مقتل الحسين عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

يوم عاشوراء

«إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة

والحياة مع الظالمين إلاّ برما»

أبو عبد الله

الحسين (عليه السّلام)

٢٢١

يوم عاشوراء

لَو كان يدري يوم عاشوراء

ما كان يجري فيه من بلاء

ما لاح فجره ولا استنارا

ولا أضاءت شمسه نهارا

سوّد حزناً أوجه الأيام

وأوجه الشهور والأعوام

الله ما أعظمه من يوم

أزال صبري وأطار نومي

اليوم أهل آية التطهير

بين صريع فيه أو عفير

اليوم قد مات الحفاظ واُلوفا

اليوم كاد الدّين يقضي أسفا

اليوم نامت أعين الأعداء

وسهدِّت عيون ذي الولاء

وَيلي وهل يجدي حزيناً

ويل لأضلع تدوسهنَّ الخيل

وارؤس على الرماح ترفع

وجثث على الصعيد تُوضَع

وثاكل تبدو من الخدور

تعجُّ بالويل وبالثبور

ومرضع ترنو إلى رضيع

على التراب فاحص صريع

ونسوة تسبى على النياق

حسرى تعاني ألم الفراق

أهمّ شيء لذوي الولاء

أن يجلسوا للنوح والعزاء

فيه تقام سنن المصاب

والترك للطعام والشراب (١)

لقد مرّ هذا اليوم على آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وكلّه شجاء مترامي الأطراف ، أثّرت فجائعه في القلوب فأذابتها وفي المدامع فأدمتها ، فلا تسمع فيه إلاّ صرخة فاقد وزفرة ثاكل وحنة محزون ، ولا تبصر إلاّ كلّ أشعث قد أنهكه ألم المصاب ، ومغبر يذري على رأسه التراب ، إلى لادم صدراً وصاك جبهته وقابض على فؤاد وصافق بيده الاُخرى ، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ؛ لكن لوعة المصاب أليمة وكوارثه عظيمة. ولَو يكشف لك عن الملأ الأعلى لسمعت لعالم الملكوت صرخة وحنة ، وللحور في غرف الجنان نشيجاً ونحيباً ولأئمّة الهدى بكاءاً وعويلاً.

ولا بدع ؛ فالفقيد فيه عبق الرسالة وألق الخلافة وإكليل تاج الإمامة ، وهو سبط المصطفى وبضعة فاطمة الزهراء وفلذة كبد الوصي المرتضى وشقيق السّبط

__________________

(١) المقبولة الحسينية ص ٦٢ ، لحجة الإسلام آية الله الشيخ هادي آل كاشف الغطاء قدس الله سره.

٢٢٢

المجتبى وحجّة الله على الورى ، نعم هو الآية المخزونة والرحمة الموصولة والأمانة المحفوظه والباب المبتلى به النّاس.

فمصابه يقلّ فيه البكاء ، ويعز عنه العزاء. فلو تطايرت شظايا القلوب وزهقت النّفوس جزعاً لذلك الحادث الجلل لكان دون واجبه. أو ترى للحياة قيمة والمؤدّى به هو ذلك العنصر الحيوي الزاكي. وما قدر الدمع المراق والموتور ثار الله في الأرض؟ أو يهدأ الكون والذاهب مرساه ومنجاه في مسراه؟ وهل ترقأ العين وهي ترنو بالبصيرة إلى ضحايا آل محمّد مجزّرين على وجه الصعيد مبضعة أجسادهم بين ضريبة للسيوف ودرية للرماح ورمية للنبال؟ وقد قضوا وهم رواء الكون ظماء على ضفة الفرات الجاري ، تلغ فيه الكلاب وتشرب منه وحش الفلا ، غير أنّ آل محمد (ص) محلأون عنه؟ وللمذاكي عقرن فلا يلوى لهنّ لجام ، تجوال على تلك الصدور الزواكي ولصدر الحسين حديثه الشجي :

وأعظم خطب أنّ شمراً له على

جناجن صدر ابْن النبيّ مقاعد

فشُلَّت يداه حين يفري بسيفه

مقلّد من تلقى إليه المقالد

وأىّ فتى أضحت خيول اُميّة

تعادى على جثمانه وتطارد

فلهفي له والخيل منهنَّ صادر

خضيب الحوافي في دماه ووارد (١)

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنّبي الأعظم الباكي على ولده بمجرّد تذكّر مصابه (٢) أنْ يقيم المأتم على سيّد الشهداء ، ويأمر مَن في داره بالبكاء عليه ، وليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين ، فيقول كما في حديث الباقر (ع) : «عظّم الله اُجورنا واُجوركم بمصابنا بالحسين ، وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه المهدي من آل محمّد (عليهم السّلام)» (٣).

دخل عبد الله بن سنان على أبي عبد الله الصادق (عليهم السّلام) في يوم عاشوراء ، فرآه كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له : مِمَّ بكاؤك يابن رسول الله؟ قال عليه السّلام : «أوَفي غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين اُصيب في هذا اليوم؟» ، ثمّ أمره أنْ يكون كهيئة أرباب المصائب ، يحلل

__________________

(١) للشيخ جعفر الخطي ، كما في الدر النضيد ص ٩٣.

(٢) الخصائص للسيوطي ٢ ص ١٢٥ ، وأعلام النبوّة للماوردي ص ٨٣.

(٣) كامل الزيارات ص ١٧٥ ، ومصباح المتهجّد للشيخ الطوسي ص ٣٩.

٢٢٣

أزراره ويكشف عن ذراعَيه ويكون حاسراً ، ولا يصوم يوماً كاملاً ، وليكن الافطار بعد العصر بساعة على شربة من ماء ؛ ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آل محمّد. ثم قال (عليه السّلام) : «لَو كان رسول الله حيّاً لكان هو المعزّى به» (١).

وأمّا الإمام الكاظم (ع) فلَم يرَ ضاحكاً أيّام العشرة وكانت الكآبه غالبة عليه ، ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الرضا (عليه السّلام) : «فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء».

وفي زيارة النّاحية يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فرجه : «فلأندبنّك صباحاً ومساءً ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً».

وبعد هذا فهلاّ يجب علينا أن نخرق ثوب الاُنس ونتجلبب بجلباب الحزن والبكاء ونعرف كيف يجب أن نعظّم شعائر الله بإقامة المأتم للشهيد العطشان في العاشر من المحرّم؟!

اليوم دينُ الهدى خرَّت دعائمُه

وملّة الحقّ جدّت في تداعيها

اليوم ضلّ طريق العرف طالبه

وسُدّ باب الرجا في وجه راجيها

اليوم عادت بنو الآمال متربةً

اليوم بان العفا في وجه عافيها

اليوم شقّ عليه المجد حلّته

اليوم جزَّت له العليا نواصيها

اليوم عقد المعالي أرفض جوهره

اليوم قد أصبحت عطْلٌ معاليها

اليوم أظلم نادي العزّ من مضر

اليوم صرْفُ الردى أرسى بواديها

اليوم قامت به الزهراء نادبةً

اليوم آسية وافت تواسيها

اليوم عادت لدين الكفر دولتُه

اليوم نالت بنو هند أمانيها

ما عذر ارجاس هند يوم موقفه

والمصطفى خصمهم والله قاضيها

ما عذرها ودِما ابنائه جعلت

خضاب أعيادها في راح ناديها (٢)

* * * *

__________________

(١) مزار ابن المشهدي من أعلام القرن السادس.

(٢) في شعراء الحلّة ٥ ص ٥٤٠ ، إنّها للشيخ هادي النّحوي المتوفى سنة ١٢٢٥ .

٢٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسين (ع)

يوم عاشوراء

قال ابن قَولويه والمسعودي (١) : لمّا أصبح الحسين يوم عاشوراء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح ، قام خطيباً فيهم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «إنّ الله تعالى أذِن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال». ثمّ صفّهم للحرب وكانوا اثنين وثمانين فارساً وراجلاً ، فجعل زهير بن القين في المَيمنة ، وحبيب بن مظاهر في المَيسرة ، وثبت هو (عليه السّلام) وأهل بيته في القلب (٢) ، وأعطى رايته أخاه العباس (٣) ؛ لأنّه وجد قمر الهاشميين أكفأ ممَّن معه لحملها ، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به ، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه ، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان ، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً (٤).

وأقبل عمر بن سعد نحو الحسين (عليه السّلام) في ثلاثين ألفاً وكان رؤساء

__________________

(١) كامل الزيارات ص ٧٣ ، وإثبات الوصيّة ص ١٣٩ ، المطبعة الحيدرية.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ ص ٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤١ ، وتذكرة الخواص ص ١٤٣ الطبعة الحجريّة.

(٤) اختلف المؤرّخون في عدد أصحاب الحسين ؛ الأول : أنّهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد ، والطبرسي في إعلام الورى ص ١٤٢ ، والفتال في روضة الواعظين ص ١٥٨ ، وابن جرير في التأريخ ٦ ص ٢٤١ ، وابن الأثير في الكامل ٤ ص ٢٤ ، والقرماني في أخبار الدول ص ١٠٨ ، والدينوري في الأخبار الطوال ص ٣٥٤.

الثاني : إنّهم إثنان وثمانون راجلاً ، نسبه في الدمعة الساكبة / ٣٢٧ إلى الرواية وهو المختار.

الثالث : ستون راجلاً ، ذكره الدميري في حياة الحيوان في خلافة يزيد ١ / ٧٣.

الرابع : ثلاثة وسبعون رجلاً ، ذكره الشريشي في شرح مقامات الحريري ١ / ١٩٣.

الخامس : خمسة وأربعون فارساً ونحو مئة راجل ذكره ابن عساكر كما في تهذيب تاريخ الشام ٤ / ٣٣٧.

السادس : إثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، ذكره الخوارزمي في المقتل ٢ / ٤.

السابع : واحد وستّون رجلاً ، ذكره المسعودي في إثبات الوصيّة / ٣٥ ، طبع المطبعة الحيدرية.

٢٢٥

الأرباع بالكوفة يومئذ : عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي على ربع أهل المدينة ، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي على ربع مذحج وأسد ، وقيس بن الأشعث على ربع ربيعة وكندة ، والحرّ بن يزيد الرياحي على ربع تميم وهمدان (١) ، وكلّهم اشتركوا في حرب الحسين إلاّ الحرّ الرياحي.

وجعل ابنُ سعد على المَيمنة عمرو بن الحَجّاج الزبيدي ، وعلى المَيسرة شمر بن ذي الجوشن العامري ، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي ، والراية مع مولاه ذويد (٢).

وأقبلوا يجولون حول البيوت فيرون النّار تضطرم في الخندق ، فنادى شمر بأعلى صوته : يا حسين ، تعجّلت بالنّار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين (ع) : «مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن» ، قيل نعم فقال (عليه السّلام) : «يابن راعية المعزى ، أنت أولى بها منّي صِليّا». ورام مسلم بن عوسجة أنْ يرميه بسهم ، فمنعه الحسين وقال : «أكره أنْ أبدأهم بقتال» (٣).

دعاء الحسين

ولمّا نظر الحسين (ع) إلى جمعهم كأنّه السيل ، رفع يدَيه بالدعاء وقال :

«اللهمّ ، أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ ، أنزلته بك وشكوته إليك ، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك فكشفته وفرّجته ، فأنت ولي كلّ نعمة ومنتهى كلّ رغبة» (٤).

__________________

الثامن : خمسة وأربعون فارساً ومئة راجل ذكره ابن نما في مثير الأحزان / ٢٨ ، وفي اللهوف / ٥٦ : أنّه المروي عن الباقر (عليه السّلام).

التاسع : إثنان وسبعون رجلاً ، ذكره الشبراوي في الإتحاف بحبِّ الأشراف / ١٧.

العاشر : ما في مختصر تاريخ دول الإسلام للذهبي ١ / ٣١ : أنّه (عليه السّلام) سار في سبعين فارساً من المدينة.

(١) في شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ ص ٨١ ، الطبعة المصرية : كانت الكوفة اسباعاً.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤١.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد ، وتاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٢.

(٤) ابن الاثير في الكامل ٤ ص ٢٥ ، وتاريخ ابن عساكر ٤ ص ٢٣٣ ، وذكر الكفعمي في المصباح ص ١٥٨ ، طبعة الهند : إنّ النبي (ص) دعا به يوم بدر. واختصره الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ ص ٢٠٢.

٢٢٦

الخطبة الاُولى

ثمّ دعا براحلته فركبها ، ونادى بصوت عال يسمعه جلّهم :

«أيّها النّاس اسمعوا قَولي ، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ ، وحتّى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليَّ سبيل. وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة. ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون. إنّ ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين».

فلمّا سمعنَ النّساء هذا منه صحنَ وبكينَ وارتفعت أصواتهنَّ ، فأرسل إليهنَّ أخاه العبّاس وابنه علياً الأكبر وقال لهما : «سكّتاهنَّ فلعمري ليكثر بكاؤهنَّ».

ولمّا سكتنَ ، حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ولَم يُسمع متكلّم قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه (١) ، ثمّ قال : «عباد الله ، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر ؛ فإنّ الدنيا لَو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء ، غير أنّ الله خلق الدنيا للفناء ، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر ، والمنزل تلعة والدار قلعة ، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى ، واتقوا الله لعلّكم تفلحون (٢).

أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا ، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلَّ بكم نقمته ، فنِعمَ الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد (ص) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٢.

(٢) زهر الآداب للحصري ١ ص ٦٢ ، طبعة دار الكتب العربية ، سنة ١٣٧٢.

٢٢٧

الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين (١).

أيّها النّاس أنسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي ، أوَ لَم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ـ والله ما تعمدتُ الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه ـ وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!»

فقال الشمر : هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسين (ع) : «فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم ، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم اتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!» ، فأخذوا لا يكلّمونه!

فنادى : «يا شبث بن ربعي ، ويا حَجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟»

فقالو : لَم نفعل.

قال : «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال : «أيّها النّاس ، إذا كرهتموني

__________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب الحايري.

٢٢٨

فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض». فقال له قَيس بن الأشعث : أولا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لَن يروك إلاّ ما تُحبّ ولَن يصل إليك منهم مكروه.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد (١) ، عباد الله إنّي عذتُ بربّي وربّكم أنْ ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب».

ثمّ أناخ وأمر عقبة بن سمعان فعقلها (٢).

وقام لسان الله يخطب واعظاً

فصمّوا لما عن قدس أنواره عموا

وقال انسبوني مَن أنا اليوم وانظروا

حلالٌ لكم منّي دمي أم محرّم

فما وجدوا إلاّ السِّهام بنحره

تراش جواباً والعوالي تقَّوم

ومذ أيقن السّبط انمحى دين جَدّه

ولَم يبقَ بين النّاس في الأرض مسلم

فدى نفسه في نصرة الدين خائضاً

عن المسلمين الغامرات ليسلموا

وقال خذيني يا حتوف وهاك يا

سيوف فأوصالي لك اليوم مغنم

وهيهات أن أغدو على الضّيم جاثماً

ولو لا على جمر الأسنَّة مجثم

وكرّ وقد ضاق الفضا وجرى القضا

وسال بوادي الكفر سيل عرمرم

ومذ خرّ بالتعظيم لله ساجداً

له كبّروا بين السّيوف وعظموا

وجاء إليه الشّمر يرفع رأسه

فقام به عنه السّنان المقوّم

وزُعْزع عرش الله وانحطَّ نوره

فأشرق وجه الأرض والكون مظلم

__________________

(١) (بالفاء الموحّدة فيهما) ، رواه ابن نما في مثير الأحزان ص ٢٦ ، وهو أصح ممّا يمضي على الألسن ، ويوجد في بعض المقاتل (بالقاف) من الإقرار ؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة ، إلاّ ما أفادته التي قبلها بخلافه على قراءة الفرار ، فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدة والقتل ، كما يصنعه العبيد. وهو معنى غير ما تؤدي إليه الجملة التي قبلها ، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له ، ففي تاريخ الطبري ٦ ص ٧٦ الطبعة الاُولى وكامل ابن الأثير ٣ ص ١٤٨ ، ونهج البلاغة ١ ص ١٠٤ ، المطبعة الأميريّة : إنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية : «ما لَه فعل فعل السيّد ، وفرّ فرار العبد ، وخان خيانة الفاجر؟!» ، وقصّته على ما ذكرها ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص ١٦٤ : إنّ أصحاب الحريث بن راشد من بني عبد البيت بن الحارث ارتدّوا أيام علي (ع) فحاربهم وقتلهم وسبى نساءهم وأبناءهم ، فابتاعهم مصقلة الشيباني وأعتقهم ثمّ هرب إلى معاوية ، فأمضى علي (ع) عتقه لهم.

(٢) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٣.

٢٢٩

ومذ مال قطب الكون مال وأوشك

انقلاباً يميل الكائنات ويعدم

وحين ثوى في الأرض قرَّ قرارها

وعادت ومن أوج السّما وهي أعظم

فلهفي له فرداً عليه تزاحمت

جموع العدى تزداد جهلاً فيحلم

ولهفي له ظامٍ يجود وحوله

الفرات جرى طامٍ وعنه يحرَّم

ولهفي له ملقىً وللخيل حافر

يجول على تلك الضلوع وينسم

ولهفي على أعضاك يابن محمد

تُوزّع في أسيافهم وتسهم

فجسمك ما بين السّيوف موزَّع

ورحلك ما بين الأعادي مقسّم

فلهفي على ريحانة الطُّر جسمه

لكلّ رجيم بالحجارة يرجم (١)

كرامة وهداية

وأقبل القوم يزحفون نحوه ، وكان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي (٢) فصاح : أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين : هذا الحسين فما تريد منه؟ قال : يا حسين ، أبشر بالنّار ، قال الحسين : «كذبت ، بل أقدم على ربّ غفور كريم مطاع شفيع. فمَن أنت؟» قال : أنا ابن حوزة. فرفع الحسين يدَيه حتّى بانَ بياض ابطَيه وقال : «اللهمّ ، حزه إلى النّار ، فغضب ابن حوزة وأقحم الفرس إليه وكان بينهما نهر فسقط عنها وعلقت قدمه بالركاب ، وجالت به الفرس وانقطعت قدمه وساقه وفخذه ، وبقي جانبه الآخر معلّقاً بالركاب ، وأخذت الفرس تضرب به كلّ حجر وشجر (٣) ، وألقته في النّار المشتعلة في الخندق فاحترق بها ومات. فخرّ الحسين (ع) ساجداً شاكراً حامداً على إجابة دعائه ، ثمّ إنّه رفع صوته يقول : «اللهمّ ، إنّا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته ، فاقصم مَن ظلمنا وغصبنا حقّنا إنّك سميع قريب» فقال له : محمّد بن الأشعث أيّ قرابة بينك وبين محمّد؟ فقال الحسين : «اللهمّ إنّ

__________________

(١) من قصيدة لآية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، ذُكرت بتمامها في كتابنا (قمر بن هاشم).

(٢) في مجمع الزوائد للهيثمي ٩ ص ١٩٣ : ابن جويرة أو جويزة. وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ ص ٢٤٨ : مالك بن جريرة. وفي روضة الواعظين للفتال ص ١٥٩ الطبعة الاُولى : يقال له : ابن أبي جويرة المزني ، وإنّ فرسه نفرت به وألقته في النّار التي في الخندق.

(٣) كامل ابن الأثير ٤ ص ٢٧.

٢٣٠

محمد بن الأشعث يقول : ليس بيني وبين محمّد قرابة. اللهمّ أرني فيه هذا اليوم ذلاً عاجلاً» ، فاستجاب الله دعاءه ، فخرج محمّد بن الأشعث من العسكر ، ونزل عن فرسه لحاجته ، وإذا بعقرب أسود يضربه ضربة تركته متلوّثاً في ثيابه ممّا به (١) ومات باديَ العورة (٢).

قال مسروق بن وائل الحضرمي : كنتُ في أوّل الخيل التي تقدّمت لحرب الحسين ؛ لعلّي أنْ اُصيب رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد ، فلمّا رأيت ما صُنع بابن حوزة عرفت أنّ لأهل هذا البيت حرمة ومنزلة عند الله ، وتركت النّاس وقلت : لا اُقاتلهم فأكون في النّار (٣).

خطبة زهير بن القين

وخرج إليهم زهير بن القين على فرس ذنوب وهو شاك في السّلاح فقال : يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب الله إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد ، ما لَم يقع بيننا وبينكم السّيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة ، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة ، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد (ص) ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد ، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما ، يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النّخل ، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حِجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه. فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا : لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.

فقال زهير : عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنّصر من ابن سميّة ، فإنْ لم

__________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ٢٤٩ فصل ١١ : واقتصر الصدوق في الأمالي على دعائه على محمّد بن الأشعث.

(٢) روضة الواعظين للفتال ص ١٥٩ طبع أول.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٢٧.

٢٣١

تنصروهم ، فاُعيذكم بالله أنْ تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد ، فلَعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين (ع).

فرماه الشمر بسهم وقال : اسكت أسكت الله نامتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير : يابن البوّال على عقبيه ، ما إيّاك اُخاطب ، إنّما أنت بهيمة والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتَين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر : إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير : أفبالموت تخوّفني؟ فوالله لَلموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم. ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال :

عباد الله ، لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فوالله لا تنال شفاعة محمّد (ص) قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته ، وقتلوا مَن نصرهم وذبَّ عن حريمهم.

فناداه رجل من أصحابه ، إنّ أبا عبد الله يقول لك : «أقبِل ، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء ، فلقد نصحتَ هؤلاء وأبلغت لَو نفع النّصح والإبلاغ» (١).

خطبة بُرير

واستأذن الحسينَ برير بن خضير (٢) في أنْ يكلّم القوم ، فأذن له ـ وكان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القرّاء في جامع الكوفة ، وله في الهمدانيّين شرف وقدر ـ

فوقف قريباً منهم ونادى : يا معشر النّاس ، إنّ الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً ، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٣.

(٢) قال ابن الأثير في الكامل ٤ ص ٣٧ : برير (بالباء الموحّدة ، وفتح الراء المهملة ، وسكون الياء المثناة من تحتها ، وآخره راء). وخضير (بالخاء والضاد المعجمتين).

٢٣٢

وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله ، أفجزاء محمّد هذا؟! (١).

فقالوا : يا بُرير ، قد أكثرت الكلام ، فاكفف عنّا ، فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله.

قال : يا قوم ، إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم ، وهؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أنْ تصنعوه بهم؟ فقالوا : نريد أنْ نمكنّ منهم الأمير عبيد الله بن زياد ، فيرى فيهم رأيه.

قال : أفلا تقبلون منهم أنْ يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة ، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها وعليكم؟! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئسما خلفتم نبيّكم في ذريّته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم!

فقال له نفر منهم : يا هذا ، ما ندري ما تقول؟

قال : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة ، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللهمّ القِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعل القوم يرمونه بالسّهام ، فتقهقر (٢).

خطبة الحسين الثانية

ثمّ إنّ الحسين (ع) ركب فرسه ، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه ، ووقف بإزاء القوم وقال : «يا قوم ، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله (ص)» (٣).

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النّبي (ص) ولامته

__________________

(١) في أمالي الصدوق ص ٩٦ ، المجلس الثلاثون ، الطبعة الاُولى : لمّا بلغ العطش من الحسين وأصحابه ، استأذن برير أن يكلّم القوم فأذِن له.

(٢) البحار ج ١٠ : عن محمّد بن أبي طالب. [بحار الأنوار ٤٥ ص ٥].

(٣) تذكرة الخواص ص ١٤٣.

٢٣٣

وعمامته فأجأبوه بالتصديق. فسألهم عمّا أخذهم على قتله؟ قالوا : طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد ، فقال (عليه السّلام) :

«تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلاّ ـ لكم الويلات! ـ تركتمونا والسّيف مشيم والجأش طامن والرأي لَما يستحصف ، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة (١) الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ، ثمّ نقضتموها ، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئيّ السّنَن! ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه اُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة ، شجى للناظر وأكلة للغاصب!

ألا وإنّ الدّعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتَين ؛ بين السّلة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة ، من أن نؤثر طاعة اللئام من مصارع الكرام ، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر». ثمّ أنشد أبيات فروة بن مُسيك المرادي (٢).

__________________

(١) بالكسر فالفتح ، تاج العروس.

(٢) نقلناها من اللهوف ص ٥٤ ، ورواها ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ ص ٣٣٣ ، والخوارزمي في المقتل ٢ ص ٦ ، وفي نقليهما خلاف لما هنا. وقال ابن حجر في الإصابة ٣ ص ٢٠٥ :

وفد فروة بن مسيك (بالتصغير) على النّبي (ص) سنة تسع مع مذحج ، واستعمله النبي على مراد ومذحج وزبيد. وفي الاستيعاب : سكن الكوفة أيام عمر. وذكر ابن هشام في السيرة بهامش الروض الانف ٢ / ٣٤٤ : لمّا كانت الوقعة بين مراد وهمدان ، أنشأ أبياتاً تسعة ولَم يكن فيها البيت الثالث والرابع. وفي اللهوف ذكر سبعة مع البيتين. وفي الأغاني ١٩ / ٤٩ : نسب الفرزدق إلى خاله العلاء بن قرظة قوله :

إذا ما الدهر جر على اناس

بكلكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين ... الخ

وذكر ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٤ ، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٧ ، الأول والثاني ولَم ينسباهما إلى أحد.

ونسبهما المرتضى في الأمالي ١ / ١٨١ إلى ذي الإصبع العدواني. وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ١١٤ ، وشرح الحماسة للتبريزي ٣ / ١٩١ : أنّها للفرزدق.

وفي الحماسة البصريّة / ٣٠ : أنّهما من قصيدة فروة بن مسيك ، ويرويان لعمر بن قعاس.

٢٣٤

فإن نهزم فهزّامون قدماً

وإن نهْزَم فغير مُهزَّمينا

وما أن طبنا (١) جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

إذا مات الموت رفَّع عن اُناس

بكلكله أناخ بآخرينا

أما والله ، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس ، حتّى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور ، عهدٌ عَهَده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون ، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم ، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط المستقيم» (٢).

ثمّ رفع يدَيه نحو السّماء وقال : «اللهمّ ، احبس عنهم قطر السّماء ، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة ، فإنّهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير (٣). والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه ، قتلةً بقتلة وضربةً بضربة ، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي» (٤).

ضلال ابن سعد

واستدعى الحسين (ع) عمر بن سعد ، فدُعي له ـ وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه ـ فقال (ع) : «أي عمر ، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتّخذونه غرضاً بينهم» ، فصرف بوجهه عنه مغضباً (٥).

__________________

(١) الطب (بالكسر) : الإرادة والعادة.

(٢) تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٣٣٤ ، والمقتل للخوارزمي ٢ ص ٧ ، واللهوف ص ٥٤.

(٣) اللهوف ص ٥٦ ، طبعة صيدا ، والمقتل للخوارزمي ٣ ص ٧.

(٤) مقتل العوالم ص ٨٤.

(٥) تظلّم الزهراء (عليها السّلام) ص ١١٠ ، ومقتل العوالم ص ٨٤ ، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ٨.

٢٣٥

توبة الحرّ

ولمّا سمع الحرّ بن يزيد الرياحي كلامه واستغاثته ، أقبل على عمر بن سعد وقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : إي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. قال : ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال : لَو كان الأمر إليَّ لقبلت ، ولكن أميرك أبى ذلك. فتركه ووقف مع النّاس ، وكان إلى جنبه قرّة بن قيس فقال لقرّة : هل سقيت فرسك اليوم؟ قال : لا ، قال : فهل تريد أن تسقيه؟ فظنّ قرّة من ذلك أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يشاهده ، فتركه فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً ، فقال له المهاجر بن أوس : أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذته الرعدة ، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له : لَو قيل لي : مَن أشجع أهل الكوفة؟ لَما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ : إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنّار ، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت. ثمّ ضرب جواده نحو الحسين (١) منكّساً رمحه قالباً ترسه (٢) وقد طأطأ برأسه ؛ حياءً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ ، رافعاً صوته :

اللهمّ إليك اُنيب فتب عليَّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك. يا أبا عبدالله إنّي تائب ، فهل لي من توبة؟

فقال الحسين (ع) : «نعم يتوب الله عليك» (٣). فسرّه قوله وتيقّن الحياة الأبديّة والنّعيم الدائم ، ووضح له قول الهاتف لمّا خرج من الكوفة ، فحدّث الحسين (ع) بحديث قال فيه : لمّا خرجت من الكوفة نُوديت : أبشر يا حرّ بالجنّة. فقلت : ويلٌ للحر

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٤.

(٢) في البداية لابن كثير ٧ ص ٦٣ : في واقعة اليرموك قال جرجه ، وهو من النصارى لخالد بن الوليد : ما منزلة مَن يدخل منّا في هذا الأمر؟ قال خالد : له من الأجر أفضل ممّا لنا ؛ لأنا صدقنا نبينا وهو حي بين أظهرنا يأتيه وحي السّماء ونرى الآيات ، ومَن يسلم منكم وهو لَم يسمع ما سمعنا ولَم يرَ ما رأينا من العجائب والحجج وكان دخوله في هذا الأمر بيّنة صادقة ، كان أفضل منّا. فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال : علِّمني الإسلام ....

وفي أنساب الأشراف للبلاذري ١ ص ٤٢ ، طبعة دار المعارف ، مصر : كان العرب إذا خافوا ووردوا على من يستجيرون به وجاؤا للصلح نكسوا رماحهم. وقال في صفحة ٤٣ : وفد الحارث بن ظالم على عبد الله بن جدعان بـ (عكاظ) وهم يرون حرب قيس ، فكذلك نكّس رمحه ثمّ رفعه حين عرفوه وأمن.

(٣) اللهوف ص ٥٨ ، وأمالي الصدوق ص ٩٧ المجلس الثلاثون ، وروضة الواعظين ص ١٥٩.

٢٣٦

يُبشّر بالجنّة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول الله؟! (١).

فقال له الحسين (ع) : «لقد أصبت خيراً وأجراً» (٢). وكان معه غلام تركي (٣).

نصيحة الحر لأهل الكوفة

ثمّ استأذن الحسينَ (ع) في أنْ يكلّم القوم فأذن له ، فنادى بأعلى صوته : يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر ؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن وأهل بيته ، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنّصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه. وها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمداً في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ! فحملت عليه رجّالة ترميه بالنّبل ، فتقهقر حتّى وقف أمام الحسين (٤).

الحملة الاُولى

وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمى بسهم وقال : اشهدوا لي عند الأمير إنّي أول من رمى. ثمّ رمى النّاس (٥) ، فلَم يبقَ من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم (٦) ، فقال (عليه السّلام) لأصحابه : «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ، فإنَّ هذه السّهام رسل القوم إليكم». فحمل أصحابه حملةً واحدةً (٧) واقتتلوا ساعة ، فما انجلت الغبرة إلاّ عن خمسين صريعاً (٨).

__________________

(١) أمالي الصدوق ص ٩٣ ، المجس الثلاثون.

(٢) مثير الأحزان لابن نما ص ٣١ ، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢ ص ٩ : كان معه غلام له تركي.

(٣) الهبل (بالتحريك) : الثكل. والعبر (بالفتح) : الحزن ، وجريان الدمعة كاستعبر ، تاج العروس.

(٤) ابن الأثير ٤ ص ٢٧.

(٥) الخطط المقريزيّة ٢ ص ٢٨٧.

(٦) مقتل العوالم ص ٨٤.

(٧) اللهوف ص ٥٦.

(٨) البحار عن محمّد بن أبي طالب.

٢٣٧

سطت ورحى الهيجاء تطحن شوسها

ووجه الضحى في نقعها متنقِّب

تهلّل بشراً بالقراع وجوهها

وكم وجه ضرغام هناك مقطّب

وتلتذّ أن جاءت لها السمر تلتوي

وللبيض ان سُلّت لدى الضرب تطرب

أعزّاء لا تلوي الرقاب لفادح

ولا من اُلوف في الكريهة ترهب

فما لسوى العلياء تاقت نفوسهم

ولَم تك في شيء سوى العزّ ترغب

فلَو أنَّ مجداً في الثرّيا لحلقت

إليه وشأن الشّهم للمجد يطلب

فأسيافهم يوم الوغى تمطر الدّما

وأيديهم من جودها الدهر مخضب

وما برحت تقري المواضي لحومها

ومن دمها السّمر العواسل تشرب

إلى أنْ تهاوت كالكواكب في الثرى

وما بعدهم يا ليت لا لاح كوكب (١)

إتهاووا فقل زهر النّجوم تهافتت

وأهووا فقل شمّ الجبال تهدّم (٢)

وخرج يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد فطلبا البراز ، فوثب حبيب وبرير ، فلم يأذن لهما الحسين (ع). فقام عبد الله بن عمير الكلبي ، من بني عليم ، وكنيته أبو وهب ، وكان طويلاً شديد السّاعدين بعيد ما بين المنكبين ، شريفاً في قومه شجاعاً مجرّباً ، فأذن له وقال : «أحسبه للأقران قتّالاً». فقالا له : مَن أنت؟ فانتسب لهما ، فقالا : لا نعرفك ليخرج إلينا زهير أو حبيب أو برير ، وكان يسار قريباً منه فقال له : يابن الزانية أوَبك رغبةً عن مبارزتي؟ ثمّ شدّ عليه بسيفه يضربه ، وبينا هو مشتغل به إذ شدّ عليه سالم ، فصاح أصحابه قد رهقك العبد فلم يعبأ به ، فضربه سالم بالسّيف فاتقاها عبد الله بيده اليسرى فأطار أصابعه ، ومال عليه عبد الله فقتله. وأقبل إلى الحسين يرتجز وقد قتلهما.

وأخذت زوجته اُمّ وهب بنت عبد الله بن النمر بن قاسط ، عموداً ، وأقبلت نحوه تقول له : فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد صلّى الله عليه وأله وسلّم. فأراد أنْ يردّها إلى الخيمة ، فلَم تطاوعه وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول : لن أدعك دون أنْ أموت معك. فناداها الحسين (ع) : «جزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً ،

__________________

(١) من قصيدة للشيخ حسون الحلي ، شعراء الحلة ٢ ص ١٠٤.

(٢) من قصيدة للحجة للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء قدس سره ، طبعت في كتابنا (قمر بني هاشم).

٢٣٨

ارجعي إلى الخيمة ، فإنّه ليس على النّساء قتال». فرجعت (١).

مبارزة الاثنين والاربعة

ولمّا نظر مَن بقي من أصحاب الحسين إلى كثرة مَن قُتل منهم ، أخذ الرجلان والثلاثة والأربعة يستأذنون الحسين في الذبّ عنه والدفع عن حرمه ، وكلّ يحمي الآخر من كيد عدوّه. فخرج الجابريّان وهما : سيف بن الحارث بن سريع ، ومالك بن عبد بن سريع ، وهما ابنا عمّ وأخوان لاُمّ ، وهما يبكيان قال الحسين (ع) : «ما يبكيكما؟ إنّي لأرجو أنْ تكونا بعد ساعة قريرَي العين». قالا : جعلنا الله فداك ، ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك ؛ نراك قد اُحيط بك ولا نقدر أنْ ننفعك. فجزاهما الحسين خيراً. فقاتلا قريباً منه حتّى قُتلا (٢).

وجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريّان فقالا : قد حازنا النّاس إليك. فجعلا يقاتلان بين يدَيه حتّى قُتلا.

وخرج عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه وجابر بن الحارث السلماني ومجمع بن عبد الله العائذي (٣) ، وشدّوا جميعاً على أهل الكوفة فلمّا أوغلوا فيهم ، عطف عليهم النّاس وقطعوهم عن أصحابهم ، فندب إليهم الحسين أخاه العبّاس فاستنقذهم بسيفه ، وقد جُرحوا بأجمعهم ، وفي أثناء الطريق اقترب منهم العدوّ فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح ، وقاتلوا حتّى قتلوا في مكان واحد (٤).

استغاثة وهداية

ولمّا نظر الحسين إلى كثرة مَن قُتل من أصحابه ، قبض على شيبته المقدّسة وقال : «اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، واشتدّ غضبه على النّصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٥ ، وابن الأثير ٤ ص ٣٧.

(٢) ابن الأثير ٤ ص ٢٩.

(٣) في الإصابة ٣ ص ٩٤ القسم الثالث : مجمع بن عبد الله بن مجمع بن مالك بن أياس بن عبد مناة بن سعد ، قُتل مع الحسين بن علي (عليه السّلام) بالطفّ ، ولأبيه إدراك.

(٤) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٥.

٢٣٩

والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم. أما والله ، لا اُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي ، ثمّ صاح : أما من مغيث يغيثنا! أما من ذابّ يذبُّ عن حرم رسول الله!» (١) فبكت النّساء وكثر صراخهن.

وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسين (ع) واستغاثته وبكاء عياله ـ وكانا مع ابن سعد ـ فمالا بسيفيهما على أعداء الحسين (ع) وقاتلا حتّى قُتلا (٢).

ثبات الميمنة

وأخذ أصحاب الحسين (ع) ـ بعد أن قلّ عددهم وبان النّقص فيهم ـ يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل في أهل الكوفة. فصاح عمرو بن الحَجّاج لأصحابه : أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين ، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه على قلّتهم ، والله لَو لَم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت ، ارسِل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يبارزهم رجل منهم ، ولَو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم (٣).

ثمّ حمل عمرو بن الحَجّاج على مَيمنة الحسين (ع) ، فثبتوا له وجثوا على الركب وأشرعوا الرماح ، فلَم تقدم الخيل. فلمّا ذهبت الخيل لترجع ، رشقهم أصحاب الحسين (ع) بالنّبل فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين (٤).

وكان عمرو بن الحَجّاج يقول لأصحابه : قاتِلوا مَن مَرق عن الدِّين وفارق الجماعة. فصاح الحسين (ع) : «ويحك يا عمرو! أعليَّ تحرّض النّاس؟ أنحن مرقنا من

__________________

(١) اللهوف ص ٥٧.

(٢) الحدايق الورديّة مخطوط.

(٣) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٤٩.

(٤) كامل ابن الأثير ٤ ص ٢٧.

٢٤٠