الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

ويقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق على هذه الأمم المفسدة في الأرض ، وأن السد المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلا بين منطقة شمالية من قارة آسيا وجنوبها كحائط الصين أو سد باب الأبواب أو سد « داريال » أو غير هذه.

وقد تسلمت تواريخ الأمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا وهي الأحداب والمرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لأمة كبيرة بدوية همجية لم تزل تزداد عددا وتكثر سوادا فتكر على الأمم المجاورة لها كالصين وربما نسلت من أحدابها وهبطت إلى بلاد آسيا الوسطى والدنيا وبلغت إلى شمال أوربة فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنة أوربة الشمالية فتمدين بها واشتغل بالزراعة والصناعة ، ومنهم من رجع ثم عاد وعاد (١).

وهذا أيضا مما يؤيد ما استقربناه آنفا أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الأسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال وجنوبه.

٣ ـ من هو ذو القرنين؟ وأين سدة؟

للمؤرخين وأرباب التفسير في ذلك أقوال بحسب اختلاف أنظارهم في تطبيق القصة :

أ ـ ينسب إلى بعضهم أن السد المذكور في القرآن هو حائط الصين ، وهو حائط طويل يحول بين الصين وبين منغوليا بناه « شين هوانك تى » أحد ملوك الصين لصد هجمات المغول عن الصين ، طوله ثلاثة آلاف كيلو متر في عرض تسعة أمتار وارتفاع خمسة عشر مترا وقد بنى بالأحجار شرع في بنائه سنة ٢٦٤ ق م وقد تم بناؤه في عشر أو عشرين وعلى هذا فذو القرنين هو الملك المذكور.

ويدفعه أن الأوصاف والمشخصات المذكورة في القرآن لذي القرنين وسدة لا تنطبق على هذا الملك وحائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنه سار من أرضه إلى المغرب

__________________

(١) وذكر بعضهم أن يأجوج ومأجوج هم الأمم الذين كانوا يشغلون الجزء الشمالي من آسيا تمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المنجمد الشمالي وتنتهي غربا بما يلي بلاد تركستان ونقل ذلك عن فاكهة الخلفاء وتهذيب الأخلاق لابن مسكويه ورسائل إخوان الصفا.

٣٨١

الأقصى ، والسد الذي يذكره القرآن يصفه بأنه ردم بين جبلين وقد استعمل فيه زبر الحديد والقطر وهو النحاس المذاب والحائط الكبير يمتد ثلاثة آلاف كيلو متر يمر في طريقه على السهول والجبال ، وليس بين جبلين وهو مبني بالحجارة لم يستعمل فيه حديد ولا قطر.

ب ـ نسب إلى بعضهم أن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور (١) وقد كان يهجم في حوالي القرن السابع قبل الميلاد أقوام (٢) سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثم غربي إيران وربما بلغوا بلاد آشور وعاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلا وسبيا ونهبا فبنى ملك آشور السد لصدهم ، وكأن المراد به سد باب الأبواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنوشيروان من ملوك الفرس هذا. ولكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه.

ج ـ قال في روح المعاني : ، وقيل : هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية ، وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى ، وفي كتاب صور الأقاليم ، لأبي زيد البلخي : أنه كان مؤيدا بالوحي وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة : إيرج وسلم وتور فأعطى إيرج العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج ، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب ، وأعطى تور الصين والترك والمشرق ، ووضع لكل قانونا يحكم به ، وسميت القوانين الثلاثة « سياسة » وهي معربة « سي أيسا » أي ثلاثة قوانين.

ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا ، خمسمائة سنة ، أو عظم شجاعته وقهره الملوك انتهى.

وفيه أن التاريخ لا يعترف بذلك.

د ـ وقيل : إن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني وهو المشهور في الألسن وسد

__________________

(١) منقول عن ، كتاب « كيهان شناخت » للحسن بن قطان المروزي بن قطان المروزي الطبيب المنجم المتوفى سنة ٥٤٨ ه‍ وذكر فيه أن اسمه « بلينس » وسماه أيضا إسكندر.

(٢) كانت هذه الأقوام يسمون ـ على ما ذكروا ـ عند الغربيين « سيت » ولهم ذكر في بعض النقوش الباقية من زمن « داريوش » ويسمون عند اليونانيين « ميكاك ».

٣٨٢

الإسكندر كالمثل السائر بينهم وقد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الإسناد ، عن موسى بن جعفر عليه‌السلام ورواية عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورواية وهب بن منبه المرويتين في الدر المنثور ،.

وبه قال بعض قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع البيان ، وقتادة على ما رواه في الدر المنثور ، ووصفه الشيخ أبو علي بن سينا عند ما ذكره في كتاب الشفاء ، بذي القرنين ، وأصر على ذلك الإمام الرازي في تفسيره الكبير ،.

قال فيه ما ملخصه : إن القرآن دل على أن ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال ، وذلك تمام المعمورة من الأرض ومثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلدا ، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أن ملكه بلغ هذا المبلغ ليس إلا الإسكندر.

وذلك أنه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى إلى البحر الأخضر ثم إلى مصر ، وبنى الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس ، وذبح في مذبحه. ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ، ودان له العراقيون والقبط والبربر ، واستولى على إيران ، وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ثم رجع إلى العراق ومات في شهرزور أو رومية المدائن وحمل إلى إسكندرية ودفن بها ، وعاش ثلاثا وثلاثين سنة ، ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة.

فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة ، وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر. انتهى.

وفيه أولا : أن الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الإسكندر المقدوني غير مسلم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكا.

وثانيا : أن الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلمه التاريخ للإسكندر أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أن ذا القرنين كان مؤمنا بالله واليوم الآخر وهو دين التوحيد وكان الإسكندر وثنيا من الصابئين كما يحكى أنه ذبح ذبيحته للمشتري ، وذكر

٣٨٣

القرآن أن ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل ورفق والتاريخ يقص للإسكندر خلاف ذلك.

وثالثا : أنه لم يرد في شيء من تواريخهم أن الإسكندر المقدوني بنى سد يأجوج ومأجوج على ما يذكره القرآن.

وقال في البداية ، والنهاية ، في خبر ذي القرنين : وقال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال : إسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة ، وكان من ولد سام بن نوح. فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس ( وساق نسبه إلى عيص بن إسحاق بن إبراهيم ) المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم ، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل.

وكان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره ، وهو الذي قتل دارا بن دارا ، وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.

قال : وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير ، وفساد عريض طويل كثير فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا ، وملكا عادلا ، وكان وزيره الخضر وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا ، وأما الثاني فكان مشركا ، وقد كان وزيره فيلسوفا ، وقد كان بين زمانيهما ، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور انتهى.

وفيه تعريض بالإمام الرازي في مقاله السابق لكنك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه ثم راجعت كتابه فيما ذكره من قصة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطإ أقل مما ارتكبه الإمام الرازي فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين وثلاثمائة سنة ملك الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وجهة الشمال وبنى السد وكان مؤمنا صالحا بل نبيا ووزيره الخضر ودخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء كان اسمه الإسكندر أو غير ذلك.

٣٨٤

هـ ـ ذكر جمع من المؤرخين أن ذا القرنين أحد التبابعة (١) الأذواء اليمنيين من ملوك حمير باليمن كالأصمعي في تاريخ العرب قبل الإسلام ، وابن هشام في السيرة ، والتيجان وأبي ريحان البيروني في الآثار الباقية ، ونشوان بن سعيد الحميري في شمس العلوم ، ـ على ما نقل عنهم ـ وغيرهم.

وقد اختلفوا في اسمه فقيل اسمه مصعب بن عبد الله ، وقيل : صعب بن ذي المرائد وهو أول التبابعة ، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع ، وقيل : تبع الأقرن واسمه حسان ، وذكر الأصمعي أنه أسعد الكامل الرابع من التبابعة بن حسان الأقرن ملكي كرب تبع الثاني ابن الملك تبع الأول ، وقيل : اسمه « شمر يرعش.

وقد ورد ذكر ذي القرنين والافتخار به في عدة من أشعار الحميريين وبعض شعراء الجاهلية ففي البداية ، والنهاية ، : أنشد ابن هشام للأعشى :

والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا

بالجنو في جدث أشم مقيما

وقد مر في البحث الروائي السابق أن عثمان بن أبي الحاضر أنشد لابن عباس قول بعض الحميريين :

قد كان ذو القرنين جدي مسلما

ملكا تدين له الملوك وتحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب أمر من حكيم مرشد

__________________

(١) كانت مملكة اليمن ينقسم إلى أربعة وثمانين مخلافا ، والمخلاف بمنزلة القضاء والمديرية في العرف الحاضر ، وكل مخلاف يشتمل على عدة قلاع يسمى كل قلعة قصرا أو محفدا يسكنه جماعة من الأمة يحكم فيهم كبير لهم ، وكان صاحب القصر الذي يتولى أمره يسمى بذي كذي غمدان وذي معين أي صاحب غمدان وصاحب معين والجمع أذواء وذوين ، والذي يتولى أمر المخلاف يسمى القيل والجمع أقيال ، والذي يتولى أمر مجموع المخاليف يسمى الملك : والملك الذي يضم حضرموت والشحر إلى اليمين ويحكم في الثلاث يسمى تبع أما إذا ملك اليمن فقط فملك وليس بتبع.

وقد عثر على أسماء خمس وخمسين من الأذواء لكن الملوك منهم ثمانية أذواء هم من ملوك حمير وهم من ملوك الدولة الأخيرة من الدول الحاكمة في اليمن قبل ، وقد عد منهم أربعة عشر ملكا ، والذي يتحصل من تاريخ ملوك اليمن من طريق النقل والرواية مبهم جدا لا اعتماد على تفاصيله.

٣٨٥

فرأى مغيب الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب وثأط حرمد

قال المقريزي في الخطط ، : اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار أن ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً » الآيات عربي قد كثر ذكره في أشعار العرب.

وأن اسمه الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه‌السلام.

وأنه ملك من ملوك حمير وهم العرب (١) العاربة ، ويقال لهم أيضا العرب العرباء ، وكان ذو القرنين تبعا متوجا ، ولما ولي الملك تجبر ثم تواضع لله ، واجتمع بالخضر ، وقد غلط من ظن أن الإسكندر بن فيلبس هو ذو القرنين الذي بنى السد فإن لفظة ذو عربية ، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن ، وذاك رومي يوناني.

قال أبو جعفر الطبري : وكان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامة علماء أهل الكتاب الأول ، وقيل : موسى بن عمران عليه‌السلام ، وقيل : إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل عليه‌السلام وإن الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة فشرب من مائه وهو لا يعلم به ذو القرنين ولا من معه فخلد وهو حي عندهم إلى الآن ، وقال آخرون إن ذا القرنين الذي كان على عهد إبراهيم الخليل عليه‌السلام هو أفريدون بن الضحاك وعلى مقدمته كان الخضر.

وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان ، في معرفة ملوك الزمان بعد ما ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه : وكان تبعا متوجا لما ولي الملك تجبر ثم تواضع واجتمع بالخضر ببيت المقدس ، وسار معه مشارق الأرض ومغاربها وأوتي من كل شيء سببا كما أخبر الله تعالى ، وبنى السد على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق.

وأما الإسكندر فإنه يوناني ، ويعرف بالإسكندر المجدوني ( ويقال المقدوني )

__________________

(١) العرب العاربة هم العرب قبل إسماعيل وأما إسماعيل وبنوه فهم العرب المستعربة.

٣٨٦

سئل ابن عباس عن ذي القرنين : ممن كان؟ فقال : من حمير وهو الصعب بن ذي مرائد الذي مكنه الله في الأرض ـ وآتاه من كل شيء سببا فبلغ قرني الشمس ورأس الأرض ـ وبنى السد على يأجوج ومأجوج. قيل له : فالإسكندر؟ قال : كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في إفريقية منارا ، وأخذ أرض رومة ، وأتى بحر العرب ، وأكثر عمل الآثار في العرب من المصانع والمدن.

وسئل كعب الأحبار عن ذي القرنين ـ فقال : الصحيح عندنا من أحبارنا وأسلافنا أنه من حمير ـ وأنه الصعب بن ذي مرائد ، والإسكندر كان رجلا من يونان ـ من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ورجال الإسكندر (١) أدركوا المسيح بن مريم ـ منهم جالينوس وأرسطاطاليس.

وقال الهمداني في كتاب الأنساب ، : وولد كهلان بن سبإ زيدا ، فولد زيد عريبا ومالكا وغالبا وعميكرب ، وقال الهيثم : عميكرب بن سبإ أخو حمير وكهلان فولد عميكرب أبا مالك فدرحا ومهيليل ابني عميكرب ، وولد غالب جنادة بن غالب وقد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبإ ، وولد عريب عمرا ، فولد عمرو زيدا والهميسع ويكنى أبا الصعب وهو ذو القرنين الأول ، وهو المساح والبناء ، وفيه يقول النعمان بن بشير.

فمن ذا يعادونا من الناس معشرا

كراما فذو القرنين منا وحاتم

وفيه يقول الحارثي :

سموا لنا واحدا منكم فنعرفه

في الجاهلية لاسم الملك محتملا

كالتبعين وذي القرنين يقبله

أهل الحجى فأحق القول ما قبلا

وفيه يقول ابن أبي ذئب الخزائي :

ومنا الذي بالخافقين تغربا

وأصعد في كل البلاد وصوبا

فقد نال قرن الشمس شرقا ومغربا

وفي ردم يأجوج بنى ثم نصبا

__________________

(١) وهذا لا يوافق ما قطع به التاريخ أنه ملك ٣٥٦ ـ ٣٢٤ ق م.

٣٨٧

وذلك ذو القرنين تفخر حمير

بعسكر فيل ليس يحصى فيحسبا

قال الهمداني : وعلماء همدان تقول : ذو القرنين الصعب بن مالك بن الحارث الأعلى بن ربيعة بن الحيار بن مالك ، وفي ذي القرنين أقاويل كثيرة. انتهى كلام المقريزي.

وهو كلام جامع ، ويستفاد منه أولا أن لقب ذي القرنين تسمى به أكثر من واحد من ملوك حمير وأن هناك ذا القرنين الأول ( الكبير ) وغيره.

وثانيا : أن ذا القرنين الأول وهو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج قبل الإسكندر المقدوني بقرون كثيرة سواء كان معاصرا للخليل عليه‌السلام أو بعده كما هو مقتضى ما نقله ابن هشام من ملاقاته الخضر ببيت المقدس المبني بعد إبراهيم بعدة قرون في زمن داود وسليمان عليه‌السلام فهو على أي حال قبله مع ما في تاريخ ملوك حمير من الإبهام.

ويبقى الكلام على ما ذكره واختاره من جهتين :

أحدهما : أنه أين موضع هذا السد الذي بناه تبع الحميري؟.

وثانيهما : أنه من هم هذه الأمة المفسدة في الأرض التي بنى السد لصدهم فهل هذا السد أحد الأسداد المبنية في اليمن أو ما والاها كسد مأرب وغيره فهي أسداد مبنية لادخار المياه للشرب والسقي لا للصد على أنها لم يعمل فيها زبر الحديد والقطر كما ذكره الله في كتابه ، أو غيرها؟ وهل كان هناك أمة مفسدة مهاجمة ، وليس فيما يجاورهم إلا أمثال القبط والآشور وكلدان وغيرهم وهم أهل حضارة ومدنية؟.

وذكر بعض أجلة المحققين (١) من معاصرينا في تأييد هذا القول ما محصله : أن ذا القرنين المذكور في القرآن قبل الإسكندر المقدوني بمئات من السنين فليس هو هو بل هو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الأذواء من ملوك اليمن ، وكان من شيمة طائفة منهم التسمي بذي كذي همدان وذي غمدان وذي المنار وذي الإذعار وذي يزن وغيرهم.

وكان مسلما موحدا وعادلا حسن السيرة وقويا ذا هيبة وشوكة سار في جيش كثيف نحو المغرب فاستولى على مصر وما وراءها ثم لم يزل يسير على سواحل البحر

__________________

(١) وهو العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني.

٣٨٨

الأبيض حتى بلغ ساحل المحيط الغربي فوجد الشمس تغيب في عين حمئة أو حامية.

ثم رجع سائرا نحو المشرق وبنى في مسيره « إفريقية (١) » وكان شديد الولع وذا خبرة في البناء والعمارة ، ولم يزل يسير حتى مر بشبه جزيرة وبراري آسيا الوسطى وبلغ تركستان وحائط الصين ووجد هناك قوما لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا.

ثم مال إلى الجانب الشمالي حتى بلغ مدار السرطان ، ولعله الذي شاع في الألسن أنه دخل الظلمات ، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدا يصد عنهم يأجوج ومأجوج لما أن اليمنيين ـ وذو القرنين منهم ـ كانوا معروفين بعمل السد والخبرة فيه فبنى لهم السد.

فإن كان هذا السد هو الحائط الكبير الحائل بين الصين ومنغوليا فقد كان ذلك ترميما منه لمواضع تهدمت من الحائط بمرور الأيام وإلا فأصل الحائط إنما بناه بعض ملوك الصين قبل ذلك ، وإن كان سدا آخر غير الحائط فلا إشكال. ومما بناه ذو القرنين واسمه الأصلي « شمر يرعش » في تلك النواحي مدينة سمرقند (٢) على ما قيل.

وأيد ذلك بأن كون ذي القرنين ملكا عربيا صالحا يسأل عنه الأعراب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويذكره القرآن الكريم للتذكر والاعتبار أقرب للقبول من أن يذكر قصة بعض ملوك الروم أو العجم أو الصين ، وهم من الأمم البعيدة التي لم يكن للأعراب هوى في أن يسمعوا أخبارهم أو يعتبروا بآثارهم ، ولذا لم يتعرض القرآن لشيء من أخبارهم. انتهى ملخصا.

والذي يبقى عليه أن كون حائط الصين هو سد ذي القرنين لا سبيل إليه فإن ذا القرنين قبل الإسكندر بعدة قرون على ما ذكره وقد بنى حائط الصين بعد الإسكندر بما يقرب من نصف قرن وأما غير الحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربي من الصين بعض أسداد أخر لكنها مبنية من الحجارة على ما يذكر لا أثر فيها من زبر الحديد والقطر.

__________________

(١) بناها التبع أقريقس الملك ويقال إنه ذو القرنين ، وقيل إنه أبو ذي القرنين أو أخوه وبه سميت القارة إفريقيا.

(٢) يقال إنه مر بناحية تركستان فخرب « سند » وبنى « سمرقند » فقيل « شمركند » أي شمر قلع وخرب سند فبقي شمر اسما له كند ثم عربت الكلمة فصارت سمرقند.

٣٨٩

وقال في تفسير الجواهر بعد ذكر مقدمة ملخصها أن المعروف من دول اليمن بمعونة من النقوش المكشوفة في خرائب اليمن ثلاث دول :.

دولة معين وعاصمتها قرناء وقد قدر العلماء أن آثار دولة معين تبتدئ من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى القرن السابع أو الثامن قبله ، وقد عثروا على بعض ملوك هذه الدولة وهم ستة وعشرون ملكا مثل « أب يدع » و « أب يدع ينيع » أي المنقد.

ودولة سبإ وهم من القحطانيين كانوا أولا أذواء فأقيالا ، والذي نبغ منهم « سبأ » صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء فاستولى على الجميع ، ويبتدئ ملكهم من ٨٥٠ ق م إلى ١١٥ ق م والمعروف من ملوكهم سبعة وعشرون ملكا خمسة عشر منهم يسمى مكربا كالمكرب « يثعمر » والمكرب « ذمر على » ، واثنا عشرة منهم يسمى ملكا فقط كالملك « ذرح » والملك « يريم أيمن ».

ودولة الحميريين وهم طبقتان الأولى ملوك سبإ وريدان من سنة ١١٥ ق م إلى سنة ٢٧٥ ق م وهؤلاء ملوك فقط ، والطبقة الثانية ملوك سبإ وريدان وحضرموت وغيرها ، وهؤلاء أربعة عشر ملكا أكثرهم تبابعة أولهم « شمر يرعش » وثانيهم « ذو القرنين » وثالثهم « عمرو » زوج بلقيس (١) وينتهي إلى ذي جدن ويبتدئ ملكهم من سنة ٢٧٥ م إلى سنة ٥٢٥.

ثم قال : فقد ظهرت صلة الاتصاف بلقب « ذي » بملوك اليمن ولا نجد في غيرهم كملوك الروم مثلا من يلقب بذي ، فذو القرنين من ملوك اليمن ، وقد تقدم من ملوكهم من يسمى بذي القرنين ، ولكن هل هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن؟.

نحن نقول : كلا لأن هذا مذكور في ملوك قريبي العهد منا جدا ، ولم ينقل ذلك عنهم اللهم إلا في روايات ذكرها القصاصون في التاريخ مثل أن « شمر يرعش » وصل إلى بلاد العراق وفارس وخراسان والصغد ، وبنى مدينة سمرقند وأصله شمركند ، وأن

__________________

(١) بلقيس هذه غير ملكة سبإ التي يقال إن سليمان بن داود ع تزوج بها بعد ما أحضرها من سبإ وهو سابق على الميلاد بما يقرب من ألف سنة.

٣٩٠

أسعد أبو كرب غزا أذربيجان ، وبعث حسانا ابنه إلى الصغد ، وابنه يعفر إلى الروم ، وابن أخيه إلى الفرس ، وأن من الحميريين من بقوا في الصين لهذا العهد بعد غزو ذلك الملك لها.

وكذب ابن خالدون وغيره هذه الأخبار ، ووسموها بأنها مبالغ فيها ، ونقضوها بأدلة جغرافية وأخرى تاريخية.

إذن يكون ذو القرنين من أمة العرب ولكنه في تاريخ قديم قبل التاريخ المعروف. انتهى ملخصا.

ووقيل : إن ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين ( ٥٣٩ ـ ٥٦٠ ق م ) وهو الذي أسس الإمبراطورية الإيرانية ، وجمع بين مملكتي الفارس وماد ، وسخر بابل وأذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم وساعد في بناء الهيكل وسخر مصر ثم اجتاز إلى يونان فغلبهم وبلغ المغرب ثم سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق.

ذكره بعض من قارب (١) عصرنا ثم بذل الجهد في إيضاحه وتقريبه بعض محققي (٢) الهند في هذه الأواخر بيان ذلك إجمالا أن الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمنا بالله بدين التوحيد عادلا في رعيته سائرا بالرأفة والرفق والإحسان سائسا لأهل الظلم والعدوان ، وقد آتاه الله من كل شيء سببا فجمع بين الدين والعقل وفضائل الأخلاق والعدة والقوة والثروة والشوكة ومطاوعة الأسباب.

وقد سار كما ذكره الله في كتابه مرة نحو المغرب حتى استولى على ليديا وحواليها ثم سار ثانيا نحو المشرق حتى بلغ مطلع الشمس ووجد عنده قوما بدويين همجيين يسكنون في البراري ثم بنى السد وهو على ما يدل عليه الشواهد السد المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب « مدينة تفليس » هذا إجمال الكلام ودونك التفصيل.

إيمانه بالله واليوم الآخر : يدل على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا ،

__________________

(١) سر أحمد خان الهندي.

(٢) الباحث المحقق مولانا أبو الكلام آزاد.

٣٩١

( الإصحاح ١ ) وكتاب دانيال ، ( الإصحاح ٦ ) وكتاب أشعيا ، ( الإصحاح ٤٤ و ٤٥ ) من تجليله وتقديسه حتى سماه في كتاب الأشعياء « راعي الرب » وقال في الإصحاح الخامس والأربعين : « هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما وأحقاء ملوك أحل لأفتح أمامه المصراعين والأبواب لا تغلق. أنا أسير قدامك والهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف. وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابي. لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك. لقبتك وأنت لست تعرفني ».

ولو قطع النظر عن كونه وحيا فاليهود على ما بهم من العصبية المذهبية لا يعدون رجلا مشركا مجوسيا أو وثنيا ـ لو كان كورش كذلك ـ مسيحا إلهيا مهديا مؤيدا وراعيا للرب.

على أن النقوش والكتابات المخطوطة بالخط المسماري المأثور عن داريوش الكبير وبينهما من الفصل الزماني ثماني سنين ناطقة بكونه موحدا غير مشرك ، وليس من المعقول أن يتغير ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير.

وأما فضائله النفسانية فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره وسيرته وما قابل به الطغاة والجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك « ماد » و « ليديا » و « بابل » و « مصر » وطغاة البدو في أطراف « بكتريا » وهو البلخ وغيرهم ، وكان كلما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم ، وأكرم كريمهم ورحم ضعيفهم وساس مفسدهم وخائنهم.

وقد أثنى عليه كتب العهد القديم ، واليهود يحترمه أعظم الاحترام لما نجاهم من إسارة بابل وأرجعهم إلى بلادهم وبذل لهم الأموال لتجديد بناء الهيكل ورد إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل ، وهذا في نفسه مؤيد آخر لكون ذي القرنين هو كورش فإن السؤال عن ذي القرنين إنما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات.

وقد ذكره مؤرخو يونان القدماء كهرودت وغيره فلم يسعهم إلا أن يصفوه

٣٩٢

بالمروة والفتوة والسماحة والكرم والصفح وقلة الحرص والرحمة والرأفة ويثنوا عليه بأحسن الثناء.

وأما تسميته بذي القرنين فالتواريخ وإن كانت خالية عما يدل على شيء في ذلك لكن اكتشاف تمثاله الحجري أخيرا في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في اتصافه بذي القرنين فإنه مثل فيه ذا قرنين نابتين من أم رأسه من منبت واحد أحد القرنين مائل إلى قدام والآخر آخذ جهة الخلف. وهذا قريب من قول من قال من القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان.

وقد ورد في كتاب دانيال ، ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين قال فيه (١) :

« في السنة الثالثة من ملك « بيلشاصر » الملك ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الابتداء. فرأيت في الرؤيا وكأن في رؤياي وأنا في « شوشن » القصر الذي في ولاية عيلام. ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر « أولاي » فرفعت عيني وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد أعلى من الآخر والأعلى طالع أخيرا. رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه ولا منفذ من يده وفعل كمرضاته وعظم.

وبينما كنت متأملا إذا بتيس من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض ولم يمس الأرض وللتيس قرن معتبر بين عينيه. وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفا عند النهر وركض إليه بشدة قوته ورأيته قد وصل جانب الكبش فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه وطرحه على الأرض وداسه ولم يكن للكبش منفذ من يده. فتعظم تيس المعز جدا ».

ثم ذكر بعد تمام الرؤيا أن جبرئيل تراءى له وعبر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين على كورش ، وقرناه مملكتا الفارس وماد ، والتيس ذو القرن الواحد على

__________________

(١) كتاب دانيال الإصحاح الثامن ١ ـ ٩.

٣٩٣

الإسكندر المقدوني.

وأما سيره نحو المغرب والمشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية « ليديا » وقد سار بجيوشه نحو كورش ظلما وطغيانا من غير أي عذر يجوز له ذلك فسار إليه وحاربه وهزمه ثم عقبه حتى حاصره في عاصمة ملكه ثم فتحها وأسره ثم عفا عنه وعن سائر أعضاده وأكرمه وإياهم وأحسن إليهم وكان له أن يسوسهم ويبيدهم وانطباق القصة على قوله تعالى : « حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ـ ولعلها الساحل الغربي من آسيا الصغرى ـ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً » وذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم وظلمهم وفسادهم.

ثم إنه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لإخماد غائلة قبائل بدوية همجية انتهضوا هناك للمهاجمة والفساد وانطباق قوله تعالى : « حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً » عليه ظاهر.

وأما بناؤه السد : فالسد الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلى البحر الأسود ، ويسمى المضيق « داريال » (١) وهو واقع بلدة « تفليس » وبين « ولادي كيوكز ».

وهذا السد واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدان من جانبيه وهو وحدة الفتحة الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبي والشمالي والجبال مع ما ينضم إليها من بحر الخزر والبحر الأسود حاجز طبيعي في طول ألوف من الكيلومترات يحجز جنوب آسيا من شمالها.

وكان يهجم في تلك الأعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقي من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثم إيران حتى الآشور وكلدة ، وهجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمموا البلاد قتلا وسبيا ونهبا حتى بلغوا نينوى عاصمة الآشور وكان ذلك في القرن السابق على عهد

__________________

(١) ولعله محرف « داريول » بمعنى المضيق بالتركية ، ويسمى السد باللغة المحلية « دمير قابو » ومعناه باب الحديد.

٣٩٤

كورش تقريبا.

وقد ذكر المؤرخون من القدماء كهرودوت اليوناني سير كورش إلى شمال إيران لإخماد نوائر فتن اشتعلت هناك ، والظاهر أنه بنى السد في مضيق داريال في مسيره هذا لاستدعاء من أهل الشمال وتظلم منهم ، وقد بناه بالحجارة والحديد وهو الردم الوحيد الذي استعمل فيه الحديد ، وهو بين سدين جبلين ، وانطباق قوله تعالى : « فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ » الآيات عليه ظاهر.

ومما أيد به هذا المدعى وجود نهر بالقرب منه يسمى « سايروس » وهو اسم كورش عند الغربيين ، ونهر آخر يمر بتفليس يسمى « كر » وقد ذكر هذا السد « يوسف » اليهودي المؤرخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز وليس هو الحائط الموجود في باب الأبواب على ساحل بحر الخزر فإن التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنوشيروان وكان يوسف قبله (١).

على أن سد باب الأبواب غير سد ذي القرنين المذكور في القرآن قطعا إذ لم يستعمل فيه حديد قط.

وأما يأجوج ومأجوج فالبحث عن التطورات الحاكمة على اللغات يهدينا إلى أنهم المغول فإن الكلمة بالتكلم الصيني « منكوك » أو « منجوك » ولفظتا يأجوج ومأجوج كأنهما نقل عبراني وهما في التراجم اليونانية وغيرها للعهد العتيق « كوك » و « مأكوك » والشبه الكامل بين « مأكوك » و « منكوك » يقضي بأن الكلمة متطورة من التلفظ الصيني « منكوك » كما اشتق منه « منغول » و « مغول » ولذلك في باب تطورات الألفاظ نظائر لا تحصى.

فيأجوج ومأجوج هما المغول وكانت هذه الأمة القاطنة بالشمال الشرقي من آسيا من أقدم الأعصار أمة كبيرة مهاجمة تهجم برهة إلى الصين وبرهة من طريق داريال قفقاز إلى أرمينستان وشمال إيران وغيرها وبرهة وهي بعد بناء السد إلى شمال أوربة وتسمى

__________________

(١) فهو على ما يقال كان يعيش في القرن الأول الميلادي.

٣٩٥

عندهم بسيت ومنهم الأمة الهاجمة على الروم وقد سقطت في هذه الكرة دولة رومان ، وقد تقدم أيضا أن المستفاد من كتب العهد العتيق أن هذه الأمة المفسدة من سكنة أقاصي الشمال.

هذه جملة ما لخصناه من كلامه ، وهو وإن لم يخل عن اعتراض ما في بعض أطرافه لكنه أوضح انطباقا على الآيات وأقرب إلى القبول من غيره.

ز ـ ومما قيل في ذي القرنين ما سمعته عن بعض مشايخي أنه من أهل بعض الأدوار السابقة على هذه الدورة الإنسانية وهو غريب ولعله لتصحيح ما ورد في الأخبار من عجائب حالات ذي القرنين وغرائب ما وقع منه من الوقائع كموته وحياته مرة بعد مرة ورفعه إلى السماء ونزوله إلى الأرض وقد سخر له السحاب يسير به إلى المغرب والمشرق ، وتسخير النور والظلمة والرعد والبرق له ، ومن المعلوم أن تاريخ هذه الدورة لا يحفظ شيئا من ذلك فلا بد أن يكون ذلك في بعض الأدوار السابقة هذا ، وقد بالغ في حسن الظن بتلك الأخبار.

٤ ـ أمعن أهل التفسير والمؤرخون في البحث حول القصة ، وأشبعوا الكلام في أطرافها ، وأكثرهم على أن يأجوج ومأجوج أمة كبيرة في شمال آسيا ، وقد طبق جمع منهم ما أخبر به القرآن من خروجهم في آخر الزمان وإفسادهم في الأرض على هجوم التتر في النصف الأول من القرن السابع الهجري على غربي آسيا ، وإفراطهم في إهلاك الحرث والنسل بهدم البلاد وإبادة النفوس ونهب الأموال وفجائع لم يسبقهم إليها سابق.

وقد أخضعوا أولا الصين ثم زحفوا إلى تركستان وإيران والعراق والشام وقفقاز إلى آسيا الصغرى ، وأفنوا كل ما قاومهم من المدن والبلاد والحصون كسمرقند وبخارا وخوارزم ومرو ونيسابور والري وغيرها ؛ فكانت المدينة من المدن تصبح وفيها مات الألوف من النفوس ، وتمسي ولم يبق من عامة أهلها نافخ نار ، ولا من هامة أبنيتها حجر على حجر.

ثم رجعوا إلى بلادهم ثم عادوا وحملوا على الروس ودمروا أهل بولونيا وبلاد المجر

٣٩٦

وحملوا على الروم وألجئوهم على الجزية كل ذلك في فجائع يطول شرحها.

لكنهم أهملوا البحث عن أمر السد من جهة خروجهم منه وحل مشكلته فإن قوله تعالى : « فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ » الآيات ظاهره على ما فسروه أن هذه الأمة المفسدة محبوسون فيما وراءه لا مخرج لهم إلى سائر الأرض ما دام معمورا قائما على ساقه حتى إذا جاء وعد الله سبحانه جعله دكاء مثلما أو منهدما فخرجوا منه إلى الناس وساروا بالفساد والشر.

فكان عليهم ـ على هذا أن يقرروا للسد وصفه هذا فإن كانت هذه الأمة المذكورة هي التتر وقد ساروا من شمال الصين إلى إيران والعراق والشام وقفقاز إلى آسيا الصغرى فأين كان هذا السد الموصوف في القرآن الذي وطئوه ثم طلعوا منه إلى هذه البلاد وجعلوا عاليها سافلها؟.

وإن لم تكن هي التتر أو غيرها من الأمم المهاجمة في طول التاريخ فأين هذا السد المشيد بالحديد ومن صفته أنه يحبس أمة كبيرة منذ ألوف من السنين من أن تهجم على سائر أقطار الأرض ولا مخرج لهم إلى سائر الدنيا دون السد المضروب دونهم وقد ارتبطت اليوم بقاع الأرض بعضها ببعض بالخطوط البرية والبحرية والهوائية وليس يحجز حاجز طبيعي كجبل أو بحر أو صناعي كسد أو سور أو خندق أمة من أمة فأي معنى لانصداد قوم عن الدنيا بسد بين جبلين بأي وصف وصف وعلى أي نحو فرض؟.

والذي أرى في دفع هذا الإشكال ـ والله أعلم ـ أن قوله : « دَكَّاءَ » من الدك بمعنى الذلة ، قال في لسان العرب : وجبل دك : ذليل. انتهى. والمراد بجعل السد دكاء جعله ذليلا لا يعبأ بأمره ولا ينتفع به من جهة اتساع طرق الارتباط وتنوع وسائل الحركة والانتقال برا وبحرا وجوا.

فحقيقة هذا الوعد هو الوعد برقي المجتمع البشري في مدنيته ، واقتراب شتى أممه إلى حيث لا يسده سد ولا يحوطه حائط عن الانتقال من أي صقع من أصقاع الأرض إلى غيره ولا يمنعه من الهجوم والزحف إلى أي قوم شاءوا.

ويؤيد هذا المعنى سياق قوله تعالى في موضع آخر يذكر فيه هجوم يأجوج ومأجوج

٣٩٧

« حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ » حيث عبر بفتح يأجوج ومأجوج ولم يذكر السد.

وللدك معنى آخر وهو الدفن بالتراب ففي الصحاح : ، دككت الركي ـ وهو البئر ـ دفنته بالتراب انتهى ، ومعنى آخر وهو صيرورة الجبل رابية من طين ، قال في الصحاح ، وتدكدكت الجبال أي صارت روابي من طين واحدتها دكاء انتهى. فمن الممكن أن يحتمل أن السد من جملة أبنية العهود القديمة التي ذهبت مدفونة تحت التراب عن رياح عاصفة أو غريقة بانتقال البحار أو اتساع بعضها على ما تثبتها الأبحاث الجيولوجية ، وبذلك يندفع الإشكال لكن الوجه السابق أوجه والله أعلم.

* * *

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)

( بيان )

الآيات الست في منزلة الاستنتاج مما تقدم من آيات السورة الشارحة لافتنان المشركين بزينة الحياة الدنيا واطمئنانهم بأولياء من دون الله وابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الأبصار ووقر الأذان وما يتعقب ذلك من سوء العاقبة ، وتمهيد لما سيأتي من قوله

٣٩٨

في آخر السورة : « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ » الآية.

قوله تعالى : « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً » ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين وهو مسوق سوق الكناية وهم المعنيون بالتوصيف وسيقترب من التصريح في قوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ » فالمنكرون للنبوة والمعاد هم المشركون.

قيل : ولم يقل : بالأخسرين عملا ، مع أن الأصل في التمييز أن يأتي مفردا والمصدر شامل للقليل والكثير للإيذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها.

قوله تعالى : « الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » إنباء بالأخسرين أعمالا وهم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم ويعرفهم إياهم فعرفهم بأنهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وضلال السعي خسران ثم عقبه بقوله : « وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » وبذلك تم كونهم أخسرين.

بيان ذلك : أن الخسران والخسار في المكاسب والمساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنما يتحقق إذا لم يصب الكسب والسعي غرضه وانتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعي وهو المعبر عنه في الآية بضلال السعي كأنه ضل الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه. والإنسان ربما يخسر في كسبه وسعيه لعدم تدرب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل أخر اتفاقية وهي خسران يرجى زواله فإن من المرجو أن يتنبه به صاحبه ثم يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه ويقضي ما فات ، وربما يخسر وهو يذعن بأنه يربح ، ويتضرر وهو يعتقد أن ينتفع لا يرى غير ذلك وهو أشد الخسران لا رجاء لزواله.

ثم الإنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلا السعي لسعادته ولا هم له فيما وراء ذلك فإن ركب طريق الحق وأصاب الغرض وهو حق السعادة فهو ، وإن أخطأ الطريق وهو لا يعلم بخطإه فهو خاسر سعيا لكنه مرجو النجاة ، وإن أخطأ الطريق وأصاب غير الحق وسكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحق ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض وزينت له ما هو فيه من الاستكبار وعصبية الجاهلية فهو أخسر عملا وأخيب سعيا لأنه خسران لا يرجى زواله ولا مطمع في أن يتبدل يوما سعادة ، وهو قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالا : « الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ».

٣٩٩

وحسبانهم عملهم حسنا مع ظهور الحق وتبين بطلان أعمالهم لهم إنما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا وزخارفها وانغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتباع الحق والإصغاء إلى داعي الحق ومنادي الفطرة قال تعالى : « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » النمل : ١٤ وقال : « وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ » البقرة : ٢٠٦ فاتباعهم هوى أنفسهم ومضيهم على ما هم عليه من الإعراض عن الحق عنادا واستكبارا والانغمار في شهوات النفس ليس إلا رضى منهم بما هم عليه واستحسانا منهم لصنعهم.

قوله تعالى : « أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ » تعريف ثان وتفسير بعد تفسير للأخسرين أعمالا ، والمراد بالآيات ـ على ما يقتضيه إطلاق الكلمة ـ آياته تعالى في الآفاق والأنفس وما يأتي به الأنبياء والرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم فالكفر بالآيات كفر بالنبوة ، على أن النبي نفسه من الآيات ، والمراد بلقاء الله الرجوع إليه وهو المعاد.

فآل تعريف الأخسرين أعمالا إلى أنهم المنكرون للنبوة والمعاد وهذا من خواص الوثنيين.

قوله تعالى : « فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً » وجه حبط أعمالهم أنهم لا يعملون عملا لوجه الله ولا يريدون ثواب الدار الآخرة وسعادة حياتها ولا أن الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب وقد مر كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

وقوله : « فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً » تفريع على حبط أعمالهم والوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدل عليه قوله تعالى : « وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ » الأعراف : ٩ ، وإذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.

قوله تعالى : « ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً » الإشارة إلى ما أورده من وصفهم واسم الإشارة خبر لمبتدإ محذوف والتقدير : الأمر ذلك أي حالهم ما وصفناه وهو تأكيد وقوله : « جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ » كلام مستأنف ينبئ عن

٤٠٠