الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ » : ( الحجرات : ٩ ).

على أنها جميعا تفسر قوله تعالى في القصة حكاية عن هابيل : « لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ » بأن المراد تمكين هابيل لأخيه في قتله وتركه الدفاع ، وقد عرفت ما فيه.

ومما يوجب سوء الظن بها أنها مروية عن أناس قعدوا في فتنة الدار وفي حروب علي عليه‌السلام مع معاوية والخوارج وطلحة والزبير ، فالواجب توجيهها بوجه إن أمكن وإلا فالطرح.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن عساكر عن علي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : بدمشق جبل يقال له : « قاسيون » فيه قتل ابن آدم أخاه.

أقول : والرواية لا بأس بها غير أن ابن عساكر روى بطريق عن كعب الأحبار أنه قال : إن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم ، وبطريق آخر عن عمرو بن خبير الشعباني قال : كنت مع كعب الأحبار على جبل دير المران فرأى لجة سائلة في الجبل فقال : هاهنا قتل ابن آدم أخاه ، وهذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين.

والروايتان تدلان على أنه كان هناك أثر ثابت يدعى أنه دم هابيل المقتول ، ويشبه أن يكون ذلك من الأمور الخرافية التي ربما وضعوها لصرف وجوه الناس إليها بالزيارة وإيتاء النذور وإهداء الهدايا نظير آثار الأكف والأقدام المعمولة على الأحجار وقبر الجدة وغير ذلك.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ـ لأنه أول من سن القتل.

أقول : وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة والشيعة بغير هذا الطريق.

وفي الكافي ، بإسناده عن حمران قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ، ما معنى قول الله عز وجل « مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ـ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ ـ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً »؟ ـ قال : قلت : وكيف فكأنما قتل الناس جميعا ـ وإنما قتل

٣٢١

واحدة؟ قال : يوضع في موضع من جهنم إليه ـ منتهى شدة عذاب أهلها ، لو قتل الناس جميعا كان إنما دخل ذلك المكان ، قلت : فإن قتل آخر؟ قال : يضاعف عليه : أقول : ورواه الصدوق في معاني الأخبار ، عن حمران مثله.

وقوله : « قلت : فإن قتل آخر؟ » إشارة إلى ما تقدم بيانه من إشكال لزوم تساوي القتل الواحد معه منضما إلى غيره ، وقد أجاب عليه‌السلام عنه بقوله : « يضاعف عليه » ولا يرد عليه أنه رفع اليد عن التسوية التي يشير إليه حديث المنزلة : « مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ » (إلخ) حيث إن لازم المضاعفة عدم تساوي الواحد والكثير أو الجميع ، وجه عدم الورود أن تساوي المنزلة راجع إلى سنخ العذاب وهو كون قاتل الواحد والاثنين والجميع في واد واحد من أودية جهنم ، ويشير إليه قوله عليه‌السلام في الرواية : « لو قتل الناس جميعا كان إنما دخل ذلك المكان ».

ويشهد على ما ذكرنا ما رواه العياشي في تفسيره عن حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الآية قال عليه‌السلام منزلة في النار ـ إليها انتهاء شدة عذاب أهل النار جميعا فيجعل فيها ، قلت : وإن كان قتل اثنين؟ قال : ألا ترى أنه ليس في النار منزلة ـ أشد عذابا منها؟ قال : يكون يضاعف عليه بقدر ما عمل ، الحديث فإن الجمع بين النفي والإثبات في جوابه عليه‌السلام ليس إلا لما وجهنا به الرواية ، وهو أن الاتحاد والتساوي في سنخ العذاب ، وإليه تشير المنزلة ، والاختلاف في شخصه ونفس ما يذوقه القاتل فيه.

ويشهد عليه أيضا في الجملة ما فيه أيضا عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله : « مَنْ قَتَلَ نَفْساً ... فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً » ـ قال : واد في جهنم لو قتل الناس جميعا كان فيه ، ولو قتل نفس واحدة كان فيه.

أقول : وكان الآية منقولة فيها بالمعنى.

وفي الكافي ، بإسناده عن فضيل بن يسار قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام قول الله عز وجل في كتابه : « وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً » ـ قال : من حرق أو غرق قلت : من أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال : ذلك تأويلها الأعظم :

أقول : ورواه الشيخ في أماليه والبرقي في المحاسن ، عن فضيل عنه عليه‌السلام ، وروي الحديث عن سماعة وحمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٣٢٢

والمراد بكون الإنقاذ من الضلالة تأويلا أعظم للآية كونه تفسيرا أدق لها ، والتأويل كثيرا ما كان يستعمل في صدر الإسلام مرادفا للتفسير.

ويؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي ، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله. « مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ ـ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً » ـ فقال : له في النار مقعد ـ لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك العذاب. قال : « وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً » ـ لم يقتلها أو أنجى من غرق أو حرق ، وأعظم من ذلك كلها يخرجها من ضلالة إلى هدى.

أقول : وقوله « لم يقتلها » أي لم يقتلها بعد ثبوت القتل لها كما في مورد القصاص.

وفيه ، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته : « وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً » ـ قال : من استخرجها من الكفر إلى الإيمان.

أقول : وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات الواردة من طرق أهل السنة.

وفي المجمع : روي عن أبي جعفر عليه‌السلام : المسرفون الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء.

( بحث علمي وتطبيق )

في الإصحاح الرابع من سفر التكوين من التوراة ما نصه: (١) وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين ـ وقالت اقتنيت رجلا من عند الرب (٢) ثم عادت فولدت أخاه هابيل ـ وكان هابيل راعيا للغنم ـ وكان قايين عاملا في الأرض (٣) وحدث من بعد أيام ـ أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب (٤) وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها ـ فنظر الرب إلى هابيل وقربانه (٥) ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر ـ فاغتاظ قايين جدا وسقط وجهه (٦) فقال الرب لقايين لما ذا اغتظت ولما ذا سقط وجهك (٧) إن أحسنت أفلا رفع ـ وإن لم تحسن فعند الباب خطيئة رابضة ـ وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها ـ.

(٨) وكلم قايين هابيل أخاه وحدث إذ كانا في الحقل ـ أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله (٩) فقال الرب لقايين أين هابيل أخوك ـ فقال لا أعلم أحارس أنا لأخي (١٠) فقال ما ذا فعلت صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض (١١) فالآن ملعون أنت من الأرض

٣٢٣

التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك (١٢) متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها تائها وهاربا تكون في الأرض (١٣) فقال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يتحمل (١٤) إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ـ ومن وجهك أختفي وأكون تائها وهاربا في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني (١٥) فقال له الرب لذلك كل من قتله قايين ـ فسبعة أضعاف ينتقم منه ـ وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده (١٦) فخرج قايين من لدن الرب ـ وسكن في أرض نود شرقي عدن ، انتهى (١).

والذي في القرآن من قصتهما قوله تعالى : « وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ـ ٢٧. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ـ ٢٨. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ـ ٢٩. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ـ ٣٠. فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ـ ٣١ ». آية : من المائدة ـ ٢٧ : ٣١ (٢).

وعليك أن تتدبر ما تشتمل عليه القصة على ما قصتها التوراة وعلى ما قصها القرآن ثم تطبق بينهما ثم تقضي ما أنت قاض.

فأول ما يبدو لك من التوراة أنها جعلت الرب تعالى موجودا أرضيا على صورة إنسان يعاشر الناس ، يحكم لهم وعليهم كما يحكم أحد الناس فيهم ، ويدنى ويقترب منه ويكلم كما يفعل ذلك أحدهم مع غيره ثم يختفي منه بالابتعاد والغيبة فلا يرى البعيد الغائب كما يرى القريب الحاضر ، وبالجملة فحاله حال إنسان أرضي من جميع الجهات غير أنه نافذ الإرادة إذا أراد ، ماضي الحكم إذا حكم ، وعلى هذا الأساس يبتني جميع تعليمات التوراة والإنجيل فيما يبثان من التعليم ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ولازم القصة التي فيها : أن البشر كان يعيش يومئذ على حال المشافهة والحضور عند الله سبحانه ، ثم احتجب عن قايين أو عنه وعن أمثاله وبقي الباقون على حالهم مع أن

__________________

(١) نقل من التوراة العربية المطبوعة في كمبروج سنة ١٩٣٥.

(٢) إنما أعدنا ذكر الآيات ليكون التطبيق أسهل والتنازل أقرب.

٣٢٤

البراهين القاطعة قائمة على أن الإنسان نوع واحد متماثل الأفراد عائش في الدنيا عيشة دنيوية مادية وأن الله جل شأنه متنزه عن الاتصاف بصفات المادة وأحوالها ، متقدس عن لحوق عوارض الإمكان وطوارق النقص والحدثان ، وهو الذي يبينه القرآن.

وأما القرآن فإنه يقص القصة على أساس تماثل الأفراد غير أنه يذيل قصة القتل بقصة بعث الغراب فيكشف عن حقيقة كون الإنسان تدريجي الكمال بانيا استكماله في مدارج الكمال الحيوي على أساس الحس والفكر.

ثم يذكر محاورة الأخوين فيقص عن المقتول من غرر المعارف الفطرية الإنسانية وأصول المعارف الدينية من التوحيد والنبوة والمعاد ، ثم أمر التقوى والظلم وهما الأصلان العاملان في جميع القوانين الإلهية والأحكام الشرعية ، ثم العدل الإلهي في مسألة القبول والرد والمجازاة الأخروية.

ثم ندامة القاتل بعد صنعه وخسرانه في الدنيا والآخرة ، ثم يبين بعد ذلك كله أن القتل من شامة أمره أن الذي يقع منه على نفس واحدة كالذي يقع منه على الناس جميعا وأن من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.

* * *

( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ـ ٣٣. إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ـ ٣٤. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ـ ٣٥. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ـ ٣٦.

٣٢٥

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ـ ٣٧. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ـ ٣٨. فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ـ ٣٩. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ٤٠. )

( بيان )

الآيات غير خالية الارتباط بما قبلها ، فإن ما تقدمها من قصة قتل ابن آدم أخاه وما كتبه الله سبحانه على بني إسرائيل من أجله ، وإن كان من تتمة الكلام على بني إسرائيل وبيان حالهم من غير أن يشتمل على حد أو حكم بالمطابقة لكنها لا تخلو بحسب لازم مضمونها من مناسبة مع هذه الآيات المتعرضة لحد المفسدين في الأرض والسراق.

قوله تعالى : « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ».

« فَساداً » مصدر وضع موضع الحال ، ومحاربة الله وإن كانت بعد استحالة معناها الحقيقي وتعين إرادة المعنى المجازي منها ذات معنى وسيع يصدق على مخالفة كل حكم من الأحكام الشرعية وكل ظلم وإسراف لكن ضم الرسول إليه يهدي إلى أن المراد بها بعض ما للرسول فيه دخل ، فيكون كالمتعين أن يراد بها ما يرجع إلى إبطال أثر ما للرسول عليه ولاية من جانب الله سبحانه كمحاربة الكفار مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإخلال قطاع الطريق بالأمن العام الذي بسطه بولايته على الأرض ، وتعقب الجملة بقوله : « وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً » يشخص المعنى المراد وهو الإفساد في الأرض بالإخلال بالأمن وقطع الطريق دون مطلق المحاربة مع المسلمين ، على أن الضرورة قاضية بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعامل المحاربين من الكفار بعد الظهور عليهم والظفر بهم هذه المعاملة من القتل والصلب والمثلة والنفي.

على أن الاستثناء في الآية التالية قرينة على كون المراد بالمحاربة هو الإفساد المذكور

٣٢٦

فإنه ظاهر في أن التوبة إنما هي من المحاربة دون الشرك ونحوه.

فالمراد بالمحاربة والإفساد على ما هو الظاهر هو الإخلال بالأمن العام ، والأمن العام إنما يختل بإيجاد الخوف العام وحلوله محله ، ولا يكون بحسب الطبع والعادة إلا باستعمال السلاح المهدد بالقتل طبعا ولهذا ورد فيما ورد من السنة تفسير الفساد في الأرض بشهر السيف ونحوه ، وسيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : « أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا » (إلخ) التقتيل والتصليب والتقطيع تفعيل من القتل والصلب والقطع يفيد شدة في معنى المجرد أو زيادة فيه ، ولفظة « أَوْ » إنما تدل على الترديد المقابل للجمع ، وأما الترتيب أو التخيير بين أطراف الترديد فإنما يستفاد أحدهما من قرينة خارجية حالية أو مقالية فالآية غير خالية عن الإجمال من هذه الجهة.

وإنما تبينها السنة وسيجيء أن المروي عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام أن الحدود الأربعة مترتبة بحسب درجات الإفساد كمن شهر سيفا فقتل النفس وأخذ المال أو قتل فقط أو أخذ المال فقط أو شهر سيفا فقط على ما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

وأما قوله : « أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ » فالمراد بكونه من خلاف أن يأخذ القطع كلا من اليد والرجل من جانب مخالف لجانب الأخرى كاليد اليمنى والرجل اليسرى ، وهذا هو القرينة على كون المراد بقطع الأيدي والأرجل قطع بعضها دون الجميع أي إحدى اليدين وإحدى الرجلين مع مراعاة مخالفة الجانب.

وأما قوله : « أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ » فالنفي هو الطرد والتغييب وفسر في السنة بطرده من بلد إلى بلد.

وفي الآية أبحاث أخر فقهية تطلب من كتب الفقه.

قوله تعالى : « ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ » الخزي هو الفضيحة ، والمعنى ظاهر.

وقد استدل بالآية على أن جريان الحد على المجرم لا يستلزم ارتفاع عذاب الآخرة ، وهو حق في الجملة.

قوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ » (إلخ) وأما بعد القبض

٣٢٧

عليهم وقيام البينة فإن الحد غير ساقط ، وأما قوله تعالى : « فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » فهو كناية عن رفع الحد عنهم ، والآية من موارد تعلق المغفرة بغير الأمر الأخروي.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » (إلخ) قال الراغب في المفردات : الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنى الرغبة ، قال تعالى : ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة ، وإذ كانت نوعا من التوصل وليس إلا توصلا واتصالا معنويا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك ، ولا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية ، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلى جنابه تعالى ، فهذه هي الوسيلة الرابطة ، وأما العلم والعمل فإنما هما من لوازمها وأدواتها كما هو ظاهر إلا أن يطلق العلم والعمل على نفس هذه الحالة.

ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : « وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ » مطلق الجهاد الذي يعم جهاد النفس وجهاد الكفار جميعا إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفار مع اتصال الجملة بما تقدمها من حديث ابتغاء الوسيلة ، وقد عرفت ما معناه : على أن الآيتين التاليتين بما تشتملان عليه من التعليل إنما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله : « وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ».

ومع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفار نظرا إلى أن تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنما وقع في الآيات الآمرة بالجهاد بمعنى القتال ، وأما الأعم فخال عن التقييد كقوله تعالى : « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » ( العنكبوت : ٦٩ ) وعلى هذا فالأمر بالجهاد في سبيل الله بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه ، ولعل الأمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الأمر بالتقوى أيضا من هذا القبيل.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ » ( إلى آخر الآيتين ) ظاهره ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ أن يكون تعليلا لمضمون الآية السابقة ، والمحصل أنه يجب عليكم أن تتقوا الله وتبتغوا إليه الوسيلة وتجاهدوا في سبيله فإن ذلك أمر يهمكم في صرف عذاب أليم مقيم عن أنفسكم ، ولا بدل له يحل محله فإن الذين كفروا فلم يتقوا الله ولم يبتغوا إليه الوسيلة ولم يجاهدوا في سبيله لو أنهم ملكوا ما في الأرض جميعا ـ وهو أقصى ما يتمناه

٣٢٨

ابن آدم من الملك الدنيوي عادة ـ ثم زيد عليه مثله ليكون لهم ضعفا ما في الأرض ثم أرادوا أن يفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وهي العذاب وما هم بخارجين منها لأنه عذاب خالد مقيم عليهم لا يفارقهم أبدا.

وفي الآية إشارة أولا إلى أن العذاب هو الأصل القريب من الإنسان وإنما يصرف عنه الإيمان والتقوى كما يشير إليه قوله تعالى : « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا » : ( مريم : ٧٢ ) وكذا قوله : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » : ( العصر : ٣ ).

وثانيا : أن الفطرة الأصلية الإنسانية وهي التي تتألم من النار غير باطلة فيهم ولا منتفية عنهم وإلا لم يتألموا ولم يتعذبوا بها ولم يريدوا الخروج منها.

قوله تعالى : « وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » (الآية) الواو للاستيناف والكلام في مقام التفصيل فهو في معنى : « وأما السارق والسارقة » (إلخ) ولذلك دخل الفاء في الخبر أعني قوله : « فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » لأنه في معنى جواب أما ، كذا قيل.

وأما استعمال الجمع في قوله : « أَيْدِيَهُما » مع أن المراد هو المثنى فقد قيل : إنه استعمال شائع ، والوجه فيه : أن بعض الأعضاء أو أكثرها في الإنسان مزدوجة كالقرنين والعينين والأذنين واليدين والرجلين والقدمين ، وإذا أضيفت هذه إلى المثنى صارت أربعا ولها لفظ الجمع كأعينهما وأيديهما وأرجلهما ونحو ذلك ثم اطرد الجمع في الكلام إذا أضيف عضو إلى المثنى وإن لم يكن العضو من المزدوجات كقولهم : ملأت ظهورهما وبطونهما ضربا ، قال تعالى : « إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما » : ( التحريم : ٤ ) واليد ما دون المنكب والمراد بها في الآية اليمين بتفسير السنة ، ويصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطاعة.

قوله : « جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ » الظاهر أنه في موضع الحال من القطع المفهوم من قوله : « فَاقْطَعُوا » أي حال كون القطع جزاء بما كسبا نكالا من الله ، والنكال هو العقوبة التي يعاقب بها المجرم لينتهي عن إجرامه ، ويعتبر بها غيره من الناس.

وهذا المعنى أعني كون القطع نكالا هو المصحح لأن يتفرع عليه قوله : « فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ » « إلخ » أي لما كان القطع نكالا يراد به رجوع

٣٢٩

المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة ثم أصلح ولم يحم حول السرقة ـ وهذا أمر يستثبت به معنى التوبة ـ فإن الله يتوب عليه ويرجع إليه بالمغفرة والرحمة لأن الله غفور رحيم ، قال تعالى : « ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً » ( النساء : ١٤٧ ).

وفي الآية أبحاث أخر كثيرة فقهية للطالب أن يراجع فيها كتب الفقه.

قوله تعالى : « أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » (الآية) في موضع التعليل لما ذكر في الآية السابقة من قبول توبة السارق والسارقة إذا تابا وأصلحا من بعد ظلمهما فإن الله سبحانه لما كان له ملك السموات والأرض ، وللملك أن يحكم في مملكته ورعيته بما أحب وأراد من عذاب أو رحمة كان له تعالى أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء على حسب الحكمة والمصلحة فيعذب السارق والسارقة إن لم يتوبا ويغفر لهما إن تابا.

وقوله : « وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » في موضع التعليل لقوله : « لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » فإن الملك ( بضم الميم ) من شئون القدرة كما أن الملك ( بكسر الميم ) من فروع الخلق والإيجاد أعني القيمومة الإلهية.

بيان ذلك : أن الله تعالى خالق الأشياء وموجدها فما من شيء إلا وما له من نفسه وآثار نفسه لله سبحانه ، هو المعطي لما أعطى والمانع لما منع ، فله أن يتصرف في كل شيء ، وهذا هو الملك ( بكسر الميم ) قال تعالى : « قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » ( الرعد : ١٦ ) وقال : « اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ » : ( البقرة : ٢٥٥ ) وهو تعالى مع ذلك قادر على أي تصرف شاء وأراد إذ كلما فرض من شيء فهو منه فله مضي الحكم ونفوذ الإرادة وهو الملك ( بضم الميم ) والسلطنة على كل شيء فهو تعالى مالك لأنه قيوم على كل شيء ، وملك لأنه قادر غير عاجز ولا ممنوع من نفوذ مشيئته وإرادته.

( بحث روائي )

في الكافي ، بإسناده عن أبي صالح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من بني ضبة مرضى ـ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم

٣٣٠

في سرية ، فقالوا : أخرجنا من المدينة ، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ، ويأكلون من ألبانها فلما برءوا واشتدوا ـ قتلوا ثلاثة ممن كان في الإبل ـ فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعث إليهم عليا عليه‌السلام ـ وإذا هم في واد قد تحيروا ـ ليس يقدرون أن يخرجوا منه ـ قريبا من أرض اليمن فأسرهم ـ وجاء بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت هذه الآية : « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ـ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ـ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ».

أقول : ورواه في التهذيب ، بإسناده عن أبي صالح عنه عليه‌السلام ، باختلاف يسير ، ورواه العياشي ، في تفسيره عنه عليه‌السلام : وزاد في آخره ـ فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، والقصة مروية في جوامع أهل السنة ومنها الصحاح الستة بطرق على اختلاف في خصوصياتها ، ومنها ما وقع في بعضها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن ظفر بهم قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم ، وفي بعضها : فقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم وصلب وقطع وسمل الأعين ، وفي بعضها : أنه سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة ، وفي بعضها : أن الله نهاه عن سمل الأعين ، وأن الآية نزلت معاتبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر هذه المثلة ، وفي بعضها : أنه أراد أن يسمل أعينهم ولم يسمل ، إلى غير ذلك.

والروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام خالية عن ذكر سمل الأعين.

وفي الكافي ، بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد الله المدائني عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سئل عن قول الله عز وجل : « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ـ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا » (الآية) فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟

فقال : إذا حارب الله ورسوله ـ وسعى في الأرض فسادا فقتل قتل به ، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل ـ قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن شهر السيف فحارب الله ورسوله ـ وسعى في الأرض فسادا ولم يقتل ـ ولم يأخذ المال نفي من الأرض ـ.

قلت كيف ينفى من الأرض وما حد نفيه؟ قال : ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره ، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنه منفي ـ فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة ـ فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره ـ كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السنة ، قلت : فإن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال : إن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها.

٣٣١

أقول : ورواه الشيخ في التهذيب ، والعياشي في تفسيره عن أبي إسحاق المدائني عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله والروايات في هذه المعاني مستفيضة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام وكذا روي ذلك بعدة طرق من طرق أهل السنة ، وفي بعض رواياتهم أن الإمام بالخيار إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل من خلاف وإن شاء نفى ، ونظيره ما وقع في بعض روايات الخاصة من كون الإمام بالخيار كالذي رواه في الكافي ، مسندا عن جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام : في الآية قال فقلت : أي شيء عليهم من هذه الحدود التي سمى الله عز وجل؟ قال : ذلك إلى الإمام إن شاء قطع ، وإن شاء نفى ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قتل : قلت : النفي إلى أين؟ قال عليه‌السلام ينفى من مصر إلى آخر ، وقال : إن عليا عليه‌السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة.

وتمام الكلام في الفقه غير أن الآية لا تخلو عن إشعار بالترتيب بين الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد فإن الترديد بين القتل والصلب والقطع والنفي ـ وهي أمور غير متعادلة ولا متوازنة بل مختلفة من حيث الشدة والضعف ـ قرينة عقلية على ذلك.

كما أن ظاهر الآية أنها حدود للمحاربة والفساد فمن شهر سيفا وسعى في الأرض فسادا أو قتل نفسا فإنما يقتل لأنه محارب مفسد وليس ذلك قصاصا يقتص منه لقتل النفس المحترمة فلا يسقط القتل لو رضي أولياء المقتول بالدية

كما رواه العياشي في تفسيره ، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وفيه : قال أبو عبيدة : أصلحك الله ـ أرأيت إن عفا عنه أولياء المقتول؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن عفوا عنه فعلى الإمام أن يقتله ـ لأنه قد حارب وقتل وسرق ، فقال أبو عبيدة : فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ألهم ذلك؟ قال : لا ، عليه القتل.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في كتاب الأشراف وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة ـ قد أفسد في الأرض وحارب ، وكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا ـ فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين ـ يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا؟ قال : أن يقتلوا أو يصلبوا ـ أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ـ أو ينفوا من الأرض ثم قال : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم.

فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ، فقال سعيد : هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا

٣٣٢

فهو آمن؟ قال : نعم ، قال : فجاء به إليه فبايعه ـ وقبل ذلك منه وكتب له أمانا.

أقول : قول سعيد في الرواية : « وإن كان حارثة بن بدر » ضميمة ضمها إلى الآية لإبانة إطلاقها لكل تائب بعد المحاربة والإفساد وهذا كثير في الكلام.

وفي الكافي ، بإسناده عن سورة بني كليب قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة ـ فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه؟ قال : أي شيء يقول فيه من قبلكم؟ قلت : يقولون : هذه ذعارة معلنة ـ وإنما المحارب في قرى مشركة ، فقال : أيها أعظم حرمة : دار الإسلام أو دار الشرك؟ قال : فقلت : دار الإسلام ـ فقال : هؤلاء من أهل هذه الآية : « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ » (إلى آخر الآية).

أقول : ما أشار إليه الراوي من قول القوم هو الذي وقع في بعض روايات الجمهور كما في بعض روايات سبب النزول عن الضحاك قال : نزلت هذه الآية في المشركين ، وما في تفسير الطبري : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره : أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر من العرنيين وهم من بجيلة ، قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل عن القضاء فيمن حارب فقال : من سرق وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه ، إلى غير ذلك من الروايات.

والآية بإطلاقها يؤيد ما في خبر الكافي ، ومن المعلوم أن سبب النزول لا يوجب تقيد ظاهر الآية.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ـ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » (الآية) قال : فقال : تقربوا إليه بالإمام.

أقول : أي بطاعته فهو من قبيل الجري والانطباق على المصداق ، ونظيره ما عن ابن شهر آشوب قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله تعالى : « وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » : أنا وسيلته.

وقريب منه ما في بصائر الدرجات ، بإسناده عن سلمان عن علي عليه‌السلام ، ويمكن أن يكون الروايتان من قبيل التأويل فتدبر فيهما.

وفي المجمع : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة ـ لا ينالها

٣٣٣

إلا عبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو.

وفي المعاني ، بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا سألتم الله فاسألوا لي الوسيلة ، فسألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الوسيلة ، فقال : هي درجتي في الجنة ( الحديث ) وهو طويل معروف بحديث الوسيلة.

وأنت إذا تدبرت الحديث ، وانطباق معنى الآية عليه وجدت أن الوسيلة هي مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ربه الذي به يتقرب هو إليه تعالى ، ويلحق به آله الطاهرون ثم الصالحون من أمته ، وقد ورد في بعض الروايات عنهم عليه‌السلام : أن رسول الله آخذ بحجزة ربه ـ ونحن آخذون بحجزته ، وأنتم آخذون بحجزتنا.

وإلى ذلك يرجع ما ذكرناه في روايتي القمي وابن شهر آشوب أن من المحتمل أن تكونا من التأويل ، ولعلنا نوفق لشرح هذا المعنى في موضع يناسبه مما سيأتي.

ومن الملحق بهذه الروايات ما رواه العياشي عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : عدو علي هم المخلدون في النار ـ قال الله : « وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ».

وفي البرهان في قوله تعالى : « وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما » (الآية) : عن التهذيب ، بإسناده عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : تقطع يد السارق ويترك إبهامه وراحته ، وتقطع رجله ويترك عقبه يمشي عليها.

وفي التهذيب ، أيضا بإسناده عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : في كم تقطع يد السارق؟ فقال : في ربع دينار. قال : قلت له : في درهمين؟ فقال : في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ. قال : فقلت له : أرأيت من سرق أقل من ربع الدينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق؟ وهل هو عند الله سارق في تلك الحال؟ فقال : كل من سرق من مسلم شيئا ـ قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق ، وهو عند الله سارق ـ ولكن لا تقطع إلا في ربع دينار أو أكثر ، ولو قطعت يد السارق فيما هو أقل من ربع دينار ـ لألفيت عامة الناس مقطعين.

أقول : يريد عليه‌السلام بقوله : ولو قطعت يد السارق (إلخ) أن في حكم القطع تخفيفا من الله رحمة منه لعباده ، وهذا المعنى أعني اختصاص الحكم بسرقة ربع دينار أو أكثر مروي ببعض طرق الجمهور أيضا ففي صحيحي البخاري ومسلم ، بإسنادهما عن عائشة أن

٣٣٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.

وفي تفسير العياشي ، عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنه قال : إذا أخذ السارق فقطع وسط الكف ـ فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم ـ فإن عاد استودع السجن ـ فإن سرق في السجن قتل.

وفيه ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : عن رجل سرق وقطعت يده اليمنى ـ ثم سرق فقطعت رجله اليسرى ثم سرق الثالثة؟ قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يخلده في السجن ـ ويقول : إني لأستحيي من ربي ـ أن أدعه بلا يد يستنظف بها ـ ولا رجل يمشي بها إلى حاجته.

قال : فكان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل ، وإذا قطع الرجل قطعها دون الكعبين قال : وكان لا يرى أن يغفل عن شيء من الحدود.

وفيه : عن زرقان صاحب ابن أبي دواد وصديقه بشدة قال : رجع ابن أبي دواد ذات يوم من عند المعتصم ، وهو مغتم فقلت له في ذلك فقال : وددت اليوم أني قدمت منذ عشرين سنة قال : قلت له : ولم ذاك؟ قال : لما كان من هذا الأسود ـ أبا جعفر محمد بن علي بن موسى ـ اليوم بين يدي أمير المؤمنين المعتصم ـ قال : قلت : وكيف كان ذلك؟ قال : إن سارقا أقر على نفسه بالسرقة ـ وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه ـ فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه ، وقد أحضر محمد بن علي فسألنا عن القطع ـ في أي موضع يجب أن يقطع؟ قال : فقلت : من الكرسوع لقول الله في التيمم : « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ » واتفق معي على ذلك قوم.

وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق ـ قال : وما الدليل على ذلك؟ قالوا : لأن الله لما قال : « وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ » في الغسل ـ دل على ذلك أن حد اليد هو المرفق.

قال : فالتفت إلى محمد بن علي ـ فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال : قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين ـ قال : دعني بما تكلموا به أي شيء عندك؟ قال : اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين ـ قال : أقسمت عليك بالله ـ لما أخبرت بما عندك فيه ، فقال. أما إذا أقسمت علي بالله إني أقول : إنهم أخطئوا فيه السنة ، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ـ فتترك الكف ، قال : وما الحجة في ذلك؟ قال : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : السجود على سبعة أعضاء : الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ـ فإذا قطعت يده من الكرسوع

٣٣٥

أو المرفق ـ لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تبارك وتعالى : « وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ » يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً » وما كان لله لم يقطع.

قال : فأعجب المعتصم ذلك ـ فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف. قال ابن أبي دواد : قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حيا ـ.

قال ابن أبي زرقان : إن ابن أبي دواد قال : صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت : إن نصيحة أمير المؤمنين علي واجبة ـ وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل به النار قال : وما هو؟

قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه ـ فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين ـ فسألهم عن الحكم فيه ـ فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر المجلس بنوه وقواده ووزراؤه وكتابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ـ ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل ـ يقول شطر هذه الأمة بإمامته ، ويدعون أنه أولى منه بمقامه ـ ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ قال : فتغير لونه ، وانتبه لما نبهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيرا.

قال : فأمر اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه ـ بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه ، وقال : قد علمت أني لا أحضر مجالسكم ـ فقال : إني إنما أدعوك إلى الطعام ـ وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ـ وقد : أحب فلان بن فلان ـ من وزراء الخليفة لقائك فصار إليه ـ فلما أطعم منها أحس مآلم السم ـ فدعا بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم ـ قال : خروجي من دارك خير لك ، فلم يزل يومه ذلك وليلته في خلفه حتى قبض.

أقول : ورويت القصة بغيره من الطرق ، وإنما أوردنا الرواية بطولها كبعض ما تقدمها من الروايات المتكررة لاشتمالها على أبحاث قرآنية دقيقة يستعان بها على فهم الآيات.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر : أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقطعت يدها اليمنى ـ فقالت : هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال : نعم ـ أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ، فنزل الله في سورة المائدة : « فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».

أقول : الرواية من قبيل التطبيق واتصال الآية بما قبلها ، ونزولهما معا ظاهر.

٣٣٦

* * *

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ـ ٤١. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ـ ٤٢. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ـ ٤٣. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ

٣٣٧

بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ـ ٤٤. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ـ ٤٥. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ـ ٤٦. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ـ ٤٧. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ـ ٤٨. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ ـ ٤٩. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ـ ٥٠. )

( بيان )

الآيات متصلة الأجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنها نزلت في طائفة من أهل الكتاب حكموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض أحكام التوراة وهم يرجون أن يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فرارا من حكمها قائلين بعضهم لبعض : « إِنْ أُوتِيتُمْ هذا ـ أي ما يوافق هواهم ـ فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ ـ أي أوتيتم حكم التوراة ـ فَاحْذَرُوا ».

٣٣٨

وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه ، وأنه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيحكم بينهم على الهوى ورعاية جانب الأقوياء وهو حكم الجاهلية ، ومن أحسن حكما من الله لقوم يوقنون؟ وبذلك يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآيات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم ، وأراد أحبارهم أن يبدلوا حكم الرجم الذي في التوراة الجلد ، فبعثوا من يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حكم زنا المحصن ، ووصوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه ، وإن حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجم فتولوا عنه فسأل صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك وأقسمه بالله وآياته أن لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن حكم الرجم موجود في التوراة ( القصة ) وسيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

والآيات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول ، وهذا شأن الآيات القرآنية مما نزلت لأسباب خاصة من الحوادث الواقعة ، ليس لأسباب نزولها منها إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم ، وليس إلا لأن القرآن كتاب عام دائم لا يتقيد بزمان أو مكان ، ولا يختص بقوم أو حادثة خاصة ، وقال تعالى : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » : ( يوسف : ١٠٤ ) وقال تعالى : « تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً » : ( الفرقان : ١ ) وقال تعالى : « وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ » : ( فصلت : ٤٢ ).

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ » ، تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتطييب لنفسه مما لقي من هؤلاء المذكورين في الآية ، وهم الذين يسارعون في الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة ، ويسيرون فيه السير الحثيث ، تظهر من أفعالهم وأقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم ، والمسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر.

وقوله : « مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ » بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين ، وفي وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهي كما أن الأخذ بالوصف السابق أعني قوله : « الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ » للإشارة إلى علة المنهي عنه ، والمعنى ـ والله أعلم ـ : لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنهم

٣٣٩

إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم وما أولئك بالمؤمنين ، وكذلك اليهود الذين جاءوك وقالوا ما قالوا.

وقوله : « وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا » عطف على قوله : « مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا » (إلخ) على ما يفيده السياق ، وليس من الاستيناف في شيء ، وعلى هذا فقوله : « سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ » خبر لمبتدء محذوف أي هم سماعون (إلخ).

وهذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا ، وأما المنافقون المذكورون في صدر الآية فحالهم لا يوافق هذه الأوصاف كما هو ظاهر.

فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنه كذب ، وإلا لم يكن صفة ذم ، وهم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك ، يقبلون منهم كل ما ألقوه إليهم ويطيعونهم في كل ما أرادوه منهم ، واختلاف معنى السمع هو الذي أوجب تكرار قوله : « سَمَّاعُونَ » فإن الأول يفيد معنى الإصغاء والثانية معنى القبول.

وقوله : « يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ » أي بعد استقرارها في مستقرها والجملة صفة لقوله : « لِقَوْمٍ آخَرِينَ » وكذا قوله : « يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ».

ويتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم ، لها حكم إلهي عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمروهم أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه وإن حكم بغير ذلك فليحذروا.

وقوله : « وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً » الظاهر أنها معترضة يبين بها أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية ، فلتطب نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الأمر من الله وإليه وليس يملك منه تعالى شيء في ذلك ، ولا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه.

وقوله : « أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ » فقلوبهم باقية على قذارتها الأولية لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به ، وما يضل به إلا الفاسقين.

وقوله : « لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ » إيعاد لهم بالخزي في الدنيا وقد فعل بهم ، وبالعذاب العظيم في الآخرة.

قوله تعالى : « سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ » قال الراغب في المفردات : السحت

٣٤٠