مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

ما عليهن من أخمرة وأسورة ، ولمّا بصر بها قصدها ، ففرّت منه ، فأتبعها رمحه فسقطت لوجهها مغشيّاً عليها ، ولمّا أفاقت رأت عمّتها اُمّ كلثوم عند رأسها تبكي (١).

أزعِجَت من خدرها حاسرة

كالقطا روّع من بعد هجود

تندب الصون الذي قد فقدت

صبرها فيه إلى خير فقيد

فقدت خير عماد فدعت

من بني عمرو العلى كل عميد

لبدورٍ بدماها شرقت

وبها أشرق مغبر الصعيد

بين محزوز وريد وزّعت

جسمه البيض ومقطوع زنود

قد تواروا بقنا الخطّ فهل

قصد الخطيّ غاباً للاسود

تصدع الظلماء اوضاحٌ لهم

كمصأبيح على الترب ركود (٢)

ونظرت امرأة من آل بكر بن وائل كانت مع زوجها إلى بنات رسول الله بهذه الحال فصاحت : يا آل بكر بن وائل ، أتُسلب بنات رسول الله! لا حكم إلاّ لله ، يا لثارات رسول الله! فردّها زوجها إلى رحله (٣).

وانتهى القوم إلى علي بن الحسين (ع) ، وهو مريض (٤) على فراشه لا يستطيع النّهوض ، فقائل يقول : لا تدعوا منهم صغيراً ولا كبيراً. وآخر يقول : لا تعجلوا حتّى نستشير الأمير عمر بن سعد (٥). وجرّد الشمر سيفه يريد قتله ، فقال له حميد بن مسلم : يا سبحان الله! أتقتل الصبيان؟! إنّما هو صبي مريض (٦). فقال : إنّ ابن زياد أمر بقتل أولاد الحسين. وبالغ ابن سعد في منعه (٧) ، خصوصاً لمّا سمع العقيلة زينب ابنة أمير المؤمنين تقول : لا يُقتل حتّى اُقتل دونه. فكفّوا عنه (٨).

__________________

(١) رياض المصائب ص ٣٤١ ، وتظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٣٠.

(٢) للحجّة المحقّق الشيخ عبد الحسين الحلّي رحمه الله ، من قصيدة في مولد الحسين (عليه السّلام).

(٣) اللهوف ص ٧٤ ، ومثير الأحزان لابن نما ص ٤١.

(٤) مرض السّجاد (ع) ذكره الطبري ٦ ص ٢٦٠ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٣٣ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٨٨ ، ومرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٣ ، والإرشاد للشيخ المفيد ، ومناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٥ ، وإعلام الورى للطبرسي ص ١٤٨ ، وروضة الواعظين ص ١٦٢ ، لمحمد بن أحمد بن علي النيسابوري ، الفتال واثبات الوصية للمسعودي ص ١٤٠.

(٥) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٣٢.

(٦) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦٠.

(٧) نفَس المفهوم.

(٨) تاريخ القرماني ص ١٠٨.

٣٠١

كانت عيادته منهم سياطهم

وفي كعوب القنا قالوا : البقاء لكا

جرّوه فانتهبوا النطع المعد له

وأوطأوا جسمه السعدان والحسكا

وأقبل ابن سعد إلى النّساء ، فلمّا رأينه بكين في وجهه ، فمنع القوم عنهنّ ، وقد أخذوا ما عليهنّ ولم يردّوا شيئاً (١) ، فوكّل جماعة بحفظهنّ ، وعاد إلى خيمته :

وحائراتٍ أطار القوم أعينها

رعباً غداة عليه خدرها هجموا

كانت بحيث عليها قومها ضربت

سرادقا ارضه من عزّهم حرم

يكاد من هيبة أن لا تطوف به

حتّى الملائك لولا انهم خدم

فغودرت بي أيدي القوم حاسرة

تسبى وليس لها من فيه تعتصم

نعم لوت جيدها بالعتب هاتفة

بقومها وحشاها ملؤه ضرم

عجّت بهم مذ على ابرادها اختلفت

ايدي العدوّ ولكن من لها بهم (٢)

الخيل

ونادى ابن سعد : ألا من ينتدب إلى الحسين فيوطىء الخيل صدره وظهره. فقام عشرة (٣) منهم ؛ إسحاق بن حوية (٤) ، والأحبش بن مرثد بن علقمة بن سلمة الحضرمي ، وحكيم بن الطفيل السنبسي ، وعمرو بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وصالح بن وهب الجعفي ، وواخط بن

__________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ ص ٣٢ : ويحدّث مصعب الزبيري بشيء غريب ، فيقول في نسب قريش ص ٥٨ : ابن بعض مَن كان في الجيش أخذ علي بن الحسين (ع) وغيّبه عن النّاس وكان يُكرمه ويُحسن إليه ، فلمّا سمع المنادي يقول : مَن جاء بعلي بن الحسين فله ثلثمئة درهم. جاء وقيّد يدَيه إلى عنقه وأتى به إلى ابن زياد وأخذ الجائزة. وأراد ابن زياد قتله لولا أنّ عمّته زينب وقعت عليه ، وقالت لابن زياد : اقتلني قبله. انتهى.

وأنت إذا عرفت أنّ زين العابدين (ع) مع ما به من المرض هو الكفيل والمحامي لحرم رسول الله (ص) ، فلا يمكّن الله تعالى أحداً منه فيغيبه عن عياله الفواقد ، كيف يكون حالهنّ إذا فقدن المحامي والمصبّر لهن؟ مع أنّ أحداً من المؤرخين لَم يذكره حتّى على الاحتمال البعيد ، لكن الزبيري أراد أن يسوّد صحيفته بالمفتريات.

(٢) للسيّد حيدر الحلّي نور الله ضريحه.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ١٦١ ، وكامل ابن الاثير ٤ ص ٣٣ ، ومروج الذهب ٢ ص ٩١ ، والخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٨ ، والبداية لابن كثير ٨ ص ١٨٩ ، وتاريخ الخميس ٣ ص ٣٣٣ ، والإرشاد للشيخ المفيد ، وإعلام الورى للطبرسي ص ٨٨٨ ، وروضة الواعظين ص ٦٦٢ ، ومناقب ابن شهر آشوب ٢ ص ٢٢٤.

(٤) في تاج العروس ٤ ص ٣١ ، مادة حوز : ممَّن قاتل الحسين حويزة كجهينة.

٣٠٢

غانم ، وهاني بن ثبيت الحضرمي ، وأسيد بن مالك ، فداسوا بخيولهم جسد ريحانة الرسول ، وأقبل هؤلاء العشرة إلى ابن زياد يقدمهم اسيد بن مالك يرتجز :

نحن رضضنا الصدر بعد الظهر

بكل يعبوب شديد الأسر

فأمر لهم بجائزة يسيرة (١).

وأيّ شهيد أصلت الشمس جسمه

ومشهدها من أصله متولّد

وأيّ ذبيح داست الخيل صدره

وفرسانها من ذكره تتجمّد

ألم تك تدري أن روح محمد

كقرآنه في سبطه متجسّد

فلو علمت تلك الخيول كاهلها

بأنّ الذي تحت السنابك احمد

لثارت على فرسانها وتمردت

كما انّهم ثاروا بها وتمرّدوا (٢)

قال البيروني : لقد فعلوا بالحسين ما لَم يفعل في جميع الاُمم بأشرار الخلق ؛ من القتل بالسّيف ، والرمح ، والحجارة ، وإجراء الخيول (٣) ، وقد وصل بعض هذه الخيول إلى مصر ، فقلعت نعالها وسمرت على أبواب الدور تبرّكاً ، وجرت بذلك السنّة عنده ، فصار أكثرهم يعمل نظيرها ويعلّق على أبواب الدور (٤).

فليت أكّفاً حاربتك تقطّعت

وأرجل بغي جاولتك جذام

وخيلا غدت تردى عليك جواريا

عقرن فلا يلوى لهنّ لجام

ورضّت قراك الخيل من بعد ما غدت

اولوا الخيل صرعى منك فهي رمام

اصبت فلا يوم المسرّات نير

ولا قمر في ليلهنّ تمام (٥)

الرؤوس

وأمر ابن سعد بالرؤوس فقطعت واقتسمتها القبائل ؛ لتتقرّب إلى ابن زياد ،

__________________

(١) اللهوف ص ٧٥ ، ومثير الأحزان لابن نما ص ٤١. وفي مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٩ زيادة بيت :

حتّى عصينا الله ربّ الأمر

بعضها مع الحسين الطهر

(٢) من قصيدة للسيّد صالح ابن العلامة السيّد مهدي آل بحر العلوم.

(٣) الآثار الباقية ص ٣٢٩ ، طبعة ليدن ، وطبعة الاوفست.

(٤) كتاب التعجّب للكراجكي ص ٤٦ ملحق بكنز الفوائد.

(٥) لأبي ذيب شيخ يوسف القطيفي المتوفّى (١٢٠٠ ـ).

٣٠٣

فجائت كندة بثلاثة عشر وصاحبهم قيس بن الأشعث ، وجاءت هوازن باثني عشر وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن ، وجاءت تميم بسبعة عشر ، وبنو أسد بستة عشر ، ومذحج بسبعة ، وجاء آخرون بباقي الرؤوس (١) ، ومنعت عشيرة الحر الرياحي من قطع رأسه ورضّ جسده (٢).

وسرّح ابن سعد في اليوم العاشر رأس الحسين (ع) مع خولى بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي ، وسرّح رؤوس أهل بيته وصحبه مع الشمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحَجّاج (٣).

وكان منزل خولي على فرسخ من الكوفة ، فأخفى الرأس عن زوجته الأنصاريّة ؛ لِما يعهده من موالاتها لأهل البيت (عليهم السّلام) إلاّ أنّها لمّا رأت من التنّور نوراً راعها ذلك ؛ إذ لم تعهد فيه شيئاً ، فلمّا قربت منه سمعت أصوات نساء يندبن الحسين (ع) بأشجى ندبة ، فحدّثت زوجها وخرجت باكية (٤) ولَم تكتحل ولم تتطيّب حزناً على الحسين (ع) وكان اسمها العيوف (٥).

وعند الصباح غدا بالرأس إلى قصر الإمارة ، وقد رجع ابن زياد في ليلته من معسكره بالنّخيلة فوضع الرأس بين يدَيه وهو يقول :

إملأ ركابي فضّة أو ذهبا

إنّي قتلت السيّد المحجّبا

وخيرهم من يذكرون النسبا

قتلت خير الناس اُمّاً وأبا

فساء ابن زياد قوله أمام الجمع فقال له : إذا علمت إنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا نلت منّي شيئاً (٦).

__________________

(١) اللهوف ص ٨١ ، وعمدة القاري في شرح البخاري للعيني ٧ ص ٦٥٦ ، وفيه كان معهم عروة بن قيس.

(٢) الكبريت الأحمر.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد.

(٤) روضة الشهداء ، وفي البداية لابن كثير ٨ ص ١٩٠ : إنّ زوجته رأت النور يسطع من تحت الاجانة إلى السّماء وطيوراً بيضاً ترفرف حولها ، وإنّ زوجته الاُخرى نوار بنت مالك قالت له : أتيت برأس ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله! لا يجمعني وإيّاك فراش أبداً ، ثمّ فارقته.

(٥) أنساب الأشراف للبلاذري ٥ ص ٢٣٨.

(٦) في مرآة الجنان لليافعي ١ ص ١٣٣ : إنّ ابن زياد غضب عليه وقتله ، ولَم يسمّ حامل الرأس ، وفي العقد الفريد ٢ ص ٢١٣ : سمّاه خولي ابن يزيد الأصبحي ، وقتله ابن زياد لذلك. واختلف المؤرّخون فيمَن جاء بالرأس وقائل الأبيات ؛ فعند ابن جرير الطبري ٦ ص ٢٦١ ، وابن الأثير ٤ ص ٣٣ : سنان بن أنس

٣٠٤

السّفر من كربلاء

لمّا سيّر ابن سعد الرؤوس إلى الكوفة ، أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر ، فجمع قتلاه وصلّى عليهم ودفنهم ، وترك سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة الرسول الأكرم ومَن معه من أهل بيته وصحبه بلا غسل ولا كفن ولا دفن (١) ، تسفي عليه الصبا ، ويزورهم وحش الفلا.

فإن يمسِ فوق التّرب عريان لم تقم

له مأتماً تبكيه فيه محارمه

فأيّ حشا لم يمس قبراً لجسمه

وفي أيّ قلب ما اقيمت مآتمه (٢)

وبعد الزوال ارتحل إلى الكوفة ومعه نساء الحسين (ع) وصبيته وجواريه وعيالات الأصحاب وكنَّ عشرين امرأة (٣) وسيروهنَّ على أقتاب الجمال بغير وطاء كما يساق سبي الترك والروم وهنّ ودائع خير الأنبياء ومعهنّ السّجاد علي بن الحسين (ع) وعمره ثلاث وعشرون سنة (٤) ، وهو على بعير ظالع بغير وطاء وقد أنهكته العلّة (٥) ومعه ولده الباقر (ع) (٦) وله سنتان وشهور (٧) ، ومن أولاد الإمام الحسن

__________________

أنشدها على عمر بن سعد ، وفي تذكرة الخواص ص ١٤٤ قال له عمر : أنت مجنون لَو سمعك ابن زياد لقتلك. وفي شرح المقامات للشريثي ١ ص ١٩٣ : إنّه أنشدها على ابن زياد ، وفي كشف الغمّة للأربلي ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٤٠ : إنّ بشر بن مالك أنشدها على ابن زياد. وفي مطالب السؤول لابن طلحة ص ٧٦ ، زاد عليهما (ومن يصلّي القبلتين في الصبا) ، فغضب عليه ابن زياد وقتله. وفي رياض المصائب ص ٤٣٧ : إنّ الشمر قائلها.

وأنت إذا عرفت إنّ الشمر هو قاتل الحسين (ع) كما في زيارة النّاحية وعليه جماعة من المؤرّخين ، تعرف أنّه المنشد لها ؛ إذ من البعيد أن يقتله ويأخذ الرأس غيره فيفوته التقرّب عند ابن زياد ، وإنّما ذكرنا القصّة عن خولي مماشاةً مع أهل المقاتل. وفي المعجم ممّا استعجم ٢ / ٨٦٥ ، ووفاء الوفاء للمسعودي ٢ / ٢٣٢ ، عند ذكر حمي ضريه ، قال : ضريه من مياه الضباب في الجاهليّة لذي الجوشن الضبابي والد الشمر قاتل الحسين بن علي (ع).

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢ ص ٣٩.

(٢) للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٣) نفس المهموم ص ٢٠٤. وفي مستدرك الوسائل للنوري ٢ ص ٢٣٤ الطبعة الاُولى : روى الشيخ المفيد والسيّد ابن طاووس بالإسناد عن الصادق (ع) أنّه صلّى في القائم المائل بطريق الغري ركعتين وقال : «ههنا وضعوا رأس جدّي الحسين (ع) لمّا توجّهوا من كربلاء ، ثمّ حملوه إلى عبيد الله بن زياد». ثمّ ذكر دعاء يُدعا به بعد الصلاة ، وقال : «هذا الموضع يعرف بالحنانة ..

(٤) نسب قريش لمصعب الزبيري ص ٥٨.

(٥) الاقبال لابن طاووس ص ٥٤.

(٦) رياض الأحزان ص ٤٩ ، وإثبات الوصيّة للمسعودي ص ١٤٣.

(٧) إثبات الوصيّة ص ١٤٣ طبعة النّجف. وفي تاريخ أبي الفداء ١ ص ٢٠٣ : له ثلاث سنين.

٣٠٥

المجتبى (ع) زيد وعمرو والحسن المثنّى ، فإنّه أُخذ أسيراً بعد أنْ قَتل سبعة عشر رجلاً ، وأصابته ثمان عشرة جراحة وقُطعت يده اليمنى ، فانتزعه أسماء بن خارجة الفزاري ؛ لأنّ اُمّ المثنّى فزاريّة ، فتركه ابن سعد له (١). وكان معهم عقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الحسين (ع) ، ولمّا أخبر ابن زياد بأنّه مولى للرباب خلّى سبيله ، وأخبر ابن زياد بأنّ المرقع بن ثمامة الأسدي نثر نبله وقاتل ، فآمنه قومه وأخذوه فأمر بنفيه إلى الزارة (٢).

أترى كيف أمست الخفرات

بعد غلب دون المخيّم ماتوا

أتراهم للأسر قد أسلموها

أم على الرغم فارقتها الحماة

فارقوها من بعد ما ثلم العضب

ودقّت من الطعان القناة

وبنوا في دم الشهادة عرشاً

لم قبلهم بنته البناة

أدهشتها من بعدهم هجمة الخي

ل عليها وأين عنها الاباة

فتصارخْنَ يستغثْنَ بصرعي

هوّمت غفوة بهم وسباة

وترامت بجنب كلّ أبيِّ

حرّة تستثيره وفتاة

يشتكين السياط قد ألمتهن

وهل حفزت بصرخى شكاة

يتساقطْنَ عن متون المطايا

كلّما أزعج النياق الحدادة (٣)

فقلن النّسوة : بالله عليكم إلاّ ما مررتم بنا على القتلى. ولمّا نظرن إليهم

__________________

(١) البحار الجزء العاشر ، عند ذكر أولاد الحسن (ع) ، وإسعاف الراغبين ص ٢٨ ، على هامش نور الأبصار.

وفي اللهوف ص ٨ : عالجه بالكوفة ، فلمّا برأ حمله إلى المدينة.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٦١ ، وكامل ابن الاثير ٤ ص ٣٣. والزارة ، كما في معجم البلدان ٤ ص ٣٦٧ : قرية بالبحرين ، واُخرى في طرابلس الغرب ، وكورة بالصعيد. وفي المعجم ممّا استعجم للبكري ٢ ص ٦٩٢ : إنّها موضع بناحية البحرين جرت فيها حروب للنعمان بن المنذر المعروف بـ (الغرور) مع الأساورة ، ومدينة بفارس فيها بارز البراء بن مالك مرزبانها فصرعه وقطع يده وأخذ منطقته وسواريه ، وكان قيمته ثلاثين ألفاً ، فأخذ خُمسه عمر ، وهو أول سلب اُخذ خمسه في الإسلام. وفي كامل ابن الاثير ٤ ص ١٠ : إنّ ابن زياد هدّد أهل الكوفة بالنّفي إلى عمان الزارة. وفيه ٨ ص ٨٦ حوادث سنة (٣٢١ هـ) : إنّ علي بن يليق أمر بلعن معاوية وابنه يزيد على المنابر ببغداد ، فاضطربت العامّة ، وكان يثير الفتن البربهاري من الحنابلة ، فهرب منه وقبض على جماعته فأحدرهم في زورق إلى عمان. انتهى.

فيظهر من ذلك أنّ الزارة موضع في عمان. وفي الأخبار الطوال / ٢٥٦ ، سيّر ابن زياد المرقع بن ثمامة الأسدي إلى الزبدة ، فلم يزل بها حتّى هلك يزيد وهرب ابن زياد إلى الشام ، فانصرف المرقع إلى الكوفة. وفي نشوار المحاضرة ٨ / ٩ : إنّ أبا محمّد المهلّبي أحدر محمّد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي إلى عمان في زورق طبقه عليه ؛ لأمر نقمه عليه.

(٣) للعلامة الثقة الشيخ عبد المهدي مطر النجفي.

٣٠٦

مقطّعي الأوصال ، قد طعمتهم سمر الرماح ، ونهلت من دمائهم بيض الصفاح ، وطحنتهم الخيل بسنابكها ، صِحن ولطمن الوجوه (١) وصاحت زينب : يا محمّداه! هذا حسين بالعراء ، مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذريّتك مقتّلة. فأبكت كلّ عدو وصديق (٢) حتّى جرت دموع الخيل على حوافرها (٣).

ثمّ بسطت يدَيها تحت بدنه المقدّس ورفعته نحو السّماء ، وقالت : إلهي تقبّل منّا هذا القربان (٤). وهذا الموقف يدلّنا على تبوّئها عرش الجلالة ، وقد اُخذ عليها العهد والميثاق بتلك النّهضة المقدّسة كأخيها الحسين (ع) وإنْ كان التفاوت بينهما محفوظاً ، فلمّا خرج الحسين (ع) عن العهدة بإزهاق نفسه القدسيّة ، نهضت العقيلة زينب بما وجب عليها ، ومنه تقديم الذبيح إلى ساحة الجلال الربوي والتعريف به ، ثمّ طفقت (سلام الله عليها) ببقيّة الشؤون ، ولا استبعاد في ذلك بعد وحدة النّور وتفرّد العنصر.

وتشاطرت هي والحسين بدعوة

حتم القضاء عليهما أنْ يندبا

هذا بمشتبك النصول وهذه

في حيث معترك المكاره في السّبا (٥)

واعتنقت سكينة (٦) جسد أبيها الحسين (ع) فكانت تحدّث أنّها سمعته يقول :

شيعتي ما أنْ شربتم

عَذْبَ ماء فاذكروني

__________________

(١) مثير الأحزان لابن نما ص ٤١ ، واللهوف لابن طاووس ص ٧٤ ، والمقتل للخوارزمي ٢ ص ٣٩ ، والمقتل للطريحي ص ٣٣٢.

(٢) الخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٠.

وفي مقتل الخوارزمي واللهوف : كانت الندبة أوسع.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣٩ ، والمنتخب للطريحي ص ٣٣٢.

(٤) الكبريت الأحمر ٣ ص ١٣ ، عن الطراز المذهّب.

(٥) للعلامة ميرز محمّد علي الاوردبادي (نوّر الله ضريحه).

(٦) في تهذيب الأسماء للنووي ١ ص ١٦٣ ، والكواكب الدرّية للمناوي ١ ص ٥٨ ، ونور الأبصار للشبلنجي ص ١٦٠ ، ووفيات الأعيان لابن خلّكان بترجمتها : توفّيت سكينة بنت الحسين (ع) يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول سنة (١١٧ هـ). وفي المجدي لابن الحسن العمري في النّسب ، وإعلام الورى للطبرسي ص ١٢٧ ، عند ذكر أولاد الحسن (ع) ، والأغاني ١٢ ص ١٦٣ : إنّها تزوّجت من ابن عمّها عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب قُتل عنها يوم الطف ، ولم تلد منه. انتهى. وفي إعلام الورى : قُتل عنها قبل البناء بها ، ولها يوم الطفّ أكثر من عشر سنين ، وولادتها قبل وفاة عمّها الحسن (ع) وعمرها يقارب السّبع سنين ، وكلمة سيّد الشهداء (ع) في حقّها : «أنّ الغالب على سكينة الاستغراق مع الله». على ما رواه الصبان في اسعاف الرغبين يفيدنا درساً دقيقاً عن مكانة ابنته من الشريعة المقدسة ـ لاحظ كتابنا السيدة سكينة ـ الطبعة الثانية.

٣٠٧

أو سمعتم بغريب

او شهيد فاندبوني (١)

ولَم يستطع أحد أن ينحيها عنه حتّى اجتمع عليها عدّة وجروها بالقهر (٢).

ومذعورة باليتم قد ربع قلبها

كطير عليه الصقر قد هجم الوكرا

أهابت بها من هجمة الخيل صرخة

على ثكلها باليتم فاضطربت ذعرا

وفرَّت إلى الثاوي على جمرة الثرى

وقد أرسلت من جفنها فوقه نهرا

وأهوت على جسم الحسين فضمّها

إلى صدره ما بين يمناه واليسرى

تلوذ به حسرى القناع مروعة

وعزّ عليه أن يشاهدها حسرى

فما تركتها تستجير سياطهم

بجسم أبيها حينما انتزعت قسرى (٣)

وأمّا علي بن الحسين (ع) فإنّه لمّا نظر إلى أهله مجزّرين ، وبينهم مهجة الزهراء (عليها السّلام) بحالة تنفطر لها السّماوات وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا ، عظم ذلك عليه واشتدّ قلقه فلمّا تبيّنت ذلك منه زينب الكبرى بن علي (ع) (٤) أهمّها أمر الإمام فأخذت تسلّيه وتصبّره وهو الذي لا توازن الجبال بصبره ، وفيما قالت له :

ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي ، فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السّماوات ، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة ، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام ، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً (٥).

لله صبر زينب العقيلة

كم صابرت مصائباً مهولة

__________________

(١) مصباح الكفعمي ص ٣٧٦ ، طبعة الهند.

(٢) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٣٥.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٤) زينب الملقبة الكبرى ، هي ابنة فاطمة الزهراء (ع) ، وقد وصفها بذلك الطبري في تاريخه ٦ ص ٨٩ ، وابن الأثير في الكامل ٣ ص ١٥٨. وفي المعارف لابن قتيبة : فأمّا زينب الكبرى بنت فاطمة كانت عند عبد الله بن جعفر ، فولدت له أولاد.

(٥) كامل الزيارات ص ٢٦١ الباب الثامن والثمانون ، فضل كربلاء وزيارة الحسين (ع).

٣٠٨

رأت من الخطوب والرزايا

أمراً تهون دونه المنايا

رأت كرام قومها الأماجد

مجزّرين في صعيد واحد

تسفي على جسومها الرياح

وهي لذؤبان الفلا تباح

رأت عزيز قومها صريعاً

قد وزّعوه بالظبى توزيعاً

رأت رؤوساً بالقنا تشال

وجثثاً أكفانها الرمال

رأت رضيعاً بالسّهام يفطم

وصبية بعد أبيهم أيتموا

رأت شماتة العدوّ فيها

وصنعه ما شاء في أخيها (١)

وأتاهن زجر بن قيس وصاح بهن فلَم يقمن ، فأخذ يضربهنّ بالسّوط واجتمع عليهن النّاس حتّى أركبوهنّ على الجمال (٢).

وركبت العقيلة زينب ناقتها ، فتذكّرت ذلك العزّ الشامخ والحرم المنيع الذي تحوطه الليوث الضواري الاُباة من آل عبد المطّلب وتحفّه السّيوف المرهفة والرماح المثقفة ، والأملاك تخدمها فيه ، فلا يدخلون إلاّ مستأذنين :

فلا مثل عزًّ كان في الصبح عزّها

ولا مثل حال كان في العصر حالها

إلى أين مسراها وأين مصيرها

ومَن هو مأواها ومَن ذا مآلها

ومَن ذا ثمال الظعن إنْ هي سيّرت

يضيق فمي إنّ ابن سعد ثمالها

على أيّ كتف تتكي حين ركِبت

وجمالها زجر وشمر جمّالها

أمخمد ضوء البيت عن شخص زينب

لكيلا يرى في الليل حتّى خيالها

تمنّيت يوم الطّف عينك أبصرت

بناتك حين ابتزّ منها حجالها

قروماً تراها جزّراً وأراملا

تحنّ كنيبٍ فارقتها فصالها

له الله من ثكل وقد مات بغتة

لدى بعض يومٍ عزّها ورجالها

وما هان ثكل عندها غير انّه

أمضّ مصاباً هتكها وابتذالها

وأمسين في أمر يهدّد غبّه

تقف إهاباً حين يطريه بالها (٣)

في الكوفة

ولمّا اُدخلت بنات أمير المؤمنين إلى الكوفة ، اجتمع أهلها للنظر إليهم

__________________

(١) المقبولة الحسينية ص ٦١ ، للحجّة آية الله الشيخ هادي كاشف الغطاء (قدس سره).

(٢) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٧٧.

(٣) للعلامة الثقة الشيخ محمّد طاهر آل فقيه الطائفة الشيخ راضي (قدس سره).

٣٠٩

فصاحت اُمّ كلثوم : يا أهل الكوفة ، أما تستحون من الله ورسوله أنْ تنظروا إلى حرم النّبي (ص)؟ (١).

وأشرفت عليهنّ امرأة من الكوفيّات ورأتهن على تلك الحال التي تشجي العدوّ الألد فقالت : من أي الاُسارى أنتم؟ قلن : نحن اُسارى آل محمد (٢).

وأخذ أهل الكوفة يناولون الأطفال التمر والجوز والخبز ، فصاحت اُمّ كلثوم وهي زينب الكبرى : إنّ الصّدقة علينا حرام. ثمّ رمت به إلى الأرض (٣).

أبا حسن تغضي وتلتذّ بالكرى

وبالكفّ أمست تستر الوجه زينب

أبا حسن ترضى صفاياك في السّبا

ونسوة حرب بالمقاصير تحجب

وتلوي للين الفرش جنباً وهذه

بناتك فوق العيس للشام تجلب

ويهنيك عيش والعقائل حسّر

إذا ما بكت بالأصبحية تضرب

تشرّق فيها تارة عصب الخنا

وطوراً بها نحو الشئام تغرّب

بلا كافل تطوي المهامه لغباً

ويسمعها ما يشعب القب غيهب

فأصواتها بحّت وذابت قلوبها

وأنفاسها كادت من الحزن تذهب

عجبت ومن في الدهر سرّح طرفه

وفكّر فيه لم يزل يتعجّب

يزيد الخنا في دسته متقلّب

ويمسي حسين في الثرى يتقلّب

ويحمل منه الرأس في الرمح جهرة

وفي التاج رأس ابن الدعيّة يعصب

ويبقى ثلاثاً عارياً ويزيدها

على جسمه يغدر الدمقس المذهّب (٤)

خطبة زينب

ولقد أوضحت ابنة أمير المؤمنين (ع) للنّاس خُبث ابن زياد ولؤمه في خطبتها بعد أنْ أومأت إلى ذلك الجمع المتراكم ، فهدأوا حتّى كأنَّ على رؤوسهم

__________________

(١) الدمعة الساكبة ص ٣٦٤.

(٢) ابن نما ص ٨٤ ، واللهوف ص ٨١.

(٣) أسرار الشهادة ص ٤٧٧ ، وتظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١٥٠.

(٤) من قصيدة في الحسين (ع) للشيخ حسّون الحلي المتوفى سنة (١٣٠٥ هـ) ، شعراء الحلّة ٢ ص ١٥٥.

٣١٠

الطير. وليس في وسع العدد الكثير أنْ يسكن ذلك اللغط أو يردّ تلك الضوضاء لولا الهيبة الإلهيّة والبهاء المحمّدي الذي جلّل عقيلة آل محمّد (ص).

فيقول الراوي : لمّا أومأت زينب ابنة علي (ع) إلى النّاس ، فسكنت الأنفاس والأجراس ، فعندها اندفعت بخطابها مع طمأنينة نفس وثبات جأش ، وشجاعة حيدريّة ، فقالت (صلوات الله عليها) :

الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار. أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّة ، إنّما مثَلكم كمثَل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النطف (١) والعجب والكذب والشنف (٢) وملق الإماء (٣) ، وغمز الأعداء (٤)؟! أو كمرعى على دمنة (٥) أو كقصّة على ملحودة (٦) ، ألا بئس ما قدّمتْ لكم أنفسكم أنْ سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون.

__________________

(١) الصلف (بفتحتين) : الذي يتمدح بما ليس عنده. والنطف : القذف بالفجور.

(٢) الشنف : المبغض بغير حق.

(٣) الملق : التذلل.

(٤) الغمز : الطعن بالشر.

(٥) الغرض التعريف ، بأنّ الدمنة وإنْ زها ظاهرها بالنبت ، إلاّ أنّه لا يفيد الحيوان قوّة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكثافات السّامة القاتلة ، فنتاج الدمنة لا يكون طيّبا. وأهل الكوفة وإنْ زها ظاهرهم بالإسلام إلاّ أنّ الصدور انطوت على قلوب مظلمة ، لا يصدر منها إلاّ بما يقوم به أهل الجأهليّة والإلحاد.

(٦) في رواية اللهوف وابن نما (فضة) بالفاء الموحدة والضاد المعجمة ولم يتضح المراد منه بعد عدم الترجيح على الذهب وغيره ، نعم رواية ابن شهر اشوب في المناقب (قصة) بالقاف المثناة والصاد المهملة وهي الجص تتناسب مع الملحودة التي هي القبر ولم ينكر أهل اللغة هذا المعنى ففي الصحاح للجوهري قصص داره أي جصصها وفي تاج العروس ج ٤ ص ٤٢٣ تقصيص الدار تجصيصها وكذلك قبر مقصص ومنه الحديث نهى النبي (صلّى الله عليه وآله) عن تقصيص القبور وهو بناؤها بالقصة وفيه ص ٤٢٢ قال القصة هي الجص بلغة الحجاز أو الحجارة من الجص وعن ابن دريد ان ابا سعيد السيرافي يقول بكسر القاف وعند غيره بفتحها وفي الفائق للزمخشري ج ٢ ص ١٧٣ روى ان النبي (صلّى الله عليه وآله) نهى عن تطيين القبور وتقصيصها اي تجصيصها فان القصة هي الجصة وفي غريب الحديث لأبي عبيد ج ١ ص ٢٧٧ حيدر آباد التقصيص الجص يقال قصصت القبور والبيوت اذا جصصتها وفي (لحن العوام) ص ١٤٥ للزبيدي تقصيص القبور تبييضها بالجص وفي نيل الأوطار للشوكاني ج ٤ ص ٧٣ القصة بفتح القاف وتشديد الصاد لمهملة هي الجص وفي مسند احمد ج ٢ صفحة ١٣٧ عن عبد الله بن عمر ان عثمان بنى جدار مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) بالحجارة المنقوشة والقصة وفي تاريخ المدينة للمسعودي ج ٢ صفحة ١٠٥ كان قبر حمزة مبنياً بالقصة أي مجصص لا خشب عليه وفي البحار ج ١٨ ص ٣٧٤ باب الدفن عن معاني الاخبار قال : تقصيص القبور تجصيصها لان الجص يقال له القصة وفي النهاية لابن

٣١١

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتْل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة ، ومدرة حجّتكم ومنارمحَجّتكم ، وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ألا ساء ما تزرون.

فتعساً ونكساً وبُعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السّعي وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله ، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة ، أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟ وأيّ كريمة له أبرزتم؟ وأيّ دم له سفكتم؟ وأيّ حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إدّاً ، تكاد السّموات يتفطّرن منه ، وتنشقّ الأرض ، وتخرّ الجبال هدّاً.

ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض (١) وملء السّماء. أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا يُنصرون ، فلا يستخفنّكم المهل ، فإنّه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار ، وإنّ ربّكم لَبِالمرصاد (٢).

__________________

الأثير مادة قصص في حديث زينب يا قصة على ملحودة شبهت اجسامهم بالقبور المتخذة من الجص وانفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور ، والذي أراه ان النكتة في هذه الاستعارة ان القصة بلغة الحجاز الجص والملحودة القبر لكونه ذا لحد فكأن القبر يتزين ظاهره ببياض الجص ولكن داخله جيفة قذرة وأهل الكوفة وان تزين ظاهرهم بالاسلام الا ان قلوبهم كجيف الموتى بسبب قيامهم باعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادي الصحيحة وقد انفردت (متممة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة التي لم يسبقها مهرة البلغاء اليها لانها ارتضعت در (الصديقة الكبرى) التي اخرست الفصحاء بخطابها المرتجل يوم أجمع القوم على غصبها حقها مع ما اكتنفها من فوادح تبلبل فكر البليغ فعرفت الحاضرين ومن يأت من الاجيال عظيم الجناية وخسران الرضوان الاكبر كما ان سيد الاوصياء نسه عرف اولئك المتجمهرين على غصب حقه المجعول له من الله سبحانه يوم الغدير ويوم المنزلة ويوم الاعلان بالثقلين في خطبته المعروفة بالوسيلة التي خطبها في مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) بسبعة أيام وقد فرغ من جمع القرآن كما نص عليه الكليني في روضة الكافي.

(١) في تهذيب اللغة ٣ ص ١٧١ ، ومقاييس اللغة ٣ ص ٤١٩ ، والمغرب للمطرزي ٢ ص ١٧ ، والفايق ١ ص ١٢٥ ، والنّهاية ، واللسان ، وتاج العروس كلّهم مادّة (طلع). وذكر في اللسان حديث النبي (ص) : رأى رجلاً به بذاذة تعلو عنه العين ، فقال : «هذا خير من طلاع الأرض ذهباً». إنّ طلاع الأرض ملؤها حتّى يسيل. وفي حديث عمر بن الخطّاب عند موته : لو أنّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من هَول المطلع. وهو يملؤها حتّى يطلع عنها ويسيل. وفي الفايق عن الحسن البصري قال : لئن أعلم أنّي بريء من النّفاق أحبّ إليّ من طلاع الأرض ذهباً ، وهو ملؤها.

(٢) رتّبنا الخطبة من أمالي الشيخ الطوسي ، وأمالي ابنه ، واللهوف ، وابن نما ، وابن شهر آشوب ، واحتجاج الطبرسي.

٣١٢

فقال لها الإمام السّجاد (ع) : «اسكتي يا عمّة ، فأنت بحمد الله عالمة غير معلَّمة ، وفهِمة غير مفهَّمة» (١).

فقطعت العقيلة الكلام ، وأدهشت ذلك الجمع المغمور بالتمويهات والمطامع ، وأحدث كلامها إيقاظاً في الأفئدة ولفتة في البصائر ، وأخذت خطبتها من القلوب مأخذاً عظيماً ، وعرفوا عظيم الجناية ، فلا يدرون ما يصنعون.

فعن الوصي بلاغة خُصّت بها

أعيت برونقها البليغ الاخطبا

ما استرسلت إلاّ وتحسب أنّها

تستلّ من غرر الخطابة مقضباً

أو أنّها اليزنيّ في يد باسل

أخلى به ظهراً وأوهى منكبا

أو أنّها تقتاد منها فيلقاً

وتسوق من زمر الحقائق موكبا

أو أنّ في غاب الإمامة لبوة

لزئيرها عنت الوجوه تهيّبا

أو أنّها البحر الخضمّ تلاطمت

أمواجه علماً حجى بأساً إبا

أو أنّ من غضب الإله صواعقاً

لَم تلف عنها آل حرب مهربا

أو أنّ حيدرة على صهواتها

يفني كراديس الضّلال ثباً ثبا

أو أنّه ضمته ذروة منبر

فأنار نهجاً للشريعة ألحبا

أو أنّ في اللأوى عقيلة هاشم

قد فرّقت شمل العمى ايدي سبا (٢)

خطبة فاطمة بنت الحسين

وخطبت فاطمة بنت الحسين (عليه السّلام) (٣) فقالت :

__________________

(١) احتجاج الطبري ص ١٦٦ طبعة النّجف.

(٢) من قصيدة للعلامة ميرز محمّد علي الاوردبادي في العقيلة زينب (عليها السّلام).

(٣) كانت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) جليلة القدر عظيمة المنزلة وكانت لها المكانة العالية من الدين وقد شهد بذلك أبوها سيد الشهداء لما جاء اليه الحسن المثنى يخطب احدى ابنتيه فقال (عليه السلام) كما في اسعاف الراغبين بهامش نور الابصار ص ٢٠٢ : إني اختار لك فاطمة فهي أكثر شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار وفي الجمال تشبه الحور العين.

وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ج ١٢ ص ٤٤٢ روت الحديث عن أبيها وأخيها زين العابدين وعمتها زينب وابن عباس وأسماء بنت عميس وروى عنها أولادها عبد الله وابراهيم وحسين وام جعفر بنو الحسن المثنى وروى عنها ابو المقدام بوساطة امه وروى عنها زهير بن معاوية بوساطة أمه وفي خلاصة تذهيب الكمال ص ٤٢٥ خرج أصحاب السنن أحاديثها منهم : الترمذي وأبو داود والنسائي في مسند علي وابن ماجة القزويني وقال ابن حجر العسقلاني وقع ذكرها في كتاب الجنائز من صحيح البخاري ووثقها ابن حبان. ونص على وفاتها

٣١٣

الحمدلله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات ، من غير ذحل ولا ترات.

اللهمّ إنّي أعوذ بك أنْ أفتري عليك ، وأنْ أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود والوصيّة لعلي بن أبي طالب المغلوب حقّه ، المقتول من غير ذنب كما قُتل ولده بالأمس ، في بيت من بيوت الله تعالى ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتّى قبضه الله تعالى إليه محمود النّقيبة طيّب العريكة ، معروف المناقب مشهور المذاهب ، لَم تأخذه في الله سبحانه لَومة لائم ولا عذل عاذل ، هديته اللهمّ للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولَم يزل ناصحاً لك ولرسولك ، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا. فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدنيا ، فنحن عَيبة علمه ، ووعاء فهمه وحكمته ، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته ، وفضّلنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) على كثير ممَّن خلق الله تفضيلاً.

فكذّبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهباً ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم ، قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلبوكم افتراءً على الله ومكراً مكرتم

_____________________

في سنة ١١٠ واليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٣٤ وابن العماد في شذرات ج ١ ص ١٣٩ وبناء على ما يقوله ابن حجر في تهذيب التهذيب انها قاربت التسعين تكون ولادتها سنة ٣٠ تقريباً ولها يوم الطف ما يقرب من ذلك وتوفيت قبل اختها (سكينة) بسبع سنين وفي كامل ابن الأثير ج ٤ ص ٣٥ وتاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٦٧ كانت فاطمة اكبر من اختها سكينة وفي كتاب (تحقيق النصرة الى معالم دار الهجرة) ص ١٨ تأليف أبي بكر بن الحسين بن عمر المراغي المتوفى سنة ٨١٦ من كرامات فاطمة بنت الحسين ان الوليد بن عبد الملك لما أمر بادخال الحجرات في المسجد خرجت فاطمة بنت الحسين الى الحرة وبنت داراً لها وامرت بحفر بئر فظهر فيه جبل فقيل لها فتوضأت ورشت بفاضل وضوئها عليه فلم يتصعب عليهم فكان يتبركون بمائه ويسمونه (زمزم) وفي طبقات ابن سعد ج ٨ ص ٤٧٤ طبعة صادر. كانت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) تسبّح بخيوط معقودة وفي كتابنا (نقد التاريخ المخطوط) ناقشنا المؤرخين في تزويجها من العثماني ، وان محمد الديباج خلقته اقلام الزبيريين.

٣١٤

والله خير الماكرين ، فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا ، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها ، إنّ ذلك على الله يسير ؛ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحبّ كلّ مختال فخور.

تبّاً لكم فانظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم وتواترت من السّماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة ؛ بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّة يد طاعنتنا منكم؟ وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأيّة رِجل مشيتم إلينا؟ تبغون محاربتنا ، قست قلوبكم وغلظت أكبادكم وطبع الله على أفئدتكم ، وختم على سمعكم وبصركم وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبّاً لكم يا أهل الكوفة ، أيّ ترات لرسول الله قِبلَكم ، وذحول له لديكم؟ بما عندتم بأخيه على بن أبي الطالب جدّي وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار ، وافتخر بذلك مفتخركم.

نحن قتلنا علياً وبني علي

بسيوف هنديّة ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأيّ نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب (١) افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وطهّرهم وأذهب عنهم الرجس فأكضم وأقع كما أقعى أبوك فإنّما لكلّ امرىء ما اكتسب وما قدّمت يداه.

حسدتمونا ويلاً لكم على ما فضّلنا الله تعالى ، ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذوالفضل العظيم. ومَن لَم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

فارتفعت الأصوات بالبكاء والنّحيب وقالوا : حسبكِ يا ابنة الطاهرين فقد حرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا ، فسكتت.

__________________

(١) في تاج العروس : الأثلب (بكسر الهمزة واللام وفتحهما ، والفتح أكثر) : الحجَر ، وقيل دقاق الحجارة. وقال شمر الأثلب (بلغة الحجاز) : الحجارة. وبلغة تميم التراب وهو دعاء. وفي الحديث : «الولد للفراش وللعاهر الأثلب». وفيه صفحة ٦٤٠ : الكثكث (كجعفر ، وزبرج) : دقائق التراب ، ويقال : التراب عامة ، يقال بفيه الكثكث : أي التراب.

٣١٥

خطبة اُمّ كلثوم (١)

وقالت اُمّ كلثوم : صه يا أهل الكوفة ، تقتلنا رجالكم ، وتبكينا نساؤكم ، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل الخطاب.

يا أهل الكوفة ، سوأة لكم ، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله ، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسحقاً.

ويلكم! أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم؟ وأيّ وزر على ظهوركم حملتم؟ وأيّ دماء سفكتم؟ وأيّ كريمة أصبتموها؟ وأيّ صبيّة أسلمتموها؟ وأيّ أموال انتهبتموها؟ قتلتم خير الرجالات بعد النّبي ، ونُزعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إنّ حزب الله هم المفلحون ، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

فضجّ النّاس بالبكاء ، ونشرن النّساء الشعور ، وخمشن الوجوه ولطمن الخدود ، ودعون بالويل والثبور. فلَم يرَ ذلك اليوم أكثر باك.

خطبة السجّاد (ع)

وجيء بعلي الحسين (ع) على بعير ضالع ، والجامعة في عنقه ، ويداه مغلولتان إلى عنقه ، وأوداجه تخشب دماً فكان يقول :

يا اُميّة السّوء لا سقياً لربعكُمُ

يا اُمّة لَم تراع جدّنا فينا

لَو أنّنا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتاب عارية

كأنّنا لم نشيّد فيكم دينا

 وأومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا ، فلمّا سكتوا ، حمد الله وأثنى عليه وذكر النّبي فصلّى عليه ، ثمّ قال : «أيّها النّاس ، مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لَم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتُهكت حرمته ، وسُلبت نعمته وانتهب ماله ،

__________________

(١) أشرنا في عدّة مواضع من كتابنا هذا إلى : أن زينب العقيلة هي اُمّ كلثوم وهذه الفقرات جزء من كلامها السّابق ، ونذكر هذا الكلام هنا على عادة أهل المقاتل.

٣١٦

وسُبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن من قُتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً.

أيّها النّاس ناشدتكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة ، وقاتلتموه؟ فتّباً لكم لِما قدّمتم لأنفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله؟ إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من اُمّتي».

فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا : هلكتم وما تعلمون.

ثمّ قال (عليه السّلام) : «رحم الله امرءاً قبِل نصيحتي ، وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته ، فإنّ لنا في رسول الله اُسوة حسنة».

فقالوا بأجمعهم : نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فإنّا حرب لحربك ، وسِلم لسلمك ، نبرأ ممَّن ظلمك وظلمنا.

فقال (عليه السّلام) : «هيهات هيهات أيّها الغدرة المكرة ، حِيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون أن تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلاّ وربّ الراقصات ، فإنّ الجرح لمّا يندمل ، قُتل أبي بالأمس وأهل بيته ، ولَم ينس ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي ، إنّ وجده والله لبين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصّته تجري في فراش صدري» (١)

مهلاً بني حرب فما قد نالنا

فبعين جبّار السّما لم يكتم

فكأنّني يوم الحساب بأحمد

بالرسل يقدم حاسراً عن معصم

ويقول ويلكم هتكتم حرمتي

وتركتم الأسياف تنطف من دمي

تدرون أيّ دم أرقتم في الثرى

أمْ أيَّ خود سقتُمُ في المغنم

أمن العدالة صونكم فتياتكم

وحرائري تسبى كسبي الديلم

والماء تورده يعافير الفلا

وكبود أطفالي ظماء تضرم

تالله لو ظفرت سراة الكفر في

رهطي لما ارتكبوا لذاك المعظم

يا ليت شعر محمّد ما فاتكم

طعن الحناجر بعد حزّ الغلصم

__________________

(١) الخطب كلّها ذكرها السيّد ابن طاووس في اللهوف ، وابن نما في مثير الأحزان.

٣١٧

هذا جزائي منكُمُ فلقرب ما

ضيعتموا عهدي ببنتي وابنم (١)

الدفن

ذكر أهل التاريخ أنّ سيّد الشهداء (ع) أفرد خيمة في حومة الميدان (٢) ، وكان يأمر بحمل مَن قُتل من صحبه وأهل بيته إليها ، وكلّما يؤتى بشهيد يقول (عليه السّلام) : «قتلة مثل قتلة النبيّين وآل النبيّين» (٣).

إلاّ أخاه أبا الفضل العبّاس (عليه السّلام) تركه في محلّ سقوطه قريباًً من شطّ الفرات (٤).

ولمّا ارتحل عمر بن سعد بحرم الرسالة إلى الكوفة ترك اُولئك الذين وصفهم أمير المؤمنين (ع) بأنّهم سادة الشهداء في الدنيا والآخرة ، لَم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق (٥) على وجه الصعيد تصهرهم الشمس ويزورهم وحش الفلا.

قد غيّر الطّعن منهم كل جارحة

إلا المكارم في أمنٍ من الغير

وبينهم سيّد شباب أهل الجنّة بحالة تفطّر الصخر الأصم ، غير أنّ الأنوار الإلهيّة تسطع من جوانبه ، والأرواح العطرة تفوح من نواحيه.

ومجرح ما غيّرت منه القنا

حسناً ولا أخلقْنَ منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى

مذ ألبسته يد الدماء لبودا

تحمي اشعّته العيون فكلّما

حاولنَ نهجاً خلنه مسدودا

وتظلُّه شجر القنا حتّى أبت

ارسال هاجرة اليه بريدا (٦)

وحدّث رجل من بني أسد : أنّه أتى المعركة بعد ارتحال العسكر ، فشاهد من

__________________

(١) للحاج محمّد رضا الأزري رياض المدح والرثاء ص ٤٤٥ ، مطبعة الآداب ، النجف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٦ ، وكامل ابن الأثير ٤ ص ٣٠ ، وإرشاد الشيخ المفيد.

(٣) حكاه في البحار ١٠ ص ٢١١ ، و ١٣ ص ١٢٥ ، عن غيبة النعماني.

(٤) نصّ عليه جماعة من المؤرّخين. انظر كتابنا (قمر بني هاشم) صفحة ١١٥ ، المطبعة الحيدريّة في النّجف.

(٥) كامل الزيارات ص ٢١٩.

(٦) للحاج هاشم الكعبي.

٣١٨

تلك الجسوم المضرّجة أنواراً ساطعة ، وأرواحاً طيّبة ، ورأى أسداً هائل المنظر يتخطّى تلك الأشلاء المقطّعة حتّى إذا وصل إلى هيكل القداسة وقربان الهداية ، تمرّغ بدمه ولاذ بجسده ، وله همهمة وصياح ، فأدهشه الحال إذ لم يعهد مثل الحيوان المفترس يترك ما هو طعمة أمثاله فاختفى في بعض الأكم ؛ لينظر ما يصنع فلم يظهر له غير ذلك الحال.

وممّا زاد في بعض تحيّره وتعجّبه أنّه عند انتصاف الليل رأى شموعاً مسرجة ملأت الأرض بكاءاً وعويلاً مفجعاً (١).

وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم أقبل زين العابدين (ع) لدفن أبيه الشهيد (عليه السّلام) ؛ لأنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ إمام مثله (٢).

يشهد له مناظرة الرضا (ع) مع علي بن أبي حمزة فإنّ أبا الحسن (ع) قال له : «اخبرني عن الحسين بن علي كان إماماً؟» قال : بلى ، فقال الرضا (ع) : «فمَن ولي أمره؟» قال ابن أبي حمزة : تولاّه علي بن الحسين السّجاد. فقال الرضا (ع) : «فأين كان علي بن الحسين؟» قال ابن أبي حمزة : كان محبوساً بالكوفة عند ابن زياد ، ولكنّه خرج وهم لا يعلمون به حتّى ولي أمر أبيه ، ثمّ انصرف إلى السّجن.

فقال الرضا (ع) : «إنّ مَن مكّن علي بن الحسين أنْ يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه ثمّ ينصرف ، يمكّن صاحب هذا الأمر أنْ ياتي بغداد فيلي أمر أبيه وليس هو في حبس ولا إسار».

__________________

(١) مدينة المعاجز ص ٢٦٣ ، باب ١٢٧.

(٢) اثبات الوصية للمسعودي ص ١٧٣ ، وقد ذكرنا في كتاب (زين العابدين) ص ٤٠٢ الاحاديث الدالة على ان الامام لا يلي أمره إلا امام مثله.

لم تكشف الاحاديث هذا السر المصون ، ولعل النكتة فيه ان جثمان المعصوم عند سيره الى المبدإ الأعلى بانتهاء امد الفيض الالهي يختص بآثار منها : ان لا يقرب منه من لم يكن من أهل هذه المرتبة اذ هو مقام قاب قوسين او أدنى ، ذلك المقام الذي تقهقر عنه الروح الامين وعام النبي (صلّى الله عليه وآله) وحده في سبحات الملكوت وليست هذه الدعوى في الأئمة بغريبة بعد ان تكوّنوا من الحقيقة المحمدية وشاركوا جدهم في المآثر كلها إلا النبوة والأزواج كما في المحتضر للحسن بن سليمان الحلي ص ٢٢ طبع النجف وهذه اسرار لا تصل اليها افكار البشر ولا سبيل لنا الى الانكار بمجرد بعدنا عن ادراكها ما لم تبلغ حد الاستحالة وقد نطقت الآثار الصحيحة بأن للأئمة احوالا غريبة ليس لسائر الخلق الشركة معهم كإحيائهم الأموات بالأجساد الأصلية ورؤية بعضهم بعضاً وصعود أجسادهم الى السماء وسماعهم سلام الزائرين لهم وقد صادق على ذلك شيخنا المفيد في المقالات ص ٨٤ ط طهران والكراجكي في كنز الفوائد والمجلسي في مرآة العقول ج ١ ص ٣٧٣ وكاشف الغطاء في منهج الرشاد ص ٥١ ، والنوري في دار السلام ج ١ ص ٢٨٩.

٣١٩

ولمّا أقبل السّجاد (ع) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى ، متحيّرين لا يدرون ما يصنعون ، ولَم يهتدوا إلى معرفتهم ؛ وقد فرّق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم وربّما يسألون من أهلهم وعشيرتهم.

فأخبرهم (عليه السّلام) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة ، وأوقفهم على أسمائهم ، كما عرّفهم بالهاشميّين من الأصحاب ، فارتفع البكاء والعويل ، وسالت الدموع منهم كلّ مسيل ، ونشرت الأسديّات الشعور ولطمن الخدود.

ثمّ مشى الإمام زين العابدين (ع) إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً ، وأتى إلى موضع القبر ، ورفع قليلاً من التراب فبان قبر محفور وضريح مشقوق ، فبسط كفيه تحت ظهره وقال : «بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، صدق الله ورسوله ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم».

وأنزله وحده ، لَم يشاركه بنو أسد فيه ، وقال (ع) لهم : «إنّ معي مَن يعينني». ولمّا أقرّه في لحده ، وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً :

«طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر ، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة ، أمّا الليل فمسّهد والحزن سرمد ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك منّي السّلام يابن رسول الله ورحمة الله وبركاته».

وكتب على القبر : «هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً».

ثمّ مشى إلى عمّه العبّاس (عليه السّلام) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السّماء وأبكت الحور في غرف الجنان ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً : «على الدنيا بعدك العفا يا قمر هاشم ، وعليك منّي السّلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته».

وشقّ له ضريحاًً وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد ، وقال لبني أسد : «إنّ معي مَن يعينني».

نعم ، ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء ، وعيّن لهم موضعين

٣٢٠