الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

والتقدير « وما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان فهو لم ينس نفس الحوت وإنما نسي أن يذكر حاله التي شاهد منه لموسى.

ولا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنه كان يوشع بن نون النبي والأنبياء في عصمة إلهية من الشيطان لأنهم معصومون مما يرجع إلى المعصية وأما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه قال تعالى : « وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ » ـ ص : ٤١.

وقوله : « وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً » أي اتخاذا عجبا فعجبا وصف قام مقام موصوفه على المفعولية المطلقة ، وقيل : إن قوله : « وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ » قول الفتى وقوله : « عَجَباً » من قول موسى ، والسياق يدفعه.

واعلم أن ما تقدم من الاحتمال في قوله : « نَسِيا حُوتَهُما » إلخ جار هاهنا والله أعلم.

قوله تعالى : « قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً » البغي الطلب ، والارتداد العود على بدء ، والمراد بالآثار آثار أقدامهما ، والقصص اتباع الأثر والمعنى قال موسى : ذلك الذي وقع من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه فرجعا على آثارهما يقصانها قصصا ويتبعانها اتباعا.

وقوله : « ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا » يكشف عن أن موسى كان مأمورا من طريق الوحي أن يلقى العالم في مجمع البحرين وكان علامة المحل الذي يجده ويلقاه فيه ما وقع من أمر الحوت إما خصوص قضية حياته وذهابه في البحر أو بنحو الإبهام والعموم كفقد الحوت أو حياته أو عود الميت حيا ونحو ذلك ، ولذلك لما سمع موسى من فتاه ما سمع من أمر الحوت قال ما قال ، ورجعا إلى المكان الذي فارقاه فوجدا عبدا « إلخ ».

قوله تعالى : « فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا » إلخ. كل نعمة فإنها رحمة منه تعالى لخلقه لكن منها ما تتوسط فيه الأسباب الكونية وتعمل فيه كالنعم الظاهرية بأنواعها ، ومنها ما لا يتوسط فيه شيء منها كالنعم الباطنية من النبوة والولاية بشعبها ومقاماتها ، وتقييد الرحمة بقوله : « مِنْ عِنْدِنا » الظاهر في أنها من موهبته لا صنع لغيره فيها يعطي أنها من القسم الثاني أعني النعم الباطنية ثم اختصاص الولاية بحقيقتها به تعالى كما قال : « فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ » الشورى : ٩ ، وكون النبوة مما للملائكة

٣٤١

الكرام فيه عمل كالوحي ونحوه يؤيد أن يكون المراد بقوله : « رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا » حيث جيء بنون العظمة ولم يقل : من عندي هو النبوة دون الولاية ، وبهذا يتأيد تفسير من فسر الكلمة بالنبوة والله أعلم.

وأما قوله : « وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً » فهو أيضا كالرحمة التي من عنده علم لا صنع فيه للأسباب العادية كالحس والفكر حتى يحصل من طريق الاكتساب والدليل على ذلك قوله : « من لدنا » فهو علم وهبي غير اكتسابي يختص به أولياءه وآخر الآيات يدل على أنه كان علما بتأويل الحوادث.

قوله تعالى : « قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً » الرشد خلاف الغي وهو إصابة الصواب ، وهو في الآية مفعول له أو مفعول به ، والمعنى قال له موسى هل أتبعك اتباعا مبنيا على هذا الأساس وهو أن تعلمني مما علمت لأرشد به أو تعلمني مما علمت أمرا ذا رشد.

قوله تعالى : « قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً » نفي مؤكد لصبره عليه‌السلام على شيء مما يشاهده منه في طريق التعليم والدليل عليه تأكيد الكلام بأن ، وإيراد الصبر نكرة في سياق النفي الدال على إرادة العموم ، ونفي الصبر بنفي الاستطاعة التي هي القدرة فهو آكد من أن يقال : لن تصبر ، وإيراد النفي بلن ولم يقل : لا تصبر وللفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي أحد أسبابه ثم نفي الصبر بنفي سبب القدرة عليه وهو إحاطة الخبر والعلم بحقيقة الواقعة وتأويلها حتى يعلم أنها يجب أن تجري على ما جرت عليه.

وقد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث حيث قال : « لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ » ولم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل : لن تصبر على ما أعلمه ولن تتحمله ولم يتغير عليه موسى عليه‌السلام حينما أخبره بتأويل ما رأى منه وإنما تغير عليه عند مشاهدة نفس أفعاله التي أراه إياها في طريق التعليم ، فللعلم حكم ولمظاهره حكم ونظير ذلك أن موسى عليه‌السلام لما رجع من الميقات إلى قومه وشاهد أنهم عبدوا العجل من بعده امتلأ غيظا وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد كان الله أخبره بذلك وهو في الميقات فلم يأت بشيء من ذلك وقول الله أصدق من الحس والقصة في سورة الأعراف.

٣٤٢

فقوله : « إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ » إلخ إخبار بأنه لا يطيق الطريق الذي يتخذه في تعليمه أن اتبعه لا أنه لا يتحمل العلم.

قوله تعالى : « وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً » الخبر العلم وهو تمييز والمعنى لا يحيط به خبرك.

قوله تعالى : « قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً » وعده الصبر لكن قيده بالمشية فلم يكذب إذ لم يصبر ، وقوله : « وَلا أَعْصِي » إلخ عطف على « صابِراً » لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضا مقيد بالمشية ولم يخلف الوعد إذ لم ينتهي بنهيه عن السؤال.

قوله تعالى : « قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً » الظاهر أن « مِنْهُ » متعلق بقوله : « ذِكْراً » وإحداث الذكر من الشيء الابتداء به من غير سابقة والمعنى فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء تشاهده من أمري تشق عليك مشاهدته حتى أبتدئ أنا بذكر منه ، وفيه إشارة إلى أنه سيشاهد منه أمورا تشق عليه مشاهدتها وهو سيبينها له لكن لا ينبغي لموسى أن يبتدئه بالسؤال والاستخبار بل ينبغي أن يصبر حتى يبتدئه هو بالإخبار.

وقد أتى موسى عليه‌السلام من الخلق والأدب البارع الحري بالمتعلم المستفيد قبال الخضر ـ على ما تحكيه هذه الآيات ـ بأمر عجيب وهو كليم الله موسى بن عمران الرسول النبي أحد أولي العزم صاحب التوراة.

فكلامه موضوع على التواضع من أوله إلى آخره ، وقد تأدب معه أولا فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الأمر بل في صورة الاستفهام هضما لنفسه ، وسمي مصاحبته اتباعا منه له ، ثم لم يورد التعليم في صورة الاشتراط بل قال : على أن تعلمن إلخ ، ثم عد نفسه متعلما ، ثم أعظم قدر علمه إذ جعله منتسبا إلى مبدإ غير معلوم لم يعينه باسم أو نعت فقال : « عُلِّمْتَ » ولم يقل : تعلم ، ثم مدحه بقوله : « رُشْداً » ثم جعل ما يتعلمه بعض علمه فقال : « مِمَّا عُلِّمْتَ » ولم يقل : ما علمت ثم رفع قدره إذ جعل ما يشير عليه به أمرا يأمره وعد نفسه لو خالفه فيما يأمر عاصيا ثم لم يسترسل معه بالتصريح بالوعد بل كنى عنه بمثل قوله : « سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ».

٣٤٣

وقد تأدب الخضر معه إذ لم يصرح بالرد أولا بل أشار إليه بنفي استطاعته على الصبر ثم لما وعده موسى بالصبر إن شاء الله لم يأمره بالاتباع بل خلى بينه وبين ما يريد فقال : « فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي » ثم لم ينهه عن السؤال نهيا مطلقا في صورة المولوية المحضة بل علقه على اتباعه فقال : « فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي » حتى يفيد أنه لا يقترح عليه بالنهي بل هو أمر يقتضيه الاتباع.

قوله تعالى : « فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً » الإمر بكسر الهمزة الداهية العظيمة ، وقوله : « فَانْطَلَقا » تفريع على ما تقدمه ، والمنطلقان هما موسى والخضر وهو ظاهر في أن موسى لم يصحب فتاه في سيره مع الخضر ، واللام في قوله : « لِتُغْرِقَ أَهْلَها » للغاية فإن الغرق وإن كان عاقبة للخرق ولم يقصده الخضر البتة لكن العاقبة الضرورية ربما تؤخذ غاية مقصودة ادعاه لوضوحها كما يقال : أتفعل كذا لتهلك نفسك؟ والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : « قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً » إنكار لسؤال موسى وتذكير لما قاله من قبل : « إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ » إلخ.

قوله تعالى : « قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً » الرهق الغثيان بالقهر والإرهاق التكليف ، والمعنى لا تؤاخذني بنسياني الوعد وغفلتي عنه ولا تكلفني عسرا من أمري ، وربما يفسر النسيان بمعنى الترك ، والأول أظهر والكلام اعتذار على أي حال.

قوله تعالى : « فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً » في الكلام بعض الحذف للإيجاز والتقدير : فخرجا من السفينة وانطلقا.

وفي قوله : « حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ » إلخ « فَقَتَلَهُ » معطوف على الشرط بفاء التفريع و « قالَ » جزاء « إِذا » على ما هو ظاهر الكلام : وبذلك يظهر أن العمدة في الكلام ذكر اعتراض موسى لا ذكر القتل ، ونظيرته الآية اللاحقة « فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ ـ إلى قوله ـ قالَ لَوْ شِئْتَ » إلخ بخلاف الآية السابقة :

٣٤٤

« فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ » فإن جزاء « إِذا » فيها « خَرَقَها » وقوله : « قالَ » كلام مفصول مستأنف.

وعلى هذا فالآيات مسرودة في صورة قصة واحدة اعترض فيها موسى على الخضر عليه‌السلام ثلاث مرات واحدة بعد أخرى لا في صورة ثلاث قصص اعترض فيها ثلاث اعتراضات كأنه قيل : وقع كذا وكذا فاعترض عليه ثم اعترض ثم اعترض فالقصة قصة اعتراضاته فهي واحدة لا قصة أعمال هذا واعتراضات ذاك حتى تكون ثلاثا.

ومن هنا يتبين وجه الفرق بين الآيات الثلاث حيث جعل « خَرَقَها » جواب إذا في الآية الأولى ، ولم يجعل « فَقَتَلَهُ » و « فَوَجَدا » أو « فَأَقامَهُ » جوابا في الثانية والثالثة بل جزءا من الشرط معطوفا عليه فافهم ذلك.

وقوله : « أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً » الزكية الطاهرة ، والمراد طهارتها من الذنوب لعدم البلوغ كما يشعر به قوله : « غُلاماً » والاستفهام للإنكار ، والقائل موسى.

وقوله : « بِغَيْرِ نَفْسٍ » أي بغير قتل منها لنفس قتلا مجوزا لقتلها قصاصا وقودا فإن غير البالغ لا يتحقق منه القتل الموجب للقصاص ، وربما استفيد من قوله : « بِغَيْرِ نَفْسٍ » أنه كان شابا بالغا ، ولا دلالة في إطلاق الغلام عليه على عدم بلوغه لأن الغلام يطلق على البالغ وغيره فالمعنى أقتلت بغير قصاص نفسا بريئة من الذنوب المستوجبة للقتل؟ إذ لم يظهر لهما من الغلام شيء يستوجبه.

وقوله : « لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً » أي منكرا يستنكره الطبع ولا يعرفه المجتمع وقد عد خرق السفينة إمرا أي داهية يستعقب مصائب لم يقع شيء منها بعد وقتل النفس نكرا أو منكرا وهو أفظع وأفجع عند الناس من الخرق الذي يستوجب عادة هلاك النفوس لكن لا بالمباشرة فعلا.

قوله تعالى : « قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً » معناه ظاهر وزيادة « لَكَ » نوع تقريع له أنه لم يصغ إلى وصيته وإيماء إلى كونه كأنه لم يسمع قوله له أول مرة : « إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً » أو سمعه وحسب أنه لا يعنيه بل يقصد به غيره كأنه يقول : إنما عنيت بقولي : إنك لن تستطيع « إلخ » إياك دون غيرك.

٣٤٥

قوله تعالى : « قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً » الضمير في « بَعْدَها » راجع إلى هذه المرة أو المسألة أي إن سألتك بعد هذه المرة أو هذه المسألة فلا تصاحبني أي يجوز لك أن لا تصاحبني.

وقوله : « قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً » أي بلغت عذرا ووجدته كائنا ذلك من لدني إذ بلغ عذرك النهاية من عندي.

قوله تعالى : « فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها » إلى آخر الآية الكلام في قوله : « فَانْطَلَقا » « فَأَبَوْا » « فَوَجَدا » « فَأَقامَهُ » كالكلام في قوله في الآية السابقة : « فَانْطَلَقا » « فَقَتَلَهُ ».

وقوله : « اسْتَطْعَما أَهْلَها » صفة لقرية ولم يقل : « استطعماهم » لرداءة قولنا : قرية استطعماهم بخلاف مثل قولنا : أتى قرية على إرادة أتى أهل قرية لأن للقرية نصيبا من الإتيان فيجوز وضعها موضع أهلها مجازا بخلاف الاستطعام لأنه لأهلها خاصة ، وعلى هذا فليس قوله : « أَهْلَها » من وضع الظاهر موضع المضمر.

ولم يقل : حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها لأن القرية كانت تتمحض حينئذ في معناها الحقيقي والغرض العمدة ـ كما عرفت ـ متعلق بالجزاء أعني قوله : « قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً » وفيه ذكر أخذ الأجر وهو إنما يكون من أهلها لا منها فقوله : « أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ » دليل على أن إقامة الجدار كانت بحضور من أهل القرية وهو الذي أغنى أن يقال : لو شئت لاتخذت عليه منهم أو من أهلها أجرا فافهم ذلك.

والمراد بالاستطعام طلب الطعام بالإضافة ولذا قال : « فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما » وقوله « فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ » الانقضاض السقوط ، وإرادة الانقضاض مجاز عن الإشراف على السقوط والانهدام ، وقوله : « فَأَقامَهُ » أي أثبته الخضر بإصلاح شأنه ولم يذكر سبحانه كيف أقامه؟ بنحو خرق العادة أم ببناء أو ضرب دعامة؟ غير أن قول موسى : « لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً » مشعر بأنه كان بعمل غير خارق فإن المعهود من أخذ الأجر ، ما كان على العاديات.

وقوله : « قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ (١) عَلَيْهِ أَجْراً » تخذ وأخذ بمعنى واحد ، وضمير

__________________

(١) قرئ ، بالتشديد من « اتخذ » وبالتخفيف من « تخذ »

٣٤٦

« عَلَيْهِ » للإقامة المفهومة من « فَأَقامَهُ » وهو مصدر جائز الوجهين ، والسياق يشهد أنهما كانا جائعين فذكره موسى أخذ الأجرة على عمله إذ لو كان أخذ أجرا أمكنهما أن يشتريا به شيئا من الطعام يسدان به جوعهما.

قوله تعالى : « قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً » الإشارة بهذا إلى قول موسى أي هذا القول سبب فراق بيني وبينك أو إلى الوقت أي هذا الوقت وقت فراق بيني وبينك كما قيل ، ويمكن أن تكون الإشارة إلى نفس الفراق ، والمعنى هذا الفراق قد حضر كأنه كان أمرا غائبا فحضر عند قول موسى : « لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ » إلخ وقوله : « بَيْنِي وَبَيْنِكَ » ولم يقل بيننا للتأكيد ، وإنما قال الخضر هذا القول بعد الاعتراض الثالث لأن موسى كان قبل ذلك يعتذر إليه كما في الأول أو يستمهله كما في الثاني ، وأما الفراق بعد الاعتراض الثالث فقد أعذره موسى فيه إذ قال بعد الاعتراض الثاني : « إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي » إلخ والباقي ظاهر.

قوله تعالى : « أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ » إلخ شروع في تفصيل ما وعد إجمالا بقوله : « سَأُنَبِّئُكَ » إلخ وقوله : « أَنْ أَعِيبَها » أي أجعلها معيبة وهذه قرينة على أن المراد بكل سفينة كل سفينة غير معيبة.

وقوله : « وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ » وراء بمعنى الخلف وهو الظرف المقابل للظرف الآخر الذي يواجهه الإنسان ويسمى قدام وأمام لكن ربما يطلق على الظرف الذي يغفل عنه الإنسان وفيه من يريده بسوء أو مكروه وإن كان قدامه أو فيه ما يعرض عنه الإنسان أو فيه ما يشغل الإنسان بنفسه عن غيره كأن الإنسان ولى وجهه إلى جهة تخالف جهته قال تعالى : « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ » المؤمنون : ٧ ، وقال : « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ » الشورى : ٥١ ، وقال : « وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ » البروج : ٢٠.

ومحصل المعنى : أن السفينة كانت لعدة من المساكين يعملون بها في البحر ويتعيشون به وكان هناك ملك جبار أمر بغصب السفن فأردت بخرقها أن أحدث فيها عيبا فلا يطمع فيها الجبار ويدعها لهم.

قوله تعالى : « وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً »

٣٤٧

الأظهر من سياق الآية وما سيأتي من قوله : « وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي » أن يكون المراد بالخشية التحذر عن رأفة ورحمة مجازا لا معناه الحقيقي الذي هو التأثر القلبي الخاص المنفي عنه تعالى وعن أنبيائه كما قال : « وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ » الأحزاب : ٣٩ ، وأن يكون المراد بقوله : « أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً » أن يغشيهما ذلك أي يحمل والديه على الطغيان والكفر بالإغواء والتأثير الروحي لمكان حبهما الشديد له لكن قوله في الآية التالية : « وَأَقْرَبَ رُحْماً » لا تخلو من تأييد لكون « طُغْياناً وَكُفْراً » تميزين عن الإرهاق أي وصفين للغلام دون أبويه.

قوله تعالى : « فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً » المراد بكونه خيرا منه زكاة كونه خيرا منه صلاحا وإيمانا بقرينة مقابلته الطغيان والكفر في الآية السابقة ، وأصل الزكاة فيما قيل الطهارة ، والمراد بكونه أقرب منه رحما كونه أوصل للرحم والقرابة فلا يرهقهما ، وأما تفسيره بكونه أكثر رحمة بهما فلا يناسبه قوله « أَقْرَبَ » منه تلك المناسبة ، وهذا ـ كما عرفت ـ يؤيد كون المراد من قوله : « يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً » في الآية السابقة إرهاقه إياهما بطغيانه وكفره لا تكليفه إياهما الطغيان والكفر وإغشاؤهما ذلك.

والآية ـ على أي حال ـ تلوح إلى أن إيمان أبويه كان ذا قدر عند الله ويستدعي ولدا مؤمنا صالحا يصل رحمهما وقد كان المقضي في الغلام خلاف ذلك فأمر الله الخضر بقتله ليبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.

قوله تعالى : « وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً » لا يبعد أن يستظهر من السياق أن المدينة المذكورة في هذه الآية غير القرية التي وجدا فيها الجدار فأقامه ، إذ لو كانت هي هي لم يكن كثير حاجة إلى ذكر كون الغلامين اليتيمين فيها فكان العناية متعلقة بالإشارة إلى أنهما ومن يتولى أمرهما غير حاضرين في القرية.

وذكر يتم الغلامين ووجود كنز لهما تحت الجدار ولو انقض لظهر وضاع وكون أبيهما صالحا كل ذلك توطئة وتمهيد لقوله : « فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما » وقوله : « رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ » تعليل للإرادة.

٣٤٨

فرحمته تعالى سبب لإرادة بلوغهما واستخراجهما كنزهما ، وكان يتوقف على قيام الجدار فأقامه الخضر ، وكان سبب انبعاث الرحمة صلاح أبيهما وقد عرض أن مات وأيتم الغلامين وترك كنزا لهما.

وقد طال البحث في التوفيق بين صلاح أبيهما ووجود كنز لهما تحت الجدار الظاهر في كون أبيهما هو الكانز له بناء على ذم الكنز كما يدل عليه قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ » التوبة : ٣٤.

لكن الآية لا تتعرض بأكثر من أن تحته كنز لهما من غير دلالة على أن أباهما هو الذي دفنه وكنزه ، على أن وصف أبيهما بالصلاح دليل على كون هذا الكنز أيا ما كان أمرا غير مذموم على تقدير تسليم كون الكانز هو الأب ، على أن من الجائز أن يكون أبوهما الصالح كنزه لهما لتأويل يسوغه فما هو بأعظم من خرق السفينة وقتل النفس المحترمة الواردين في القصة وقد جوزهما التأويل بأمر إلهي وهنا بعض روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

وفي الآية دلالة على أن صلاح الإنسان ربما ورث أولاده أثرا جميلا وأعقب فيهم السعادة والخير فهذه الآية في جانب الخير نظيرة قوله تعالى : « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ » النساء : ٩.

وقوله : « وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي » كناية عن أنه إنما فعل ما فعل عن أمر غيره وهو الله سبحانه لا عن أمر أمرته به نفسه.

وقوله : « ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً » أي ما لم تستطع عليه صبرا من اسطاع يسطيع بمعنى استطاع يستطيع وقد تقدم في أول تفسير سورة آل عمران أن التأويل في عرف القرآن هي الحقيقة التي يتضمنها الشيء ويؤول إليها ويبتني عليها كتأويل الرؤيا وهو تعبيرها ، وتأويل الحكم وهو ملاكه وتأويل الفعل وهو مصلحته وغايته الحقيقية ، وتأويل الواقعة وهو علتها الواقعية وهكذا.

فقوله : « ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ » إلخ إشارة منه إلى أن الذي ذكره للوقائع الثلاث وأعماله فيها هو السبب الحقيقي لها لا ما حسبه موسى من العناوين المترائية من

٣٤٩

أعماله كالتسبب إلى هلاك الناس في خرق السفينة والقتل من غير سبب موجب في قتل الغلام وسوء تدبير المعاش في إقامة الجدار.

وذكر بعضهم : أن من الأدب الجميل الذي استعمله الخضر مع ربه في كلامه أن ما كان من الأعمال التي لا تخلو عن نقص ما نسبه إلى نفسه كقوله : فأردت أن أعيبها وما جاز انتسابه إلى ربه وإلى نفسه أتى فيه بصيغة المتكلم مع الغير كقوله : « فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما » ، « فَخَشِينا » وما يختص به تعالى لتعلقه بربوبيته وتدبيره ملكه نسبه إليه كقوله : « فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ».

بحث تاريخي في فصلين

١ ـ قصة موسى والخضر في القرآن : أوحى الله سبحانه إلى موسى أن هناك عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى وأخبره أنه إن انطلق إلى مجمع البحرين وجده هناك ، وهو بالمكان الذي يحيى فيه الحوت الميت. ( أو يفتقد فيه الحوت ).

فعزم موسى أن يلقى العالم ويتعلم منه بعض ما عنده إن أمكن وأخبر فتاه عما عزم عليه فخرجا قاصدين مجمع البحرين وقد حملا معهما حوتا ميتا وذهبا حتى بلغا مجمع البحرين وقد تعبا وكانت هناك صخرة على شاطئ البحر فأويا إليها ليستريحا هنيئة وقد نسيا حوتهما وهما في شغل منه.

وإذا بالحوت اضطرب ووقع في البحر حيا ، أو وقع فيه وهو ميت ، وغار فيه والفتى يشاهده ويتعجب من أمره غير أنه نسي أن يذكره لموسى حتى تركا الموضع وانطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين وقد نصبا فقال له موسى : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. فذكر الفتى ما شاهده من أمر الحوت وقال لموسى : إنا إذ أوينا إلى الصخرة حي الحوت ووقع في البحر يسبح فيه حتى غار وكنت أريد أن أذكر لك أمره لكن الشيطان أنسانيه ( أو إني نسيت الحوت عند الصخرة فوقع في البحر وغار فيه ).

قال موسى : ذلك ما كنا نبغي ونطلب فلنرجع إلى هناك فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده وعلمه علما من لدنه فعرض عليه

٣٥٠

موسى وسأله أن يتبعه فيعلمه شيئا ذا رشد مما علمه الله. قال العالم : إنك لن تستطيع معي صبرا على ما تشاهده من أعمالي التي لا علم لك بتأويلها ، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟ فوعده موسى أن يصبر ولا يعصيه في أمر إن شاء الله فقال له العالم بانيا على ما طلبه منه ووعده به : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.

فانطلق موسى والعالم حتى ركبا سفينة وفيها ناس من الركاب وموسى خالي الذهن عما في قصد العالم فخرق العالم السفينة خرقا لا يؤمن معه الغرق فأدهش ذلك موسى وأنساه ما وعده فقال للعالم : أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال له العالم : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فاعتذر إليه موسى بأنه نسي ما وعده من الصبر قائلا : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا.

فانطلقا فلقيا غلاما فقتله العالم فلم يملك موسى نفسه دون أن تغير وأنكر عليه ذلك قائلا : أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئا نكرا. قال له العالم ثانيا : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فلم يكن عند موسى ما يعتذر به ويمتنع به عن مفارقته ونفسه غير راضية بها فاستدعى منه مصاحبة مؤجلة بسؤال آخر إن أتى به كان له فراقه واستمهله قائلا : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا وقبله العالم.

فانطلقا حتى أتيا قرية وقد بلغ بهما الجوع فاستطعما أهلها فلم يضيفهما أحد منهم وإذا بجدار فيها يريد أن ينقض ويتحذر منه الناس فأقامه العالم. قال له موسى : لو شئت لاتخذت على عملك منهم أجرا فتوسلنا به إلى سد الجوع فنحن في حاجة إليه والقوم لا يضيفوننا.

فقال له العالم : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ثم قال : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ويتعيشون بها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا فخرقتها لتكون معيبة لا يرغب فيها.

وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ، ولو أنه عاش لأرهقهما بكفره

٣٥١

وطغيانه فشملتهما الرحمة الإلهية فأمرني أن أقتله ليبدلهما ولدا خيرا منه زكاة وأقرب رحما فقتلته.

وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فشملتهما الرحمة الإلهية لصلاح أبيهما فأمرني أن أقيمه فيستقيم حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ولو انقض لظهر أمر الكنز وانتهبه الناس.

قال : وما فعلت الذي فعلت عن أمري بل عن أمر من الله ، وتأويلها ما أنبأتك به ثم فارق موسى.

٢ ـ قصة الخضر (ع) ـ لم يرد ذكره في القرآن إلا ما في قصة رحلة موسى إلى مجمع البحرين ، ولا ذكر شيء من جوامع أوصافه إلا ما في قوله تعالى. « فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً » الآية ـ ٦٥ من السورة والذي يتحصل من الروايات النبوية أو الواردة من طرق أئمة أهل البيت في قصته ففي رواية (١) محمد بن عمارة عن الصادق عليه‌السلام : أن الخضر كان نبيا مرسلا ـ بعثه الله تبارك وتعالى إلى قومه فدعاهم إلى توحيده ـ والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه ، وكان آيته أنه لا يجلس على خشبة يابسة ـ ولا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء ـ وإنما سمي خضرا لذلك ، وكان اسمه تاليا بن مالك بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الحديث ويؤيد ما ذكر من وجه تسميته ما في الدر المنثور ، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس وأبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنما سمي الخضر خضرا لأنه صلى على فروة بيضاء ـ فاهتزت خضراء.

وفي بعض الأخبار ـ كما فيما رواه العياشي عن بريد عن أحدهما عليهما‌السلام : الخضر وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين

الحديث لكن الآيات النازلة في قصته مع موسى لا تخلو عن ظهور في كونه نبيا كيف؟ وفيها نزول الحكم عليه.

ويظهر من أخبار متفرقة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام أنه حي لم يمت بعد وليس بعزيز على الله سبحانه أن يعمر بعض عباده عمرا طويلا إلى أمد بعيد ولا أن هناك برهانا عقليا يدل على استحالة ذلك.

__________________

(١) الآتية في البحث الروائي الآتي.

٣٥٢

وقد ورد في سبب ذلك في بعض الروايات (١) من طرق العامة أنه ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال ، وفي بعضها (٢) أن آدم عليه‌السلام دعا له بالبقاء إلى يوم القيامة ، وفي عدة روايات من طرق الفريقين أنه شرب من عين الحياة التي هي في الظلمات حين دخلها ذو القرنين في طلبها وكان الخضر في مقدمته فرزقه الخضر ولم يرزقه ذو القرنين ، وهذه وأمثالها آحاد غير قطعية من الأخبار لا سبيل إلى تصحيحها بكتاب أو سنة قطعية أو عقل.

وقد كثرت القصص والحكايات وكذا الروايات في الخضر بما لا يعول عليها ذو لب كرواية خصيف : (٣) أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في السماء : عيسى وإدريس ، واثنان في الأرض الخضر وإلياس ـ فأما الخضر فإنه في البحر وأما صاحبه فإنه في البر.

ورواية (٤) العقيلي عن كعب قال : الخضر على منبر بين البحر الأعلى والبحر الأسفل ، وقد أمرت دواب البحر أن تسمع له وتطيع ، وتعرض عليه الأرواح غدوة وعشية.

ورواية (٥) كعب الأحبار : أن الخضر بن عاميل ركب في نفر من أصحابه ـ حتى بلغ بحر الهند وهو بحر الصين فقال لأصحابه : يا أصحابي ادلوني فدلوه في البحر أياما وليالي ـ ثم صعد فقالوا : يا خضر ما رأيت؟ فلقد أكرمك الله وحفظ لك نفسك في لجة هذا البحر ـ فقال استقبلني ملك من الملائكة فقال لي : أيها الآدمي الخطاء إلى أين؟ ومن أين؟ فقلت : إني أردت أن أنظر عمق هذا البحر. فقال لي : كيف؟ وقد أهوى رجل من زمان داود عليه‌السلام ـ لم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة ؛ وذلك منذ ثلاث مائة سنة ، إلى غير ذلك من الروايات المشتملة على نوادر القصص.

__________________

(١) الدر المنثور عن الدار قطني وابن عساكر عن ابن عباس.

(٢) الدر المنثور عن ابن عساكر عن ابن إسحاق.

(٣) الدر المنثور عن ابن شاهين عنه.

(٤) الدر المنثور عنه.

(٥) الدر المنثور عن أبي الشيخ في العظمة وأبي نعيم في الحلية عنه.

٣٥٣

« بحث روائي »

في تفسير البرهان ، عن ابن بابويه بإسناده عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه‌السلام في حديث : أن موسى لما كلمه الله تكليما ، وأنزل عليه التوراة ، وكتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، وجعل آية في يده وعصاه ، وفي الطوفان والجراد والقمل ـ والضفادع والدم وفلق البحر ـ وغرق الله فرعون وجنوده عملت البشرية فيه حتى قال في نفسه : ما أرى الله عز وجل خلق خلقا أعلم مني ـ فأوحى الله إلى جبرئيل : أدرك عبدي قبل أن يهلك ، وقل له : أن عند ملتقى البحرين رجلا عابدا فاتبعه وتعلم منه.

فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربه عز وجل ـ فعلم موسى أن ذلك لما حدثته به نفسه ـ فمضى هو وفتاه يوشع بن نون ـ حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين ـ فوجدا هناك الخضر يعبد الله عز وجل كما قال الله في كتابه : « فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ـ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً » الحديث.

أقول : والحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر وما جرى بينهما مما ذكره الله في كتابه في القصة.

وروى القصة العياشي في تفسيره ، بطريقين والقمي في تفسيره ، بطريقين مسندا ومرسلا ، ورواه في الدر المنثور ، بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاري ومسلم والنسائي والترمذي وغيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والأحاديث متفقة في معنى ما نقلناه من صدر حديث محمد بن عمارة ، وفي أن الحوت الذي حملاه حي عند الصخرة واتخذ سبيله في البحر سربا لكنها تختلف في أمور كثيرة إضافتها إلى ما في القرآن من أصل القصة.

منها ما يتحصل من رواية ابن بابويه والقمي : أن مجمع البحرين من أرض الشامات وفلسطين ـ بقرينة ذكرهما أن القرية التي ورداها هي الناصرة ـ التي تنسب إليها النصارى ، وفي بعضها أن الأرض كانت آذربيجان : وهو يوافق ما في الدر المنثور عن السدي : أن

٣٥٤

البحرين هما الكر والرس حيث يصبان في البحر ـ وأن القرية كانت تسمى باجروان وكان أهلها لئاما وروي عن أبي : أنه إفريقية ، وعن القرظي أنه طنجة ، وعن قتادة أنه ملتقى بحر الروم وفارس.

ومنها ما في بعض الروايات أن الحوت كان مشويا وفي أكثرها أنه كان مملوحا.

ومنها ما في مرسلة القمي وروايات الشيخين والنسائي والترمذي وغيرهم : أنه كانت عند الصخرة عين الحياة ـ حتى في رواية مسلم وغيره أن الماء كان ماء الحياة ـ من شرب منه خلد ولا يقاربه شيء ميت ـ إلا حي فلما نزلا ومس الحوت الماء حي.

الحديث وفي غيرها أن فتى موسى توضأ من الماء فقطرت منه قطرة على الحوت فحي ، وفي غيرها أنه شرب منه ولم يكن له ذلك فأخذه الخضر وطابقه في سفينة وتركها في البحر فهو بين أمواجها حتى تقوم الساعة وفي بعضها أنه كانت عند الصخرة عين الحياة التي كان يشرب منها الخضر وبقية الروايات خالية عن ذكرها.

ومنها ما في رواية الصحاح الأربع وغيرها : أن الحوت سقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ـ فأمسك الله عن الحوت جرية الماء ـ فصار عليه مثل الطاق الحديث ، وفي بعض هذه الروايات أن موسى بعد ما رجع أبصر أثر الحوت فأخذ أثر الحوت يمشيان على الماء حتى انتهيا إلى جزيرة من جزائر العرب ، وفي حديث الطبري عن ابن عباس في القصة : فرجع يعني موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء ويتبع الحوت وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة ، الحديث وبعضها خال عن ذلك.

ومنها ما في أكثرها أن موسى لقي الخضر عند الصخرة ، وفي بعضها أنه ذهب من سرب الحوت أو على الماء حتى وجده في جزيرة من جزائر البحر ، وفي بعضها وجده على سطح الماء جالسا أو متكئا.

ومنها اختلافها في أن الفتى هل صحبهما أو تركاه وذهبا.

ومنها اختلافها في كيفية خرق السفينة وفي كيفية قتل الغلام وفي كيفية إقامة الجدار وفي الكنز الذي تحته لكن أكثر الروايات أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا

٣٥٥

فيه مواعظ ، وفي الأب الصالح فظاهر أكثرها أنه أبوهما الأقرب ، وفي بعضها أنه أبوهما العاشر وفي بعضها السابع ، وفي بعضها بينهما وبينه سبعون أبا وفي بعضها كان بينهما وبينه سبعمائة سنة ، إلى غير ذلك من جهات الاختلاف.

وفي تفسير القمي ، عن محمد بن علي بن بلال عن يونس في كتاب كتبوه إلى الرضا عليه‌السلام : يسألونه عن العالم الذي أتاه موسى أيهما كان أعلم؟ وهل يجوز أن يكون على موسى حجة في وقته؟ فكتب في الجواب : أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر ـ إما جالسا وإما متكئا فسلم عليه موسى فأنكر السلام ـ إذ كان الأرض ليس بها سلام.

قال : من أنت؟ قال : أنا موسى بن عمران. قال : أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال : نعم. قال : فما حاجتك؟ قال : جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إني وكلت بأمر لا تطيقه ، ووكلت بأمر لا أطيقه الحديث.

أقول : وهذا المعنى مروي في أخبار أخر من طرق الفريقين.

وفي الدر المنثور ، أخرج الحاكم وصححه عن أبي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما لقي موسى الخضر جاء طير فألقى منقاره في الماء ـ فقال الخضر لموسى : تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال : وما يقول؟ قال : يقول : ما علمك وعلم موسى في علم الله ـ إلا كما أخذ منقاري من الماء.

أقول : وقصة هذا الطائر وارد في أغلب روايات القصة.

وفي تفسير العياشي ، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان موسى أعلم من الخضر.

وفيه ، عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان وصي موسى يوشع بن نون ، وهو فتاه الذي ذكره في كتابه.

وفيه ، عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عليه‌السلام قال : بينما موسى قاعد في ملإ من بني إسرائيل إذ قال له رجل : ما أرى أحدا أعلم بالله منك ـ قال موسى : ما أرى فأوحى الله إليه بلى عبدي الخضر ـ فسأل السبيل إليه وكان

٣٥٦

له الحوت آية إن افتقده ، وكان من شأنه ما قص الله.

أقول : وينبغي أن يحمل اختلاف الروايات في علمهما على اختلاف نوع العلم.

وفيه ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله : « فَخَشِينا » خشي إن أدرك الغلام أن يدعو أبويه إلى الكفر ـ فيجيبانه من فرط حبهما له.

وفيه ، عن عثمان عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله : « فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً » قال : إنه ولدت لهما جارية فولدت غلاما فكان نبيا.

أقول : وفي أكثر الروايات أنها ولد منها سبعون نبيا والمراد ثبوت الواسطة.

وفيه ، عن إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ـ ويحفظه في دويرته ودويرات حوله ـ فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله. ثم ذكر الغلامين فقال : « وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً » ألم تر أن الله شكر صلاح أبويهما لهما؟.

وفيه ، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في أهله وماله ـ وإن كان أهله أهل سوء ـ ثم قرأ هذه الآية إلى آخرها « وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ».

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده ـ وأهل دويرات حوله ـ فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة مستفيضة.

وفي الكافي ، بإسناده عن صفوان الجمال قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ـ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما » فقال : أما إنه ما كان ذهبا ولا فضة ، وإنما كان أربع كلمات : لا إله إلا الله ، من أيقن بالموت لم يضحك ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله.

أقول : وقد تكاثرت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن الكنز الذي كان

٣٥٧

تحت الجدار كان لوحا مكتوبا فيه الكلمات ، وفي أكثرها أنه كان لوحا من ذهب ، ولا ينافيه قوله في هذه الرواية : « ما كان ذهبا ولا فضة » لأن المراد به نفي الدينار والدرهم كما هو المتبادر. والروايات مختلفة في تعيين الكلمات التي كانت مكتوبة على اللوح لكن أكثرها متفقة في كلمة التوحيد ومسألتي الموت والقدر.

وقد جمع في بعضها بين الشهادتين كما رواه في الدر المنثور ، عن البيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب : في قول الله عز وجل : « وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما » قال : كان لوحا من ذهب مكتوب فيه : لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ عجبا لمن يذكر أن الموت حق كيف يفرح؟ وعجبا لمن يذكر أن النار حق كيف يضحك؟ وعجبا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن؟ وعجبا لمن يرى الدنيا وتصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها؟.

وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ

٣٥٨

وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)

بيان

الآيات تشتمل على قصة ذي القرنين ، وفيها شيء من ملاحم القرآن :

قوله تعالى : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً » أي يسألونك عن شأن ذي القرنين. والدليل على ذلك جوابه عن السؤال بذكر شأنه لا تعريف شخصه حتى اكتفى بلقبه فلم يتعد منه إلى ذكر اسمه.

٣٥٩

والذكر إما مصدر بمعنى المفعول والمعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين شيئا مذكورا ، وإما المراد بالذكر القرآن ـ وقد سماه الله في مواضع من كلامه بالذكر والمعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين أو من الله قرآنا وهو ما يتلو هذه الآية من قوله : « إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ » إلى آخر القصة ، والمعنى الثاني أظهر.

قوله تعالى : « إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً » التمكين الإقدار يقال : مكنته ومكنت له أي أقدرته فالتمكن في الأرض القدرة على التصرف فيه بالملك كيفما شاء وأراد. وربما يقال : إنه مصدر مصوغ من المكان بتوهم أصالة الميم فالتمكين إعطاء الاستقرار والثبات بحيث لا يزيله عن مكانه أي مانع مزاحم.

والسبب الوصلة والوسيلة فمعنى إيتائه سببا من كل شيء أن يؤتى من كل شيء يتوصل به إلى المقاصد الهامة الحيوية ما يستعمله ويستفيد منه كالعقل والعلم والدين وقوة الجسم وكثرة المال والجند وسعة الملك وحسن التدبير وغير ذلك وهذا امتنان منه تعالى على ذي القرنين وإعظام لأمره بأبلغ بيان ، وما حكاه تعالى من سيرته وفعله وقوله المملوءة حكمة وقدرة يشهد بذلك.

قوله تعالى : « فَأَتْبَعَ سَبَباً » الإتباع اللحوق أي لحق سببا واتخذ وصلة وسيلة يسير بها نحو مغرب الشمس.

قوله تعالى : « حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً » تدل « حَتَّى » على فعل مقدر وتقديره « فسار حتى إذا بلغ » والمراد بمغرب الشمس آخر المعمورة يومئذ من جانب الغرب بدليل قوله : « وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ».

وذكروا أن المراد بالعين الحمئة العين ذات الحمأة وهي الطين الأسود وأن المراد بالعين البحر فربما تطلق عليه ، وأن المراد بوجدان الشمس تغرب في عين حمئة موقف على ساحل بحر لا مطمع في وجود بر وراءه فرأى الشمس كأنها تغرب في البحر لمكان انطباق الأفق عليه قيل : وينطبق هذه العين الحمئة على المحيط الغربي

٣٦٠