الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ

١٨١

جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)

بيان

رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن وكونه آية للنبوة وما يصحبه من الرحمة والبركة ، وقد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم : « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » ثم رجع إليه بقوله : « وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا » إلخ وقوله « وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ » إلخ وقوله : « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ » إلخ.

فبين في هذه الآيات أن القرآن شفاء ورحمة وبعبارة أخرى مصلح لمن صلحت نفسه ومخسر للظالمين وأنه آية معجزة للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الآيات والجواب عنه وما يلحق بذلك من الكلام.

وفي الآيات ذكر سؤالهم عن الروح والجواب عنه.

قوله تعالى : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » من بيانية تبين الموصول أعني قوله : « ما هُوَ شِفاءٌ » إلخ أي وننزل ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن.

وعد القرآن شفاء والشفاء إنما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض ، وهو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر

١٨٢

أن الدين الحق فطري للإنسان فكما أن للبنية الإنسانية التي سويت على الخلقة الأصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية وآثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدإ والمعاد وما يتفرع عليهما من أصول المعارف ، وأخلاق فاضلة زاكية تلائمها ويترتب عليها من الأحوال والأعمال ما يناسبها.

فللإنسان صحة واستقامة روحية معنوية كما أن له صحة واستقامة جسمية صورية ، وله أمراض وأدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا وأدواء جسمية باختلال أمر الصحة الجسمية ولكل داء دواء ولكل مرض شفاء.

وقد ذكر الله سبحانه في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا وهو غير الكفر والنفاق الصريحين كما يدل عليه قوله : « لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ » الأحزاب : ٦٠ وقوله : « وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً » المدثر : ٣١.

وليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب واستقامة النفس من أنواع الشك والريب الموجبة لاضطراب الباطن وتزلزل السر والميل إلى الباطل واتباع الهوى مما يجامع إيمان عامة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان ومما هو معدود نقصا وشركا بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية ، وقد قال تعالى : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » يوسف : ١٠٦ وقال : « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » النساء : ٦٥.

والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة والمعارف الحقيقية ويدفع بمواعظه الشافية وما فيه من القصص والعبر والأمثال والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والأحكام والشرائع عاهات الأفئدة وآفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.

وأما كونه رحمة للمؤمنين ـ والرحمة إفاضة ما يتم به النقص ويرتفع به الحاجة ـ فلأن القرآن ينور القلوب بنور العلم واليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل والعمى والشك والريب ويحليها بالملكات الفاضلة والحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ

١٨٣

الهيآت الردية والصفات الخسيسة.

فهو بما أنه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض والأدواء ، وبما أنه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة والاستقامة الأصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة ويهيئها لقبولها ، وبكونه رحمة يلبسه لباس السعادة وينعم عليه بنعمة الاستقامة.

فالقرآن شفاء ورحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى ورحمة للنفوس غير الأمنة من الضلال ، وبذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله : « ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » فهو كقوله : « هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » يوسف : ١١١ وقوله : « وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً » النساء : ٩٦.

فمعنى قوله : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » وننزل إليك أمرا يشفي أمراض القلوب ويزيلها ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة.

وقوله : « وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » السياق دال على أن المراد به بيان ما للقرآن من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين وهم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين وإنما علق الحكم بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل أي أن القرآن إنما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر.

والخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الأصل وهو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله وآياته خسروا فيه ونقصوا. ثم إن كفرهم بالقرآن وإعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار ونقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة ، وإلى هذه النكتة يشير سياق النفي والاستثناء حيث قيل : « وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » ولم يقل : ويزيد الظالمين خسارا.

وبه يظهر أن محصل معنى الآية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة واستقامة على صحتهم واستقامتهم بالإيمان وسعادة على سعادتهم وإن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا وخسارا.

١٨٤

وللمفسرين في معنى صدر الآية وذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم.

ومما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الآية أعم من شفاء الأمراض الروحية من الجهل والشبهة والريب والملكات النفسانية الرذيلة وشفاء الأمراض الجسمية بالتبرك بآياته الكريمة قراءة وكتابة هذا.

ولا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر والذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الأمراض والعاهات بقراءة أو كتابة كذلك يستعان به على دفع الأعداء ورفع ظلم الظالمين وإبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا ، ونسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم وشقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز.

قوله تعالى : « وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً » قال في المفردات ، : العرض خلاف الطول وأصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها ـ إلى أن قال ـ وأعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل : أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله ، وإذا قيل : أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه. انتهى موضع الحاجة.

والنأي البعد ونأى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا ، ومجموع قوله : « أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ » يمثل حال الإنسان في تباعده وانقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه. كمن يحول وجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه ، وربما ذكر بعض المفسرين أن قوله. « نَأى بِجانِبِهِ » كناية عن الاستكبار والاستعلاء.

وقوله : « وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً » أي وإذا أصابه الشر أصابة خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير وهو النعمة ، ولم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر ، ولأن وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت والمرض والفقر والنقص وغير ذلك إنما هو شر بالنسبة إلى مورده ، وأما بالنسبة إلى غيره وخاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه

١٨٥

العناية الإلهية وهو مراد بالذات ، وما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره وهو مقضي بالعرض.

فالمعنى أنا إذا أنعمنا على الإنسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل بظواهر الأسباب وأخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا ولم يشكرنا ، وإذا ناله شيء يسير من الشر فسلب منه الخير وزالت عنه أسبابه ورأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه وهو يرى بطلان أسبابه ولا يرى لربه في ذلك صنعا.

والآية تصف حال الإنسان العادي الواقع في المجتمع الحيوي الذي يحكم فيه العرف والعادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهية من المال والجاه والبنين وغيرها ووافقته على ذلك الأسباب الظاهرية اشتغل بها وتعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه وشكره بما أنعم عليه ، وإذا مسه الشر وسلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير ولم يتسل بالرجاء لأنه لا يرى للخير إلا الأسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود.

وهذه الحال غير حال الإنسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم والآداب ولا الحاكم فيه العرف والعادة إما بتأييد إلهي يلازمه ويسدده وإما بعروض اضطرار ينسيه الأسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته ويدعو ربه ويسأله كشف ضره فللإنسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر ونزول الشر وحال عادية تحول فيها الأسباب بينه وبين ربه فتشغله وتصرفه عن الرجوع إليه بالذكر والشكر ، والآية تصف حاله الثانية دون الأولى.

ومن هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية والآيات الدالة على أن الإنسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم : « وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ » الآية وقوله : « وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً » الآية : يونس : ١٢ إلى غير ذلك.

ويظهر أيضا وجه اتصال الآية بما قبلها وأنها متصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله : « وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » والمحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم

١٨٦

فإن من حال الإنسان أن يشغله الأسباب الظاهرية عند نزول النعم الإلهية فينصرف عن ربه ويعرض وينأى بجانبه ، وييأس عند مس الشر.

بحث فلسفي

ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الإلهي بالعرض ، وقد أوردوا في بيانه ما يأتي : نقل عن أفلاطون أن الشر عدم وقد بين ذلك بالأمثلة فإن في القتل بالسيف مثلا شرا وليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب ولا في شجاعته ولا في قوة عضلات يده فإن ذلك كله كمال له ، ليس من الشر في شيء ، وليس هو في حدة السيف ودقة ذبابه وكونه قطاعا فإن ذلك من كماله وحسنه ، وليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الآلة القطاعة فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقى للشر إلا زهاق روح المقتول وبطلان حياته وهو عدمي ، وعلى هذا سائر الأمثلة فالشر عدم.

ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود والوقوع كأنواع الفقد والنقص والموت والفساد الواقعة في الخارج الداخلة في النظام العام الكوني ، ولذلك كان لها مساس بالقضاء الإلهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات.

وذلك أن الذي تتصوره من العدم إما عدم مطلق وهو عدم النقيض للوجود وإما مضاف إلى ملكة وهو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا.

والقسم الأول إما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا بالنسبة إلى ماهية نفسه ، وهذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شيء إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشيء فيكون من الشر كعدم زيد بعد وجوده ، وهو راجع في الحقيقة إلى العدم المضاف إلى الملكة الآتي حكمه.

وإما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى شيء آخر كفقدان الماهيات الإمكانية كمال الوجود الواجبي وكفقدان كل ماهية وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان

١٨٧

النبات وجود الحيوان وفقدان البقر وجود الفرس ، وهذا النوع من العدم من لوازم الماهيات وهي اعتبارية غير مجعولة.

والقسم الثاني وهو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذي من شأنه أن يوجد له ويتصف به كأنواع الفساد العارضة للأشياء والنواقص والعيوب والعاهات والأمراض والأسقام والآلام الطارئة عليها ، وهذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الأمور المادية ويستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها لا إلى إفاضة مبدإ الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود.

فالذي تعلقت به كلمة الإيجاد والإرادة الإلهية وشمله القضاء بالذات في الأمور التي يقارنها شيء من الشر إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده ومقدار قابليته وأما العدم الذي يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته وقصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل والإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه وبين الوجود الذي يقارنه هذا.

وببيان آخر الأمور على خمسة أقسام : ما هو خير محض ، وما خيره أكثر من شره ، وما يتساوى خيره وشره ، وما شره أكثر من خيره ، وما هو شر محض ، ولا يوجد شيء من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح ، ومن الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة والعلم الواجبيين والجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم وأن يوجد ما هو خير محض وما خيره أكثر من شره لأن في ترك الأول شرا محضا وفي ترك الثاني شرا كثيرا.

فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير وإنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير.

وعن الإمام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علة تامة للعالم واستحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار ، فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح.

وقد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العلة مثل ما

١٨٨

يتلقى وجوده من قبله ، ومن المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على الفعل ويغلبها بتحديده.

ولقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال : ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال : إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الإسلام قالوا : إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط ، وأمور العالم منوطة بقوانين كلية ، وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية.

ثم قال : وقول الإمام : « إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب والجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ».

ناش من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار ، وليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار ، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادئ النظر ما افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول. انتهى.

قوله تعالى : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً » المشاكلة ـ على ما في المفردات ، ـ من الشكل وهو تقييد الدابة ، ويسمى ما يقيد به شكالا بكسر الشين ، والشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الإنسان أن يجري على ما يناسبها وتقتضيه.

وفي المجمع ، : الشاكلة الطريقة والمذهب يقال : هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى. وكأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين والمنتحلين بالتزامهما وعدم التخلف عنهما وقيل : الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل وقيل : إنها من الشكل بكسر الشين بمعنى الهيأة.

وكيف كان فالآية الكريمة ترتب عمل الإنسان على شاكلته بمعنى أن العمل يناسبها

١٨٩

ويوافقها فهي بالنسبة إلى العمل كالروح السارية في البدن الذي يمثل بأعضائه وأعماله هيأت الروح المعنوية وقد تحقق بالتجارب والبحث العلمي أن بين الملكات والأحوال النفسانية وبين الأعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل والجبان إذا حضرا موقفا هائلا ، ولا عمل الجواد الكريم والبخيل اللئيم في موارد الإنفاق وهكذا ، وأن بين الصفات النفسانية ونوع تركيب البنية الإنسانية رابطة خاصة فمن الأمزجة ما يسرع إليه الغضب وحب الانتقام بالطبع ومنها ما تغلي وتفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه ويحركه ، ومنها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة وبطءا.

ومع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الأعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الإمكان إلى الاستحالة ويبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته وإن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة.

وكلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً » الأعراف : ٥٨ وانضمام الآية إلى الآيات الدالة على عموم الدعوة كقوله : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » الأنعام : ١٩ يفيد أن تأثير البنى الإنسانية في الصفات والأعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر.

كيف وهو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها ولا تغيير قال : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » الروم : ٣٠ وقال : « ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ » عبس : ٢٠ ولا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحق والسنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر والفساد والانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة.

وقول القائل : إن السعادة والشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الأربعة وفردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم وإن الدعوة لإتمام الحجة لا لإمكان التغيير ورجاء التحول من حال إلى حال فالأمر مفروغ عنه قال تعالى :

١٩٠

« لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ».

مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد وشقاوة الشقي لازمة ضرورية فإن السعادة والشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة ، وكذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شيء من السعادة والشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة والسيئة واعتقاداته الحقة والباطلة.

على أن توسل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم والتربية والإنذار والتبشير والوعد والوعيد والأمر والنهي وغير ذلك أوضح دليل على أن الإنسان في نفسه على ملتقى خطين ومنشعب طريقين : السعادة والشقاوة وفي إمكانه أن يختار أيا منهما شاء وأن يسلك أيا منهما أراد ولكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ». : النجم : ٤١ فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الذوات ، وهناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الأوضاع والأحوال والعوامل الخارجة عن الذات الإنسانية المستقرة في ظرف الحياة وجو العيش كالآداب والسنن والرسوم والعادات التقليدية فإنها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها وتزجره عن مخالفتها ولا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع والأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.

وهذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان ، وفي كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ » البقرة : ٧ إلى غير ذلك.

ولا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة والإنذار والتبشير لأن امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

١٩١

فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للإنسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع خلقته وخصوصية تركيب بنيته ، وهي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادة بعضها في بعض.

وشاكلة أخرى ثانية وهي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية في النفس الإنسانية على ما فيها من الشاكلة الأولى إن كانت.

والإنسان على أي شاكلة متحصلة وعلى أي نعت نفساني وفعلية داخلية روحية كان فإن عمله يجري عليها وأفعاله تمثلها وتحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في تكلمه وسكوته وقيامه وقعوده وحركته وسكونه ، والذليل المسكين ظاهر الذلة والمسكنة في جميع أعماله وكذا الشجاع والجبان والسخي والبخيل والصبور والوقور والعجول وهكذا : وكيف لا والفعل يمثل فاعله والظاهر عنوان الباطن والصورة دليل المعنى.

وكلامه سبحانه يصدق ذلك ويبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ » فاطر : ٢٢ وقوله : « الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ » النور : ٣٦ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وقوله تعالى : « كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ » محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة غير أن اتصال الآية بقوله : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » ووقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين ويشفيهم بالقرآن الكريم والدعوة الحقة ويخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني وهي الشخصية الخلقية الحاصلة للإنسان من مجموع غرائزه والعوامل الخارجية الفاعلة فيه.

كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء والرحمة وحرمان الظالمين من ذلك وزيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة وأنه لو سوى بين

١٩٢

الفريقين في الشفاء والرحمة كان ذلك أوفى لغرض الرسالة وأنفع لحال الدعوة فأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم في ذلك.

فقال : ( قُلْ : كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة والفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمة الحق والعمل الصالح وانتفع بالدعوة الحقة ، ومن كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس بالقول الحق والعمل الصالح ولم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا ، والله الذي هو ربكم العليم بسرائركم المدبر لأمركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة وهو أهدى سبيلا وأقرب إلى الانتفاع بكلمة الحق ، والذي علمه وأخبر به أن المؤمنين أهدى سبيلا فيختص بهم الشفاء والرحمة بالقرآن الذي ينزله ، ولا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به.

ومن هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله : « أَهْدى سَبِيلاً » وذلك لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة وإن كانت مضلة داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى وإن كان ضعيفا ، والشاكلة العادلة أهدى منها فافهم.

وذكر الإمام الرازي في تفسيره ، ما ملخصه : أن الآية تدل على كون النفوس الناطقة الإنسانية مختلفة بالماهية وذلك أنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار والخزي ثم أتبعه بقوله : « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ » ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال ، وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ويسود وجهه.

وهذا إنما يتم إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور ، وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها منه ضلال على ضلال ونكال على نكال. انتهى.

وفيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها وتصورها

١٩٣

بصورها لكان له وجه ، وأما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالآثار اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة ، وقد عرفت أن الآية إنما تتعرض لحال الإنسان بعد حصول شاكلته وشخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه والعوامل الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر.

« بحث فلسفي »

ذكر الحكماء أن بين الفعل وفاعله ويعنون به المعلول وعلته الفاعلة سنخية وجودية ورابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله ووجود الفاعل كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الأمر على ذلك بناء على أصالة الوجود وتشكيكه.

وبينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول وعلته الفاعلة له مناسبة ذاتية وخصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالآخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى ، ونظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل ويثبت الرابطة بينه وبينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول ومعطي الشيء غير فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول والمعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة.

وقد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق وألطف وهو أن المعلول مفتقر في وجوده إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها ، وليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر والتعلق عن مرتبة ذاته ويكون هناك ذات ثم فقر وتعلق وإلا استغنى بحسب ذاته عن العلة واستقل بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر والتعلق فليس له من الوجود إلا الرابط غير المستقل وما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته ويمثله في مرتبته التي له من الوجود.

( تعقيب البحث السابق من جهة القرآن )

التدبر في الآيات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الأشياء على

١٩٤

اختلاف وجوهها وتشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه وصفاته فما من شيء إلا وهو آية في وجوده وفي أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته وكبريائه ، والآية وهي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتي فإن في ذي الآية الذي هو مدلولها غير مستقلة دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف.

فالأشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله ، وهي تحاكي بوجودها وصفات وجودها وجوده سبحانه وكرائم صفاته وهو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه.

قوله تعالى : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً » الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس والحركة الإرادية ولفظه يذكر ويؤنث ، وربما يتجوز فيطلق على الأمور التي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ » الأنعام : ١٢٢ أي بالهداية إلى الإيمان وعلى هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ » النحل : ٢ أي بالوحي وقوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » الشورى : ٥٢ أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لأن به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الأجساد الميتة.

وكيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية ومدنية ، ولم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان وهو مبدأ الحياة الذي يتفرع عليه الإحساس والحركة الإرادية كما في قوله : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » النبأ : ٣٨ ، وقوله : « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » القدر : ٤ ولا ريب أن المراد به في الآية غير الروح الحيواني وغير الملائكة وقد تقدم الحديث عن علي عليه‌السلام أنه احتج بقوله تعالى : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » النحل : ٢ على أن الروح غير الملائكة ، وقد وصفه تارة بالقدس وتارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته

١٩٥

عن الخيانة وسائر القذارات المعنوية والعيوب والعاهات التي لا تخلو عنها الأرواح الإنسية.

وهو وإن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي والتبليغ كما يظهر من قوله : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » الآية فقد قال تعالى : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ » البقرة : ٩٧ فنسب تنزيل القرآن على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جبريل ثم قال : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » الشعراء : ١٩٥ وقال : « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ » النحل : ١٠٢ فوضع الروح وهو غير الملائكة بوجه مكان جبريل وهو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح والروح يحمل هذا القرآن المقرو المتلو.

وبذلك تنحل العقدة في قوله تعالى : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » الشورى : ٥٢ ويظهر أن المراد من وحي الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الآية هو القرآن.

وأما نسبة الوحي وهو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى وهو من الموجودات العينية والأعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم عليه‌السلام : « وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ » النساء : ١٧١ فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة وإنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله : « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » آل عمران : ٥٩ وقد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » وظاهر « مِنْ » أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات « يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ » المؤمن : ١٥ « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ » « أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » فالروح من سنخ الأمر.

١٩٦

ثم عرف أمره في قوله : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ » يس : ٨٤ فبين أولا أن أمره هو قوله للشيء : « كن » وهو كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد والإيجاد هو وجود الشيء لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به فقوله فعله.

ومن الدليل على أن وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع إلغاء الأسباب الوجودية الأخر قوله تعالى : « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » القمر : ٥٠ حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر وهذا النوع من التشبيه لنفي التدريج وبه يعلم أن في الأشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة على الزمان والمكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان والمكان هي من تلك الجهة أمره وقوله وكلمته ، وأما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالأسباب الكونية منطبقة على الزمان والمكان فهي بها من الخلق قال تعالى : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » الأعراف : ٥٤ فالأمر هو وجود الشيء من جهة استناده إليه تعالى وحده والخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.

ويستفاد ذلك أيضا من قوله : « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » الآية حيث ذكر أولا خلق آدم وذكر تعلقه بالتراب وهو من الأسباب ثم ذكر وجوده ولم يعلقه بشيء إلا بقوله : « كُنْ » فافهم ذلك ونظيره قوله : « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ـ إلى أن قال ـ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » المؤمنون : ١٤ فعد إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الأسباب الكونية إنشاء خلق آخر.

فظهر بذلك كله أن الأمر هو كلمة الإيجاد السماوية وفعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الأسباب ، ولا يتقدر بزمان أو مكان وغير ذلك.

ثم بين ثانيا أن أمره في كل شيء هو ملكوت ذلك الشيء ـ والملكوت أبلغ من الملك ـ فلكل شيء ملكوت كما أن له أمرا قال تعالى : « أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الأعراف : ١٨٥ وقال : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الأنعام : ٧٥ وقال : « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » الآية : القدر : ٤.

١٩٧

فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد وهو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية وهو الوجود الأرفع من نشأة المادة وظرف الزمان ، وأن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت.

وقد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » النبأ : ٣٨ ، وقوله : « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ » الآية : المعارج : ٤.

ويظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ » « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ » وقوله : « فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » مريم : ١٧.

ومنه ما هو منفوخ في الإنسان عامة قال تعالى : « ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ » الم السجدة : ٩ وقال : « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » الحجر : ٢٩ ـ ص : ٧٢.

ومنه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى : « أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » المجادلة : ٢٢ ويشعر به بل يدل عليه أيضا قوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » الأنعام : ١٢٢ فإن المذكور في الآية حياة جديدة والحياة فرع الروح.

ومنه ما نزل إلى الأنبياء عليهم‌السلام كما يدل عليه قوله : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا » الآية : النحل : ٢ وقوله : « وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » البقرة : ٨٧ وقوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » الشورى : ٥٢ إلى غير ذلك.

ومن الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الإنسان من الحيوان حياة وأن في النبات حياة ، والحياة متفرعة على الروح ظاهرا.

فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » وأن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه ، وأن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح وأنه من سنخ الأمر بالمعنى الذي تقدم

١٩٨

وأما قوله : « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً » أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود وخواص وآثارا في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.

وللمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه والمجاب عنه أقوال :

فقال بعضهم : إن المراد بالروح المسئول عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » وقوله : « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ » الآية ، ولا دليل لهم على ذلك.

وقال بعضهم : إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » وفيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومأنا إليه في سابق الكلام ، ولو لا ذلك لكان عيسى وجبريل واحدا لأن الله سمى كلا منهما روحا.

وقال بعضهم : إن المراد به القرآن لأن الله سماه روحا في قوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » الآية فيكون محصل السؤال والجواب أنهم يسألونك عن القرآن أهو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنه من أمر ربي لا يقدر على الإتيان بمثله غيره فهو آية معجزة دالة على صحة رسالتي وما أوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الإتيان بمثله قالوا : والآية التالية : « وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ » يؤيد هذا المعنى.

وفيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما أطلق كما تقدم آنفا. على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية. على أن الآية التالية لا تتعين تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الآخر أيضا.

وقال بعضهم : إن المراد به الروح الإنساني فهو المتبادر من إطلاقه وقوله : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » ترك للبيان ونهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه ولم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن ، وقائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه

١٩٩

وخروجه موته ، وقائل بأنه أجزاء أصلية في القلب وقائل بأنه عرض في البدن ، وقائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك.

وفيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع ، والتدبر في الآيات المتعرضة لأمر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه.

وقال بعضهم : إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه والسؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فأجيب بأنه يحدث عن أمره وفعله تعالى ، وفعله محدث لا قديم.

وفيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى وإن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح وقدمه وتوجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ.

ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله : « الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » أهو جواب مثبت أو ترك للجواب وصرف عن السؤال على قولين ، والوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الأول وفي بعضها الثاني ، وقد أشرنا إلى مفي ضمن الأقوال.

ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله : « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً » أهم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغير النبي من الناس؟ والأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين والكلام من تمام قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن السائلين هم اليهود لأنهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم وفي الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش وكفار العرب وقد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه (١) بالذين لا يعلمون.

قوله تعالى : « وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً » الكلام متصل بما قبله فإن الآية السابقة وإن كانت متعرضة لأمر مطلق الروح وهو ذو مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الآيات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الملقي إليه القرآن.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١١٨.

٢٠٠