مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

تفريقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثمّ عدوا علينا يقاتلونا» (١).

ورمى الغلامَ حرملةُ بن كاهل بسهم فذبحه ، وهو في حجر عمّه (٢).

وبقي الحسين (ع) مطروحاً مليّاً ولَو شاؤوا أنْ يقتلوه لفعلوا ، إلاّ أنّ كلّ قبيلة تتّكل على غيرها وتكره الإقدام (٣).

وأصبح مشتجراً للرماح

تحلّي الدّما منه مرّانها

عفيراً متى عاينته الكماة

يختطف الرّعب ألوانها

فما أجلت الحرب عن مثله

صريعاً يجبّن شجعانها

تريب المحيا تظنّ السما

بأنّ على الأرض كيوانها

غريباً أرى يا غريب الطّفوف

توسد خدّيك كثبانها

وقتلك صبراً بأيدٍ أبوك

ثناها وكسّر أوثانها

أتقضي فداك حشا العالمين

خميص الحشاشة ظمآنها (٤)

فصاح الشمر : ما وقوفكم؟ وما تنتظرون بالرجل ، وقد أثخنته السّهام والرماح؟ احملوا عليه (٥).

وآ أسفاه حملوا عليه

من كلّ جانب أتوا إليه

قد ضربوا عاتقه المطهّرا

بضربةٍ كبا لها على الثرى (٦)

وضربه زرعة بن شريك على كتفه الأيسر ، ورماه الحصين في حلقه (٧) ، وضربه آخر على عاتقه ، وطعنه سنان بن أنس في ترقوته ، ثمّ في بواني صدره ، ثمّ رماه بسهم في نحره (٨) ، وطعنه صالح بن وهب في جنبه (٩).

__________________

(١) الطبري ٦ ص ٢٥٩ ، ومثير الأحزان ص ٣٨ ، واللهوف ص ٦٨.

(٢) مثير الأحزان ص ٣٩ ، واللهوف ص ٦٨.

(٣) الاخبار الطوال ص ٢٥٥ ، والخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٨.

(٤) من قصيدة للسيد حيدر الحلّي رحمه الله.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٥ ، ومناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٢.

(٦) المقبولة الحسنية ص ٥٦ ، للحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء.

(٧) الاتحاف بحبّ الأشراف ص ١٦.

(٨) اللهوف ص ٧٠.

(٩) مقتل العوالم ص ١١٠ ، والخوارزمي في المقتل ٢ ص ٣٥.

٢٨١

قال هلال بن نافع كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه ، فوالله ما رأيت قتيلاً قطّ مضمّخاً بدمه أحسن منه وجهاً ولا أنور ، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله. فاستقى في هذه الحال ماء فأبوا ان يسقوه.

وقال له رجل : لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها. فقال (عليه السّلام) : «أنا أرد الحامية؟! وإنّما أرد على جدّي رسول الله وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي». فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنّ الله لَم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئاً (١).

فلو أنَّ أحمد قد رآك على الثرى

لفرشنَ منه لجسمك الاحشاء

أو بالطّفوف رأت ظماك سقتك من

ماء المدامع اُمّك الزهراء

يا ليت لا عذب الفرات لوارد

وقلوب ابناء النبيِّ ظماء

كم حرّة نهب العدى أبياتها

وتقاسمت أحشاءها الأرزاء

تعدو فان عادت عليها بالعدى

عدو العوادي الجرد والأعداء

هتفت تثير كفيلَها وكفيلُها

قد ارمضته في الثرى الرمضاء (٢)

الدعاء

ولمّا اشتدّ به الحال رفع طرفه إلى السّماء وقال : «اللهمّ متعال المكان عظيم الجبروت ، شديد المحال غني عن الخلائق ، عريض الكبرياء قادر على ما تشاء ، قريب الرحمة صادق الوعد سابغ النعمة ، حسن البلاء قريب إذا دُعيت محيط بما خَلقت ، قابل التوبة لمَن تاب إليك ، قادر على ما أردت تدرك ما طلبت ، شكور إذا شُكرت ذكور إذا ذُكرت ، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيراً ، وأفزع إليك خائفاً وأبكي مكروباً ، واستعين بك ضعيفاً وأتوكّل عليك كافياً ، اللهمّ احكم بيننا وبين قومنا فإنّهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ، ونحن عترة نبيّك وولد حبيبك محمّد (ص) الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على الوحي ، فاجعل لنا من أمرنا فرَجاً ومخرجاً ، يا أرحم الراحمين» (٣).

__________________

(١) ابن نما ص ٣٩.

(٢) من قصيدة لحجة الإسلام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

(٣) مصباح المتهجد والاقبال وعنهما في مزار البحار ص ١٠٧ ، باب زيارته يوم ولادته.

٢٨٢

«صبراً على قضائك يا ربّ ، لا إله سواك يا غياث المستغيثين (١) ، مالي ربّ سواك ولا معبود غيرك ، صبراً على حكمك ، يا غياث مَن لا غياث له يا دائماً لا نفاد له ، يا محيي الموتى ، يا قائماً على كلّ نفس بما كسبت ، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (٢).

فإنْ يكُ إسماعيل أسلم نفسه

إلى الذّبح في حجر الذي هو راحمه

فعاد ذبيح الله حقاً ولم تكن

تصافحه بيض الظّبي وتسالمه

فان حسيناً أسلم النفس صابراً

على الذبح في سيف الذي هو ظالمه

ومن دون دين الله جاد بنفسه

وكلّ نفيس كي تُشاد دعائمه

ورضّت قراه العاديات وصدره

وسيقت على عجف المطايا كرائمه (٣)

الجواد

وأقبل الفرس يدور حوله ويلطّخ ناصيته بدمه (٤) فصاح ابن سعد : دونكم الفرس ؛ فإنّه من جياد خيل رسول الله (ص). فأحاطت به الخيل ، فجعل يرمح برجلَيه حتّى قتل أربعين رجلاً وعشرة أفراس. فقال ابن سعد : دعوه لننظر ما يصنع. فلمّا أمِن الطلب أقبل نحو الحسين (ع) يمرّغ ناصيته بدمه ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً (٥) ، قال أبو جعفر الباقر (ع) : «كان يقول : الظليمة ، الظليمة ، من اُمّة قتلتْ ابن بنت نبيّها». وتوجّه نحو المخيّم بذلك الصهيل (٦) ، فلمّا نظرن النّساء إلى الجواد مخزياً والسّرج عليه ملويّا خرجن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العزّ مذللات ، وإلى مصرع الحسين (ع) مبادرات (٧).

فواحدة تحنو عليه تضمّه

واُخرى عليهِ بالرداء تظلّل

__________________

(١) أسرار الشهادة ص ٤٢٣.

(٢) رياض المصائب ص ٣٣.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٤) أمالي الصدوق ص ٩٨ ، المجلس الثلاثون ، ومقتل الخوارزمي ص ٣٧ ، وتظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٢٨.

(٥) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٢٩ ، والبحار ١٠ ص ٢٠٥.

(٦) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٧.

(٧) زيارة النّاحية المقدسة.

٢٨٣

واُخرى بفيض النّحر تصبغ وجهها

واُخرى تفدّيه واُخرى تقبّل

واُخرى على خوفٍ تلوذ بجنبه

واُخرى لِما قد نالها ليس تعقل (١)

ونادت اُم كلثوم زينب العقيلة : وآ محمداه! وآ أبتاه! وآ علياه! وآ جعفراه! وآ حمزتاه! هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء (٢). ثمّ نادت : ليت السّماء اُطبقت على الأرض (٣)! وليت الجبال تدكدكت على السّهل (٤)! وانتهت نحو الحسين (ع) وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه ، والحسين يجود بنفسه. فصاحت : أي عمر ، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته (٥).

فقالت : ويحكم أما فيكم مسلم؟! فلَم يُجبها أحد (٦). ثمّ صاح ابن سعد بالنّاس : انزلوا إليه وأريحوه. فبدر إليه شمر فرفسه برجله ، وجلس على صدره وقبض على شيبته المقدّسة وضربه بالسّيف اثنتى عشرة ضربة (٧) واحتزّ رأسه المقدّس.

سلبه

وأقبل القوم على سلبه ؛ فأخذ إسحاق بن حوية قميصه ، وأخذ الأخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي عمامته ، وأخذ الأسود بن خالد نعلَيه ، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأودي ، ويقال رجل من بني تميم اسمه الأسود بن حنظلة.

وجاء بجدل فرأى الخاتم في إصبعه والدماء عليه فقطع اصبعه وأخذ الخاتم ، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته (٨) ، وكان يجلس عليها فسمّي قيس قطيفة (٩) ، وأخذ ثوبه الخلق جعونة بن حوية الحضرمي ، وأخذ القوس والحلل الرحيل بن

__________________

(١) من قصيدة للحاج هاشم الكعبي.

(٢) البحار ١٠ ص ٢٠٦ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٧.

(٣) الطبري ٦ ص ٢٥٩.

(٤) اللهوف ص ٧٣.

(٥) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٢ ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٩ الطبعة الاُولى.

(٦) الإرشاد.

(٧) مقتل العوالم ص ١٠٠ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٦ وما بعدها.

(٨) اللهوف ص ٧٣.

(٩) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٨ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٣٢.

٢٨٤

خيثمة الجعفي وهاني بن شبيب الحضرمي وجرير بن مسعود الحضرمي (١) ، وأراد رجل منهم أخذ تكّة سرواله ـ وكان لها قيمة ـ وذلك بعدما سلبه النّاس يقول : أردت أن أنزع التكّة فوضع يده اليمنى عليها فلم أقدر على رفعها فقطعتُ يمينه ، فوضع يده اليسرى عليها فلم أقدر على رفعها فقطعتها ، وهممتُ بنزع السّروال فسمعت زلزة ، فخفتُ وتركته وغشي عليَّ ، وفي هذه الحال رأيت النّبي وعلياً وفاطة والحسن ، وفاطمة تقول : «يا بُني قتلوك؟! قتلهم الله ، فقال لها : يا اُم قطع يدي هذا النائم». فدعت عليَّ وقالت : «قطع الله يديك ورجلَيك وأعمى بصرك وأدخلك النّار». فذهب بصري وسقطت يداي ورجلاي فلم يبقَ من دعائها إلاّ النّار (٢).

وآ صريعاً عالج الموت بلا

شدّ لحيين ولا مدّ ردا

غسّلوه بدم الطعن وما

كفّنوه غير بوغاء الثرى

قتلوه بعد علمٍ منهُمُ

أنّه خامس أصحاب الكسا

يا رسول الله يا فاطمة

يا أمير الؤمنين المرتضى

عظّم الله لك الأجر بمن

كضّ أحشاه الظما حتّى قضى

ضارباً في كربلا خيمته

ثم ما خيّم حتّى قوضّا

ميتٌ تبكي له فاطمة

وأبوها وعليٌّ ذو العلا

لو رسول الله يحيا بعده

قعد اليوم عليه للعزا

حملوا رأساً يُصلُّون على

جده الأكرم طوعاً وإبا

يتهادى بينهم لم ينقضوا

عمم الهام ولا حلّوا الحبا

يا رسول الله لو عاينتهم

وهُمُ ما بين قتل وسبا

من رميضٍ يُمْنَع الظلَّ ومن

عاطشٍ يُسْقى انأبيب القنا

ومسوق عاثر يسعى به

هاف محمول على غير وطا

لرأت عينك منهم منظراً

للحشا شجواً وللعين قذى

ليس هذا لرسول الله يا

اُمّة الطغيان والبغي جزا

جِزّروا حزر الاضاحي نسله

ثم ساقوا أهله سوق الاما

هاتفات برسول الله في

بهر السير وعثرات الخطا (٣)

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٤.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ ص ١٠٢.

(٣) للشريف الرضي أعلى الله مقامه.

٢٨٥
٢٨٦

حوادث بعد الشهادة

يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دما! ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون!.

العقيلة ام كلثوم (زينب)

٢٨٧
٢٨٨

الليلة الحادية عشرة

يا لها من ليلة مرّت على بنات رسول الله (ص)! بعد ذلك العزّ الشامخ الذي لم يفارقهنّ منذ أوجد الله كيانهنّ ، فلقد كنّ بالأمس في سرادق العظمة وأخيبة الجلالة تشعّ نهارها بشمس النبوّة ويضيء ليلها بكواكب الخلافة ومصابيح أنوار القداسة ، وبقَين في هذه الليلة في حلك دامس من فقْدِ تلك الأنوار السّاطعة بين رحل منتهَب ، وخباء محترِق ، وفرق سائد ، وحماة صرعى ولا محامٍ لهنّ ولا كفيل ، لا يدرِين مَن يدفع عنهنّ إذا دهمهنّ داهم؟ ومَن الذي يرد عادية المرجفين؟ ومن يسكّن فورة الفاقدات ويخفّف من وجدهنّ؟ نعم ، كان بينهنّ صراخ الصبية وأنين الفتيات ونشيج الوالهات ، فاُمّ طفلٍ فطمته السّهام ، وشقيق مستشهد ، وفاقدة ولد ، وباكية على حميم ، وإلى جنبهنّ أشلاء مبضّعة وأعضاء مقطّعة ونحور دامية ، وهنّ في فلاة من الأرض جرداء. وعلى مطلع الأكمة جحفل الغدر تهزّهم نشوة الفتح طيش الظفر ولؤم الغلبة. وعلى هذا كلّه لا يدرين بماذا يندلع لسان الصباح؟ وبماذا ترتفع عقيرة المنادي؟ أبالقتل أم بالأسر؟! ولا من يدفع عنهنّ غير الإمام العليل الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً ، وهو على خطر من القتل!

ومرضعةٍ هبّت بها لرضيعها

عواطف اُمٍّ اثكلت طفلها صبرا

رأت مهده بالحزن يطفح بعده

وقد كان فيه قبل يطفح بالبشرى

وأثقل ثدييها من الدرّ خالص

على طفلها فيه تعودت الدرّا

فخفت إلى مثوى الرضيع لعلّها

ترى رمقاً فيه يغذي بما درّا

فلم ترَ إلا جثّةً فوق مذبح

بها علق السهم الذي ذبح النحرا

فحنّت وأحنت فوقه من تعطف

أضالعها ظلاً تقيه به الحرّا

وضمّته مذبوح الوريد لصدرها

ومن دمعه المسفوح خضّبت الصدرا

وودّت ومن أوداجه تنضح الدما

لو انّ بذاك السّهم أوداجها تفرى

وأضحت على مثواه تفرغ قلبها

حنيناً فترثيه بما يفضل الشعرا

فطوراً تناغيه وطوراً بلهفة

تعانق جيداّ منه قد زيّن الدرّا

وتعطف طوراً فوقه فتشمّه

بمنحره الدامي وتلثمه اُخرى

فيا لك من ثكلى بكت بزفيرها

وأدمعها الخنساء حين بكت صخرا

٢٨٩

ولم يبقَ منها وجدها وحنينها

سوى قفص للخلد طائره فرّا (١)

لقد عمَّ الاستياء في هذه الليلة عالَم المُلك والملكوت ، وللحور في غرف الجنان صراخ وعويل ، وللملائكة بين أطباق السّماوات نشيج ونحيب ، وندبته الجنّ في مكانها (٢).

يقول ابن أبي الحديد : بنى عبيد الله بن زياد بالبصرة أربعة مساجد ، تقوم على بغض علي بن أبي طالب (ع) (٣).

ليس هذا لرسول الله يا

اُمة الطغيان والبغي جزا

لو رسول الله يحيا بعده

قعد اليوم عليه للعزا

رأت رسولَ الله (ص) اُمُ سلمة (٤) في المنام ، أشعث مغبراً وعلى رأسه التراب ، فقالت له : يا رسول الله ما لي أراك أشعث مغبراً؟ قال (ص) : «قُتل ولدي الحسين ، وما زلتُ أحفر القبور له ولأصحابه» (٥) ، فانتبهتُ فزعة ونظرتُ إلى القارورة التي

__________________

(١) من قصيدة في الحسين للعلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) اكام الجان للشيخ بدر الدين محمّد بن عبد الله الشبلي الحنفي : المتوفّى سنة ٧٦٩ صفحة ١٤٦ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٤١ ، ومجمع الزوائد لابن حجر ٩ ص ١٩٩ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٣٩ ، والكواكب الدرية للمناوي ١ ص ٥٦.

(٣) شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ ص ٣٨٦ الطبعة الاُلى مصر ، وفي سفينة البحار ١ ص ٦٠٢ الطبعة الحجر عن البحار ٨ ص ٧٢٩.

(٤) قال ابن الأثير في الكامل ٣ ص ٣٨ : يستقيم هذا بناءً على وفاتها بعد الخمسين. وفي الإصابة ٤ ص ٤٦٠ بترجمتها عن ابن حيان : ماتت اُمّ سلمة سنة ٦١ ، وقال أبو نعيم : ماتت سنة ٦٢ وهي آخر اُمّهات المؤمنين ، وعند الواقدي : ماتت سنة ٥٩. وفي تهذيب الأسماء للنووي ٢ ص ٣٦٢ عن أحمد بن أبي خيثمة : ماتت في ولاية يزيد بن معاوية. وفي مرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٧ : توفّيت اُمّ سملة اُمّ المؤمنين سنة ٦١ ، وابن كثير في البداية وان تبع الواقدي إلا أنّه قال الأحاديث المتقدّمة في مقتل الحسين تدلّ على أنّها عاشت إلى ما بعد مقتله. وفي عمدة القاري للعيني شرح البخاري ١ ص ٤٢٧ آخر بحث القنوت : إنّ اُمّ سلمة ماتت في شوّال سنة تسع وخمسين. وفي تهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٤١ : عن الواقدي ماتت اُمّ سلمة قبل مقتل الحسين بثلاث سنين ، ولكن في اُصول الكافي عن أهل البيت : إنّ الحسين (ع) أودعها ذخائر الإمامة وأوصاها أن تدفعها إلى زين العابدين (ع). وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ ص ١٤٢ : اُمّ سلمة زوجة رسول الله (ص) آخر مَن مات من اُمّهات المؤمنين ، عمّرت حتّى بلغها مقتل الحسين الشهيد (ع) فوجمت لذلك وغشي عليها وحزنت عليه كثيراً ، ولم تلبث بعده إلاّ يسيراً ، وانتقلت إلى الله تعالى. وفي صفحة ١٤٦ : عن شهر قال : أتيتُ اُمّ سلمة اُعزّيها بالحسين (ع).

(٥) أمالي الشيخ الصدوق ص ٥٦ ، وفي تهذيب التهذيب ٢ ص ٣٥٦ ، وذخائر العقبى للمحب الطبري ص ١٤٨ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٣٩ ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ ص ٢١٣ : إنّ اُمّ سلمة رأت رسول الله في المنام وأخبرها بقتل الحسين (عليه السّلام).

٢٩٠

فيها تراب أرض كربلاء فإذا به يفور دماً (١) وهو الذي دفعه النّبي (ص) إليها وأمرها أنْ تحتفظ به ، وزاد على ذلك سماعها في جوف الليل هاتفاً ينعى الحسين (ع) فيقول :

أيّها القاتلون جهلاً حسيناً

أبشروا بالعذاب والتنكيل

قد لُعنتم على لسان ابن داود

وموسى وصاحب الإنجيل (٢)

كلّ أهل السّماء يدعو عليكم

من نبيًّ ومرسل وقتيل (٣)

وكانت تسمع في جَوف الليل أصوات نعي الحسين (ع) ولَم ترَ أحداً ، فمن ذلك :

ألا يا عينُ فاحتفلي بجهدٍ

ومَنْ يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهُمُ المنايا

إلى متجبرٍ في ملك عبد (٤)

ولمّا سمع ابن عبّاس بكاءها ، أسرع إليها يسألها الخبر ، فأعلمته بأنّ ما في القارورتين يفور دماً (٥).

وفي يوم عاشوراء رأى ابن عبّاس رسول الله صلّى الله عليه وآله أشعث مغبراً وبيده قارورة فيها دم فقال له : بأبي أنت واُمّي ما هذا؟ قال : «هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم» (٦).

ولأجل بقاء الحسين عارياً على وجه الصعيد ثلاثاً ، وهو علّة الكائنات ؛

__________________

(١) مرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٤ ، كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٨ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٩٥.

(٢) إلى هنا في مقتل الخوارزمي ٢ ص ٩٦ الفصل الثاني عشر.

(٣) الأبيات الثلاثة في تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٤١. وفي تاج العروس ٧ ص ١٠٣ ، ذكر البيت الأول والثالث ، وفي روايته لعجزه (من نبي ومالك ورسول).

(٤) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٤١ ، والخصائص للسيوطي ٢ ص ١٢٧ ، ومجمع الزوائد ٩ ص ١٩٩ وتقدم في ص ٢٠٧ : إنّهم لمّا نزلوا (الخزيمية) سمعت زينب هاتفاً يقول : ألا يا عين ....

(٥) حديث القارورتين في معالم الزلفى ص ٩١ الباب التاسع والأربعون ، ومدينة المعاجز ص ٢٤٤ الباب التاسع والأربعون : كلاهما للسيد هاشم البحراني ومنتخب الطريحي ص ٢٣٥ المطبعة الحيدرية الطبعة الثالثة.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٤٠ ، والخصائص الكبرى ٢ ص ١٢٦ ، وتاريخ الخلفاء ص ١٣٩ : كلاهما للسيوطي ، ومرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٤ ، ومسند أحمد ١ ص ٢٤٢ ، والكواكب الدرّية للمناوي ١ ص ٥٦ ، وذخائر العقبى للمحب الطبري ص ١٤٨ ، وتهذيب التهذيب لابن حجر ٢ ص ٣٥٥ وكامل ابن الأثير ٤ ص ٢٨ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ ، وطرح التثريب ١ ص ٢٢ ، وتاريخ بغداد للخطيب ١ ص ١٤٢ ، والخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٥ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٩٤ الفصل الثاني عشر وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ ص ٢١٢.

٢٩١

لاشتقاقه من النّبي (ص) الذي هو علّة العلل المتفرّع من الشعاع الإلهيّ الأقدس ؛ أظلمت الدنيا ثلاثة أيام (١) واسودّت سواداً عظيماً (٢) حتّى ظنّ النّاس أنّ القيامة قامت (٣) وبدت الكواكب نصف النّهار (٤) وأخذ بعضها يضرب بعضاً (٥) ، ولَم يُرَ نور الشمس (٦) ، ودامت الدنيا على هذا ثلاثة أيّام (٧) ولا غرابة في اضمحلال نور الشمس في المدّة التي كان فيها سيّد شباب أهل الجنّة عارياً على وجه الصعيد ، إذ هو العلّة في مجرى الكَون لِما عرِفت من اشتقاقه من الحقيقة المحمّديّة التي هي علّة العلل والعقل الأول ، وحديث عرض الولاية على الموجودات ـ فمَن قَبِل عمَّت فائدته ، ومَن أبى عرى عن الفائدة ـ يؤكّد ذلك.

وإذا صحّ الحديث بتغيّر الكَون لأجل إبراز عظم نبيٍّ من الأنبياء حتّى غامت السّماء ومطرت حين استقى به أحد علماء النّصارى في سرّ مَن رأى (٨) مع أنّه لَم يكشف عن جسد ذلك النّبي ولا كانت أعضاؤه مقطّعة ، فاذاً كيف لا يتغيّر الكَون ولا يمحى نور الشمس والقمر وقد تُرك سيّد شباب أهل الجنّة على وجه الصعيد مجرّداً ومثَّلوا بذلك الهيكل القدسي كلّ مثلة؟!

ما للسّماء غداة اُردِي لم تمر

والأرض يوم اُصيب لم تتصدّع

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ ، والخصائص الكبرى ٢ ص ١٢٦ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ : فيما جرى على الحسين (ع) ، والخطط المقريزية ٢ ص ٢٨٩ ، وتذكرة الخواص ص ١٥٥ ، والمقتل للخوارزمي ٢ ص ٩٠ : ولا ينبغي لغير الإمامي أنْ يُشكّك في هذا بعدما يقرأ نصّ القسطلاني في إرشاد السّاري شرح البخاري ٦ ص ١١٤ : أنّ الأرض اظلمّت لموت عمر.

(٢) الاتحاف بحبّ الأشراف ص ٢٤ ، وتهذيب التهذيب ٢ ص ٣٥٤ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ ، ولا يسع أحداً إنكار هذا ، بعدما يحدّث ابن الجوزي في المنتظم ٧ ص ٢٤٤ حوادث سنة (٣٩٩) في شهر آب : أصاب الحاج بالثعلبية ريح سوداء اظلمّت الدنيا حتّى لَم يرَ بعضهم بعضاً.

(٣) الصواعق المحرقة ص ١١٦ ، والاتحاف ص ٢٤.

(٤) تهذيب التهذيب ١ ص ٣٥٤ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ ، والمقتل الخوارزمي ٢ ص ٨٩.

(٥) الاتحاف بحبّ الأشراف ص ٢٤ ، والصواعق المرحقة ص ١١٦ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ وتاريخ الخلفاء ص ١٣٨ ، والكواكب الدرية ١ ص ٥٦.

(٦) مجمع الزوائد ٩ ص ١٩٧ ، وتاريخ الخلفاء ص ١٣٨ ، والمقتل للخوارزمي ٢ ص ٨٩ ، والاتحاف ص ٢٤ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ ، والكواكب الدرّية ١ ص ٥٦ : ولا غرابة فيه بعد أنْ كُسفت الشمس يوم موت إبراهيم ابن رسول الله ، كما نصّ عليه الزرقاني في شرح المواهب اللدنيّة ٣ ص ٢١٢ ، والجزري في اُسد الغابة ١ ص ٣٩ ، والعيني في عمدة القاري شرح البخاري ٣ ص ٤٧٢ باب كيفيّة صلاة الكسوف.

(٧) كامل الزيارات ص ٧٧ ، وهذا معنى ما تقدّم من أنّ الدنيا اظلمّت ثلاثة أيام.

(٨) الخرايج للراوندي ص ٦٤ طبعة الهند في معجزات الحسن العسكري (عليه السّلام).

٢٩٢

إنّي لأعذر بعده الدّجى

لَو لَم يلح والشمس لو لَم تطلع

والشهب لَو أفلت وهذي السّحب لَو

هي أقلعت والوحش لو لم ترتع

والماء لو لم يصف والأشجار لو

لم تزه والأطيار لو لم تسجع

والريح عند هبوبها لو أنّها

جاءت عواصفها بريحٍ زعزع

وحرمت شرب الماء إنْ أنا عنده

لم الف مكتئباً ولم استرجع

رمتِ العدى قلبي بسهم الغدر إن

لم يشجني رفع الكريم الأرفع

وحُمِلْت فوق أجبَّ عارٍ ظالعٍ

إن أنسَ حمل بنيهِ فوق الظّلّع (١)

بلى ، لقد تغيّرت أوضاع الموجودات ، واختلفت الكائنات ، فبكته الوحوش وجرت دموعها رحمةً له. قال أمير المؤمنين (ع) : «بأبي واُمّي الحسين المقتول بظهر الكوفة ، والله كأنّي أنظر إلى الوحوش مادة أعناقها على قبره تبكيه ليلاً حتّى الصباح» (٢). ومطرت السّماء دماً (٣) فأصبحت الحباب والجرار وكلّ شيء ملآن دماً (٤) وحتّى بقي أثره على البيوت والجدران مدّة (٥) ، ولَم يُرفع حجر إلاّ وُجِد تحته دم عبيط (٦) حتّى في بيت المقدس (٧). ولمّا دخل الرأس المقدّس إلى قصر الإمارة سالت الحيطان دماً (٨) ، وخرجت نار من بعض جدران قصر الإمارة وقصدت

__________________

(١) للشيخ محمّد بن شريف بن فلاح الكاظمي صاحب القصيدة الكرّاريّة في مدح أمير المؤمنين ونظَمها سنة ١١٦٦ وقرَّضها ثمانية عشر شاعراً من اُدباء عصره ، والعينيّة تبلغ ٣٩ بيتاً في مجموعة عند الحجة الأميني صاحب الغدير وتقدّمت قطعة منها في عنوان (كربلاء).

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه ص ٨٠.

(٣) الخصائص الكبرى ٢ ص ١٢٦ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ وتذكرة الخواص ص ١٥٥ ، ومقتل الحسين للخوارزمي ٢ ص ٨٩ ، والخطط المقريزيّة ٢ ص ٩٨٩ ، والاتحاف بحبّ الأشراف ص ٢٥٥ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦ ، والمناقب لابن شهر آشوب المتوفّى سنة (٥٨٨) ٢ ص ٢٠٦ و ١٨٢ : ومطر السماء دماً ذكره ابن الأثير في الكامل ٧ ص ٢٩ حوادث سنة (٢٤٦) والنّجوم الزاهرة ٢ ص ٣٢٢ ، وكنز العمّال ٤ ص ٢٩١ رقم ٥٨٦٨.

(٤) الخصائص الكبرى ٢ ص ١٢٦.

(٥) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦.

(٧) مجمع الزوائد للهيثمي ٩ ص ١٩٦ ، والخصائص الكبرى ٢ ص ١٢٥ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٣٨ ، والعقد الفريد ٢ ص ٣١٥ ، في مقتل الحسين ، والكواكب الدريّة للمناوي ١ ص ٥٦ ، والمقتل للخوارزمي ٢ ص ٩٠.

(٨) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦.

٢٩٣

عبيد الله بن زياد فقال لمَن حضر عنده : اكتمه (١). وولّى هارباً منها. فتكلّم الرأس الشريف بصوت جهوري : «إلى أين تهرب يا ملعون؟ فإن لم تنلك في الدنيا فهي في الآخرة مثواك». ولَم يسكت الرأس حتّى ذهبت النّار فاُدهش مَن في القصر (٢). ومكث النّاس شهرَين أو ثلاثة يرَون الجدران ملطّخة بالدم ساعة تطلع الشمس وعند غروبها (٣). وحديث الغراب المتلطّخ بدم الحسين (ع) وقد طار إلى المدينة ووقع على جدران فاطمة ابنة الحسين الصغرى ، ومنه استعلمت قتْل أبيها (ع) ، ولمّا نعته إلى أهل المدينة قالوا : جاءت بسحر بني عبد المطّلب. وما أسرع أن جاء الخبر بشهادته يرويه الموفّق أخطب خوارزم أحمد بن مكّي المتوفّى سنة (٥٦٨) في مقتل الحسين ٢ / ٩٢. ولا غرابة فيه بعد المصادقة على وجود ابنة للحسين غير فاطمة وسكينة فإنّ شهادته (ع) حفلت بالكثير من خوارق العادة. أراد الجليل عزّ شأنه إعلام الاُمّة الحاضرة والأجيال المتعاقبة الواقفين على هذه الملحمة التي لَم يأتِ الدهر بمثلها بالقساوة التي استعملها الاُمويّون مع أبي عبد الله المستشهد في سبيل الدعوة الإلهيّة ، وفي ذلك توجيه الأنظار إلى كرامة الحسين عند الله وأنّ قتله سوف يكون مدحرة للأضاليل وإحياء للدين الذي أراد بقاءه ربّ العالمين إلى يوم يبعثون.

ويحدّث دعبل الخزاعي عن جدّه : أنّ اُمّه سعدى بنت مالك الخزاعيّة أدركت الشجرة التي كانت عند اُمّ معبد الخزاعيّة وهي يابسة وببركات وضوء النبي (ص) في أسفلها أورقت وأثمرت ، كثيراً. ولمّا قُبض النّبي (ص) قلّ ثمرها ، ولمّا قُتل أمير المؤمنين (ع) تساقط ثمرها ، وكانوا يتداوون بورقها ، وبعد برهة نظروا إليها وإذا ساقها ينبع دماً ، فأفزعهم هذا الحادث الذي لَم يُشاهد مثله ، ولمّا اظلم الليل سمعوا بكاءً وعويلاً ولَم يرَوا أحداً ، وقائل يقول :

يابن الشهيد ويا شهيداً عمّه

خير العمومة جعفر الطيارُ

عجباً لمصقولٍ أصابك حدّه

في الوجه منك وقد علاك غبارُ

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ ص ١٩٦ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ١٠٣ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٨٧ ، والمنتخب للطريحي ص ٣٣٨.

(٢) شرح قصيدة أبي فراس ١٤٩.

(٣) كامل ابن الأثير ٦ ص ٣٧ ، والكواكب الدريّة ١ ص ٥٦ ، وتذكرة الخواص ص ١٥٥.

٢٩٤

وبعد ذلك جاء الخبر بقتل الحسين (ع) في الوقت الذي شاهدوا منها هذه الغريبة. وقدّم دعبل الخزاعي ثلاثة أبيات لهذين البيتين فقال :

زرْ خير قبرٍ بالعراق يُزارُ

واعْص الحمار فمَنْ نهاك حمار

لِمَ لا ازورك يا حسين لك الفدى

قومي ومن عطفت عليه نزار

ولك المودة في قلوب ذوي النهى

وعلى عدوك مقتةٌ ودمار (١)

ومعنى البيت الثاني من البيتين أخذه بعض شعراء الشيعة الأقدمين فنظمه في ثلاثة أبيات فقال :

عجباً لمصقولٍ علاك فَرَنْدُهُ

يوم الهياج وقد علاك غبار

ولأسهمٍ نفذتك دون حرائر

يدعون جَدّك والدموع غزار

هلّا تكسرت السهام وعاقها

عن جسمك الاجلال والاكبار (٢)

ولم يمسّ أحد من الزعفران الذي نهبوه إلا احترق البدن ، وعاد الورس رماداً ، والإبل المنهوبة صار لحمها مثل العلقم وكانوا يرون النّار تخرج منها (٣).

ولم تُعرف الحمرة في السّماء إلاّ يوم قتْل الحسين (ع) (٤). قال ابن الجوزي : كلّ واحد من النّاس إذا غضب أثر الغضب في وجهه. ولمّا تنزّه الحقّ جلّ شأنه على الجسميّة أظهر تأثير غضبه على مَن قتل الحسين (ع) بحمرة الأُفق ؛ إظهاراً لعظيم الجناية. ثمّ قال : لقد منع النّبي (ص) من النّوم أنين عمّه العبّاس بن عبد المطلب لمّا اُسر يوم بدر ، وأوثق كتافاً ، فكيف به لَو يسمع أنين الحسين (عليه السّلام)؟ ولمّا أسلم وحشي ، قاتل حمزة ، قال له النّبي (ص) : «غيّب وجهك عنّي ؛ فإنّي لا أحبّ أنْ أرى قاتل الأحبّة». مع أنّ الإسلام يجُبّ ما قبله ، فكيف به لو يرى مَن ذبح ولده وحمل أهله على أقتاب الجمال (٥).

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ ص ١٠٠ : وإذا كان القسطلاني يحدّث في إرشاد الساري ٩ ص ١١٤ عن نَوح الجنّ على عمر ، وابن كثير يذكر في البداية ١٠ ص ٢٩٨ نَوح الجنّ على بشر الحافي ، فسيّد شباب أهل الجنّة وروح النّبي (ص) أحرى بنَوحهم عليه.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٣٨٠.

(٣) الخصائص الكبرى ٢ ص ١٢٦ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٩ ، وتهذيب التهذيب ٢ ص ٣٥٤ ومجمع الزوائد ٩ ص ٩٦ ، والكواكب الدريّة ١ ص ٥٦ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٩٠.

(٤) الصواعق المحرقة ص ١١٦.

(٥) تذكرة الخواص ص ١٥٤ ، والصواعق المحرقة ص ١١٦.

٢٩٥

بلى ، لقد حضر رسول الله (ص) المعركة ، وشاهد ذلك الجمع المتألّب على استئصال أهله من جديد الأرض ، وبمرأى منه عويل الأيامى ونشيج الفاقدات وصراخ الصبية من الظمأ. وقد سمع العسكر صوتاً هائلاً : ويلكم يا أهل الكوفة إنّي أرى رسول الله (ص) ينظر إلى جمعكم مرّة وإلى السّماء اُخرى ، وهو قابض على لحيته المقدّسة. لكن الهوى والضلال المستحكم في نفوس ذلك الجمع المعمور بالأطماع أوحى إليهم : إنّه صوت مجنون. فصاح الجمع لا يهولنّكم ذلك. وكان أبو عبد الله الصادق (ع) يقول : «لا أراه إلاّ جبرئيل» (١).

وصاح بعض الملائكة : ألا أيّتها الاُمّة المتحيّرة الضالّة بعد نبيّها ، لا وفّقكم الله لأضحى ولا فطر! قال الإمام الصادق (ع) : «لا جرم والله ، ما وفّقوا ولا يوفّقون حتّى يثور ثائر الحسين (ع)» (٢).

وهبْ دم يحيى قد غلا قبلُ في الثرى

فإنّ حسينا في القلوب غلا دمه

وإنْ قُرّ قِدما مذْ دعا بُخْتُ نُصر

بثارات يحيي واستُردَتْ مظالمه

فليست دماء السّبط تهدأ قبل أن

يقوم بإذن الله للثأر قائمه (٣)

وحدث الشيخ البهائي أنّ أباه الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي دخل مسجد الكوفة فوجد فص عقيق مكتوب عليه :

أنا درٌّ من السّما نثروني

يوم تزويج والد السّبطَين

كنت أصفى من اللجين بياضاً

صبغتني دماء نحر الحسين (٤)

__________________

(١) كامل الزيارات.

(٢) من لا يحضرة الفقيه ، للشيخ الصدوق ص ١٤٨.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ محمّد تقي الجواهري.

(٤) كشكول الشيخ يوسف البحراني ص ١٧ ، طبعة الهند ، عن كشكول الشيخ البهائي.

٢٩٦

الليلة الحادية عشرة عند الحسين (ع)

إنّ من الراجح المؤكّد على مَن يشايع الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) المبيت في الليلة الحادية عشرة عند قبر المظلوم (ع) وعليه ملامح الاستياء وشعار الحزن على ذلك الفادح الجلل بين أنّة وحنّة وصراخ وعولة كأنّه ينظر من كثب إلى ضحايا آل محمّد مضرّجين بالدماء تسفي عليهم الريح بوغاء الثرى وهي أشلاء مقطّعة قد طعمتها سمر الرماح ونهلت من دمائها بيض الصفاح وطحنتها سنابك الخيل العادية.

ويرنو مَنْ أممّ إلى عقائل بيت الوحي نذرف الدمع على تلك الجثث الزواكي ، فمن نادبة إلى صارخة ، ومن ناشجة إلى لاطمة صدرها وناشرة شعرها (١) ، فيواسيها المتصوّر ببكائه المتواصل ، وعقيرته المرتفعة ، وعبرته الغزيرة.

ومن المقطوع به أنّ في هذه الحالة صلة للصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ومواساة لها وفيها جلب رغبات أئمّة الهدى (عليهم السّلام) على ما يستأنس به من الآثار الواردة في أمثال هذا في سائر الأحوال.

وهناك أحاديث ربّما يستفيد المتأمّل منها هذه النظريّة ؛ ففي الحديث عن مالك الجهني عن أبي جعفر (ع) : «مَن زار الحسين (ع) يوم عاشوراء حتّى يظلّ عنده باكياً ، لقى الله يوم القيامة بثواب ألفَي ألف حَجّة ، وألفَي ألف عمرة ، وألفَي ألف غزوة مع رسول الله والأئمّة الراشدين»(٢).

وقد أفاد علماء العربيّة أنّ (ظلّ) تستعمل فيمَن أقام في المكان نهاراً إلى الليل (٣) والإقامة إلى الليل ، إنْ لَم يستلزم المبيت في الليلة المتعقبة للنّهار ، إلاّ أنْ

__________________

(١) روى الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ ص ٢٨٢ : آخر النّذور عن الصادق (ع) أنّه قال : «ولقد شققن الفاطميات الجيوب على الحسين (ع) ، ولطمن الخدود ، وعلى مثل الحسين فلتلطم الخدود ولتشقّ الجيوب».

(٢) كامل الزيارات ص ١٧٤.

(٣) في تاج العروس ٧ ص ٤٢٦ ، مادّة (ظلّ) : عن الشهاب الخفاجي : أنّ ظلّ فعل ناقص يفيد ثبوت الخبر في جميع النّهار.

وفي شرح الكفاية ، للرضي ص ٢٧٨ ، مبحث الأفعال الناقصة : معنى (ظلّ زيد متفكّراً) كان في جميع النّهار كذلك ، فاقترن مضمون الجملة وهو تفكّر زيد بجميع النّهار مستغرقاً له ، ومعنى بات زيد مهموماً أنّه في جميع الليل كذلك.

وفي شرح الصمديّة ، للسيّد علي خان ص ٥٩ ، طبعة ايران : تفيد (ظلّ) و (بات) ثبوت الخبر للاسم في جميع النّهار والليل ، وعلى ذلك جرى الزمخشري في المفصل ص ٢٦٧ ، طبعة مصر : وقد يستعملان بمعنى صار مع القرينة.

٢٩٧

حديث جابر الجعفي عن أبي عبد الله (ع) ربّما يساعد عليه فإنّه قال : «مَن زار الحسين (ع) يوم عاشوراء وبات عنده ، كان كمَن استشهد بين يدَيه» (١). فإنّ الظاهر منه إرادة المبيت المتعقّب لليوم لا السّابق عليه وإلاّ لقال (عليه السّلام) (مَن بات ليلة عاشوراء عند الحسين (ع) وزار يومه وظلّ باكياً كان له كذا وكذا).

على أنّ الاعتبار يساعد على أنّ المقيم عند قبر الذبيح العطشان في تمام اليوم أنْ لا يرتحل عنه في هذه الليلة التي لَم يمرّ مثلها على بنات رسول الله وودائع الخلافة ، وهنّ في تلك الفلاة الجرداء قد فقدن البدور النيّرة والاُباة الصفوة ، وإلى جنبهنّ الأشلاء المقطّعة بسيوف البغي والضلال ، وهنَّ في فرق سائد لا يدرين ماذا يصدر عليهنّ من أعداء الله وأعداء رسوله ، فيكون الموالي لهم البائت تلك الليلة عند قبره مشعراً بحزنه وبكائه إلى أسفه بتأخّره عن الحضور بالفوز الأكبر فيكثر من قول : يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً (٢). ويواسي سيّدة النّساء الباكية على مهجتها الممنوع من الورود. ولقد رأتها في المنام ذرّة النّائحة واقفة على قبر الحسين (ع) تبكي ، وأمرتها أنْ تنشد :

أيّها العينان فيضا

واستهلّا لا تغيضا

وابكيا بالطّف ميتاً

ترك الجسم رضيضاً

لم اُمرّضه قتيلاً

لا ولا كان مريضا (٣)

ويحدِّث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي عن أبيه : أنّ أبا الحسن الكاتب كان يسأل عن ابن النائح ، فلَم يعرفه مَن كان في المجلس من أهل الكرخ غيري ، فقلتُ له : ما القصّة؟ قال أبو الحسن الكاتب : عندي جارية كثيرة الصيام والتهجّد ، وهي لا تقيم كلمة عربيّة صحيحة فضلاً عن أن تروي شعراً والغالب على لسانها النبطيّة ، انتبهت البارحة فزعة ترتعد ومرقدها قريب من موضعي ، فصاحت بي : يا أبا الحسن الحقني! قلتُ : ما أصابك؟ قالت : إنّي صَلّيت وردي ونمتُ ، فرأيت كأنّي في درب من دروب الكرخ وإذا بحجرة نظيفة

__________________

(١) كامل الزيارات ص ١٣٧ ، الباب الواحد والسبعون.

(٢) في عيون أخبار الرضا (ع) ، للشيخ الصدوق ص ٦٦ : من حديث عن الرضا (ع) قال لابن شبيب : «إنْ سرَّك أنْ تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النّبي (ع) ، فالعن قتلة الحسين (ع) ، وقل متى ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً».

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ١٨٩ ، طبعة ايران ، عن أمالي المفيد النيسابوري.

٢٩٨

بيضاء مليحة السّاج مفتوحة الباب ، ونساء وقوف عليه ، قلت لهم : مَن مات؟ أو ، ما الخبر؟ فأومأوا إلى داخل الدار ، فدخلتُ فإذا بدار نظيفة في نهاية الحُسن ، وفي صحنها امرأة شابّة لَم أرَ قطّ أحسن منها ولا أبهى ولا أجمل ، وعليها ثياب حسنة ، وملتحفة بإزار أبيض ، وفي حِجرها رأس رجل يشخب دماً ، فقلتُ : مَن أنتِ؟ قالت : لا عليكِ ، أنا فاطمة بنت رسول الله (ص) ، وهذا رأس ابني الحسين (ع) ، قولي لابن أصدق عنّي أنْ ينوح :

لَم اُمرّضه فأسلو

لا ولا كان مريضا

فانتبهتُ فزعة ، وقالت العجوز : لَم اُمرّطه (بالطاء المهملة ؛ لأنّها لا تتمكّن من إقامة الضّاد) فسكّنتها حتّى نامت.

فقال أبوالحسن الكاتب لِعلي التنوخي : يا أبا القاسم ، مع معرفتك بابن أصدق قد حمّلتك الأمانة وألزمتك أنْ تبلّغها له. فقال التنوخي : سمعاً وطاعة لأمر سيّدة نساء العالمين (عليها السّلام).

وكان هذا في شهر شعبان والنّاس يومئذ يلاقون جهداً جهيداً من الحنابلة إذا أرادوا الخروج إلى الحائر فلم أزل اتلطّف إليهم حتّى خرجت فكنت في الحائر ليلة النّصف من شعبان ، فسألت عن ابن أصدق حتّى رأيته وقلت له : إنّ فاطمة (عليها السّلام) تأمرك أنْ تنوح بالقصيدة :

لَم اُمرّضه فأسلو

لا ولا كان مريضا

وما كنت أعرف القصيدة قبل ذلك ، فانزعج من هذا ، فقصصت عليه وعلى من حضر الحديث ، فأجهشوا بالبكاء ، وما ناح تلك الليلة إلاّ بهذه القصيدة ، وأولها :

أيهّا العينان فيضا

واستهلا لا تغيضا

وهي لبعض الشعراء الكوفيين. وعدت إلى أبي الحسن فأخبرته الخبر (١).

السّلب

أبا حسنٍ يا خير حام لجاره

أبثّ لك الشكوى بدمعٍ مرقرقٍ

__________________

(١) نشوار المحاضرة ٨ ص ٢١٨.

٢٩٩

وناهيك في رِزْء تفاقم وقعه

فأصبح فيه الدّمع من بعض منطقي

اتغضي ومنك اليوم آل اُميّة

شفت كلّ ذحل في حشاها مؤرّق

وكم لك في أرض ٍالطّفوف نوادب

ينحن بها نوح الحمام المطوّق

وكم طفلة قد أرهبوها بقسوة

وما عوّدت من قبل غير الترقرق

وطفل يحلّي جيده طوق عسجد

فطوّق مذعوراً بسهم مفوّق

وكم حرّة حسرى بدت من خبا لها

وليس لديها ساتر غير مرفق

هنالك لو شاهدتها تنفث الشّجى

بقلب من الوجد المبرّح محرق

لعزّ أمير المؤمنين خروجها

عليك بحال أحزنت كلّ مشفق

فمن مُبْلِغُ الزهراء عن أسر زينب

وتسييرها بين الأعادي لجلّق

وليس لها بين العدى من يصونها

حمى غير مضنى بالحبال مربّق

أفاطم سمعاً علّني في تزفري

أبثّك أشجاناً أخذن بمخنق

فإنّ الاُولى حلّوا بعرصة كربلا

هووا في ثراها مشرقاً بعد مشرق

قضوا وجلال العزّ يعلو وجوههم

وماتوا كراماً مالووا جيد مطرق

فلا عذر حتّى تلفظي القلب حسرة

بفيض دم من ماء عينيك مهرق (١)

لمّا قُتل أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) مالَ النّاسُ على ثقله ومتاعه وانتهبوا ما في الخيام (٢) ، وأضرموا النّار فيها ، وتسابق القوم على سلب حرائر الرسول (ص) ، ففررن بنات الزهراء (ع) حواسر مسلبات باكيات (٣) وإنّ المرأة لتسلب مقنعتها من رأسها ، وخاتمها من إصبعها ، وقرطها من اُذنها ، والخلخال من رجلها (٤). أخذ رجل قرطين لاُمّ كلثوم وخرَم اُذنها (٥).

وجاء آخر إلى فاطمة ابنة الحسين (ع) فانتزع خلخالها ، وهو يبكي قالت له : مالك؟ فقال : كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله؟! قالت له : دعني ، قال : أخاف أنّ يأخذه غيري (٦).

ورأت رجلاً يسوق النّساء بكعب رمحه ، وهنّ يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ

__________________

(١) من قصيدة للعلامة الثقة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٢.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٠.

(٤) مثير الأحزان لابن نما ص ٤٠.

(٥) الدمعة الساكبة ص ٣٤٨.

(٦) أمالي الصدوق ص ٩٩ المجلس الواحد والثلاثون ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ ص ٢٠٤.

٣٠٠