الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

يفضل على الملائكة المقربين؟ وقد استدل عليه بالآية الكريمة : « وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً » على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومأنا إليه في تفسير الآية وبما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة.

وهو المعروف أيضا من مذهب الشيعة ، وربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتأتى منه المعصية لكن الإنسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة والمعصية وقد ركب من قوى رحمانية وشيطانية وتألف من عقل وشهوة وغضب فالإنسان المؤمن المطيع يطيعه وهو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك.

ومع ذلك فالقول بأفضلية الإنسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الأشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج ونسب إلى ابن عباس.

ومنهم من قال بأفضلية الرسل من البشر ، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عامة الملائكة على عامة البشر.

ومنهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر ، كما يقول به الإمام الرازي ونسب إلى الغزالي.

وذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر واستدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى : « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ـ إلى قوله ـ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً » وقد مر تقرير حجتهم في تفسير الآية.

وقد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الإنسان من الملك ممن فسر الكثير في الآية بالجميع فقال في الكشاف ، في ذيل قوله تعالى : « وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا » هو ما سوى الملائكة وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم.

والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة

١٦١

على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان الملك ، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم وعلموا أين أسكنهم؟ وأنى قربهم؟ وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم؟.

ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا وأخبارا منها : قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان ، ورووا عن أبي هريرة أنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.

ومن ارتكابهم أنهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الآية وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا على أن معنى قولهم : على جميع ممن خلقنا أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم ولكنهم لا يشعرون فانظر في تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى كان جبريل عليه‌السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى.

وما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم الدنيا رويت عن ابن عمر وأنس بن مالك وزيد بن أسلم وجابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولفظ الأخير قال : لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ـ ويشربون وينكحون ويركبون الخيل ـ فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ـ فقال الله تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له : كن فكان.

ومتن الرواية لا يخلو عن شيء فإن الأكل والشرب والنكاح ونحوها في الإنسان استكمالات مادية إنما يلتذ الإنسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز الله به بنيته المادية والملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه الإنسان بقواه المادية وأعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعة النظام المادي الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنوه.

ونظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الإنسان من الملك بأن وجود الإنسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة والقوى الداعية إلى المعصية فإذا

١٦٢

اختار الطاعة على المعصية وانتزع إلى الإسلام والعبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا وزلفى وأعظم ثوابا وأجرا.

وهذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الإنساني وهو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من أمر ونهي ولها الفضل والشرف على المعصية وبها يستحق الأجر والثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الإنسان المتوجه إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل والترك متساوي النسبة إلى الجانبين ، وكلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر والعكس بالعكس فليس يستوي في امتثال النهي عن الزنا مثلا العنين والشيخ الهرم ومن يصعب عليه تحصيل مقدماته والشاب القوي البنية الذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة وبعضها طاعة وبعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.

ولما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة والغضب ونزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الإلهية أشبه بامتثال العنين والشيخ الهرم لنهي الزنا وكان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.

وفيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية ولا لهم مقام استواء النسبة ولم يكن لهم شرف ذاتي وقيمة جوهرية إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية ، وتسمية المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز ، ولو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب ولا لأعمالهم منزلة.

لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب والزلفى وأسكنهم في حظائر القدس ومنازل الإنس ، وجعلهم خزان سره وحملة أمره ووسائط بينه وبين خلقه ، وهل هذا كله لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم واستحقاق من ذواتهم؟.

وقد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم : « بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » الأنبياء : ٢٧ وقال : « لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » التحريم : ٦ فوصف ذواتهم بالإكرام من غير تقييده بقيد ومدح طاعتهم واستنكافهم عن المعصية.

١٦٣

وقال مادحا لعبادتهم وتذللهم لربهم : « وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ » الأنبياء : ٢٨ وقال : « فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ » حم السجدة : ٣٨ وقال : « وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ إلى أن قال ـ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ » الأعراف : ٢٠٦ فأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذكره كذكرهم ويعبده كعبادتهم.

وحق الأمر أن كون العمل جائز الفعل والترك ووقوف الإنسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه ملاك أفضلية طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته وحسن سريرته والدليل على ذلك أن لا قيمة للطاعة مع العلم بخباثة نفس المطيع وقبح سريرته وإن بلغ في تصفية العمل وبذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق ومريض القلب الحابط عمله عند الله الممحوة حسنته عن ديوان الأعمال فصفاء نفس المطيع وجمال ذاته وخلوصه في عبوديته الذي يكشف عنه انتزاعه من العصية إلى الطاعة وتحمله المشاق في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله وفضل طاعته.

وعلى هذا فذوات الملائكة ولا قوام لها إلا الطهارة والكرامة ولا يحكم في أعمالهم إلا ذل العبودية وخلوص النية أفضل من ذات الإنسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب والشهوة وأعماله التي قلما تخلو عن خفايا الشرك وشامة النفس ودخل الطبع.

فالقوام الملكي أفضل من القوام الإنساني والأعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الإنسان وفيها لون قوامه وشوب من ذاته ، والكمال الذي يتوخاه الإنسان لذاته في طاعته وهو الثواب أوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الإشارة إليه.

نعم لما كان الإنسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجا بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعا أو بطيئا كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب وموطنا من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده ، وظاهر كلامه تعالى يحقق هذا الاحتمال.

كيف وهو سبحانه يذكر في قصة جعل الإنسان خليفة في الأرض فضل الإنسان واحتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالأسماء كلها ، وأنه مقام من الكمال لا يتداركه

١٦٤

تسبيحهم بحمده وتقديسهم له ، ويطهره مما سيظهر منه من الفساد في الأرض وسفك الدماء كما قال : « وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ » إلى آخر الآيات : البقرة : ٣٠ ٣٣ وقد فصلنا القول في ذلك في ذيل الآيات في الجزء الأول من الكتاب.

ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم سجودهم له جميعا فقال : « فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ » الحجر : ٣٠ وقد أوضحنا في تفسير الآيات في القصة في سورة الأعراف أن السجدة إنما كان خضوعا منهم لمقام الكمال الإنساني ولم يكن آدم عليه‌السلام إلا قبلة لهم ممثلا للإنسانية قبال الملائكة. فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى ، وفي الأخبار ما يؤيده ، وللبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه.

قوله تعالى : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » اليوم يوم القيامة والظرف متعلق بمقدر أي اذكر يوم كذا ، والإمام المقتدى وقد سمى الله سبحانه بهذا الاسم أفرادا من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله : « قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » البقرة : ١٢٤ وقوله : « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا » الأنبياء : ٧٣ وأفرادا آخرين يقتدى بهم في الضلال كما في قوله : « فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ » التوبة : ١٢ وسمى به أيضا التوراة كما في قوله : « وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً » هود : ١٧ ، وربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعة ككتاب نوح وإبراهيم وعيسى ومحمد عليه‌السلام جميعا أئمة.

وسمى به أيضا اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى : « وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ » يس : ١٢ ولما كان ظاهر الآية أن لكل طائفة من الناس إماما غير ما لغيرها فإنه المستفاد من إضافة الإمام إلى الضمير الراجع إلى كل أناس لم يصلح أن يكون المراد بالإمام في الآية اللوح لكونه واحدا لا اختصاص له بأناس دون أناس.

وأيضا ظاهر الآية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا من الأولين والآخرين وقد

١٦٥

تقدم في تفسير قوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ » البقرة : ٢١٣ أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو كتاب نوح عليه‌السلام ولا كتاب قبله في هذا الشأن وبذلك يظهر عدم صلاحية كون الإمام في الآية مرادا به الكتاب وإلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الآية.

فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل أناس من يأتمون به في سبيلي الحق والباطل كما تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة وهو الذي يجتبيه الله سبحانه في كل زمان لهداية أهله بأمره نبيا كان كإبراهيم ومحمد عليه‌السلام أو غير نبي ، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله : « وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » البقرة : ١٢٤.

لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون وهو من أئمة الضلال : « يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ » هود : ٩٨ ، وقوله : « لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ » الأنفال : ٣٧ وغيرهما من الآيات وهي ، كثيرة أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة ، ولازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة والإحضار.

على أن قوله : « بِإِمامِهِمْ » مطلق لم يقيد بالإمام الحق الذي جعله الله إماما هاديا بأمره ، وقد سمى مقتدى الضلال إماما كما سمى مقتدى الهدى إماما وسياق ذيل الآية والآية الثانية أيضا مشعر بأن الإمام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماما واقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للإمامة ونصبه للهداية بأمره سواء اتبعه الناس أو رفضوه.

فالظاهر أن المراد بإمام كل أناس في الآية من ائتموا به سواء كان إمام حق أو إمام باطل ، وليس كما يظن أنهم ينادون بأسماء أئمتهم فيقال : يا أمة إبراهيم ويا أمة محمد ويا آل فرعون ويا آل فلان فإنه لا يلائمه ما في الآية من التفريع أعني قوله : « فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ » « وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى » إلخ إذ لا تفرع بين الدعوة بالإمام بهذا المعنى وبين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى.

بل المراد بالدعوة ـ على ما يعطيه سياق الذيل ـ هو الإحضار فهم محضرون

١٦٦

بإمامهم ثم يأخذ من اقتدى بإمام حق كتابه بيمينه ويظهر عمى من عمي عن معرفة الإمام الحق في الدنيا واتباعه ، هذا ما يعطيه التدبر في الآية.

وللمفسرين في تفسير الإمام في الآية مذاهب شتى مختلفة :

منها : أن المراد بالإمام الكتاب الذي يؤتم به كالتوراة والإنجيل والقرآن فينادي يوم القيامة يا أهل التوراة ويا أهل الإنجيل ويا أهل القرآن ، وقد تقدم بيانه وبيان ما يرد عليه.

ومنها : أن المراد بالإمام النبي لمن كان على الحق والشيطان وإمام الضلال لمبتغي الباطل فيقال : هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثم يقال : هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلال.

وفيه أنه مبني على أخذ الإمام في الآية بمعناه العرفي وهو من يؤتم به من العقلاء ، ولا سبيل إليه مع وجود معنى خاص له في عرف القرآن وهو الذي يهدي بأمر الله والمؤتم به في الضلال.

ومنها : أن المراد كتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر ووجه كونه إماما بأنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار.

وفيه أنه لا معنى لتسمية كتاب الأعمال إماما وهو يتبع عمل الإنسان من خير أو شر فإن يسمى تابعا أولى به من أن يسمى متبوعا ، وأما ما وجه به أخيرا ففيه أن المتبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف والسؤال والوزن والشهادة وأما الكتاب فإنما يشتمل على متون أعمال الخير والشر من غير فصل القضاء.

ومنه يظهر أن ليس المراد بالإمام اللوح المحفوظ ولا صحيفة عمل الأمة وهي التي يشير إليها قوله : « كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا » الجاثية : ٢٨ لعدم ملائمته قوله ذيلا : « فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ » الظاهر في الفرد دون الجماعة.

ومنها : أن المراد به الأمهات ـ بجعل إمام جمعا لأم فيقال : يا ابن فلانة ولا يقال يا ابن فلان ، وقد رووا فيه رواية.

١٦٧

وفيه أنه لا يلائم لفظ الآية فقد قيل : « نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » ولم يقل ندعو الناس بإمامهم أو ندعو كل إنسان بأمه ولو كان كما قيل لتعين أحد التعبيرين الأخيرين وما أشير إليه من الرواية على تقدير صحتها وقبولها رواية مستقلة غير واردة في تفسير الآية.

على أن جمع الأم بالإمام لغة نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى وقد عد في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير.

ومنها : أن المراد به المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره حقا كان أو باطلا كالنبي والولي والشيطان ورؤساء الضلال والأديان الحقة والباطلة والكتب السماوية وكتب الضلال والسنن الحسنة والسيئة ، ولعل دعوة كل أناس بإمامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كل تابع يوم القيامة لمتبوعه ، والباء للمصاحبة.

وفيه ما أوردناه على القول بأن المراد به الأنبياء ورؤساء الضلال فالحمل على المعنى اللغوي إنما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف ، وقد عرفت أن الإمام في عرف القرآن هو الذي يهدي بأمر الله أو المقتدى في الضلال ومن الممكن أن يكون الباء في « بِإِمامِهِمْ » للآلة فافهم ذلك.

على أن هداية الكتاب والسنة والدين وغير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الإمام وكذا النبي إنما يهدي بما أنه إمام يهدي بأمر الله ، وأما من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما أرسل به فإنما هو نبي أو رسول وليس بإمام ، وكذا إضلال المذاهب الباطلة وكتب الضلال والسنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسسيها والمبتدعين بها.

قوله تعالى : « فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً » الفتيل هو المفتول الذي في شق النواة ، وقيل : الفتيل هو الذي في بطن النواة والنقير في ظهرها والقطمير شق النواة.

وتفريع التفصيل على دعوتهم بإمامهم دليل على أن ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم إلى قسمين وتفرقهم فريقين : من أوتي كتابه بيمينه ومن كان أعمى وأضل سبيلا فالإمام إمامان : إمام هدى وإمام ضلال ، وهذا هو الذي قدمناه أن تفريع التفصيل يشهد بكون المراد بالإمام أعم من إمام الهدى.

١٦٨

ويشهد به أيضا تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا الموضع من قوله : « وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى » إلخ.

والمعنى ـ بإعانة من السياق ـ فيتفرقون حينئذ فريقين فالذين أعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة ولا يظلمون مقدار فتيل بل يوفون أجورهم تامة كاملة.

قوله تعالى : « وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً » المقابلة بين قوليه : « فِي هذِهِ » و « فِي الْآخِرَةِ » دليل على أن الإشارة بهذه إلى الدنيا كما أن كون الآية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا والآخرة دليل على أن المراد بعمى الآخرة عمى البصيرة كما أن المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى : « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » ويؤيد ذلك أيضا تعقيب عمى الآخرة بقوله : « وَأَضَلُّ سَبِيلاً ».

والمعنى : ومن كان في هذه الحياة الدنيا لا يعرف الإمام الحق ولا يسلك سبيل الحق فهو في الحياة الآخرة لا يجد السعادة والفلاح ولا يهتدي إلى المغفرة والرحمة.

وبما تقدم يتبين ما في قول بعضهم : إن الإشارة بقوله : « فِي هذِهِ » إلى النعم المذكورة والمعنى ومن كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها ولا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الآخرة أعمى.

وكذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمى الدنيا عمى البصيرة وبعمى الآخرة عمى البصر ، وقد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الآخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى : « يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ».

وظاهر بعض المفسرين أن الأعمى الثاني في الآية تفيد معنى التفضيل حيث فسره أنه في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا والسياق يساعده على ذلك.

بحث روائي

في أمالي الشيخ ، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه عليه‌السلام : في قوله : « وَلَقَدْ كَرَّمْنا

١٦٩

بَنِي آدَمَ » يقول : فضلنا بني آدم على سائر الخلق « وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ » يقول : على الرطب واليابس « وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ » يقول : من طيبات الثمار كلها « وَفَضَّلْناهُمْ » يقول : ليس من دابة ولا طائر ـ إلا هي تأكل وتشرب بفيها ـ لا ترفع يدها إلى فيها طعاما ولا شرابا غير ابن آدم ـ فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل.

وفي تفسير العياشي ، عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام : « وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً » قال : خلق كل شيء منكبا غير الإنسان خلق منتصبا.

أقول : وما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق والدليل عليه قوله في آخر الرواية الأولى : فهذا من التفضيل.

وفيه عن الفضيل قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » قال : يجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قومه ، وعلي عليه‌السلام في قومه ـ والحسن في قومه والحسين في قومه ـ وكل من مات بين ظهراني إمام جاء معه.

وفي تفسير البرهان ، عن ابن شهرآشوب عن الصادق عليه‌السلام : ألا تحمدون الله؟ أنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى من يتولونه ، وفزعنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفزعتم أنتم إلينا :

أقول : ورواه في المجمع ، عنه (ع) وفيه دلالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إمام الأئمة كما أنه شهيد الشهداء وأن حكم الدعوة بالإمام جار بين الأئمة أنفسهم.

وفي مجمع البيان ، روى الخاص والعام عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بالأسانيد الصحيحة أنه روى عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال فيه : يدعى كل أناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم :

أقول : ورواه في تفسير البرهان ، عن ابن شهرآشوب عنه عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلفظه وقد أسنده أيضا إلى رواية الخاص والعام.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » قال : يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم.

وفي تفسير العياشي ، عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا يترك الأرض

١٧٠

بغير إمام يحل حلال الله ويحرم حرامه ، وهو قول الله : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » ثم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. الحديث.

أقول : ووجه الاحتجاج بالآية عموم الدعوة فيها لجميع الناس.

وفيه ، عن إسماعيل بن همام عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » قال : إذا كان يوم القيامة قال الله : أليس العدل من ربكم أن يولوا كل قوم من تولوا؟ قالوا : بلى قال : فيقول : تميزوا فيتميزون.

أقول : وفيه تأييد لما قدمنا أن المراد بالدعوة بالإمام إحضارهم معه دون النداء بالاسم ، والروايات في المعاني السابقة كثيرة.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً » قال : قال : الجلدة التي في ظهر النواة.

وفي تفسير العياشي ، عن المثنى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله أبو بصير وأنا أسمع ـ فقال له : رجل له مائة ألف ـ فقال : العام أحج العام أحج حتى يجيئه الموت ـ فحجبه البلاء ولم يحج حج الإسلام ـ فقال : يا با بصير أوما سمعت قول الله. « مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً » عمي عن فريضة من فرائض الله.

وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ

١٧١

مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)

بيان

تذكر الآيات بعض مكر المشركين بالقرآن وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد ما ذمتهم على تماديهم في إنكار التوحيد والمعاد واحتجت عليهم في ذلك ـ حيث أرادوا أن يفتنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بعض ما أوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة ، وأرادوا أن يخرجوه من مكة.

وقد أوعد الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أشد الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض الميل ، وأوعدهم أن أخرجوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالهلاك.

وفي الآيات إيصاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلوات والالتجاء بربه في مدخله ومخرجه وإعلام ظهور الحق.

قوله تعالى : « وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً » إن مخففة بدليل اللام في « لَيَفْتِنُونَكَ » والفتنة الإزلال والصرف ، والخليل من الخلة بمعنى الصداقة وربما قيل : هو من الخلة بمعنى الحاجة وهو بعيد.

وظاهر السياق أن المراد بالذي أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد ونفي الشريك والسيرة الصالحة وهذا يؤيد ما ورد في بعض أسباب النزول أن المشركين سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكف عن ذكر آلهتهم بسوء ويبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به والسقاط حتى يجالسوه ويسمعوا منه فنزلت الآيات.

١٧٢

والمعنى : وإن المشركين اقتربوا أن يزلوك ويصرفوك عما أوحينا إليك لتتخذ من السيرة والعمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا وإذا لاتخذوك صديقا.

قوله تعالى : « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً » التثبيت ـ كما يفيده السياق ـ هو العصمة الإلهية وجعل جواب لو لا قوله : « لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ » دون نفس الركون والركون هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يركن ولم يكد ، ويؤكده إضافة الركون إليهم دون إجابتهم إلى ما سألوه.

والمعنى : ولو لا أن ثبتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلا لكنا ثبتناك فلم تدن من أدنى الميل إليهم فضلا من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجبهم إلى ما سألوا ولا مال إليهم شيئا قليلا ولا كاد أن يميل.

قوله تعالى : « إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً » سياق الآية سياق توعد فالمراد بضعف الحياة والممات المضاعف من عذاب الحياة والممات ، والمعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لأذقناك الضعف من العذاب الذي نعذب به المجرمين في حياتهم والضعف مما نعذبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا والآخرة.

ونقل في المجمع ، عن أبان بن تغلب أن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه والمعنى لأذقناك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وأنشد قول الشاعر :

لمقتل مالك إذ بان. مني

أبيت الليل في ضعف أليم

أي في عذاب أليم.

وما في ذيل الآية من قوله : « ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً » تشديد في الإيعاد أي إن العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه.

قوله تعالى : « وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً » الاستفزاز الإزعاج والتحريك بخفة وسهولة ، واللام في

١٧٣

« الْأَرْضِ » للعهد والمراد بها مكة ، والخلاف بمعنى بعد ، والمراد بالقليل اليسير من الزمان.

والمعنى وإن المشركين قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لإخراجك منها ولو كان منهم وخرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلا قليلا فهم هالكون لا محالة.

وقيل : هؤلاء الذين كادوا يستفزونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة وقيل : المراد المشركون واليهود أرادوا جميعا أن يخرجوه من أرض العرب.

ويبعد ذلك أن السورة مكية والآيات ذات سياق واحد وابتلاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باليهود إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.

قوله تعالى : « سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً » التحويل نقل الشيء من حال ، إلى حال ، وقوله : « سُنَّةَ » أي كسنة من قد أرسلنا وهو متعلق بقوله : « لا يَلْبَثُونَ » أي لا يلبثون بعدك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا.

وهذه السنة وهي إهلاك المشركين الذين أخرجوا رسولهم من بلادهم وطردوه من بينهم سنة لله سبحانه ، وإنما نسبها إلى رسله لأنها مسنونة لأجلهم بدليل قوله بعد : « وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً » وقد قال تعالى : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ » إبراهيم : ١٣.

والمعنى : وإذا نهلكهم لسنتنا التي سنناها لأجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا وأجريناها ولست تجد لسنتنا تحويلا وتبديلا.

قوله تعالى : « أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً » قال في مجمع البيان ، : الدلوك الزوال ، وقال المبرد : دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها ، وقيل : هو الغروب وأصله من الدلك فسمي الزوال دلوكا لأن الناظر إليها يدلك عينيه لشدة شعاعها ، وسمي الغروب دلوكا لأن الناظر يدلك عينيه ليثبتها. انتهى.

وقال فيه : غسق الليل ظهور ظلامه يقال : غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر

١٧٤

ما فيها. انتهى ، وفي المفردات ، : غسق الليل شدة ظلمته. انتهى.

وقد اختلف المفسرون في تفسير صدر الآية والمروي عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها وغسق الليل بمنتصفه ، وسيجيء الإشارة إلى الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

وعليه فالآية تشمل من الوقت ما بين زوال الشمس ومنتصف الليل ، والواقع في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليومية أربع صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة. وبانضمام صلاة الصبح المدلول عليها بقوله : « وَقُرْآنَ الْفَجْرِ » إلخ إليها تتم الصلوات الخمس اليومية.

وقوله : « وَقُرْآنَ الْفَجْرِ » معطوف على الصلاة أي وأقم قرآن الفجر والمراد به صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القرائة وقد اتفقت الروايات على أن صلاة الصبح هي المراد بقرآن الفجر.

وكذا اتفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلا : « إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً » بأنه يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، وسنشير إلى بعض هذه الروايات عن قريب إن شاء الله.

قوله تعالى : « وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً » التهجد من الهجود وهو النوم في الأصل ومعنى التهجد التيقظ والسهر بعد النوم على ما ذكره غير واحد منهم ، والضمير في « بِهِ » للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله : « وَمِنَ اللَّيْلِ » والنافلة من النفل وهو الزيادة ، وربما قيل : إن قوله : « وَمِنَ اللَّيْلِ » من قبيل الإغراء نظير قولنا : عليك بالليل ، والفاء في قوله : « فَتَهَجَّدْ بِهِ » نظير قوله : « فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ » النحل : ٥١.

والمعنى : وأسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن ـ وهو الصلاة ـ حال كونها صلاة زائدة لك على الفريضة.

وقوله : « عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً » من الممكن أن يكون المقام مصدرا ميميا وهو البعث فيكون مفعولا مطلقا ليبعثك من غير لفظه ، والمعنى عسى أن يبعثك ربك بعثا محمودا ، ومن الممكن أن يكون اسم مكان والبعث بمعنى الإقامة أو مضمنا معنى الإعطاء ونحوه ، والمعنى عسى أن يقيمك ربك في مقام محمود أو يبعثك معطيا لك مقاما محمودا أو يعطيك باعثا مقاما محمودا.

١٧٥

وقد وصف سبحانه مقامه بأنه محمود وأطلق القول من غير تقييد وهو يفيد أنه مقام يحمده الكل ولا يثني عليه الكل إلا إذا استحسنه الكل وانتفع به الجميع ولذا فسروا المقام المحمود بأنه المقام الذي يحمده عليه جميع الخلائق وهو مقام الشفاعة الكبرى له صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة وقد اتفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة أهل البيت عليه‌السلام.

قوله تعالى : « وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً » المدخل بضم الميم وفتح الخاء مصدر ميمي بمعنى الإدخال ونظيره المخرج بمعنى الإخراج ، والعناية في إضافة الإدخال والإخراج إلى الصدق أن يكون الدخول والخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله وهو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله ويشرك في بعضها غيره.

وبالجملة هو أن يرى الصدق في كل مدخل منه ومخرج ويستوعب وجوده فيقول ما يفعل ويفعل ما يقول ولا يقول ولا يفعل إلا ما يراه ويعتقد به ، وهذا مقام الصديقين.

ويرجع المعنى إلى نحو قولنا : اللهم تول أمري كما تتولى أمر الصديقين.

وقوله : « وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً » أي سلطنة بنصرتي على ما أهم به من الأمور وأشتغل به من الأعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة ، ولا أفتتن بفتنة أو مكر يمكرني به أعداؤك ولا أضل بنزغ شيطان ووسوسته.

والآية ـ كما ترى ـ مطلقة تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل مدخل ومخرج بالصدق ويجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق ولا يظهر بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول والخروج دخول المدينة بالهجرة والخروج منها إلى مكة للفتح أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت والخروج منه بالبعث.

نعم لما كانت الآية بعد قوله : « وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ » « وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ » وفي سياقهما ، لوحت إلى أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يلتجئ إلى ربه في كل أمر يهم به أو يشتغل

١٧٦

به من أمور الدعوة ، وفي الدخول والخروج في كل مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج منه وهو ظاهر.

قوله تعالى : « وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً » قال في المجمع : الزهوق هو الهلاك والبطلان يقال : زهقت نفسه إذا خرجت فكأنها قد خرجت إلى الهلاك. انتهى والمعنى ظاهر.

وفي الآية أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلام ظهور الحق وهو لوقوع الآية في سياق ما مر من قوله : « وإن كادوا ليفتنونك » إلى آخر الآيات أمر بإياس المشركين من نفسه وتنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الآية دلالة على أن الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر : « وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ » إبراهيم : ٢٦.

بحث روائي

في المجمع : في سبب نزول قوله تعالى : « وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ » الآيات ـ أنهم قالوا له : كف عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا ـ واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان ـ حتى نجالسك ونسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت الآية :

أقول : وروي في الدر المنثور ، عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه :. وأما ما روي عن ابن عباس : أن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك ـ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم ـ فأنزل الله : « وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ـ إلى قوله ـ نَصِيراً » فلا يلائم ظاهر الآيات حيث تنفي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقارب الركون فضلا عن الركون.

١٧٧

وكذا ما رواه الطبري وابن مردويه عن ابن عباس : أن ثقيفا قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أجلنا سنة حتى يهدي لآلهتنا ـ فإذا قبضنا الذي يهدي للآلهة أحرزناه ـ ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة فهم أن يؤجلهم فنزلت : « وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ » الآية.

وكذا ما في تفسير العياشي ، عن أبي يعقوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الآية قال : لما كان يوم الفتح أخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصناما من المسجد ـ وكان منها صنم على المروة فطلبت إليه قريش أن يتركه وكان مستحيا ـ ثم أمر بكسره فنزلت هذه الآية.

ونظيرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب وحاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يهم بمثل هذه البدع والله سبحانه ينفي عنه المقارنة من الركون والميل اليسير فضلا أن يهم بالعمل.

على أن هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة والسورة مكية. وفي العيون ، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : مما سأله المأمون فقال له : أخبرني عن قول الله : « عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ » قال الرضا عليه‌السلام هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ـ خاطب الله بذلك نبيه وأراد به أمته ، وكذلك قوله : « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » وقوله تعالى : « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً » قال : صدقت يا بن رسول الله.

وفي المجمع ، عن ابن عباس : في قوله تعالى : « إِذاً لَأَذَقْناكَ » الآية ـ قال : إنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.

وفي تفسير العياشي ، عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : قلت له : متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه؟ قال : بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإسلام ـ فكتب الله على المسلمين الجهاد ، وزاد في الصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبع ركعات في الظهر ركعتين ، وفي العصر ركعتين ، وفي المغرب ركعة ، وفي العشاء ركعتين ، وأقر الفجر على ما فرضت عليه بمكة ـ لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الأرض ـ وتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء ـ فكان ملائكة الليل وملائكة النهار ـ يشهدون مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله : « وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً » يشهد المسلمون ويشهد ملائكة الليل والنهار.

١٧٨

وفي المجمع : في قوله تعالى : « أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ » قال : ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس وبيان أوقاتها : ويؤيد ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبيدة بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في هذه الآية.

قال : إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت ـ فصلى بي الظهر.

وفيه ، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً » قال : يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار.

أقول : تفسير كون قرآن الفجر مشهودا في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل وملائكة النهار يكاد يبلغ حد التواتر ، وقد أضيف إلى ذلك في بعضها شهادة الله كما في هذه الرواية ، وفي بعضها شهادة المسلمين كما فيما تقدم.

وفي تفسير العياشي ، عن عبيد بن زرارة قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال : نعم ـ فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : نعم للمؤمنين خطايا وذنوب ـ وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ ـ قال : وسأله رجل عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا سيد ولد آدم ولا فخر قال : نعم ـ يأخذ حلقة من باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول : الله : ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ـ ثم يخر ساجدا فيقول الله : ارفع رأسك اشفع تشفع واطلب تعط ـ ثم يرفع رأسه فيشفع يشفع ( فيشفع ) ويطلب فيعطى.

وفيه ، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم عليه‌السلام : في قول الله « عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً » قال : يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوما ـ وتؤمر الشمس

١٧٩

فنزلت على رءوس العباد ويلجم العرق ـ وتؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا ـ فيأتون آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح ـ ويدلهم نوح على إبراهيم ، ويدلهم إبراهيم على موسى ويدلهم موسى على عيسى ، ويدلهم عيسى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول : عليكم بمحمد خاتم النبيين ، فيقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا لها.

فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له : من هذا؟ والله أعلم فيقول محمد : افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا ـ فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم وسل تعط واشفع تشفع ـ فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها ـ فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار ـ فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو قول الله تعالى : « عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ».

أقول : وقوله : « حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار » أي بعض من أدخل النار ، وفي معنى هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الدر المنثور ، أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الإذن ـ فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه‌السلام فيقول : لست بصاحب ذلك ثم موسى عليه‌السلام فيقول مثل ذلك ثم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيشفع فيقضي الله بين الخلائق فيمشي ـ حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما.

وفيه ، أخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : المقام المحمود الشفاعة.

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقاص قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المقام المحمود فقال : هو الشفاعة.

أقول : والروايات في المضامين السابقة كثيرة.

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى

١٨٠