الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

لكونها تنبت في أصل الجحيم ، وتارة بأنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين والشياطين ملعونون ، وتارة بأن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا.

أما ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل : إن الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو إنها بمعنى الرؤية ليلا يرده عدم الثبوت لغة ولم يستندوا في ذلك إلى شيء من كلامهم من نظم أو نثر إلا إلى مجرد الدعوى.

وأما قولهم : إن ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الإسراء رؤيا أو جرى على زعمهم أنه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتة فما هي القرينة الدالة على هذه العناية وأنه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة؟ ولم يطلق تعالى على أصنامهم « آلهة » و « شركاء » وإنما أطلق « آلِهَتُهُمُ » و « لِشُرَكائِهِمْ » فأضافها إليهم والإضافة نعمت القرينة على عدم التسليم ، ونظير الكلام جار في اعتذارهم بأنه من تشبيه الإسراء بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصح إلا مع قرينة ، ولو كانت هناك قرينة لم يستدل كل من قال بكون الإسراء مناميا بوقوع لفظة الرؤيا في الآية بناء على كون الآية ناظرة إلى الإسراء.

وأما قول القائل : إن الإسراء كان في المنام فقد اتضح بطلانه في أول السورة في تفسير آية الإسراء.

وأما المعاذير التي ذكروها تفصيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم : إن حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الإسناد للمبالغة في لعنهم فهو وإن كان كثير النظير في محاورات العامة لكنه مما يجب أن ينزه عنه ساحة كلامه تعالى وإنما هو من دأب جهلة الناس وسفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبوا أحدا لعنوه بلعن أبيه وأمه وعشيرته مبالغة في سبه ، وإذا شتموا رجلا أساءوا ذكر زوجته وبنته وسبوا السماء التي تظله والأرض التي تقله والدار التي يسكنها والقوم الذين يعاشرهم وأدب القرآن يمنعه أن يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن الشجرة التي يعذبهم الله بأكل ثمارها.

وقولهم : إن اللعن مطلق الإبعاد مما لم يثبت لغة والذي ذكروه ويشهد به ما ورد من استعماله في القرآن أن معناه الإبعاد من الرحمة والكرامة وما قيل : إنها كما قال الله « شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ » فهي في أبعد مكان من الرحمة إن أريدت بالرحمة الجنة

١٤١

فهو قول من غير دليل وإن أريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة ملعونة بمعنى الإبعاد من الرحمة والكرامة ومقتضاه كون جهنم وما أعد الله فيها من العذاب وملائكة النار وخزنتها ملعونين مغضوبين مبعدين من الرحمة ، وليس شيء منها ملعونا وإنما اللعن والغضب والبعد للمعذبين فيها من الإنس والجن.

وقولهم : إنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين والشياطين ملعونون فهو مجاز في الإسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الأول.

وقولهم : إن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا فيه استعمال الشجرة وإرادة الثمرة مجازا ثم جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارة أو نسبة اللعن وهو وصف الثمرة إلى الشجرة مجازا وعلى أي حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل الظاهر أنهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف والعامة يلعنون كل ما لا يرتضونه من طعام وشراب وغيرهما.

وأما انتساب القول إلى ابن عباس فعلى تقدير ثبوته لا حجية فيه وخاصة مع معارضته لما في حديث عائشة الآتية وغيرها وهو يتضمن تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يعارضه قول غيره.

وقال في الكشاف ، في قوله تعالى : « وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ » واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم وذلك قوله : « سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ » « قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ » وغير ذلك فجعله كأن قد كان ووجد فقال : « أَحاطَ بِالنَّاسِ » على عادته في إخباره.

وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول : اللهم إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول : « سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ».

ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول : هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمر يوم بدر وما أرى

١٤٢

في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء.

وحين سمعوا بقوله : « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ » جعلوها سخرية وقالوا : إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول : ينبت فيها الشجر ـ إلى أن قال ـ والمعنى أن الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. انتهى ثم ذكر تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء ناسبا له إلى قيل.

وهو ظاهر في أنه لم يرتض تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء وإن نسب إلى الرواية فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقعة بدر قبل وقوعها وتسامع قريش بذلك واستهزاءهم به.

وهو وإن تقصى به عما يلزم تفسيرهم الرؤيا بالإسراء من المحذور لكنه وقع فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشد وهو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى في منامه وقعة بدر ومصارع القوم فيها قبل وقوعها ويسخر قريش منه فيجعل فتنة لهم فلا حجة له على ما فسر إلا قوله : « ولعل الله أراه مصارعهم في منامه » وكيف يجترئ على تفسير كلامه تعالى بتوهم أمر لا مستند له ولا حجة عليه من أثر يعول عليه أو دليل من خلال الآيات يرجع إليه.

وذكر بعضهم : أن المراد بالرؤيا رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه يدخل مكة والمسجد الحرام وهي التي ذكرها الله سبحانه بقوله : « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا » الآية.

وفيه أن هذه الرؤيا إنما رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الهجرة قبل صلح الحديبية والآية مكية ؛ وسنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى.

وذكر بعضهم : أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود ونسب إلى أبي مسلم المفسر.

وقد تقدم ما يمكن أن يوجه به هذا القول مع ما يرد عليه.

قوله تعالى : « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً » قال في المجمع ، : قال الزجاج : طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين ، ويجوز أن يكون تقديره من طين فحذف « من »

١٤٣

فوصل الفعل ، ومثله قوله : « أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ » أي لأولادكم وقيل : إنه منصوب على التميز. انتهى.

وجوز في الكشاف ، كونه حالا من الموصول لا من المفعول « خَلَقْتَ » كما قاله الزجاج ، وقيل : إن الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون « طِيناً » جامدا.

وفي الآية تذكير آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقصة إبليس وما جرى بينه وبين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما أخبره الله من حال الناس أنهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله والاستكبار عن الحق وعدم الاعتناء بآيات الله ولن يزالوا على ذلك فليذكر قصة إبليس وما عقد عليه أن يحتنك ذرية آدم وسلطه الله يومئذ على من أطاعه من بني آدم واتبع دعوته ودعوة خيله ورجله ولم يستثن في عقده إلا عباده المخلصين.

فالمعنى : واذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ـ فكأنه قيل : فما ذا صنع؟ أو فما ذا قال؟ إذ لم يسجد؟ فقيل : إنه أنكر الأمر بالسجدة وقال أأسجد ـ والاستفهام للإنكار ـ لمن خلقته من طين وقد خلقتني من نار وهي أشرف من الطين.

وفي القصة اختصار بحذف بعض فقراتها ، والوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن الغرض بيان العلل والعوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم والفسوق فقد ذكر أولا أن الأولين منهم لم يؤمنوا بالآيات المقترحة والآخرون بانون على الاقتداء بهم ثم ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم وإبليس وفيها عقد إبليس أن يغوي ذرية آدم وسؤاله أن يسلطه الله عليهم وإجابته تعالى إياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال وينكبوا على الظلم والطغيان والإعراض عن آيات الله وقد أحاطت بهم الفتنة الإلهية من جانب والشيطان بخيله ورجله من جانب.

قوله تعالى : « قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً » الكاف في « أَرَأَيْتَكَ » زائدة لا محل لها من الإعراب وإنما

١٤٤

تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الإشارة ، والمراد بقوله : « هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ » آدم عليه‌السلام وتكريمه على إبليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة ورجمه حيث أبى.

ومن هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على إرادة إغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم : « أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ » البقرة : ٣٠ ، وقد تقدم في تفسير الآية ما ينفع هاهنا.

والاحتناك على ما في المجمع ، ـ الاقتطاع من الأصل ، يقال : احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله ، واحتنك الجراد المزرع إذا أكله كله وقيل : إنه من قولهم : حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به ، والظاهر أن المعنى الأخير هو الأصل في الباب ، والاحتناك الإلجام.

والمعنى : قال إبليس بعد ما عصى وأخذه الغضب الإلهي رب أرأيت هذا الذي فضلته بأمري بسجدته ورجمي بمعصيته أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة وهو مدة مكث بني آدم في الأرض لألجمن ذريته إلا قليلا منهم وهم المخلصون.

قوله تعالى : « قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً » قيل : الأمر بالذهاب ليس على حقيقته وإنما هو كناية عن تخليته ونفسه كما تقول لمن يخالفك : افعل ما تريد ، وقيل : الأمر على حقيقته وهو تعبير آخر لقوله في موضع آخر : « فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ » والموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذي يوفى كله ولا يدخر منه شيء ، ومعنى الآية واضح.

قوله تعالى : « وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ » إلى آخر الآية الاستفزاز الإزعاج والاستنهاض بخفة وإسراع ، والإجلاب كما في المجمع ، السوق بجلبة من السائق والجلبة شدة الصوت ، وفي المفردات ، : أصل الجلب سوق الشيء يقال : جلبت جلبا قال الشاعر : « وقد يجلب الشيء البعيد الجواب » وأجلبت عليه صحت عليه بقهر ، قال الله عز وجل : « وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ » انتهى.

والخيل ـ على ما قيل ـ الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ويطلق على الفرسان

١٤٥

مجازا ، والرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر وحاذر وكمل وكامل وهو خلاف الراكب ، وظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة وهم غير الفرسان من الجيش.

فقوله : « وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ » أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم ـ وهم الذين يتولونه منهم ويتبعونه كما ذكره في سورة الحجر ـ بصوتك ، وكأن الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة ، وتمثيل بما يساق الغنم وغيره بالنعيق والزجر وهو صوت لا معنى له.

وقوله : « وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ » أي وصح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك وجيوشك فرسانهم ورجالتهم وكأنه إشارة إلى أن قبيله وأعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب ومنهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجالة ، فالخيل والرجل كناية عن المسرعين في العمل والمبطئين فيه وفيه تمثيل نحو عملهم.

وقوله : « وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ » الشركة إنما يتصور في الملك والاختصاص ولازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال والولد فإن المال عين خارجي منفصل من الإنسان وكذا الولد شخص إنساني مستقل عن والديه ، ولو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الإنسان مالية لمال ولا اختصاص بولد.

فمشاركة الشيطان للإنسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص والانتفاع كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجة الإنسان الطبيعية من غير حله فينتفع به الشيطان لغرضه والإنسان لغرضه الطبيعي ، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا وهو صفر الكف من رحمة الله وكأن يولد الإنسان من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة ويؤدبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهما ولنفسه سهما ، وعلى هذا القياس.

وهذا وجه مستقيم لمعنى الآية وجامع لما ذكره المفسرون في معنى الآية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم الأموال والأولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من حرام وأخذ من غير حقه وكل ولد زنا كما عن ابن عباس وغيره.

١٤٦

وقول آخر : إن مشاركته في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك وفي الأولاد أنهم هودوهم ونصروهم ومجسوهم كما عن قتادة.

وقول آخر : إن كل مال حرام وفرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي ، وقول آخر : إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحارث ونحوهما ، وقول آخر : هو قتل الموءودة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا ، وقول آخر : إن المشاركة في الأموال الذبح للآلهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روي عن قدماء المفسرين.

وقوله : « وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً » أي ما يعدهم إلا وعدا غارا بإظهار الخطإ في صورة الصواب والباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة.

قوله تعالى : « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً » المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله : « إِلَّا قَلِيلاً » بل غير الغاوين من اتباع إبليس كما قال في موضع آخر : « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » الحجر : ٤٢ والإضافة للتشريف.

وقوله : « وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً » أي قائما على نفوسهم وأعمالهم حافظا لمنافعهم متوليا لأمورهم فإن الوكيل هو الكافل لأمور الغير القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها ، وبذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في سورة الحجر.

وقد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة وسورة الأعراف وسورة الحجر.

بحث روائي

في تفسير العياشي ، عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قوله : « وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ » قال : هو الفناء بالموت أو غيره ، وفي

١٤٧

رواية أخرى عنه عليه‌السلام : « وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ » قال : بالقتل والموت أو غيره.

أقول : ولعله تفسير لجميع الآية.

وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ » الآية ـ قال نزلت في قريش. قال : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في الآية : وذلك أن محمدا سأل قومه أن يأتيهم ـ فنزل جبرئيل فقال : إن الله عز وجل يقول : ( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ـ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) ، وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم ـ فلذلك أخرنا عن قومك الآيات.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والنسائي والبزاز وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل لهم الصفا ذهبا ـ وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون فقيل له : إن شئت أن نتأنى بهم ـ وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ـ فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم ـ قال : لا بل أستأني بهم فأنزل الله : « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ـ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ».

أقول : وروي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني فلان ـ ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ـ فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل الله : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ».

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي قال : رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر ـ كأنهم القردة وأنزل الله في ذلك : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ » يعني الحكم وولده.

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أريت بني أمية على منابر الأرض ـ وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء ، واهتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك فأنزل الله : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ».

١٤٨

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي : أن رسول الله أصبح وهو مهموم فقيل : ما لك يا رسول الله؟ فقال : إني أريت في المنام ـ كان بني أمية يتعاورون منبري هذا فقيل : يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ».

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني أمية على المنابر فساءه ذلك ـ فأوحى الله إليه إنما هي دنيا ـ أعطوها فقرت عينه ، وهي قوله : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ » يعني بلاء للناس :

أقول : ورواه في تفسير البرهان ، عن الثعلبي في تفسيره ، يرفعه إلى سعيد بن المسيب.

وفي تفسير البرهان ، عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ـ ينزون على منبري كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيظ ـ فما رؤي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن عائشة : أنها قالت لمروان بن الحكم ـ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لأبيك وجدك : إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.

وفي مجمع البيان ، : رؤيا رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن قرودا تصعد منبره ـ وتنزل وساءه ذلك واغتم : ، رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثم قال : وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) ، وقالوا : على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو أمية.

أقول : وليس من التأويل في شيء بل هو تنزيل كما تقدم بيانه ، إلا أن التأويل ربما أطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود.

وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره ، عن عدة من الثقات كزرارة وحمران ومحمد بن مسلم ومعروف بن خربوذ وسلام الجعفي والقاسم بن سليمان ويونس بن عبد الرحمن الأشل وعبد الرحيم القصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام ورواه القمي في تفسيره ، مضمرا ، ورواه العياشي أيضا عن أبي الطفيل عن علي عليه‌السلام.

١٤٩

وفي بعض هذه الروايات أن مع بني أمية غيرهم وقد تقدم ما يهدي إليه البحث في معنى الآية ، وقد مر أيضا الروايات في ذيل قوله تعالى : « وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ » الآية : إبراهيم : ٢٦ أن الشجرة الخبيثة هي الأفجران من قريش.

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس : في قوله : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ » قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ليلة أسري به إلى بيت المقدس ـ وليست برؤيا منام « والشجرة الملعونة في القرآن » قال : هي شجرة الزقوم.

أقول : وروي هذا المعنى أيضا عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر عن أم هاني ، وقد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الآية.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس : في قوله : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ » الآية قال : إن رسول الله أرى أنه دخل مكة هو وأصحابه ـ وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل ـ فرده المشركون فقال أناس : قد رد وقد كان حدثنا أنه سيدخلها ـ فكانت رجعته فتنتهم.

أقول : وقد تقدم ما على الرواية في تفسير الآية على أنها تعارض ما تقدمها.

وفي تفسير البرهان ، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد ، عن عثمان بن عيسى عن عمر بن أذينة عن سليمان بن قيس قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله حرم الجنة على كل فحاش ـ بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال وما قيل له ـ فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان.

فقال رجل. يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان؟ فقال : أوما تقرأ قول الله عز وجل : « وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ »؟

فقال : من لا يبالي ما قال وما قيل له؟ فقال : نعم من تعرض للناس فقال فيهم ـ وهو يعلم أنهم لا يتركونه ـ فذلك الذي لا يبالي ما قال وما قيل له.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن شرك

١٥٠

الشيطان : قوله : « وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ » قال : ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال : ويكون مع الرجل حتى يجامع فيكون من نطفته ونطفة الرجل إذا كان حراما.

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، وهي من قبيل ذكر المصاديق ، وقد تقدم المعنى الجامع لها.

وما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع والنطفة وغير ذلك كناية عن أن له نصيبا في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبين به المعنى المقصود ، ونظائره كثيرة في الروايات.

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)

١٥١

بيان

الآيات كالمكملة للآيات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوة وكشف الضر ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم وأوثانهم فإن الآيات السابقة تبتدأ بقوله تعالى : « قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً » وهذه الآيات تفتتح بقوله : « رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ » إلخ.

وإنما قلنا : هي كالمكملة لبيان الآيات السابقة مع أن ما تحتويه كل من القبلين حجة تامة في مدلولها تبطل إحداهما ألوهية آلهتهم وتثبت الأخرى ألوهية الله سبحانه لافتتاح القبيل الأول بقوله : « قُلِ » دون الثاني وظاهره كون مجموع القبيلين واحدا من الاحتجاج أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإلقائه إلى المشركين لإلزامهم بالتوحيد.

ويؤيده السياق السابق المبدو بقوله : « قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً » وقد لحقه قوله ثانيا : « وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً ـ إلى أن قال قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ».

وقد ختم الآيات بقوله : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » إلخ فأشار به إلى أن هذا الذي يذكر من الهدى والضلالة في الدنيا يلازم الإنسان في الآخرة فالنشأة الأخرى على طبق النشأة الأولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الآخرة ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.

قوله تعالى : « رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً » الإزجاء على ما في مجمع البيان ، سوق الشيء حالا بعد حال فالمراد به إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح ونحوه وجعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري والخرق ، والفلك جمع الفلكة وهي السفينة.

وابتغاء الفضل طلب الرزق فإن الجواد إنما يجود غالبا بما زاد على مقدار حاجة نفسه وفضل الشيء ما زاد وبقي منه ومن ابتدائية ، وربما قيل : إنها للتبعيض ، وذيل

١٥٢

الآية تعليل للحكم بالرحمة ، والمعنى ظاهر. والآية تمهيد لتاليها.

قوله تعالى : « وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ » إلى آخر الآية الضر الشدة ، ومس الضر في البحر هو خوف الغرق بالإشراف عليه بعصف الرياح وتقاذف الأمواج ونحو ذلك.

وقوله : « ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ » المراد بالضلال ـ على ما ذكروا ـ الذهاب عن الخواطر دون الخروج عن الطريق وقيل : هو بمعنى الضياع من قولهم : ضل عن فلان كذا أي ضاع عنه ويعود على أي حال إلى معنى النسيان.

والمراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعم قوله : « مَنْ تَدْعُونَ » الإله الحق والآلهة الباطلة التي يدعوها المشركون ، والاستثناء متصل ، والمعنى وإذا اشتد عليكم الأمر في البحر بالإشراف على الغرق نسيتم كل إله تدعونه وتسألونه حوائجكم إلا الله.

وقيل : المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختص بمن يعبدونه من دون الله والاستثناء منقطع ، والمعنى إذا مسكم الضر في البحر ذهب عن خواطركم الآلهة الذين تعبدونهم لكن الله سبحانه لا يغيب عنكم ولا ينسى.

والظاهر أن المراد بالضلال معناه المعروف وهو خلاف الهدى والكلام مبني على تمثيل لطيف كأن الإنسان إذا مسه الضر في البحر ووقع في قلبه أن يدعو لكشف ضره قصده آلهته الذين كان يدعوهم ويستمر في دعائهم قبل ذلك وأخذوا يسعون نحوه ويتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم ويدعوهم ويستغيث بهم لكنهم جميعا يضلون الطريق ولا ينتهون إلى ذكره فينساهم والله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في ذكره يذكره الإنسان عند ذلك فيدعوه وقد كان معرضا عنه فيجيبه وينجيه إلى البر.

وبذلك يظهر أن المراد بالضلال معناه المعروف ، وبمن تدعون آلهتهم من دون الله فحسب وأن الاستثناء منقطع والوجه في جعل الاستثناء منقطعا أن الذي يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزهه من السعي والوقوع في الطريق وقطعه ونحو ذلك.

مضافا إلى أن قوله : « فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ » ظاهر في أن المراد بالدعوة

١٥٣

دعاء المسألة وأنهم في البر أي في حالهم العادي غير حال الضر معرضون عنه تعالى لا يدعونه فقوله : « مَنْ تَدْعُونَ » الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الذين كانوا يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع.

وقوله : « فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ » أي فلما نجاكم من الغرق وكشف عنكم الضر رادا لكم إلى البر أعرضتم عنه أو عن دعائه وفيه دلالة على أنه تعالى غير مغفول عنه للإنسان في حال وأن فطرته تهديه إلى دعائه في الضراء والسراء والشدة والرخاء جميعا فإن الإعراض إنما يتحقق عن أمر ثابت موجود فقوله : إن الإنسان يدعوه في الضر ويعرض عنه بعد كشفه في معنى أنه مهدي إليه بالفطرة دائما.

وقوله : « وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً » أي إن الكفران من دأب الإنسان من حيث إن له الطبيعة الإنسانية فإنه يتعلق بالأسباب الظاهرية فينسى مسبب الأسباب فلا يشكره تعالى وهو يتقلب في نعمة الظاهرة والباطنة.

وفي تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أن إعراض الإنسان عن ربه في غير حال الضر ليس بحال غريزي فطري له حتى يستدل بنسيانه ربه على نفي الربوبية بل هو دأب سيء من الإنسان يوقعه فيه كفران النعمة.

وفي الآية حجة على توحده تعالى في ربوبيته ، ومحصله أن الإنسان إذا انقطع عن جميع الأسباب الظاهرية وأيس منها لم ينقطع عن التعلق بالسبب من أصله ولم يبطل منه رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة وتعلق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه سائر الأسباب ، ولا معنى لهذا التعلق الفطري لو لا أن هناك سببا فوق الأسباب إليه يرجع الأمر كله ، وهو الله سبحانه ، وليس يصرف الإنسان عنه إلا الاشتغال بزخارف الحياة الدنيا والتعلق بالأسباب الظاهرية والغفلة عما وراءها.

قوله تعالى : « أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً » خسوف القمر استتار قرصه بالظلمة والظل وخسف الله به الأرض أي ستره فيها ، والحاصب ـ كما في المجمع ، ـ الريح التي ترمي بالحصباء والحصى الصغار وقيل : الحاصب الريح المهلكة في البر والقاصف الريح المهلكة في البحر.

١٥٤

والاستفهام للتوبيخ يوبخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البر فإنهم لا مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البر كما لا مؤمن لهم حال مس الضر في البحر إذ لا علم لهم بما سيحدث لهم وعليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا فيهلكهم بذلك ثم لا يجدوا لأنفسهم وكيلا يدفع عنهم الشدة والبلاء ويعيد إليهم الأمن والسلام.

قوله تعالى : « أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى » إلى آخر الآية القصف الكسر بشدة وقاصف الريح هي التي تكسر السفن والأبنية ، وقيل : القاصف الريح المهلكة في البحر والتبيع هو التابع يتبع الشيء ، وضمير « فِيهِ » للبحر وضمير « بِهِ » للغرق أو للإرسال أو لهما معا باعتبار ما وقع ولكل قائل ، والآية من تمام التوبيخ.

والمعنى أم هل أمنتم بنجاتكم إلى البر أن يعيدكم الله في البحر تارة أخرى فيرسل عليكم ريحا كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثم لا تجدوا بسبب الإغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم؟ ويؤاخذه على ما فعل.

وفي قوله : « ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً » التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير وكان النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة والكبرياء. وهو المناسب في المقام ، وليكون مع ذلك توطئة لما في الآيات التالية من سياق التكلم بالغير.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً » الآية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب كأنه تعالى لما ذكر وفور نعمه وتواتر فضله ورحمته على الإنسان وحمله في البحر ابتغاء فضله ورزقه ، ورفاه حاله في البر ثم نسيانه لربه وإعراضه عن دعائه إذا نجاه وكشف ضره كفرانا مع أنه متقلب دائما بين نعمه التي لا تحصى نبه على جملة تكريمه وتفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالإنسان وكفران الإنسان لنعمه على كثرتها وبلوغها.

وبذلك يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية والقرب والفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق وإلا لم يتم معنى الامتنان والعتاب.

١٥٥

فقوله : « وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ » المراد بالتكريم تخصيص الشيء بالعناية وتشريفه بما يختص به ولا يوجد في غيره ، وبذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي وهو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه ، والتفضيل معنى إضافي وهو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية ، والإنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والأحوال التي توجد بينها والأعمال التي يأتي بها.

وينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الإنسان به في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه ومنكحه ويأتي به من النظم والتدبير في مجتمعة ، ويتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية ، وقياس ذلك مما لسائر الحيوان والنبات وغيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة وهي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس ؛ وقد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة ولا يزال يسعى ويرقى.

وبالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية وهو الذي يمتازون به من غيرهم وهو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل والخير من الشر والنافع من الضار.

وأما ما ذكره المفسرون أو وردت به الرواية أن الذي كرمهم الله به النطق أو تعديل القامة وامتدادها أو الأصابع يفعلون بها ما يشاءون أو الأكل باليد أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق وتسخيرهم له أو أن الله خلق أباهم آدم بيده أو أنه جعل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم أو جميع ذلك وما ذكر منها فإنما ذكر على سبيل التمثيل.

فبعضها مما يتفرع على العقل كالخط والنطق والتسلط على غيره من الخلق وبعضها من مصاديق التفضيل دون التكريم وقد تقدم الفرق بينهما ، وبعضها خارج عن مدلول الآية كالتكريم بخلق أبيهم آدم عليه‌السلام بيده وجعل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم فإن ذلك من التكريم الأخروي والتشريف المعنوي الخارج عن مدلول الآية كما تقدم.

وبذلك يظهر ما في قول بعضهم : إن التكريم بجميع ذلك وقد أخطأ صاحب

١٥٦

روح المعاني حيث قال بعد ذكر الأقوال. والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال : إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل. انتهى. ووجه خطأه ظاهر مما تقدم.

وقوله : « وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ » أي حملناهم على السفن والدواب وغير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم وابتغاء فضل ربهم ورزقه وهذا أحد مظاهر تكريمهم.

وقوله : « وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ » أي من الأشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه والثمار وسائر ما يتنعمون به ويستلذونه مما يصدق عليه الرزق ، وهذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة وهي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها وهو تكريم ثم يقدم عليه أنواع الأغذية والأطعمة الطيبة اللذيذة وهو تكريم.

وبذلك يظهر أن عطف قوله : « وَحَمَلْناهُمْ » إلخ وقوله : « وَرَزَقْناهُمْ » إلخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها.

وقوله : « وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً » لا يبعد أن يكون المراد بمن خلقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور والجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه يعد أنواع الحيوان أمما أرضية كالأمة الإنسانية ويجريها مجرى أولي العقل كما قال : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ».

وهذا هو الأنسب بمعنى الآية وقد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به بني آدم وفضلهم على سائر الموجودات الكونية وهي ـ فيما نعلم ـ الحيوان والجن وأما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادي الحاكم في عالم المادة.

فالمعنى : وفضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا وهم الحيوان والجن وأما غير

١٥٧

الكثير وهم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لأنهم موجودات نورية غير كونية ولا داخلة في مجرى النظام الكوني ، والآية إنما تتكلم في الإنسان من جهة أنه أحد الموجودات الكونية وقد أنعم عليه بنعم نفسية وإضافية.

وقد تبين مما تقدم :

أولا : أن كلا من التكريم والتفضيل في الآية ناظر إلى نوع من الموهبة الإلهية التي أوتيها الإنسان ، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره وهو العقل الذي يميز به الخير من الشر والنافع من الضار والحسن من القبيح ويتفرع عليه مواهب أخرى كالتسلط على غيره واستخدامه في سبيل مقاصده والنطق والخط وغيره.

وأما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الأمور المشتركة بينه وبين غيره كما أن الحيوان يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب ونحو ذلك على وجه ساذج والإنسان يتغذى بذلك ويزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ وغير المطبوخ على أنحاء مختلفة وفنون مبتكرة وطعوم مستطابة لذيذة لا تكاد تحصى ولا تزال تزداد نوعا وصنفا ، وقس على ذلك الحال في مشربه وملبسه ومسكنه ونكاحه واجتماعه المنزلي والمدني وغير ذلك.

وقال في مجمع البيان ، : ومتى قيل : إذا كان معنى التكريم والتفضيل واحدا فما معنى التكرار؟ فجوابه أن قوله : « كَرَّمْنا » ينبئ عن الإنعام ولا ينبئ عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه ، وقيل : إن التكريم يتناول نعم الدنيا والتفضيل يتناول نعم الآخرة ، وقيل : إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف ، والتفضل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى.

أما ما ذكره أن التفضيل يدل على نكتة زائدة على مدلول التكريم وهو كونه تفضلا وإعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع والتفضيل كما يصح لا عن استحقاق من المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك ، وأما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل.

وقال الرازي في تفسيره ، في الفرق بينهما : إن الأقرب في ذلك أن يقال : إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط

١٥٨

والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل : فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره انتهى.

ومحصله الفرق بين التكريم والتفضيل بأن الأول إنما هو في الأمور الذاتية أو ما يلحق بها من الغريزيات والثاني في الأمور الاكتسابية وأنت خبير بأن الإنسان وإن وجد فيه من المواهب الإلهية والكمالات الوجودية أمور ذاتية وأمور اكتسابية على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الأول والتفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة ولا عرف. فالوجه ما قدمناه.

وثانيا : أن الآية ناظرة إلى الكمال الإنساني من حيث وجوده الكوني وتكريمه وتفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام والمراد بتفضيل الإنسان على كثير ممن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية ، وأما الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه.

وبذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الإنسان حتى الأنبياء عليهم‌السلام قال : لأن قوله تعالى : « وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا » يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه ، وليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق.

وجه الفساد : أن الذي تعرضت له الآية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي والملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود ، وإلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أن التفضيل في الآية لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء ، وإنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي أوتيها في الدنيا.

وأما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الآية الجميع ومن بيانية ، والمعنى وفضلناهم على من خلقنا وهم كثير.

١٥٩

ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم ولا سياق الآية ، وما قيل : إنه من قبيل قولهم : بذلت له العريض من جاهي وأبحته المنيع من حريمي ولا يراد به أني بذلت له عريض جاهي ومنعته ما ليس بعريض وأبحته منيع حريمي ولم أبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض وأبحته حريمي الذي هو منيع ، يرده أنه إن أريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه عريضا وكل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه والحريم حينئذ إلى عريض وغير عريض ومنيع وغير منيع ولم ينطبق على مورد الآية المدعى أنه أطلق فيها البعض وأريد به الكل ، وإن أريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض وأبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالأولوية ولم يجز في مورد الآية قطعا.

وربما أجيب عن ذلك بأنا إن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة ولفظة من للتبعيض فغاية ما في الباب أن تكون الآية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة وهو أعم من تفضيل الملك على الإنسان لجواز التساوي ، ولو سلم أنها تدل على التفضيل فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم وهذا لا ينافي أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالأنبياء عليهم‌السلام.

والحق كما عرفت أن الآية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب والفضل الأخروي وبعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكوني ، والمراد بكثير ممن خلقنا غير الملائكة ومن تبعيضية والمراد بمن خلقنا الملائكة وغيرهم من الإنسان والحيوان والجن. والإنسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان والجن هذا وسيوافيك كلام في معنى تفضيل الإنسان على الملك إن شاء الله.

كلام في الفضل بين الإنسان والملك

اختلف المسلمون في أن الإنسان والملك أيهما أفضل؟ فالمعروف المنسوب إلى الأشاعرة أن الإنسان أفضل والمراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أن من الإنسان من هو أضل من الأنعام وهو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن

١٦٠