلى ولدك علي الأصغر الذي فُجعت به. والذي نصّ على أنّه عبد الله واُمّه الرباب ، الشيخ المفيد في الاختصاص ص ٣ ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص ٣٥ ، ومصعب الزبيري في نسب قريش ص ٥٩ ، وفي سرّ السلسلة ص ٣٠ : المقتول بالسّهم في حجر أبيه عبد الله. ولّم يذكر اُمّه.

(٤) اللهوف ص ٦٥ وفي تاريخ اليعقوبي ٢ ص ٢١٨ طبعة النجف : أن الحسين لَواقف إذ أتي بمولود له وُلِد السّاعة أذّن في اُذنه وجعل يحنكه ، إذ أتاه سهم وقع في حلق الصبي فذبحه ، فنزع الحسين (ع) السّهم من حلقه ، وجعل يلطّخه بدمه ويقول : «والله لأنت أكرم على الله من النّاقة ، ولَمحمد أكرم على الله من صالح». ثمّ أتى فوضعه مع ولده وبني أخيه.

(٥) البحار ١٠ ص ٢٣ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٢٢.

(٦) في مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٢ : لَم يرجع منه شيء وذكر ابن نما في مثير الأحزان ، ٣٦ ، والسيد في اللهوف ص ٦٦ : رواية الباقر (ع). وذكر ابن كثير في البداية ٨ ص ١٨٦ والقرماني في أخبار الدول ص ١٠٨ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٢ : رمى به نحو السّماء. قال ابن كثير : والذي رماه بالسّهم رجل من بني أسد يقال له (ابن موقد النّار).

(٧) زيارة النّاحية المقدسة. والأبيات للخطيب الفاضل سيّد محمّد جواد شبر.

٢٧٢

والقوس طوّق نحره فكأنه

خيط الهلال يحلُّ فيه الفرقد

وعلى الربية في الخيام نوائح

تومي لطفلك بالشجى وتردد

وربَّ رضيع أرضعته قسيهم

من النّبل ثديا درُّه الثر فاطمه

فلهفي له مذ طوّق السّهم جيده

كما زينته قبل ذاك تمائمه

هفا لعناق السّبط مبتسهم اللمى

وداعا وهل غير العناق يلائمه

ولهفي على اُمّ الرضيع وقد دجى

عليها الدجى والدوح نادت حمائمه

تسلل في الظلماء ترتاد طفلها

وقد نجمت بين الضحايا علائمه

فمذ لاح سهم النّحر ودّت لو أنّها

تشاطره سهم الردى وتساهمه

أقلّته بالكفين ترشف ثغره

وتلثم نحراً قبلها الّسهم لاثمه

وأدنته للنهدين ولهى فتارة

تناغيه ألطافا واُخرى تكالمه

بُنيّ أفق من سكرة الموت وارتضع

بثدييك علّ القلب يهدأ هائمه

بُنيّ فقد درًا وقد كضك الظما

فعلّه يطفي من غليلك ضارمه

بُنيّ لقد كنت الأنيس لَو حشتي

وسلواي إذ يسطو من الهمّ غاشمه (١)

ثمّ قال الحسين (ع) : «هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى (٢) ، اللهمّ لا يكون أهون عليك من فصيل ، إلهي إنْ كنت حبستَ عنّا النّصر فاجعله لِما هو خير منه ، وانتقم لنا من الظالمين (٣) واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل (٤) اللهمّ أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه النّاس برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله)» (٥) ، وسمع (عليه السّلام) قائلاً يقول : دَعه يا حسين ، فإنّ له مرضعاً في الجنّة (٦). ثمّ نزل (عليه السّلام) عن فرسه وحفر له بجفن سيفه ودفنه مرمّلاً بدمه وصلّى عليه (٧) ، ويقال وضعه مع قتلى أهل بيته (٨).

__________________

(١) للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٢) اللهوف ص ٦٦.

(٣) مثير الأحزان لابن نما ص ٢٦ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٢.

(٤) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٢٢.

(٥) المنتخب ص ٣١٣.

(٦) تذكرة الخواص ص ١٤٤ ، والقمقام لميرزا فرهاد ص ٣٨٥. وفي الإصابة بترجمة إبراهيم بن رسول الله (ص) ، وتهذيب الأسماء للنووي ١ ص ١٠٢ وشرح المواهب اللدنيّة للزرقاني ٣ ص ٢١٤ ، باب أولاده : لمّا توفّي إبراهيم ابن رسول الله (ص) ، قال النّبي : «إنّ له مرضعاً في الجنّة».

(٧) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٢ ، والاحتجاج للطبرسي ص ١٦٣ طبعة النجف.

(٨) الإرشاد ومثير الأحزان ص ٣٦.

٢٧٣

لهفي على أبيه إذ رآه

غارت لشدّة الظما عيناه

ولَم يجد شربة ماء للصبي

فساقه التقدير نحو الطلب

وهو على الأبي أعظم الكرب

فكيف بالحرمان من بعد الطلب

من دمه الزاكي رمي نحو السما

فما أجلّ لطفه وأعظما

لَو كان لَم يرم به إليها

لساخت الأرض بمَن عليها

فاحمرّت السّماء من فيض دمه

ويل من الله لهم من نقمه

وكيف حال اُمّه حيث ترى

رضيعها جرى عليه ما جرى

غادرها كالدرّة البيضاء

وعاد كالياقوتة الحمراء

حنّت عليه حنّة الفصيل

بكته بالإشراق والأصيل

لهفي لها إذ تندب الرضيعا

ندباً يحاكي قلبها الوجيعا

تقول يا بني يا مؤملي

يا منتهى قصدي وأقصى أملي

جفّ الرضاع حين عزّ الماء

أصبحت لا ماء ولا كلاء

فساقك الظما إلى ريّ الردى

كأنّما ريّك في سهم العدى

يا ماء عيني وحياة قلبي

من لبلائي وعظيم كربي

رجوت أن تكون لي نِعم الخلف

وسلوة لي عن مصابي بالسّلف

ما خِلت أنّ السّهم للفطام

حتّى أرتني جهرة أيامي (١)

وتقدّم الحسين (ع) نحو القوم مصلتاً سيفه ، آيساً من الحياة ، ودعا النّاس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قَتل جمعاً كثيراً (٢) ثمّ حمل على الميمنة وهو يقول :

الموت أولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النّار (٣)

وحمل على الميسرة وهو يقول :

أنا الحسين بن علي

آليتُ أنْ لا أنثني

__________________

(١) من اُرجوزة آية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين الاصفهاني (قدس سره).

(٢) مقتل العوالم ص ٩٧ ، ومثير الأحزان لابن نما ص ٣٧ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٣.

(٣) في البيان والتبيين للجاحظ ٣ ص ١٧١ الطبعة الثانية ، تحت عنوان (كلام في الأدب) ، بعد أن ذكر هذا البيت اتبعه بقوله :

والله من هذا

وهذا جار

٢٧٤

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النّبي

قال عبد الله بن عمّار بن يغوث : ما رأيت مكثوراً قط ، قد قُتل ولده وأهل بيته وصحبه ، أربط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً ، ولقد كان الرجال تنكشف بين يدَيه إذا شدّ فيها ولَم يثبت له أحد (١).

فصاح عمر بن سعد بالجمع : هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، احملوا عليه من كلّ جانب. فأتته أربعة آلاف نبلة (٢) ، وحال الرجال بينه وبين رحله ، فصاح بهم : «يا شيعة آل أبي سفيان ، إنْ لَم يكن لكم دين وكنتم ولا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً ، كما تزعمون».

فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة؟ قال : «أنا الذي اُقاتلكم ، والنّساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً».

قال اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي

قد حان حيني وقد لاحت لوائحه

فقال الشمر : لك ذلك.

وقصده القوم واشتد القتال وقد اشتدّ به العطش (٣) ، فحمل من نحو الفرات على عمرو بن الحَجّاج ، وكان في أربعة آلاف ، فكشفهم عن الماء وأقحم الفرس الماء فلمّا همَّ الفرس ليشرب قال الحسين (ع) : «أنت عطشان وأنا عطشان ، فلا أشرب حتّى تشرب». فرفع الفرس رأسه كأنّه فهم الكلام ، ولمّا مدّ الحسين (ع) يده ليشرب ناداه رجل : أتلتذّ بالماء وقد هُتكت حرمك؟! فرمى الماء ولَم يشرب ، وقصد الخيمة (٤).

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٣.

(٢) الطبري ٦ ص ٢٥٩. ونسبه الخوارزمي في مقتل الحسين ٢ ص ٣٨ إلى بعض من شهد الوقعة.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٣.

(٤) اللهوف ص ٦٧.

(٥) البحار ١٠ ص ٢٠٤ ، ومقتل العوالم ص ٩٨ ، ونفس المهموم ص ١٨٨ ، والخصائص الحسينيّة ص ٤٦ ، باب خصائص الحيوانات.

أقول : إنّي لا أضمن صحّة هذا الحديث المتضمّن ؛ لامتناع الفرس من الشرب ، ولرمي الحسين (ع) الماء من يده لمجرّد قول الأعداء ، وهو العالم بأنّه مكيدة ، لكن خصائص هذا اليوم المختصّة بسيّد الشهداء ومَن معه على أن يقضوا عطاشى خارجة عمّا نعرفه ، ولا سبيل لنا إلاّ التسليم بعد أنْ كان الإمام (عليه السّلام) حكيماً في أفعاله وأقواله لا

٢٧٥

يروي الثرى بدمائهم وحشاه من

ظمأ تطاير شعلة قطعاتها

لَو قلبت من فوق غلّة قلبه

صمّ الصفا ذابت عليه صفاتها

تبكي السّماء له دماً أفلا بكت

ماء لغلّة قلبه قطراتها

وآ حرّ قلبي يابن بنت محمّد

لك والعدى بك أنجحت طلباتها

منعتك من نيل الفرات فلا هنا

للنّاس بعدك نِيلها وفراتها (١)

الوداع الثاني

ثمّ إنّه (عليه السّلام) ودّع عياله ثانياً ، وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال : «استعدّوا للبلاء ، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذِّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم» (٢).

حقاً لو قيل بأنّ هذا الموقف من أعظم ما لا قاه سيّد الشهداء في هذا اليوم (٣) ؛ فإنّ عقائل النبوّة تشاهد عماد أخبيتها وسياج صونها وحمى عزّها ومعقد شرفها مؤذناً بفراق لا رجوع بعده ، فلا يدرين بمَن يعتصمن من عادية الأعداء ، وبمَن

__________________

يعمل إلاّ بما تلقّاه من جدّه الذي لا ينطق عن الهوى ، وكلّ قضايا الطفّ محدودة الظرف والمكان ؛ لأسرار ومصالح لا يعلمها إلاّ ربّ العالمين تعالى شأنه.

وهناك شيء آخر لاحظه سيّد الشهداء وكانت العرب تتفانى دونه ، وهو حماية الحرم بأنفس الذخائر ، وأبو عبد الله سيّد العرب وابن سيّدها فلا تفوته هذه الخصلة التي يستهلك دونها النّفس والنّفيس. ولمّا ناداه الرجل هتكت الحرم لَم يشرب الماء ؛ إعلاماً للجمع بما يحمله من الغيرة على حرمه ، ولَو لَم يبال بالنداء لتيقّن النّاس فقدانه الحميّة العربيّة ولا يقدم عليه أبي الضيم حتّى لو علم بكذب النّداء ، وفعل سيّد الإباة من عدم شرب الماء ولَو في آن يسير هو غاية ما يمدح به الرجل.

(١) من قصيدة لآية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه الله.

(٢) جلا العيون للمجلسي بالفارسيّة ، وهنا شيء لَم يتنبّه له أحد وهي إرادة بيان أمرَين ؛ عدم القتل ، وعدم السّلب. فإنّ تعليل لبس الأزر بالحماية والمحافظة مع أنّ أحدهما كافٍ في التعريف بأنّ اليد العادية لا تمدّ إليهم ، يكون الإتيان بهما مع بعد غرض بلوغه أعلى مراتب البلاغة دليل على أنّ المقصود من أحدهما بيان عدم السّلب ، ومن الثاني عدم القتل.

(٣) هذا هو الظاهر من وصيّة الصدّيقة الزهراء (عليها السّلام) للمجلسي أعلى الله مقامه بقراءته مصيبة ولدها عند الوداع. كما ذكره النوري في دار السّلام المجلّد الأول.

٢٧٦

العزاء بعد فقده. فلا غرو إذا اجتمعن عليه وأحطن به وتعلّقن بأطرافه ، بين صبيّ يئنّ ، ووالهة أذهلها المصاب ، وطفلة تطلب الأمن ، واُخرى تنشد الماء. إذاً فما حال سيّد الغيارى ومثال الحنان وهو ينظر بعلمه الواسع إلى ودائع الرسالة وحرائر بيت العصمة ، وهنّ لا يعرفن إلاّ سجف العزّ وحجب الجلال ، كيف يتراكضن في هذه البيداء المقفرة بعولة مشجية ، وهتاف يفطّر الصخر الأصمّ وزفرات متصاعدة من أفئدة حرّى ، فإنْ فررن فعن السّلب ، وإنْ تباعدن فمن الضرب. ولا محام لهن غير الإمام الذي أنهكته العلّة

فلو أنّ أيّوباً رأى بعض ما رأى

لقال بلى هذا العظيمة بلواه

أمّا عقيلة بني هاشم زينب الكبرى فإنّها تبصر هذا وذاك فتجد عروة الدِّين الوثقى عرضة للانفصام ، وحبل النبوّة آيلاً إلى الانصرام ، ومنار الشريعة إلى الخمود ، وشجرة الإمامة إلى الذبول.

تنعى ليوث البأس من فتيانها

وغيوثها إنْ عمّت البأساء

تبكيهُمُ بدم فقل بالمهجة الحرا

تسيل العبرة الحمراء

حنّت ولكنَّ الحنين بكا وقد

ناحت ولكنّ نوحها ايماء (١)

والتفت الحسين (ع) إلى ابنته سكينة ، التي يصفها للحسن المثنّى بأنّ الاستغراق مع الله غالب عليها ، فرآها منحازة عن النّساء باكية نادبة ، فوقف عليها مصبّراً ومسلياً ، ولسان حاله يقول :

هذا الوادع عزيزتيوالملتقى

يوم القيامة عند حوضالكوثر

فدعي البكاء وللأسار تهيّأي

واستشعري الصبر الجميل وبادري

وإذا رأيتيني على وجه الثّرى

دامي الوريد مبضّعاً فتصبّري (٢)

فقال عمر بن سعد : ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه ، والله إنْ فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم. فحملوا عليه يرمونه بالسّهام حتّى تخالفت السّهام بين أطناب المخيّم وشكّ سهم بعض اُزر النّساء ، فدهشنَ وارعبنَ وصحن ودخلن الخيمة ، ينظرن إلى الحسين (ع) كيف يصنع ، فحمل عليهم

__________________

(١) من قصيدة لكاشف الغطاء (قدس سره).

(٢) للخطيب الشيخ مسلم ابن الخطيب الشيخ محمّد علي الجابري النجفي رحمهما الله تعالى.

٢٧٧

كالليث الغضبان فلا يلحق أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله ، والسّهام تأخذه من كلّ ناحية وهو يتّقيها بصدره ونحره (١).

ورجع إلى مركزه يُكثر من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم (٢). وطلب في هذه الحال ماءاً فقال الشمر : لا تذوقه حتّى ترد النّار. وناداه رجل : ياحسين ألا ترى الفرات كأنّه بطون الحيّات؟ فلا تشرب منه حتّى تموت عطشاً فقال الحسين (ع) : «اللهمّ أمِته عطشاً». فكان ذلك الرجل يطلب الماء فيؤتى به فيشرب حتّى يخرج من فيه ، وما زال كذلك إلى ان مات عطشاً (٣).

ورماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته فنزعه وسالت الدماء على وجه فقال : «اللهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة ، اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبداً». وصاح بصوت عال : «يا اُمّة السّوء ، بئسما خلفتم محمّداً في عترته ، أما إنّكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي. وأيمَ الله ، إنّي لأَرجو أنْ يكرمني الله بالشهادة ، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون».

فقال الحصين : وبماذا ينتقم لك منّا يابن فاطمة؟ قال (ع) : «يلقي بأسكم بينكم ، ويسفك دماءكم ، ثمّ يصبّ عليكم العذاب صبّا» (٤).

ولمّا ضعف عن القتال ، وقف يستريح ، فرماه رجل بحجر على جبهته ، فسال الدم على وجهه ، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه ، رماه آخر بسهم محدّد له ثلاث شعب وقع على قلبه فقال (ع) : «بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله» ورفع رأسه إلى السّماء وقال : «إلهي إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ غيري».

__________________

(١) مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف آل صاحب الجواهر (قدس سره).

(٢) اللهوف ص ٦٧.

(٣) مقاتل أبي الفرج ص ٤٧ طبعة ايران ، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٨. وحكاه في البحار ١٠ ص ٢٥٤ طبعة كمبني ، عن أبي الفرج. وفي البحار ١٠ ص ٢٠٣ نقلاً عن المفيد ، والسيّد ابن طاووس ، وابن نما : اشتد العطش بالحسين (ع) فقصد الفرات ، فحالوا بينه وبين الماء.

(٤) مقتل العوالم ص ٩٨ ، ونفس المهموم ص ١٨٩ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٤.

٢٧٨

ثمّ أخرج السّهم من قفاه وانبعث الدم كالميزاب (١) ، فوضع يده تحت الجرح فلمّا امتلأت رمى به نحو السّماء وقال : «هوّن عليَّ ما نزل بي ، أنّه بعين الله». فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض. (٢). ثمّ وضعها ثانياً فلمّا امتلأت ، لطخ به رأسه ووجهه ولحيته وقال : «هكذا أكون حتّى ألقى الله وجدّي رسول الله (ص) وأنا مخضّب بدمي ، واقول : يا جدّي قتلني فلان وفلان» (٣).

فهوى بضاحية الهجير ضريبة

تحت السّيوف لحدّها المسنون

وقفت له الأفلاك حين هويه

وتبدّلت حركاتها بسكون

وبها نعاه الروح يهتف منشداً

عن قلب والهة بصوت حزين

أضمير غيب الله كيف لك القنا

نفذت وراء حجابه المخزون

وتصكّ جبهتك السّيوف وإنّها

لَو لا يمينك لَم تكن ليمين

ما كنت حين صرعت مضعوف القوى

فاقول لم ترفد بنصر معين

أما وشيبتك الخضيبة إنّها

لأبرّ كل إلية ويمين

لو كنت تستام الحياة لا رخصت

منها لك الأقدار كلّ ثمين

أو شئت محو عداك حتّى لا يُرَى

منهم على الغبراء شخص قطين

لاخذت آفاق البلاد عليهمُ

وشحنت قطَّريها بجيش منون

حتى بها لم تبق نافخ ضرمة

منهم بكلّ مفاوز وحصون

لكن دعتك لبذل نفسك عصبة

حان انتشار ضلالها المدفون

فرأيت أنَّ لقاء ربك باذلا

للنفس أفضل من بقاء ضنين

فصبرت نفسك حيث تلتهب الظّبى

ضرباً يذيب فؤاد كل رزين

والحرب تطحن شوسها برحاتها

والرعب يلهم حلم كل رصين

والسّمر كالاضلاع فوقك تنحني

والبيض تنطبق انطباق جفون

وقضيت نحبك بين اظهر معشر

حُمِلوا بأخبث اظهر وبطون (٤)

وأعياه نزف الدم فجلس على الأرض ينوء برقبته ، فانتهى إليه في هذا الحال مالك بن النّسر فشتمه ، ثمّ ضربه بالسّيف على رأسه ، وكان عليه برنس فامتلأ

__________________

(١) نفس المهموم ص ١٨٩ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٤ ، واللهوف ص ٦٨.

(٢) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٨ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٤.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٤ ، واللهوف ص ٧٠.

(٤) ديوان السيد حيدر الحلّي رحمه الله.

٢٧٩

البرنس دما فقال الحسين (ع) : «لا أكلت بيمينك ولا شربت ، وحشرك الله مع الظالمين». ثمّ ألقى البرنس واعتمّ على القلنسوة (١).

محمّد بن أبي سعيد

قال هاني بن ثبيت الحضرمي : إنّي لَواقف عاشر عشرة لمّا صُرع الحسين ، إذ نظرت إلى غلام من آل الحسين عليه إزار وقميص وفي اُذنيه درّتان ، وبيده عمود من تلك الأبنية ، وهو مذعور يتلفّت يميناً وشمالاً ، فأقبل رجل يركض حتّى إذا دنا منه مال عن فرسه وعلاه بالسّيف فقتله ، فلمّا عيب عليه ، كنّى عن نفسه (٢).

وذلك الغلام هو محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب (٣) وكانت اُمّه تنظر إليه وهي مدهوشة (٤).

عبد الله بن الحسن

ثمّ إنّهم لبثوا هُنيئة وعادوا إلى الحسين (ع) وأحاطوا به ، وهو جالس على الأرض لا يستطيع النّهوض فنظر عبد الله بن الحسن السّبط (ع) ـ وله إحدى عشرة سنة ـ إلى عمّه وقد أحدق به القوم ، فأقبل يشتدّ نحو عمّه ، وأرادت زينب حبسه فأفلت منها وجاء إلى عمّه ، وأهوى بحر بن كعب بالسّيف ليضرب الحسين (ع) فصاح الغلام : يابن الخبيثة أتضرب عمّي؟ فضربه واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد ، فإذا هي معلّقة فصاح الغلام : يا عمّاه! ووقع في حجر الحسين (ع) فضمّه إليه وقال : «يابن أخي اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين». ورفع يدَيه قائلاً : «اللهم ان متعتهم إلى حين ففرقهم

__________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣١ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٥.

(٢) الطبري ٦ ص ٢٥٨ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٨٦.

(٣) مقاتل أبي الفرج ص ٣٧ ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٨ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٨٦ ، ومن الغريب ما في المحبر لابن حبيب ص ٥٦ ، ونسب قريش لمصعب الزبيري ص ٤٦ : انّ فاطمة بنت علي بن أبي طالب (ع) كانت عند محمّد بن أبي سعيد بن عقيل ، وزاد في نسب قريش أنّها ولدت له حميدة (بالتصغير).

(٤) الخصائص الحسينيّة ص ١٢٩.

٢٨٠