الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم.

فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا قلت لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.

ولا يلزم على هذا قولهم : أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به كأنه يقول : كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهى غير قاصد إلى مفعول.

فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.

قلت : لا يصح ذلك لأن قوله : ( فَفَسَقُوا ) يدافعه فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.

وهو كلام حسن في تقريب ظهور قوله : « أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها » في كون المأمور به هو الفسق وأما كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل إلا ذلك كما يدعيه فلا ، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا : أمرته فعصاني حيث تكون المعصية وهي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة والفسق والمعصية واحد فإن الفسق هو الخروج عن زي العبودية والطاعة فهو المعصية ويكون المعنى حينئذ أمرنا

٦١

مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا وعصوه ، أو يكون الأمر في الآية مستعملا استعمال اللازم ، والمعنى توجه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.

فالحق أن الوجهين لا بأس بكل منهما وإن كان الثاني لا يخلو من ظهور وقد أجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنهم الرؤساء السادة والأئمة المتبوعون وغيرهم أتباعهم وحكم التابع تابع لحكم المتبوع ولا يخلو من سقم.

وذكر بعضهم في توجيه الآية أن قوله : « أَمَرْنا مُتْرَفِيها » إلخ صفة لقرية وليس جوابا لإذا وجواب إذا محذوف على حد قوله : ( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.

وذكر آخرون أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير وإذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها ، وذلك أنه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقق سببه وهو الفسق ، وهو وجه سخيف كسابقه.

هذا كله على القراءة المعروفة « أَمَرْنا » بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الأمر بمعنى الطلب ، وربما أخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالا وولدا ففسقوا فيها.

وقرئ « آمرنا » بالمد ونسب إلى علي عليه‌السلام وإلى عاصم وابن كثير ونافع وغيرهم وهو من الإيمان بمعنى إكثار المال والنسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل ، وقرئ أيضا « أمرنا » بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة ونسب ذلك إلى علي والحسن والباقر عليه‌السلام وإلى ابن عباس وزيد بن علي وغيرهم.

قوله تعالى : « وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً » قال في المفردات : القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون قال : « وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ » « وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ » انتهى ومعنى الآية ظاهر ، وفيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.

والآية لا تخلو من إشعار بأن سنة الإهلاك إنما شرعت في القرون الإنسانية بعد نوح

٦٢

(ع) وهو كذلك ، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ » البقرة ـ ٢١٣ في الجزء الثاني من الكتاب أن المجتمع الإنساني قبل زمن نوح عليه‌السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك.

قوله تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً » العاجلة صفة محذوفة الموصوف ولعل موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية وهي الحياة الآخرة ، وقيل : المراد النعم العاجلة وقيل : الأعراض الدنيوية العاجلة.

وفي المفردات ، : أصل الصلى لإيقاد النار. قال : وقال الخليل : صلي الكافر النار قاسى حرها « يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ » وقيل : صلي النار دخل فيها ، وأصلاها غيره قال : « فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً » انتهى. وفي المجمع ، : الدحر الإبعاد والمدحور المبعد المطرود يقال : اللهم أدحر عنا الشيطان أي أبعده انتهى.

لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي إثر دعوة الرسالة وأنه يهدي الأمم الإنسانية إلى الإيمان والعمل الصالح حتى إذا فسدوا وأفسدوا بعث إليهم رسولا فإذا طغوا وفسقوا عذبهم عذاب الاستئصال ، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الأخروي والإثابة فيها في هذه الآية والآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة ، وفي آية ملاك ثوابها ، وفي آية محصل القول والأصل الكلي في ذلك.

فقوله : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ » أي الذي يريد الحياة العاجلة وهي الحياة الدنيا ، وإرادة الحياة الدنيا إنما هي طلب ما فيها من المتاع الذي تلتذ به النفس ويتعلق به القلب ، والتعلق بالعاجلة وطلبها إنما يعد طلبا لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسل بها إلى سعادة الأخرى وإلا كانت إرادة للآخرة فإن الآخرة لا يسلك إليها إلا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريدا للدنيا إلا إذا أعرض عن الآخرة ونسيها فتمحضت إرادته في الدنيا ، ويدل عليه أيضا خصوص التعبير في الآية « مَنْ كانَ يُرِيدُ » حيث يدل على استمرار الإرادة.

وهذا هو الذي لا يرى لنفسه إلا هذه الحياة المادية الدنيوية وينكر الحياة الآخرة ،

٦٣

ويلغو بذلك القول بالنبوة والتوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله ورسله والتدين بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد ، قال تعالى : « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ » النجم : ٣٠.

وقوله : « عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ » أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه والأثر لإرادتنا لا لإرادته ، ولا بإعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي التي تحكم فيهم.

وإرادته سبحانه الفعلية لشيء هو اجتماع الأسباب على كينونته وتحقق العلة التامة لظهوره فالآية تدل على أن الإنسان وهو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب والعوامل التي أجراها الله في الكون وقدر لها من الآثار فهو ينال شيئا مما يريده ويسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلا ما يهدي إليه الأسباب والله من ورائهم محيط.

وقد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله : « وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا » الزخرف : ٣٥ أي لو لا أن الناس جميعا يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب والعلل ، ولا فرق بين الكافر والمؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى والثروة أثرته وأغنته مؤمنا كان أم كافرا ، ومن كان بالخلاف ، فبالخلاف خصصنا الكفار بمزيد النعم الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر ولا في سوق الآخرة من قيمة.

وذكر بعضهم : أن المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله وهو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة ، وهو تقييد من غير مقيد ، ولعله أخذه من قوله تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ » هود : ١٦ لكن الآيتين مختلفتان غرضا فالغرض فيما نحن فيه بيان أن مريد الدنيا لا ينال إلا منها ، والغرض من آية سورة

٦٤

هود أن الإنسان لا ينال إلا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفي إليه عمله فيها وبين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.

وقوله : « ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً » أي وجعلنا جزاءه في الآخرة جهنم يقاسي حرها وهو مذموم مبعد من الرحمة والقيدان يفيدان أنه مخصوص بجهنم محروم من المغفرة والرحمة.

والآية وإن كانت تبين حال من تعلق بالدنيا ونسي الآخرة وأنكرها غير أن الطلب والإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولا وفعلا ومنه ما هو كذلك فعلا مع الاعتراف به قولا ، وتصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي : « وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ » الآية.

قوله تعالى : « وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً » قال الراغب : السعي المشي السريع وهو دون العدو ، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا ، انتهى موضع الحاجة.

وقوله : « مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ » أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ » والكلام في قول من قال : يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.

وقوله « وَسَعى لَها سَعْيَها » اللام للاختصاص وكذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة ، والمعنى وسعى وجد للآخرة السعي الذي يختص بها ، ويستفاد منه أن سعيه لها يجب أن يكون سعيا يليق بها ويحق لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل وأخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية.

وقوله : « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » أي مؤمن بالله ويستلزم ذلك توحيده والإذعان بالنبوة والمعاد فإن من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمنا به وقد تكاثرت الآيات فيه.

على أن نفس التقييد بقوله : « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » يكفي في التقييد المذكور فإن من

٦٥

أراد الآخرة وسعى لها سعيها فهو مؤمن بالله وبنشأة وراء هذه النشأة الدنيوية قطعا فلو لا أن التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحا ومن صحته أن يصاحب التوحيد والإذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالإيمان يكفي مئونة الاستعانة بآيات أخر.

وقوله : « فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً » أي يشكره الله بحسن قبوله والثناء على ساعيه ، وشكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فإن أصل إثابته العبد على عمله تفضل لأن من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضل ، والثناء عليه بعد الإثابة تفضل على تفضل والله ذو الفضل العظيم.

وفي الآيتين دلالة على أن الأسباب الأخروية وهي الأعمال لا تتخلف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيوية فإنه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة : « فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً » ويقول فيمن عمل للدنيا : « عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ».

قوله تعالى : « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » قال في المفردات ، أصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد ومدة الجرح ومد النهر ومده نهر آخر ومددت عيني إلى كذا قال تعالى : « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ » الآية ومددته في غيه ... وأمددت الجيش بمدد والإنسان بطعام قال : وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب والمد في المكروه نحو « وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ » « وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا » « وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ » « وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ » انتهى بتلخيص منا.

فإمداد الشيء ومده أن يضاف إليه من نوعه مثلا ما يمتد به بقاؤه ويدوم به وجوده ولو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء التي تستمد من المنبع ويضاف إليها منه الماء حينا بعد حين ويمتد بذلك جريانها.

والله سبحانه يمد الإنسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة فإن جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم والإرادة والأدوات البدنية والقوى العمالة والمواد الخارجية التي يقع عليها العمل ويتصرف فيها العامل والأسباب والشرائط

٦٦

المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للإنسان فيها ولو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل ، والله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله ويمد الإنسان بها بعطائه ، ولو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.

فأهل الدنيا في دنياهم وأهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى ولا يعود إليه سبحانه في عطائه إلا الحمد لأن الذي يعطيه نعمة على الإنسان أن يستعمله استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه ، وأما إذا فسق بعدم استعماله فيه وحرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن إلا نفسه وعلى الله الثناء على جميل صنعه وله الحجة البالغة.

فقوله : « كُلًّا نُمِدُّ » أي كلا من الفريقين المعجل لهم والمشكور سعيهم نمد ، وإنما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فإن المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعا.

وقوله : « هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ » أي هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم بما أن لكل منهما نعته الخاص به ، ويئول المعنى إلى أن كلا من الفريقين تحت التربية الإلهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أن أحدهما يستعمل النعمة الإلهية لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه ، والآخر يستعملها لابتغاء العاجلة وينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلا الشقاء والخيبة.

وقوله : « مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ » فإن جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدم لا صنع لهم ولا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها ومالكها فهي من عطائه.

ويستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فإن أعمالهم لما كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر والفسوق أن يصلى النار مذموما مدحورا ، وعلى من يستعملها في الإيمان به وطاعته أن يشكر سعيه.

وفي قوله : « رَبِّكَ » التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وقد كرر ذلك مرتين والظاهر أن النكتة فيه الإشارة إلى أن إمدادهم من شئون صفة الربوبية والله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير أن الوثنيين يتخذون من دونه أربابا ولذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال : « رَبِّكَ ».

٦٧

وقوله : « وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » أي ممنوعا والحظر المنع فأهل الدنيا وأهل الآخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته.

وفي الآية دلالة على أن العطاء الإلهي مطلق غير محدود بحد لمكان إطلاق العطاء ونفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد والتقدير والمنع باختلاف الموارد فإنما هو من ناحية المستفيض وخصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.

ومن عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن وقتادة أن المراد بالعطاء العطاء الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن والكافر وأما العطاء الأخروي فللمؤمنين خاصة ، والمعنى كما قيل : كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الأول المريد للعاجلة فقط وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد.

وفيه أنه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للإطلاق وأما ما ذكر من اختصاص العطاء الأخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في الآية فإن الكلام في الإمداد الذي يمد به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء ، وعطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال ، ونفس ما يمد به أعمال الفريقين عطايا دنيوية وأخروية على أن العطايا الأخروية أيضا مشتركة غير محظورة والحظر فيها من قبل الكافرين كما أن الأمر في العطايا الدنيوية أيضا كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.

وقال في روح المعاني ، : إن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر ، والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية ، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.

ثم أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح ونقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل ، ونقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان

٦٨

الباعثان فيه متساويين.

قال : وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا : إنه لا يتوقف ، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر. انتهى وقد سبقه إلى هذا التقسيم والبحث غيره.

وأنت خبير بأن الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد والقبول بالنسبة إلى كل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان وتعينها بحسب نشاة حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة ولازمه أن لا يريد بأعماله إلا مزايا الحياة الدنيوية المادية ويعرض عن الأخرى ، ومرة متعلقة بالحياة الآخرة ولازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة ، بعضها وهي الحياة الدنيا مقدمة للبعض الآخر وهي الحياة بعد الموت وأعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الأخرى.

ومعلوم أن هذا التقسيم لا ينتج إلا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلق الغرض بها وذلك أن من أراد الآخرة ربما سعى لها سعيها وربما لم يسع لها سعيها كالفساق وأهل البدع ، وعلى كلا الوجهين ربما كان مؤمنا وربما لم يكن مؤمنا ، ولم يذكر في كلامه تعالى إلا حكم طائفة خاصة وهي من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن لأن الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.

قوله تعالى : « انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً » إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتى لا يتوهم أن قليل العمل وكثيره على حد سواء ويسير السعي والسعي البالغ لا فرق بينهما فإن تسوية القليل والكثير والجيد والردي في الشكر والقبول رد في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.

وقوله : « انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ » أي بعض الناس على بعض في الدنيا ، والقرينة على هذا التقييد قوله بعد : « وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ » والتفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها وأمتعتها كالمال والجاه والولد والقوة

٦٩

والصيت والرئاسة والسؤدد والقبول عند الناس.

وقوله : « وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً » أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات والتفضيل فلا يتوهمن متوهم أن أهل الآخرة في عيشة سواء ولا أن التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس وذلك أن سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونية وهي محدودة والدار دار التزاحم وسبب التفضيل واختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان والإخلاص وهي من أحوال القلوب ، واختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى : « إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » البقرة : ٢٨٤ وقال : « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » الشعراء : ٨٩.

ففي الآية أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل والاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات والتفاضل في المقامات فإن اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة والنيات والأعمال التي يتيسر للإنسان أن يأتي بها واختلاف ذلك يؤدي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.

قوله تعالى : « لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً » قال في المفردات ، : الخذلان ترك من يظن به أن ينصر نصرته انتهى.

والآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة التي ذكرت سنة الله في عباده وختمت في أن من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلى جهنم مذموما مدحورا ، ومن أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل ، والمعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك إلى أن تقعد وتحتبس عن السير إلى درجات القرب وأنت مذموم لا ينصرك الله ولا ناصر دونه وقيل : القعود كناية عن المذلة والعجز.

٧٠

بحث روائي

في الكافي ، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » قال : أي يدعو.

وفي تفسير العياشي ، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام : « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » قال : يهدي إلى الولاية.

أقول : وهي من الجري ويمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين ولعله المراد مما في بعض الروايات من قوله : يهدي إلى الإمام.

وعنه : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله : « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ » يقول : خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه ـ حتى يعطى كتابه بما عمل.

وفيه ، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام : عن الآية قال : قدره الذي قدر عليه.

وفيه ، عن خالد بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله : « اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً » قال يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه ـ حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا : ( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ ـ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ـ إِلَّا أَحْصاها ).

وفيه ، عن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله : « أَمَرْنا مُتْرَفِيها » مشددة منصوبة تفسيرها : كثرنا ، وقال : لا قرأتها مخففة.

أقول : وفي حديث آخر عن حمران عنه : تفسيرها أمرنا أكابرها.

وقد روي في قوله تعالى : « وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ » الآية وقوله : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ » الآية وقوله : « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ » الآية من طرق الفريقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام وسلمان وغيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيدها بكتاب أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الإسناد.

٧١

كلام في القضاء في فصول

١ ـ في تحصيل معناه وتحديده. إنا نجد الحوادث الخارجية والأمور الكونية بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها والشرائط وارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها وتحققها لا يتعين لها التحقق والثبوت ولا عدمه بل يتردد أمرها بين أن تتحقق وأن لا تتحقق من رأس.

فإذا تمت عللها الموجبة لها وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع ولم يبق لها إلا أن تتحقق خرجت من التردد والإبهام وتعين لها أحد الطرفين وهو التحقق ، أو عدم التحقق ، إن فرض انعدام شيء مما يتوقف عليه وجودها. ولا يفارق تعين التحقق نفس التحقق.

والاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان مترددا بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب والأوضاع المقتضية وأتممناها بالإرادة والإجماع بحيث لم يبق له إلا الوقوع والصدور عينا له أحد الجانبين فتعين له الوقوع.

وكذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان أمر مملوكيته مرددا بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام والتردد وتعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.

ثم توسع فيه ثانيا فجعل الفصل والتعيين بحسب القول كالفصل والتعيين بحسب الفعل فقول الحكم : إن المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة وتعيين لأحد الجانبين بعد التردد بينهما ، وقول المخبر إن كذا كذا ، فصل وتعيين ، وهذا المعنى هو الذي نسميه القضاء.

ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه وهي فعله جرى

٧٢

فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها وأراد تحققها فتم لها عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها إلا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى وفصلا لها من الجانب الآخر وقطعا للإبهام ، ويسمى قضاء من الله.

ونظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع وحكمه القاطع بأمر وفصله القول فيه قضاء منه.

وعلى ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة ، قال تعالى : « وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » البقرة : ١١٧ ، وقال : « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ » حم السجدة : ١٢ ، وقال : « قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ » يوسف : ٤١ ، وقال : « وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ » إسراء : ٤ إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة للقضاء التكويني.

ومن الآيات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » إسراء : ٢٣ ، وقوله : « إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » يونس : ٩٣ ، وقوله : « وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » الزمر : ٧٥ ، وما في الآية وما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه وتكويني بآخر.

فالآيات الكريمة ـ كما ترى ـ تمضي صحة هذين الاعتبارين العقليين في الأشياء الكونية من جهة أنها أفعاله تعالى ، وكذا في التشريع الإلهي من جهة أنه فعله التشريعي ، وكذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.

وربما عبر عنه بالحكم والقول بعناية أخرى قال تعالى : « أَلا لَهُ الْحُكْمُ » الأنعام : ٦٢ ، وقال : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » الرعد : ٤١ ، وقال : « ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ » ق : ٢٩ ، قال : « وَالْحَقَّ أَقُولُ » ـ ص : ٨٤.

٢ ـ نظرة فلسفية في معنى القضاء : لا ريب أن قانون العلية والمعلولية ثابت وأن الموجود الممكن معلول له سبحانه إما بلا واسطة معها ، وأن المعلول إذا نسب

٧٣

إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد ، وإذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء أخذ في نفسه ولم ينسب إلى شيء كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة فإنه لو أوجب ضرورته ووجوبه كان علة له تامة والمفروض خلافه.

ولما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين وخروج الشيء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه قضاء عاما منه تعالى كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها قضاء خاص به منه ، إذ لا نعني بالقضاء إلا فصل الأمر وتعيينه عن الإبهام والتردد.

ومن هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له.

٣ ـ والروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جدا :

ففي المحاسن ، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله إذا أراد شيئا قدره ـ فإذا قدره قضاه فإذا قضاه أمضاه.

وفيه ، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق قال : قال : أبو الحسن عليه‌السلام ليونس مولى علي بن يقطين : يا يونس لا تتكلم بالقدر ـ قال : إني لا أتكلم بالقدر ولكن أقول : لا يكون إلا ما أراد الله وشاء وقضى وقدر ـ فقال ليس هكذا أقول ولكن أقول : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. ثم قال : أتدري ما المشية؟ فقال : لا ـ فقال : همه بالشيء أوتدري ما أراد؟ قال : لا ـ قال : إتمامه على المشية فقال : أوتدري ما قدر؟ قال : لا ، قال : هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء ـ ثم قال إن الله إذا شاء شيئا أراده وإذا أراد قدره ـ وإذا قدره قضاه وإذا قضاه أمضاه الحديث.

وفي رواية أخرى عن يونس عنه عليه‌السلام قال : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. قلت : فما معنى شاء؟ قال : ابتداء الفعل قلت : فما معنى أراد؟ قال : الثبوت عليه. قلت : فما معنى قدر؟ قال : تقدير الشيء من طوله وعرضه. قلت :

٧٤

فما معنى قضى؟ قال : إذا قضى أمضى فذلك الذي لا مرد له

وفي التوحيد ، عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال : سئل العالم عليه‌السلام كيف علم الله؟ قال : علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى ـ فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد ـ فبعلمه كانت المشية وبمشيته كانت الإرادة ـ وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء ـ وبقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدم على المشية ـ والمشية ثانية والإرادة ثالثة ـ والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ـ فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء ـ وفيما أراد لتقدير الأشياء ـ فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. الحديث.

والذي ذكره عليه‌السلام من ترتب المشية على العلم والإرادة على المشية وهكذا ترتب عقلي بحسب صحة الانتزاع.

وفيه ، بإسناده عن ابن نباتة قال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ـ فقيل له : يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل.

أقول : وذلك أن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو أن لا يقع ما قدر أما إذا كان القضاء فلا مدفع له ، والروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق أئمة أهل البيت عليه‌السلام.

بحث فلسفي

في أن الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى : « وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ».

أطبقت البراهين على أن وجود الواجب تعالى بما أنه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد ولا مقيد بقيد ولا مشروط بشرط وإلا انعدم فيما وراء حده وبطل على تقدير عدم قيده أو شرطه وقد فرض واجبا لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان ومطلق

٧٥

إطلاقا لا يتحمل تقييدا.

وقد ثبت أيضا أن وجود ما سواه أثر مجعول له وأن الفعل ضروري المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقه ظلية مطلق غير محدود وإلا تركبت ذاته من حد ومحدود وتألفت من وجود وعدم وسرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل وفعله ، وقد فرض أنه واحد مطلق فالوجود الذي هو فعله ، وأثره المجعول واحد غير كثير ومطلق غير محدود وهو المطلوب.

فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التي تقضي بالتحديد من النقص والكمال والوجدان والفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.

وهي إن كانت في أصل وجودها النوعي أو لوازمها النوعية فمنشؤها ماهياتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتي كالإنسان والفرس المختلفين في نوعيهما ولوازم نوعيهما وإن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه وواجد له والواجد للكمال التام أو الناقص فمنشؤها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف العلل المعدة المهيأة للاستفاضة من العلة المفيضة.

فالذي تفيضه العلة المفيضة من الأثر واحد مطلق ، لكن القوابل المختلفة تكثره باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه ومن قابل يقبله تاما ومن قابل يقبله ناقصا ويحوله إلى ما يشاكل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التي تفيض نورا واحدا متشابه الأجزاء لكن الأجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة والاستعداد.

فإن قلت لا ريب في أن هذه الاختلافات أمور واقعية فإن كان ما عد منشأ لها من الماهيات والاستعدادات أمورا وهمية غير واقعية لم يكن لإسناد هذه الأمور الواقعية إليها معنى ورجع الأمر إلى الوجود الذي هو أثر الجاعل الحق وهو خلاف ما ادعيتموه من إطلاق الفيض ، وإن كانت أمورا واقعية غير وهمية كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضا إلى فعله تعالى وثبت خلاف المدعي.

قلت : هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد ولا يبقى معه من الاختلاف

٧٦

أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلي قائم بوجود واحد أصلي ولا يبقى لهذا البحث على هذا محل أصلا.

وبعبارة أخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية ووجود وكذا تقسيمه إلى ما بالقوة وما بالفعل هو الذي أظهر السلوب في نفس الأمر وقسم الأشياء إلى واجد وفاقد ومستكمل ومحروم وقابل ومقبول ومنشأه تحليل العقل الأشياء إلى ماهية قابلة للوجود ووجود مقبول للماهية ، وكذا إلى قوة فاقدة للفعلية وفعلية تقابلها أما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل وعاد أثر الجاعل وهو الفيض واحدا مطلقا لا كثرة فيه ولا حد معه فافهم ذلك.

وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها

٧٧

كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩).

بيان

عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه وهي تتبع قوله قبل آيات « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » الآية.

٧٨

قوله تعالى : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ » « أَلَّا تَعْبُدُوا » إلخ ، نفي واستثناء و « أن » مصدرية وجوز أن يكون نهيا واستثناء وأن مصدرية أو مفسرة ، وعلى أي حال ينحل مجموع المستثنى والمستثنى منه إلى جملتين كقولنا : تعبدونه ولا تعبدون غيره وترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد وهو الحكم بعبادته عن إخلاص.

والقول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء وهو القضاء التشريعي المتعلق بالأحكام والقضايا التشريعية ، ويفيد معنى الفصل والحكم القاطع المولوي ، وهو كما يتعلق بالأمر يتعلق بالنهي وكما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفية ، ولو كان بلفظ الأمر فقيل : وأمر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ، لم يصح إلا بنوع من التأويل والتجوز.

والأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينية والإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أن معصيته وهو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة ، قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » النساء : ٤٨.

وإليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجن والإنس وهوى النفس والجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربه فيما أمره به أو نهاه عنه والطاعة عبادة قال تعالى : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ » يس : ٦٠ ، وقال : « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ » الجاثية : ٢٣ ، حتى أن الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك وهو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.

ولعظم أمر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الأحكام الخطيرة شأنا كعقوق الوالدين ومنع الحقوق المالية والتبذير وقتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحترمة وأكل مال اليتيم ونقض العهد والتطفيف في الوزن واتباع غير العلم والكبير ثم ختمها بالنهي ثانيا عن الشرك.

قوله تعالى : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » عطف على سابقه أي وقضى ربك بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا أو أن أحسنوا بالوالدين إحسانا والإحسان في الفعل يقابل الإساءة.

وهذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أن عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك

٧٩

بالله ، ولذلك ذكره بعد حكم التوحيد وقدمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة وكذلك فعل في عدة مواضع من كلامه.

وقد تقدم في نظير الآية من سورة الأنعام ـ الآية ١٥١ من السورة ـ أن الرابطة العاطفية المتوسطة بين الأب والأم من جانب والولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنساني على ساقه ، وهي الوسيلة الطبيعية التي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما والإحسان إليهما ، ولو لم يجر هذا الحكم وهجر المجتمع الإنساني بطلت العاطفة والرابطة للأولاد بالأبوين وانحل به عقد الاجتماع.

قوله تعالى : « إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً » « إِمَّا » مركب من « إن » الشرطية و « ما » الزائدة وهي المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط ، والكبر هو الكبر في السن وأف كلمة تفيد الضجر والانزجار ، والنهر هو الزجر بالصياح ورفع الصوت والإغلاظ في القول.

وتخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشق الحالات التي تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما وقيامهم بواجبات حياتيهما التي يعجزان عن القيام بها ، وذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم وتربيتهم في حال الصغر وفي وقت لا قدرة لهم على شيء من لوازم الحياة وواجباتها.

فالآية تدل على وجوب إكرامهما ورعاية الأدب التام في معاشرتهما ومحاورتهما في جميع الأوقات وخاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك وهو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى : « وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً » خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع والخضوع قولا وفعلا مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف أمه لتغذيته ، ولذا قيده بالذل فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من أمهاتها ، فالمعنى واجههما في معاشرتك ومحاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك وخضوعك لهما وتذللك قبالهما رحمة بهما.

٨٠