الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

واحد كما لو نزل دفعة وقد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول إلا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.

لكن الأوفق بسياق الآيات السابقة وفيها مثل قولهم المحكي : « حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن إنزاله سورة سورة وآية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا وقد تكرر من الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً » الفرقان : ٣٢ ، وقوله حكاية عن أهل الكتاب : « يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ » النساء : ١٥٣.

ويؤيده تذييل الآية بقوله : « وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً » فإن التنزيل وهو إنزال الشيء تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالأول.

ومع ذلك فالاعتبار الثاني وهو تفصيل القرآن وتفريقه بحسب النزول بإنزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الأول وهو تفصيله وتفريقه إلى معارف وأحكام متبوعة مختلفة بعد ما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحدة منطوية مجتمعة الأعراق في أصل واحد فارد.

ولذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا وآيات بعد ما ألبسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال : « لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » ثم نوعها أنواعا ورتبها ترتيبا فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك وعلى حسب حصول استعدادات الناس المختلفة وتمام قابليتهم بكل واحد منها وذلك في تمام ثلاث وعشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية ويقرن العلم بالعمل.

وسنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالآية والسورة في كلام مستقل إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا » إلى آخر الآيات الثلاث المراد بالذين أوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله وآياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم إلا أن يقال : إن السياق

٢٢١

يفيد كون هؤلاء من أهل الحق والدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح عليه‌السلام فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا ولم يبدلوا.

وعلى أي حال المراد من كونهم أوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمة الحق وقبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه وإيراثه إياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعا.

وقوله : « يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً » الأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين من الوجه ، والخرور للأذقان السقوط على الأرض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله : « سُجَّداً » وإنما اعتبرت الأذقان لأن الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند الخرور عليها للسجدة ، وربما قيل : المراد بالأذقان الوجوه إطلاقا للجزء على الكل مجازا.

وقوله : « وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً » أي ينزهونه تعالى عن كل نقص وعن خلف الوعد خاصة ويعطي سياق الآيات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث وهذا في قبال إصرار المشركين على نفي البعث وإنكار المعاد كما تكرر في الآيات السابقة.

وقوله : « وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً » تكرار الخرور للأذقان وإضافته إلى البكاء لإفادة معنى الخضوع وهو التذلل الذي يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لإفادة معنى الخشوع وهو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الآية أنهم يخضعون ويخشعون.

وفي الآية إثبات خاصة المؤمنين لهم وهي التي أشير إليها بقوله سابقا : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) كما أن في الآية نفي خاصة المشركين عنهم وهي إنكار البعث.

وفي هذه الآيات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لأن إيمان الذين أوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لأن إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته ولا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن وتصديق مصدق فإن آمنوا به فلأنفسهم وإن كفروا به فعليها لا له ولا عليه.

٢٢٢

فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن وكفرهم به وعدم اعتنائهم بكونه آية واقتراحهم آيات أخرى ثم بين له من نعوت الكمال ودلائل الإعجاز في لفظه ومعناه وغزارة الأثر في النفوس وكيفية نزوله ما استبان به أنه حق لا يعتريه بطلان ولا فساد أصلا ثم بين في هذه الآيات أنه في غنى عن إيمانهم فهم وما يختارونه من الإيمان والكفر.

قوله تعالى : « قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » لفظة أو للتسوية والإباحة فالمراد بقوله « اللهَ » و « الرَّحْمنَ » الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى ، والمعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن فالدعاء دعاؤه.

وقوله : « أَيًّا ما تَدْعُوا » شرط و « ما » صلة للتأكيد نظير قوله : « فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ » آل عمران : ١٥٩. وقوله : « عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ » المؤمنون : ٤٠ و « أَيًّا » شرطية وهي مفعول « تَدْعُوا ».

وقوله : « فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » جواب الشرط ، وهو من وضع السبب موضع المسبب والمعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لأن الأسماء الحسنى كلها له فالأسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن ومنها قبيحة بخلافها ولا سبيل للقبيح إليه تعالى ، والأسماء الحسنة منها ما هو أحسن لا شوب نقص وقبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه والحياة التي لا موت معها والعزة التي لا ذلة دونها ومنها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة ولله سبحانه الأسماء الحسنى ، وهي كل اسم هو أحسن الأسماء في معناه كما يدل عليه

قول أئمة الدين : إن الله تعالى غني لا كالأغنياء ، حي لا كالأحياء ، عزيز لا كالأعزة عليم لا كالعلماء وهكذا أي له من كل كمال صرفه ومحضه الذي لا يشوبه خلافه.

والضمير في قوله : « أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم ورسم ، وليس براجع إلى شيء من الاسمين : الله والرحمن لأن المراد بهما ـ كما تقدم ـ الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما ولا معنى لأن يقال : أيا من الاسمين تدعوا فإن لذلك الاسم جميع الأسماء الحسنى أو باقي الأسماء الحسنى بل المعنى أيا من أسمائه تدعوا فلا مانع منه لأنها جميعا أسماؤه لأنها أسماء حسنى وله

٢٢٣

الأسماء الحسنى فهي طرق دعوته ودعوتها دعوته فإنها أسماؤه والاسم مرآة المسمى وعنوانه فافهم ذلك.

والآية من غرر الآيات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات وتوحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات وتشريك العبادة.

فإن الوثنية ـ على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب ـ ترى أنه سبحانه ذات متعالية من كل حد ونعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم وتسمي ذلك تولدا ، وترى الملائكة والجن مظاهر عالية لأسمائه فهم أبناؤه المتصرفون في الكون ، وترى أن عبادة العابدين وتوجه المتوجهين لا يتعدى طور الأسماء ولا يتجاوز مرتبة الأبناء الذين هم مظاهر أسمائه فإنا إنما نعبد فيما نعبد الإله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك ، وهذه كلها أسماء مظاهرها الأبناء من الملائكة والجن ، وأما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل ، وأعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك.

فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم ، وهو الإله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الآلهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات ولذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته : يا الله يا رحمن قال : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين.

والآية الكريمة ترد عليهم ذلك وتكشف عن وجه الخطإ في رأيهم بأن هذه الأسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت ولا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه وتقوم به فليس لها إلا الطريقية المحضة ، ويكون دعاؤها دعاءه والتوجه بها توجها إليه ، وكيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى وليس إلا طريقا دالا عليه هاديا إليه ووجها له يتجلى به لغيره ، فدعاء الأسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم ولا يتعداه.

ويتفرع على هذا البيان ظهور الخطإ في عد الأسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن

٢٢٤

أبناء له تعالى فإن إطلاق الولد والابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضي نوع مسانخة واشتراك بين الولد والوالد ـ أو الابن والأب ـ في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته وساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شيء غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه ، والذي لغيره هو له لا لأنفسهم.

وكذا ظهور الخطإ في نسبة التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكة وكذا الأسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ولا يستقلون دونه بشيء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، وكذا الجن فيما يعملون وبالجملة ما من سبب من الأسباب الفعالة في الكون إلا وهو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله ، وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره.

وهذا هو الذي تفيده الآية التالية « وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ » وسنكرر الإشارة إليه إن شاء الله.

وفي الآية دلالة على أن لفظة الجلالة من الأسماء الحسنى فهو في أصله ـ الإله ـ وصف يفيد معنى المعبودية وإن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال : الله الرحمن الرحيم ولا يقال : الرحمن الله الرحيم وفي كلامه تعالى : « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».

قوله تعالى : « وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً » الجهر والإخفات وصفان متضائفان ، يتصف بهما الأصوات ، وربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات وبالنسبة إلى الإخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت ، والإخفات هو المبالغة في خفضه وما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر ولا في الإخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا وهو الاعتدال وتسميته سبيلا لأنه سنة يستن بها هو ومن يقتدي به من أمته المؤمنين به.

هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله : « بِصَلاتِكَ » للاستغراق والمراد به كل صلاة

٢٢٥

صلاة وأما لو أريد المجموع ولعله الأظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها ولا تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلا وسطا تجهر في بعض وتخافت في بعض ، وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح والمغرب والعشاء والإخفات في غيرها.

ولعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الآية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى عليا متعاليا والإخفات يناسب كونه قريبا أقرب من حبل الوريد فاتخاذ الخصلتين جميعا في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعا.

قوله تعالى : « وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً » معطوف على قوله في الآية السابقة : « قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ » ويرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم إن ما تدعونها من الأسماء وتزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه وهي مملوكة له لا تملك أنفسها ولا شيئا لأنفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال.

ثم أحمده وأثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شيء في ذات ولا صفة حتى يكون ولدا له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية وأهل الكتاب من النصارى واليهود وقدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير والأحبار ، أو يكون شريكا إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون والثنويون وغيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليا له إن شاركه في الملك وفاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه.

وبوجه آخر لا يجانسه شيء حتى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكا له إن كان مساويا له في مرتبته أو وليا له إن كان فائقا عليه في الملك.

والآية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذي يتفرع عليه نفي الولد والشريك والولي ، ولذلك أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها من نفي الولد والشريك والولي صفات سلبية والذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.

٢٢٦

وختم سبحانه الآية بقوله : « وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً » وقد أطلق إطلاقا بعد التوصيف والتنزيه فهو تكبير من كل وصف ، ولذا فسر « الله أكبر » بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق عليه‌السلام ، ولو كان المعنى أنه أكبر من كل شيء لم يخل من إشراك الأشياء به تعالى في معنى الكبر وهو أعز ساحة أن يشاركه شيء في أمر.

ومن لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح واختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد.

بحث روائي

في الدر المنثور ، أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي أنه كان يقرأ : لقد علمت يعني بالرفع قال علي ـ والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم.

أقول : وهي قراءة منسوبة إليه عليه‌السلام.

وفي الكافي ، عن علي بن محمد بإسناده قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال : يضع ذقنه على الأرض إن الله عز وجل يقول ـ « يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ».

أقول : وفي معناه غيره.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه : يا الله يا رحمان فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين ـ وهو يدعو إلهين فأنزل الله : « قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ » الآية.

أقول : وفي سبب نزول الآية روايات أخر تخالف هذه الرواية وتذكر أشياء غير ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقا على مفاد الآية.

وفي التوحيد ، مسندا وفي الاحتجاج ، مرسلا عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها فقلت : الله مما هو مشتق؟ قال يا

٢٢٧

هشام : الله مشتق من إله وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أفهمت يا هشام؟

قال : فقلت : زدني فقال : إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما ـ فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ـ ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره ـ يا هشام الخبز اسم المأكول والماء اسم المشروب ـ والثوب اسم الملبوس والنار اسم المحرق. الحديث.

وفي التوحيد ، بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من عبد الله بالتوهم فقد كفر ، ومن عبد الاسم ولم يعبد المعنى فقد كفر ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك ، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته ـ التي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ـ ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته ـ فأولئك أصحاب أمير المؤمنين وفي حديث آخر : أولئك هم المؤمنون حقا.

وفي توحيد البحار ، في باب المغايرة بين الاسم والمعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت ، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير مجسد ، وبالتشبيه غير موصوف ـ وباللون غير مصبوغ منفي عنه الأقطار ، مبعد عنه الحدود ، محجوب عنه حس كل متوهم ، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ـ ليس منها واحد قبل الآخر ـ فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحدا منها ـ وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت.

فالظاهر هو الله وتبارك وسبحان ـ لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ـ ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما وفعلا منسوبا إليها ـ فهو الرحمن الرحيم الملك القدوس الخالق البارئ ـ المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ـ العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز ـ الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر ـ السلام المؤمن المهيمن البارئ ـ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم ـ الرازق المحيي المميت الباعث الوارث.

فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى ـ حتى تتم ثلاث مائة وستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ـ وهذه الأسماء الثلاثة أركان وحجب للاسم الواحد ـ المكنون

٢٢٨

المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قوله عز وجل : « قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ـ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ».

أقول : والحديث مروي في الكافي ، أيضا عنه (ع).

وقد تقدم في بحث الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الألفاظ المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الأسماء وأن ما تدل عليه وتشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذة بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة ، وعلى هذا فبعض الأسماء الحسنى عين الذات وهو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي والعليم والقدير ، وبعضها زائد على الذات خارج منها وهو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق والرازق لا تأخذه سنة ولا نوم ، هذا في الأسماء وأما أسماء الأسماء وهي الألفاظ الدالة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات ، وأنها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفظ بها.

إلا أن هاهنا خلافا من جهتين :

إحداهما : أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الأسماء وأسماء الأسماء فحسبوا أن المراد من عينية الأسماء مع الذات عينية أسماء الأسماء معها فذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى ويكون على هذا عبادة الاسم ودعوته هو عين عبادة المسمى ، وقد كان هذا القول سائغا في أوائل عصر العباسيين ، والروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الرد عليه.

والثانية : ما عليه الوثنية وهو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي وإنما يتعلق بالأسماء فالأسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن والكمل من الإنس هم المدعوون وهم الآلهة المعبودون دون الله ، وقد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى : « قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ » إلخ رد عليه.

والرواية الأخيرة أيضا تكشف عن وجه انتشاء الأسماء عن الذات المتعالية التي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف ونعت أو يحده اسم أو رسم ، وهي بما في صدره وذيله من البيان صريح في أن المراد بالأسماء فيها هي الأسماء دون أسماء الأسماء

٢٢٩

وقد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت.

وفي تفسير العياشي ، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله تعالى : « وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً » قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان بمكة جهر بصوته ـ فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه ـ فأنزلت هذه الآية عند ذلك.

أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور ، عن ابن مردويه عن ابن عباس ، وروي أيضا عن عائشة : أنها نزلت في الدعاء ، ولا بأس به لعدم معارضته ، وروي عنها أيضا أنها نزلت في التشهد.

وفي الكافي ، بإسناده عن سماعة قال : سألته عن قول الله تعالى : « وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها » قال : المخافتة ما دون سمعك والجهر أن ترفع صوتك شديدا.

أقول : فيه تأييد المعنى الأول المتقدم في تفسير الآية.

وفيه ، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام على الإمام أن يسمع من خلفه وإن كثروا؟ فقال : ليقرأ وسطا يقول الله تبارك وتعالى : « وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ».

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : آية العز « وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً » الآية كلها.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ » قال : قال : لم يذل فيحتاج إلى ولي ينصره.

« بحث آخر روائي وقرآني »

متعلق بقوله تعالى : « وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ » ثلاثة فصول :

١ ـ إن للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء والحزب والعشر وغير ذلك والذي

٢٣٠

ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها وهما السورة والآية فقد كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله : « سُورَةٌ أَنْزَلْناها » النور : ١ وقوله : « قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ » يونس : ٣٨ وغير ذلك.

وقد كثر استعماله في لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة والأئمة كثرة لا تدع ريبا في أن لها حقيقة في القرآن الكريم وهي مجموعة من الكلام الإلهي مبدوءة بالبسملة مسوقة لبيان غرض ، وهو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة وقد ورد (١) عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام أنها آيات من سورة الأنفال ، وإلا بما ورد (٢) عنهم عليه‌السلام أن الضحى وأ لم نشرح سورة واحدة وأن الفيل والإيلاف سورة واحدة.

ونظيره القول في الآية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام كقوله : « وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً » الأنفال : ٢ ، وقوله : « كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا » حم السجدة : ٣ ، وقد روي عن أم سلمة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقف على رءوس الآي ـ وصح أن سورة الحمد سبع آيات ، وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الآيات في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله.

والذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع وفصول بالطبع وخاصة فيما كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أعداد الآيات أن الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها وعما بعدها.

ويختلف ذلك باختلاف السياقات وخاصة في السياقات المسجعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله : « مُدْهامَّتانِ » الرحمن : ٦٤ وربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو غير كلام كقوله : « الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ » الرحمن ـ ١ ٤

__________________

(١) تقدم بعض ما يدل ما يدل عليه من الرواية في ذيل قوله : « إنا نحن نزلنا الذكر » الآية الحجر : ٨ في الجزء الثاني عشر من الكتاب.

(٢) رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن الشحام عن الصادق عليه السلام ونسبه المحقق في الشرائع والطبرسي في مجمع البيان الى رواية أصحابنا.

٢٣١

وقوله : « الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ » الحاقة ـ ١ ٣ وربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية : ٢٨٢.

٢ ـ أما عدد السور القرآنية فهي مائة وأربع عشرة سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا وهو مطابق للمصحف العثماني ، وقد تقدم كلام أئمة أهل البيت عليه‌السلام فيه ، وأنهم لا يعدون براءة سورة مستقلة ويعدون الضحى وأ لم نشرح سورة واحدة ويعدون الفيل والإيلاف سورة واحدة.

وأما عدد الآي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الآي ويميز كل آية من غيرها ولا شيء من الآحاد يعتمد عليه ، ومن أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم وهم المكيون والمدنيون والشاميون والبصريون والكوفيون.

فقد قال بعضهم : إن مجموع القرآن ستة آلاف آية ، وقال بعضهم : ستة آلاف ومائتان وأربع آيات ، وقيل : وأربع عشرة ، وقيل : وتسع عشرة ، وقيل : وخمس وعشرون ، وقيل : وست وثلاثون.

وقد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، وللمدنيين عددان ينتهي أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ، والآخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري وروى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء ، وينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري ، ويضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة والكسائي وخلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.

وبالجملة لما كانت الأعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبأ به ويجوز الركون إليه ويتميز به كل آية عن أختها لا ملزم للأخذ بشيء منها فما كان منها بينا ظاهر الأمر فهو وإلا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره.

والذي روي عن علي عليه‌السلام من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شيء من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه عليه‌السلام وعن غيره من أئمة أهل البيت عليه‌السلام أن البسملة آية من القرآن وهي جزء من كل سورة

٢٣٢

افتتحت بها ولازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.

وهذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد هاهنا ، وذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية وهي أربعون سورة وما اختلفوه في عدده أو في رءوس آية من السور وهي أربع وسبعون سورة وكذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل « الر » أينما وقع من القرآن وما اختلف فيه ، وعلى من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه.

٣ ـ في ترتيب السور نزولا : نقل في الإتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون ، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال : كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة ـ كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء.

وكان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك ، ثم ن ، ثم يا أيها المزمل ، ثم يا أيها المدثر ، ثم تبت يدا أبي لهب ، ثم إذا الشمس كورت ، ثم سبح اسم ربك الأعلى ، ثم والليل إذا يغشى ، ثم والفجر ، ثم والضحى ، ثم ألم نشرح ، ثم والعصر ، ثم والعاديات ثم إنا أعطيناك ، ثم ألهيكم التكاثر ، ثم أرأيت الذي يكذب ، ثم قل يا أيها الكافرون ، ثم ألم تر كيف فعل ربك ، ثم قل أعوذ برب الفلق ، ثم قل أعوذ برب الناس ، ثم قل هو الله أحد ، ثم والنجم ، ثم عبس ، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر ، ثم والشمس وضحاها ، ثم والسماء ذات البروج ، ثم التين ، ثم لإيلاف قريش ، ثم القارعة ، ثم لا أقسم بيوم القيامة ، ثم ويل لكل همزة ، ثم والمرسلات ، ثم ق ، ثم لا أقسم بهذا البلد ، ثم والسماء والطارق ، ثم اقتربت الساعة ، ثم ص ، ثم الأعراف ، ثم قل أوحي ثم يس ، ثم الفرقان ، ثم الملائكة ، ثم كهيعص ، ثم طه ، ثم الواقعة ، ثم طسم الشعراء ، ثم طس ، ثم القصص ، ثم بني إسرائيل ، ثم يونس ، ثم هود ، ثم يوسف ، ثم الحجر ، ثم الأنعام ، ثم الصافات ، ثم لقمان ، ثم سبأ ، ثم الزمر ، ثم حم المؤمن ، ثم حم السجدة. ثم حمعسق ، ثم حم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف ثم الذاريات ، ثم الغاشية ، ثم الكهف ، ثم النحل ، ثم إنا أرسلنا نوحا ، ثم سورة إبراهيم ، ثم الأنبياء ، ثم المؤمنين ، ثم تنزيل السجدة ، ثم الطور ، ثم تبارك الملك

٢٣٣

ثم الحاقة ، ثم سأل ، ثم عم يتساءلون ، ثم النازعات ، ثم إذا السماء انفطرت ، ثم إذا السماء انشقت ، ثم الروم ، ثم العنكبوت ، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة.

ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ، ثم آل عمران ، ثم الأحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، ثم إذا زلزلت ، ثم الحديد ، ثم القتال ، ثم الرعد ، ثم الرحمن ، ثم الإنسان ، ثم الطلاق ، ثم لم يكن ، ثم الحشر ، ثم إذا جاء نصر الله ، ثم النور ، ثم الحج ، ثم المنافقون ، ثم المجادلة ، ثم الحجرات ، ثم التحريم ، ثم الجمعة ثم التغابن ، ثم الصف ، ثم الفتح ، ثم المائدة ، ثم براءة.

وقد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب وربما قيل : إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة.

ونقل فيه ، عن البيهقي في دلائل النبوة ، أنه روى بإسناده عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن قالا : أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك وساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة والأعراف وكهيعص مما نزل بمكة.

وأيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الأنفال ثم المائدة قبل الممتحنة.

ثم روى البيهقي بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال : إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك الحديث وهو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب وقد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة.

وفيه ، عن كتاب الناسخ والمنسوخ ، لابن حصار : أن المدني باتفاق عشرون سورة ، والمختلف فيه اثنا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى.

والذي اتفقوا عليه من المدنيات البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والمنافقون والجمعة والطلاق والتحريم والنصر.

٢٣٤

وما اختلفوا في مكيته ومدنيته سورة الرعد والرحمن والجن والصف والتغابن والمطففين والقدر والبينة والزلزال والتوحيد والمعوذتان.

وللعلم بمكية السور ومدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الأبحاث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسي والمدني في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحليل سيرته الشريفة ، والروايات ـ كما ترى ـ لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.

فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات والاستمداد بما يتحصل من القرائن والأمارات الداخلية والخارجية ، وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب والله المستعان.

* * *

سورة الكهف مكية وهي مائة وعشر آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)

٢٣٥

بيان

السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح بالإنذار والتبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الآيتين وما اختتمت به من قوله تعالى : « فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ».

وفيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الإنذار أولا أعني وقوع قوله : « وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً » بعد قوله : « لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ».

فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة والجن والمصلحين من البشر والنصارى القائلين ببنوة المسيح عليه‌السلام ولعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا : عزير ابن الله.

وغير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة وهي قصة أصحاب الكهف وقصة موسى وفتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين وقصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك والحث على تقوى الله سبحانه.

والسورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها وقد استثني منها قوله : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ » الآية وسيجيء ما فيه من الكلام.

قوله تعالى : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً » العوج بفتح العين وكسرها الانحراف ، قال في المجمع ، : العوج بالفتح فيما يرى كالقناة والخشبة وبالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين والكلام. انتهى.

ولعل المراد بما يرى وما لا يرى ما يسهل رؤيته وما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات ، بقوله : العوج ـ بالفتح ـ يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب ونحوه والعوج ـ بالكسر ـ يقال فيما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة وكالدين والمعاش انتهى. فلا يرد عليه ما في قوله تعالى : « لا تَرى فِيها عِوَجاً ـ بكسر العين ـ وَلا أَمْتاً » طه : ١٠٧ فافهم.

٢٣٦

وقد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه وهو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا والآخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات والبركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح والسداد من بركات ما بثه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق والخلق الحسن والعمل الصالح وأن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عما تقدمه من الأعصار من رقي المجتمع البشري وتقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص وللدعوة النبوية فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله.

ومن هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الآية : يعني قولوا الحمد لله الذي نزل « إلخ » ليس على ما ينبغي.

وقوله : « وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً » الضمير للكتاب والجملة حال عن الكتاب وقوله : « قَيِّماً » حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له وأنه قيم على مصالح المجتمع البشري فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء وهو مفاد كونهما حالين من الكتاب.

وقيل إن جملة « وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً » معطوفة على الصلة و « قَيِّماً » حال من ضمير « لِلَّهِ » والمعنى والذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن « قَيِّماً » منصوب بمقدر ، والمعنى : والذي لم يجعل له عوجا وجعله قيما ، ولازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول وبين كون الكتاب قيما لا عوج له. وقد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق.

وقيل : إن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير نزل الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وهو أردأ الوجوه.

وقد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لأن الأول كمال الكتاب في نفسه والثاني تكميله لغيره والكمال مقدم طبعا على التكميل.

ووقوع « عِوَجاً » وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه ، بليغ في معناه ، مصيب في هدايته ، حي في حججه وبراهينه ، ناصح في أمره ونهيه ، صادق فيما يقصه من قصصه وأخباره ، فاصل فيما يقضي به

٢٣٧

محفوظ من مخالطة الشياطين ، لا اختلاف فيه ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والقيم هو الذي يقوم بمصلحة الشيء وتدبير أمره كقيم الدار وهو القائم بمصالحها ويرجع إليه في أمورها ، والكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني ، والذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق والعمل الصالح كما قال تعالى : « يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ » الأحقاف : ٣٠ ، وهذا هو الدين وقد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ » الروم : ٤٣ وعلى هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الإنساني في دنياهم وأخراهم.

وربما عكس الأمر فأخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى : « وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ » البينة : ٥ فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة وهو نوع تجوز.

وقيل : المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ، وقيل : القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها ويحفظها وينسخ شرائعها وتعقيب الكلمة بقوله : « لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ » إلخ يؤيد ما قدمناه.

قوله تعالى : « لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ » الآية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل والظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله : « الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ » إن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن ويفسق في عمله.

والجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته في نفسه وقيمومته على غيره لم يستقم إنذار ولا تبشير وهو ظاهر.

والمراد بالأجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الآية التالية : « ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً » والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً » وهم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له وربما قالوا بذلك في الجن والمصلحين من البشر والنصارى

٢٣٨

القائلين بأن المسيح ابن الله وقد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا : عزير ابن الله.

وذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله : « لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ » لمزيد الاهتمام بشأنهم.

قوله تعالى : « ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ » كانت عامتهم يريدون بقولهم : اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله « أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ » الأنعام : ١٠١.

وقد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم وثانيا بقوله في آخر الآية : « إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ».

وكان قوله : « ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ » شاملا لهم جميعا من آباء وأبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا وهم أعلم منا وليس لنا إلا أن نتبعهم ونقتدي بهم فرق تعالى بينهم وبين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا وعن آبائهم الذين كانوا يركنون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم ولحجتهم جميعا.

وقوله : « كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ » ذم لهم وإعظام لقولهم : اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك والتجسم والتركب والحاجة إلى المعين والخليفة إليه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه واختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن : عزير ابن الله ، وقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الأول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب وإطلاق الزوج والصاحبة على وسائط الصدور والإيجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فأطلق على بعض الملائكة من الخلق الأول الزوج وعلى بعض آخر منهم الابن أو البنت.

وهذان الإطلاقان وإن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الإطلاق الأول لكونهما من التجوز بعناية التشريف ونحوه لكنهما ممنوعان شرعا وكفى ملاكا لحرمتهما سوقهما وسوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم والهلاك الخالد.

قوله تعالى : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً »

٢٣٩

البخوع والبخع القتل والإهلاك والآثار علائم أقدام المارة على الأرض ، والأسف شدة الحزن والمراد بهذا الحديث القرآن.

والآية واللتان بعدها في مقام تعزية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتسليته وتطييب نفسه والفاء لتفريع الكلام على كفرهم وجحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة والمعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن وانصرافهم عنك من شدة الحزن ، وقد دل على إعراضهم وتوليهم بقوله : ( عَلى آثارِهِمْ ) وهو من الاستعارة.

قوله تعالى : « إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » إلى آخر الآيتين الزينة الأمر الجميل الذي ينضم إلى الشيء فيفيده جمالا يرغب إليه لأجله والصعيد ظهر الأرض والجرز على ما في المجمع ، الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا.

ولقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الإنسان الأرضية وهو أن النفوس الإنسانية ـ وهي في أصل جوهرها علوية شريفة ـ ما كانت لتميل إلى الأرض والحياة عليها وقد قدر الله أن يكون كمالها وسعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق والعمل الصالح فاحتالت العناية الإلهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد والعمل وإيصالها إلى محك التصفية والتطهير وإسكانها الأرض إلى أجل معلوم بإلقاء التعلق والارتباط بينها وبين ما على الأرض من أمتعة الحياة من مال وولد وجاه وتحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض وهو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض وحلية تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الأرض بسببه واطمأنت إليها.

فإذا انقضى الأجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقق ما أراده من البلاء والامتحان سلب الله ما بينهم وبين ما على الأرض من التعلق ومحى ما له من الجمال والزينة وصار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه ولا نضارة عليه ونودي فيهم بالرحيل وهم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة.

وهذه سنة الله تعالى في خلق الإنسان وإسكانه الأرض وتزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك ويتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل والفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثم يخليه واختياره ليختبرهم بذلك

٢٤٠