الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

العزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين ، والسعادة الواقعية الشاملة على حياة الدنيا والآخرة.

وإنما أظهرت الآية ذلك بالإنباء عن ملحمة غيبية أن الله سبحانه في قبال ما يلقاه الدين من تلون هؤلاء الضعفاء الإيمان ، واختيارهم محبة غير الله على محبته ، وابتغاء العزة عند أعدائه ومساهلتهم في الجهاد في سبيله ، والخوف من كل لومة وتوبيخ سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم.

وكثير من المفسرين وإن تنبهوا على اشتمال الآية على الملحمة وأطالوا في البحث عمن تنطبق عليه الآية مصداقا غير أنهم تساهلوا في تفسير مفرداتها فلم يعطوا ما ذكر فيها من الأوصاف حق معناها فآل الأمر إلى معاملتهم كلام الله سبحانه معاملة كلام غيره وتجويز وقوع المسامحات والمساهلات العرفية فيه كما في غيره.

فالقرآن وإن لم يسلك في بلاغته مسلكا بدعا ، ولم يتخذ نهجا مخترعا جديدا في استعمال الألفاظ وتركيب الجمل ووضع الكلمات بحذاء معانيها بل جرى في ذلك مجرى غيره من الكلام.

ولكنه يفارق سائر الكلام في أمر آخر ، وهو أنا معاشر المتكلمين من البليغ وغيره إنما نبني الكلام على أساس ما نعقله من المعاني ، والمدرك لنا من المعاني إنما يدرك بفهم مكتسب من الحياة الاجتماعية التي اختلقناها بفطرتنا الإنسانية الاجتماعية ، ومن شأنها الحكم بالقياس ، وعند ذلك ينفتح باب المسامحة والمساهلة على أذهاننا فنأخذ الكثير مكان الجميع ، والغالب موضع الدائم ، ونفرض كل أمر قياسي أمرا مطلقا ، ونلحق كل نادر بالمعدوم ، ونجري كل أمر يسير مجرى ما ليس بموجود يقول قائلنا : كذا حسن أو قبيح ، وكذا محبوب أو مبغوض ، وكذا محمود أو مذموم ، وكذا نافع أو ضار ، وفلان خير أو شرير ، إلى غير ذلك فنطلق القوم في ذلك ، وإنما هو كذلك في بعض حالاته وعلى بعض التقادير ، وعند بعض الناس ، وبالقياس إلى بعض الأشياء لا مطلقا ، لكن القائل إنما يلحق بعض التقادير المخالفة بالعدم تسامحا في إدراكه وحكمه ، هذا فيما أدركه من جهات الواقع الخارج ، وأما ما يغفل عنه لمحدودية إدراكه من جهات الكون المربوطة فهو أكثر ، فما يخبر به الإنسان ويحدثه عن الخارج وخيلت له الإحاطة بالواقع إدراكا وكشفا فإنما هو مبني على التسامح في بعض الجهات ، والجهل في بعض آخر ، وهو من الهزل إن قدرنا على أن نحيط بالواقع ثم نطبق كلامه عليه ، فافهم ذلك.

٣٨١

فهذا حال كلام الإنسان المبني على ما يحصل عنده من العلم ، وأما كلام الله سبحانه فمن الواجب أن نجله عن هذه النقيصة ، وهو المحيط بكل شيء علما وقد قال تعالى في صفة كلامه : « إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ ».

وهذا من وجوه الأخذ بإطلاق كلامه تعالى فيما كان بظاهره مطلقا لم يعقب بقيد متصل أو منفصل ، ومن وجوه إشعار الوصف في كلامه بالعلية فإذا قال : « يُحِبُّهُمْ » فليس يبغضهم في شيء وإلا لاستثنى ، وإذا وصف قوما بأنهم أذلة على المؤمنين كان من الواجب أن يكونوا أذلاء لهم بما هم مؤمنون أي لصفة إيمانهم بالله سبحانه ، وأن يكونوا أذلاء في جميع أحوالهم وعلى جميع التقادير ، وإلا لم يكن القول فصلا.

نعم هناك معان تنسب إلى غير صاحبها إذا جمعها جامع يصحح ذلك كما في قوله : « وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ » : ( الجاثية : ١٦ ) وقوله : « هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » : ( الحج : ٧٨ ) وقوله : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » : ( آل عمران : ١١٠ ) وقوله : « لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » : ( البقرة : ١٤٣ ) وقوله : « وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً » : ( الفرقان : ٣٠ ) إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على أوصاف اجتماعية يتصف بها الفرد والمجتمع وليس شيء من ذلك جاريا مجرى التسامح والتساهل بل هي أوصاف يتصف بها الجزء والكل ، والفرد والمجتمع لعناية متعلقه بذلك كمثل حفنة من تراب مشتملة على جوهرة يقبض عليها لأجل الجوهرة فالتراب مقبوض والجوهرة مقبوضة والأصل في ذلك الجوهرة ، ولنرجع إلى ما كنا فيه : أما قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ » فالمراد بالارتداد والرجوع عن الدين بناء على ما مر هو موالاة اليهود والنصارى ، وخص الخطاب فيه بالمؤمنين لكون الخطاب السابق أيضا متوجها إليهم ، والمقام مقام بيان أن الدين الحق في غنى عن إيمانهم المشوب بموالاة أعداء الله ، وقد عده الله سبحانه كفرا وشركا حيث قال : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » لما أن الله سبحانه هو ولي دينه وناصره ، ومن نصرته لدينه أنه سوف يأتي بقوم براء من أعدائه يتولون أولياءه ولا يحبون إلا إياه.

وأما قوله : « فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ » نسب الإتيان إلى نفسه ليقرر معنى نصره لدينه

٣٨٢

المفهوم من السياق المشعر بأن لهذا الدين ناصرا لا يحتاج معه إلى نصرة غيره ، وهو الله عز اسمه.

وكون الكلام مسوقا لبيان انتصار الدين بهؤلاء القوم تجاه من يقصده هؤلاء الموالون لأعدائه من الانتصار القومي ، وكذا التعبير بالقوم والإتيان بالأوصاف والأفعال بصيغة الجمع كل ذلك مشعر بأن القوم الموعود إيتاؤهم إنما يبعثون جماعة مجتمعين لا فرادى ولا مثنى كان يأتي الله سبحانه في كل زمان برجل يحب الله ويحبه الله ذليل على المؤمنين عزيز على الكافرين يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم.

وإتيان هذه القوم في عين أنه منسوب إليهم منسوب إليه تعالى وهو الآتي بهم لا بمعنى أنه خالقهم إذ لا خالق إلا الله سبحانه قال : « اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » : ( الزمر : ٦٢ ) بل بمعنى أنه الباعث لهم فيما ينتهزون إليه من نصرة الدين ، والمكرم لهم بحبه لهم وحبهم له ، والموفق لهم بالتذلل لأوليائه ، والتعزز لأعدائه ، والجهاد في سبيله ، والإعراض عن كل لائمة ، فنصرتهم للدين هي نصرته تعالى له بسببهم ومن طريقهم ، وقريب الزمان وبعيده عند الله واحد ، وإن كانت أنظارنا لقصورها تفرق في ذلك.

وأما قوله تعالى : « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » فالحب مطلق معلق على الذات من غير تقييده بوصف أو غير ذلك ، أما حبهم لله فلازمه إيثارهم ربهم على كل شيء سواه مما يتعلق به نفس الإنسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها ، فهؤلاء لا يوالون أحدا من أعداء الله سبحانه ، وإن والوا أحدا فإنما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى.

وأما حبه تعالى لهم فلازمه براءتهم من كل ظلم ، وطهارتهم من كل قذارة معنوية من الكفر والفسق بعصمة أو مغفرة إلهية عن توبة ، وذلك أن جمل المظالم والمعاصي غير محبوبة لله كما قال تعالى : « فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ » : ( آل عمران : ٣٢ ) وقال : « وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » : ( آل عمران : ٥٧ ) وقال : « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » : ( الأنعام : ٤١ ) وقال : « وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ » : ( المائدة : ٦٤ ) وقال : « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » : ( البقرة : ١٩٠ ) وقال : « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ » : ( النحل : ٢٣ ) وقال : « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ » : ( الأنفال : ٥٨ ) إلى غير ذلك من الآيات.

وفي هذه الآيات جماع الرذائل الإنسانية ، وإذا ارتفعت عن إنسان بشهادة محبة الله له اتصف بما يقابلها من الفضائل لأن الإنسان لا مخلص له عن أحد طرفي الفضيلة والرذيلة إذا تخلق بخلق.

فهؤلاء هم المؤمنون بالله حقا غير مشوب إيمانهم بظلم وقد قال تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا

٣٨٣

وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » : ( الأنعام : ٨٢ ) فهم مأمونون من الضلال وقد قال تعالى : « فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ » : ( النحل : ٣٧ ) فهم في أمن إلهي من كل ضلالة ، وعلى اهتداء إلهي إلى صراطه المستقيم ، وهم بإيمانهم الذي صدقهم الله فيه مهديون إلى اتباع الرسول والتسليم التام له كتسليمهم لله سبحانه قال تعالى : « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » : ( النساء : ٦٥ ).

وعند ذلك يتم أنهم من مصاديق قوله تعالى : « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ » : ( آل عمران : ٣١ ) وبه يظهر أن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومحبة الله متلازمان فمن اتبع النبي أحبه الله ولا يحب الله عبدا إلا إذا كان متبعا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإذا اتبعوا الرسول اتصفوا بكل حسنة يحبها الله ويرضاها كالتقوى والعدل والإحسان والصبر والثبات والتوكل والتوبة والتطهر وغير ذلك قال تعالى : « فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ » : ( آل عمران : ٧٦ ) وقال : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » : ( البقرة : ١٩٥ ) وقال : « وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ » : ( آل عمران : ١٤٦ ) وقال : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ » : ( الصف : ٤ ) وقال : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ » : ( آل عمران : ١٥٩ ) وقال : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » : ( البقرة : ٢٢٢ ) إلى غير ذلك من الآيات.

وإذا تتبعت الآيات الشارحة لآثار هذه الأوصاف وفضائل تتعقبها عثرت على أمور جمة من الخصال الحسنة ، ووجدت أن جميعها تنتهي إلى أن أصحابها هم الوارثون الذين يرثون الأرض ، وأن لهم عاقبة الدار كما يومئ إليه الآية المبحوث عنها : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ » وقد قال تعالى ـ وهي كلمة جامعة ـ : « وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى » : ( طه : ١٣٢ ) وسنشرع معنى كون العاقبة للتقوى فيما يناسبه من المورد إن شاء الله العزيز.

قوله تعالى : « أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » الأذلة والأعزة جمعا الذليل والعزيز ، وهما كنايتان عن خفضهم الجناح للمؤمنين تعظيما لله الذي هو وليهم وهم أولياؤه ، وعن ترفعهم من الاعتناء بما عند الكافرين من العزة الكاذبة التي لا يعبأ بأمرها الدين كما أدب بذلك نبيه في قوله : « لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ » : ( الحجر : ٨٨ ) ولعل تعدية « أَذِلَّةٍ » بعلى لتضمينه معنى الحنان أو الحنو كما قيل.

٣٨٤

قوله تعالى : « يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ » أما قوله : « يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ » فقد اختص بالذكر من بين مناقبهم الجمة لكون الحاجة تمس إليه في المقام لبيان أن الله ينتصر لدينه بهم ، وأما قوله : « وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ » فالظاهر أنه حال متعلق بالجمل المتقدمة لا بالجملة الأخيرة فقط ـ وإن كانت هي المتيقنة في أمثال هذه التركيبات ـ وذلك لأن نصرة الدين بالجهاد في سبيل الله كما يزاحمها لومة اللائمين الذين يحذرونهم تضييع الأموال وإتلاف النفوس وتحمل الشدائد والمكاره كذلك التذلل للمؤمنين والتعزز على الكافرين وعندهم من زخارف الدنيا ومبتغيات الشهوة ، وأمتعة الحياة ما ليس عند المؤمنين هما مما يمانعه لومة اللائم ، وفي الآية ملحمة غيبية سنبحث عنها في كلام مختلط من القرآن والحديث إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي )

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ » (الآية) : أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع. رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي ـ فخلعهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : أتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.

وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ـ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ـ إلى قوله ـ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ».

وفيه ، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله.

فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعبد الله بن أبي : يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه؟ قال : إذن أقبل فأنزل الله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ

٣٨٥

وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ـ إلى أن بلغ إلى قوله ـ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ».

وفيه ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: آمن عبد الله بن أبي بن سلول قال : إن بيني وبين بني قريظة والنضير حلفا ، وإني أخاف الدوائر فارتد كافرا ، وقال عبادة بن الصامت : أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير ـ وأتولى الله ورسوله والمؤمنين.

فأنزل الله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ـ إلى قوله ـ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ » يعني عبد الله بن أبي وقوله : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ـ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ـ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ » يعني عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : « وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ ـ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ ـ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ».

أقول : ورويت القصة بغير هذه الطرق ، وقد تقدم أن هذه الأسباب أسباب تطبيقة اجتهادية ، وفيها أمارات تدل على ذلك ، كيف والآيات تذكر النصارى مع اليهود ، ولم يكن في قصة بني قينقاع وما جرى بين المسلمين وبين بني قريظة والنضير للنصارى إصبع ، ولا للمسلمين معهم شأن؟ ومجرد ذكرهم تطفلا واطرادا مما لا وجه له ، وفي القرآن آيات متعرضة لحال اليهود في الوقائع التي جرت بينهم وبين المسلمين وما داخل فيه المنافقون من أعمالهم خص فيه اليهود بالذكر ولم يذكر فيه النصارى كما في سورة الحشر وغيرها ، فما بال الاطراد والتطفل يجري حكمهما هاهنا ولا يجري هناك.

على أن الرواية تذكر الآيات النازلة في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سبع عشرة آية ( آية : ٥١ ـ ٦٧ ) ولا اتصال بينها حتى تنزل دفعة ( أولا ) ، وفيها آية : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ » وقد تواترت روايات الخاصة والعامة على أنها نزلت في علي عليه‌السلام ( ثانيا ) ، وفيها آية : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ » ولا ارتباط لها مع القصة البتة ( ثالثا ).

فليس إلا أن الراوي أخذ قصة عبادة وعبد الله ثم وجد الآيات تناسبها بعض المناسبة فطبقها عليها ثم لم يحسن التطبيق فوضع سبع عشرة آية مكان ثلاث آيات بمناسبة تعرضها لحال أهل الكتاب.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة: في قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ـ لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ـ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » في بني قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونهم ـ وقريشا

٣٨٦

ليدخلوهم حصونهم ـ فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم ـ أن يستنزلهم من حصونهم ـ فلما أطاعوا له بالنزول ـ أشار إلى حلقه بالذبح. وكان طلحة والزبير يكاتبان النصارى وأهل الشام ، وبلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كانوا يخافون العوز والفاقة ـ فيكاتبون اليهود من بني قريظة والنضير ـ فيدسون إليهم الخبر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يلتمسون عندهم القرض والنفع فنهوا عن ذلك.

أقول : والرواية لا بأس بها وهي تفسر الولاية في الآيات بولاية المحبة والمودة وقد تقدم تأييد ذلك ، وهي إن كانت سببا للنزول حقيقيا فالآيات مطلقة تجري في غير القصة كما نزلت وجرت فيها ، وإن كانت من الجري والتطبيق فالأمر أوضح.

وفي المجمع في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ـ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ » (الآية) قال : وقيل : هم أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأصحابه ـ حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين ، وروي ذلك عن عمار وحذيفة وابن عباس ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.

أقول : قال في المجمع ، بعد ذكر الرواية : ويؤيد هذا القول أن النبي وصفه بهذه الصفات المذكورة في الآية فقال فيه وقد ندبه لفتح خيبر بعد أن رد عنها حامل الراية إليه مرة بعد أخرى وهو يجبن الناس ويجبنونه ـ : « لأعطين الراية غدا رجلا ـ يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ـ كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده » ثم أعطاها إياه.

فأما الوصف باللين على أهل الإيمان ، والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع أنه لا يخاف فيه لومة لائم فمما لا يمكن أحدا دفع علي عليه‌السلام عن استحقاق ذلك لما ظهر من شدته على أهل الشرك والكفر ونكايته فيهم ، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين ، والرأفة بالمؤمنين.

ويؤيد ذلك أيضا

إنذار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشا بقتال علي عليه‌السلام لهم من بعده حيث جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا : يا محمد إن أرقائنا لحقوا بك فارددهم إلينا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتنتهن يا معاشر قريش ـ أو ليبعثن الله عليكم رجلا ـ يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ، فقال له بعض أصحابه : من هو يا رسول الله؟ أبو بكر؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في الحجرة ، وكان علي عليه‌السلام يخصف نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال يوم البصرة : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم ،

٣٨٧

وتلا هذه الآية.

وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالإسناد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يرد إلى قوم من أصحابي يوم القيامة فيحلون عن الحوض ـ فأقول : يا رب أصحابي ، أصحابي ـ فيقال : إنك لا تدري بما أحدثوا من بعدك ـ إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ، انتهى.

وهذا الذي ذكره إنما يتم فيه عليه‌السلام ولا ريب في أنه أفضل مصداق لما سرد في الآية من الأوصاف لكن الشأن في انطباق الآية على عامة من معه من أهل الجمل وصفين وقد غير كثير منهم بعد ذلك ، وقد وقع قوله تعالى : « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » (إلخ) في الآية بغير استثناء ، وقد عرفت معناه.

وفيه أيضا. وروي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن هذه الآية فضرب بيده على عاتق سلمان فقال : هذا وذووه ، ثم قال : لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس.

أقول : والكلام فيه كالكلام في سابقه إلا أن يراد أنهم سوف يبعثون من قومه.

وفيه ، وقيل : هم أهل اليمن هم ألين قلوبا ، وأرق أفئدة ، الإيمان يماني ، والحكمة يمانية ، وقال عياض بن غنم الأشعري : لما نزلت هذه الآية ـ أومأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي موسى الأشعري ـ فقال : هم قوم هذا.

أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور ، بعدة طرق ، والكلام فيه كالكلام في سابقه.

وفي تفسير الطبري ، بإسناده عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ـ فلما قبض الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ارتد عامة العرب عن الإسلام ـ إلا ثلاثة مساجد أهل المدينة ـ وأهل مكة وأهل البحرين قالوا : نصلي ولا نزكي والله لا تغصب أموالنا ، فكلم أبو بكر في ذلك فقيل لهم : (١) إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها فقال : لا والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه ، فبعث الله عصابة مع أبي بكر ـ فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله ص ـ حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ـ ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ـ فقاتلهم حتى أقروا بالماعون ـ وهي الزكاة ـ صغرة أقمياء ، الحديث.

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ

__________________

(١) له ( ظ ).

٣٨٨

والبيهقي وابن عساكر عن قتادة ، ورواه أيضا عن الضحاك والحسن.

ولفظ الحديث أوضح شاهد على أنه من قبيل التطبيق النظري ، وحينئذ يتوجه إليه ما توجه إلى ما تقدمه من الروايات فإن هذه الوقائع والغزوات تشتمل على حوادث وأمور وقد قاتل فيها رجال كخالد ومغيرة بن شعبة وبسر بن الأرطاة وسمرة بن جندب يذكر التاريخ عنهم فيها وبعد ذلك مظالم وآثاما لا تدع الآية : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، إلخ ) أن تصدق فيهم وتنطبق عليهم ، فعليك بالرجوع إلى التاريخ ثم التأمل فيما قدمناه من معنى الآية.

وقد بلغ من إفراط بعض المفسرين أن استغرب قول بعضهم : « إن الآية أوضح انطباقا على الأشعريين من أهل اليمن منها على هؤلاء الذين قاتلوا أهل الردة » قائلا : إن الآية عامة تشمل كل من نصر الدين ممن اتصف بمضمونها من خيار المسلمين من مؤمني عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن جاء بعد ذلك من المؤمنين ، وتنطبق على جميع ما تقدم من الأخبار كالخبر الدال على أنهم سلمان وقومه ـ على ضعفه ـ والخبر الدال على أنه أبو موسى الأشعري وقومه ، والخبر الدال على أنه أبو بكر وأصحابه إلا ما دل على أنه علي ـ عليه‌السلام ـ فإن لفظ الآية لا ينطبق عليه لأن لفظ القوم ـ المأخوذ في الآية ـ لا يجري على الواحد لأنه نص في الجماعة.

هذا محصل كلامه ، وليس إلا أنه عامل كلامه تعالى فيما ذكره من الثناء على القوم ومدحهم معاملة الشعر الذي يبني المدح على التخيل ، فما قدر عليه خيال الشاعر حمله على ممدوحه من غير أن يعتني بأمر الصدق والكذب ، وقد قال تعالى : « وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً » : ( النساء : ١٢٢ ) أو على المتعارف من الكلام الدائر بيننا الذي لا يعتمد في إلقائه إلا على الأفهام البانية على التسامح والتساهل في التلقي والإلقاء ، والاعتذار بالمسامحة في كل ما أشكل عليها في شيء وقد قال تعالى : « إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ » : ( الطارق : ١٤ ) وقد عرفت فيما تقدم أن الآية لو أعطيت حق معناها فيما تتضمنه من الصفات تبين أن مصداقها لم يتحقق بعد إلى هذا الحين فراجع وتأمل ثم اقض ما أنت قاض.

ومن العجيب ما ذكره في آخر كلامه فإن من ذكر نزول الآية في علي عليه‌السلام إنما ذكر عليا وأصحابه كما ذكر آخرون : سلمان وذويه ، وآخرون : أبا موسى وقومه ، وآخرون : أبا بكر وأصحابه ، وكذا ما ورد من الروايات ـ وقد تقدم بعضها ـ إنما ورد في علي وأصحابه ، ولم يذكر نزول الآية في علي عليه‌السلام وحده حتى يرد بأن لفظ الآية نص في الجماعة لا ينطبق على المفرد.

٣٨٩

نعم ورد في تفسير الثعلبي أنها نزلت في علي وأيضا في نهج البيان للشيباني عن الباقر والصادق عليه‌السلام أنها نزلت في علي عليه‌السلام ، والمراد به بقرينة الروايات الآخر نزوله فيه وفي أصحابه من جهة قيامهم بنصرة الدين في غزوة الجمل وصفين والخوارج.

مع أنه سيأتي أن الروايات من طرق الجمهور متكاثرة في نزول آية : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ » في علي عليه‌السلام ولفظ الآية جمع.

على أن في الرواية ـ رواية قتادة والضحاك والحسن ـ إشكالا آخر وهو أن قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » (إلخ) ظاهر ظهورا لا مرية فيه في معنى التبديل والاستغناء سواء كان الخطاب للموجودين في يوم النزول أو لمجموع الموجودين والمعدومين ، والمقصود خطاب الجماعة من المؤمنين بأنهم كلهم أو بعضهم إن ارتدوا عن دينهم فسوف يبدلهم الله من قوم يحبهم ويحبونه ـ وهو لا يحب المرتدين ولا يحبونه ـ ولهم كذا وكذا من الصفات ينصرون دينه.

وهذا صريح في أن القوم المأتي بهم جماعة من المؤمنين غير الجماعة الموجودين في أوان النزول ، والمقاتلون أهل الردة بعيد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا موجودين حين النزول مخاطبين بقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » (إلخ) فهم غير مقصودين بقوله : « فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ » (إلخ).

والآية جارية مجرى قوله تعالى : « وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ » : ( محمد : ٣٨ ).

وفي تفسير النعماني ، بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن صاحب هذا الأمر محفوظ له ، لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه ، وهم الذين قال الله عز وجل : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ـ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » وهم الذين قال الله : « فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ـ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ».

أقول : وروى هذا المعنى العياشي والقمي في تفسيريهما.

( كلام وبحث مختلط من القرآن والحديث )

مما تقدم في الأبحاث السابقة مرارا التلويح إلى أن الخطابات القرآنية التي يهتم القرآن بأمرها ، ويبالغ في تأكيدها وتشديد القول فيها لا يخلو لحن القول فيها من دلالة على أن

٣٩٠

العوامل والأسباب الموجودة متعاضدة على أن تسوقهم إلى مهابط السقوط ودركات الردى ، والابتلاء بسخط الله كما في آيات الربا وآية مودة القربى وغيرهما.

ومن طبع الخطاب ذلك فإن المتكلم الحكيم إذا أمر بأمر حقير يسير ثم بالغ في تأكيده والإلحاح عليه بما ليس شأنه ذلك ، أو خاطب أحدا بخطاب ليس من شأن ذلك المخاطب أن يوجه إلى مثله ذلك الخطاب كنهي عالم رباني ذي قدم صدق في الزهد والعبادة عن ارتكاب أفضح الفجور على رءوس الأشهاد دل ذلك على أن المورد لا يخلو عن شيء وأن هناك خطبا جليلا ومهلكة خطيرة مشرفة.

والخطابات القرآنية التي هذا شأنها تعقبت حوادث صدقتها في ما كانت تلوح إليه بل تدل عليه ، وإن كان السامعون ( لعلهم ) ما كانوا يتنبهون في أول ما سمعوها يوم النزول على ما تتضمنه من الإشارات والدلالات.

فقد أمر القرآن بمودة قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالغ فيها حتى عدها أجر الرسالة والسبيل إلى الله سبحانه ثم وقع أن استباحت الأمة في أهل بيته من فجائع المظالم ما لو أمروا به لم يكونوا ليزيدوا على ما أتوا به فيهم.

ونهى القرآن عن الاختلاف وبالغ فيه بما لا مزيد عليه ثم وقع إن تفرقت الأمة تفرقا وانشعبت انشعابات زادت على ما عند اليهود والنصارى ، وكانت اليهود إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة فأتى المسلمون بثلاث وسبعين فرقة هذا في مذاهبهم في معارف الدين العلمية ، وأما مذاهبهم في السنن الاجتماعية وتأسيس الحكومات وغيرها فلا تقف على حد حاصر.

ونهى القرآن عن الحكم بغير ما أنزل الله ، ونهى عن إلقاء الاختلاف بين الطبقات ونهى عن الطغيان واتباع الهوى إلى غير ذلك وشدد فيها ثم وقع ما وقع.

والأمر في النهي عن ولاية الكفار وأهل الكتاب نظير غيره من النواهي المؤكدة الواردة في القرآن الكريم بل ليس من البعيد أن يدعى أن التشديد الواقع في النهي عن ولاية الكفار وأهل الكتاب لا يعدله أي تشديد واقع في سائر النواهي الفرعية.

فقد بلغ الأمر فيه إلى أن عد الله سبحانه الموالين لأهل الكتاب والكفار منهم : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » ونفاهم من نفسه إذ قال : « وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ ) : ( آل عمران : ٢٨ ) وحذرهم منتهى التحذير فقال مرة بعد أخرى : « وَيُحَذِّرُكُمُ

٣٩١

اللهُ نَفْسَهُ » : ( آل عمران : ٢٨ ـ ٣٠ ) وقد مر في الكلام على الآية أن مدلولها وقوع المحذور لا محالة قضاء حتما لا مبدل له ولا محول.

وإن شئت مزيد وضوح لذلك فتدبر في قوله تعالى : « وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ـ وقد ذكر قبل الآية قصص أمم نوح وهود وصالح وغيرهم ثم اختلاف اليهود في كتابهم ـ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ـ والخطاب كما ترى خطاب اجتماعي ـ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » : ( هود : ١١٢ ) ثم تدبر في قوله تعالى بعده : « وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ » : ( هود : ١١٣ ).

وقد بين الله سبحانه معنى مسيس هذه النار في الدنيا قبل الآخرة ـ والآية مطلقة ـ وهو الذي توعد به في قوله : « وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ » بقوله تعالى : « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ » : ( المائدة : ٣ ) فبين فيه أن الذي كان يخشاه المؤمنون على دينهم من الذين كفروا وهم المشركون وأهل الكتاب ـ كما تبين سابقا ـ إلى يوم نزول الآية فهم اليوم في أمن منه فلا ينبغي لهم أن يخشوهم فيه بل يجب عليهم أن يخشوا فيه ربهم ، والذي كانوا يخشونهم فيه على دينهم هو أن الكفار لم يكن لهم هم فيهم إلا إطفاء نور الدين ، وسلب هذه السلعة النفيسة من أيديهم بأي وسيلة قدروا عليها.

فهذا هو الذي كانوا يخشونه قبل اليوم ، وبنزول سورة المائدة أمنوا ذلك واطمأنت أنفسهم غير أنه يجب عليهم أن يخشوا في ذلك ربهم أن لا يذهب بنورهم ولا يسلبهم دينه.

ومن المعلوم أن الله سبحانه لا يفاجئ قوما بنقمة أو عذاب من غير أن يستحقوه قال تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » : ( الأنفال : ٥٣ ) فبين أن تغييره النعمة لا يكون إلا عن استحقاق ، وأنه يتبع تغيير الناس ما بأنفسهم ، وقد سمى الدين أو الولاية الدينية كما تقدم نعمة حيث قال بعده : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » الأنفال ٣.

فتغيير هذه النعمة من قبلهم ، والتخطي عن ولاية الله بقطع الرابطة منه ، والركون إلى الظالمين ، وولاية الكفار وأهل الكتاب هو المتوقع منهم ، والواجب عليهم أن يخشوه على أنفسهم فيخشوا الله في سخط لا راد له ، وقد أوعدهم فيه بقوله : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » : ( المائدة : ٥١ ) فأخبر أنه لا يهديهم إلى سعادتهم

٣٩٢

فهي التي تتعلق بها الهداية ، وسعادتهم في الدنيا إنما هي أن يعيشوا على سنة الدين والسيرة العامة الإسلامية في مجتمعهم.

وإذا انهدمت بنية هذه السيرة اختلت مظاهرها الحافظة لمعناها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسقطت شعائره العامة ، وحلت محلها سيرة الكفار ولم يزل تستحكم أركانها وتستثبت قواعدها ، وهذا هو الذي عليه مجتمع المسلمين اليوم.

ولو تدبرت في السيرة الإسلامية العامة التي ينظمها الكتاب والسنة ويقررانها بين المسلمين ثم في هذه السيرة الفاسدة التي حملت اليوم على المسلمين ثم تدبرت في ما يشير إليه بقوله : « فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ » : ( المائدة : ٥٤ ) وجدت أن جميع الرذائل التي تحيط بمجتمعنا معاشر المسلمين وتحكم فينا اليوم ـ مما اقتبسناها من الكفار ثم نمت ونسلت فينا ـ إنما هي أضداد ما ذكره الله في وصف من وعد بالإتيان به في الآية أعني أن جميع رذائلنا الفعلية تتلخص في أن المجتمع اليوم لا يحبون الله ولا يحبهم الله ، أذلة على الكافرين ، أعزة على المؤمنين ، لا يجاهدون في سبيل الله ، يخافون كل لومة.

وهذا هو الذي تفرسه القرآن في وجه القوم ، وإن شئت فقل : هو النبأ الغيبي الذي نبأ به العليم الخبير أن المجتمع الإسلامي سيرتد عن دينه ، وليست ردة مصطلحة وإنما هي ردة تنزيلية يبينها قوله تعالى : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » : ( المائدة : ٥١ ) وقوله : « وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ » : ( المائدة : ٨١ ).

وقد وعدهم الله النصر إن نصروه ، وتضعيف أعدائهم إن لم يقووهم ويؤيدوهم فقال : « إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ » : ( محمد : ٧ ) وقال : « وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ » : ( آل عمران : ١١٢ ) وليس من البعيد أن يستفاد من قوله : « إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ » أن لهم أن يخرجوا من الذلة والمسكنة بموالاة الناس لهم وتسليط الله تعالى إياهم على الناس.

ثم وعد الله سبحانه المجتمع الإسلامي ـ وشأنهم هذا الشأن ـ بالإتيان بقوم يحبهم

٣٩٣

ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ، والأوصاف المعدودة لهم ـ كما عرفت ـ جماع الأوصاف التي يفقدها المجتمع الإسلامي اليوم ، ويستفاد بالإمعان في التدبر فيها تفاصيل الرذائل التي تنبئ الآية أن المجتمع الإسلامي سيبتلى بها.

وقد اشتملت على تعدادها عدة من أخبار ملاحم آخر الزمان المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من أهل بيته عليه‌السلام ، وهي على كثرتها ومن حيث المجموع وإن كانت لا تسلم من آفة الدس والتحريف إلا أن بينها أخبارا يصدقها جريان الحوادث وتوالي الوقائع الخارجية ، وهي أخبار مأخوذة من كتب القدماء المؤلفة قبل ما يزيد على ألف سنة من هذا التاريخ أو قريبا منه ، وقد صحت نسبتها إلى مؤلفيها وتظافر النقل عنها.

على أنها تنطق عن حوادث ووقائع لم تحدث ولم تقع في تلك الآونة ولا كانت مترقبة تتوقعها النفوس التي كانت تعيش في تلك الأزمنة فلا يسعنا إلا الاعتراف بصحتها وصدورها عن منبع الوحي.

كما رواه القمي في تفسيره عن أبيه ، عن سليمان بن مسلم الخشاب ، عن عبد الله بن جريح المكي ، عن عطاء بن أبي رياح ، عن عبد الله بن عباس قال : حججنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حجة الوداع ـ فأخذ باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه ـ فقال : ألا أخبركم بأشراط الساعة؟ وكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رضي الله عنه ـ فقال : بلى يا رسول الله ـ.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن من أشراط القيامة إضاعة الصلاة ، واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم المال ، وبيع الدين بالدنيا ـ فعندها يذاب قلب المؤمن وجوفه ـ كما يذوب الملح في الماء ـ مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة.

فقال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده ـ يا سلمان ـ إن عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا ، واؤتمن الخائن ، ويخون الأمين ، ويصدق الكاذب ، ويكذب الصادق.

قال سلمان ، وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان فعندها إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، وقعود الصبيان على المنابر ، ويكون

٣٩٤

الكذب طرفا والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ، ويبر صديقه ، ويطلع الكوكب المذنب.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده ـ يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، ويكون المطر قيظا ، ويغيظ الكرام غيظا ، ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها يقارب الأسواق إذا قال هذا : لم أبع شيئا وقال هذا : لم أربح شيئا فلا ترى إلا ذاما لله.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ـ ليستأثروا بفيئهم وليطؤن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم وليملؤن قلوبهم رعبا ـ فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده ـ يا سلمان إن عندها يؤتى بشيء من المشرق ـ وشيء من المغرب يلون أمتي ، فالويل لضعفاء أمتي منهم ، والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقرون كبيرا ، ولا يتجاوزون عن مسيء أخبارهم خناء ، جثتهم جثة الآدميين ، وقلوبهم قلوب الشياطين.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ـ وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان ـ كما يغار على الجارية في بيت أهلها ـ وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، ويركبن ذوات الفروج السروج ـ فعليهن من أمتي لعنة الله.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها تزخرف المساجد ـ كما تزخرف البيع والكنائس ، وتحلى المصاحف وتطول المنارات ، وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله إي والذي نفسي بيده ـ وعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ـ ويتخذون جلود النمور صفاقا ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان وعندها يظهر الربا ، ويتعاملون بالغيبة والرشى ، ويوضع الدين ويرفع الدنيا.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده

٣٩٥

يا سلمان ـ وعندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد ، ولن يضر الله شيئا ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ـ وعندها تظهر القينات والمعازف ويليهم أشرار أمتي ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ـ وعندها يحج أغنياء أمتي للنزهة ، ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة ـ فعندها يكون أقوام ـ يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ـ ذاك إذا انتهك المحارم ، واكتسبت المآثم ـ وسلط الأشرار على الأخيار ، ويفشو الكذب ، وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من في الأمة ، ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاؤم ، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات : الأرجاس والأنجاس ـ.

قال سلمان : وإن هذه لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ـ فعندها لا يخشى الغني إلا الفقر ـ حتى أن السائل ليسأل فيما بين الجمعتين ـ لا يصيب أحدا يضع في يده شيئا ـ.

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ـ عندها يتكلم الرويبضة ، فقال : وما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمي؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم ـ فلم يلبثوا إلا قليلا حتى تخور الأرض خورة ـ فلا يظن كل قوم إلا أنها خارت في ناحيتهم ـ فيمكثون ما شاء الله ثم ينكتون في مكثهم ـ فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها ، قال : ذهب وفضة ثم أومأ بيده إلى الأساطين ـ فقال : مثل هذا فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة فهذا معنى قوله : « فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ».

وفي روضة الكافي ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن بعض أصحابه ، وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير جميعا عن محمد بن أبي حمزة ، عن حمران قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ـ وذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم فقال : ـ إني سرت مع أبي جعفر المنصور وهو في موكبه ، وهو على فرس وبين يديه خيل ، ومن خلفه خيل ، وأنا على

٣٩٦

حمار إلى جانبه فقال لي : يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة ، وفتح لنا من العز ، ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم.

قال : فقلت : ومن رفع هذا إليك عني فقد كذب فقال لي : أتحلف على ما تقول؟ قال : فقلت : إن الناس سحرة ـ يعني يحبون أن يفسدوا قلبك علي ـ فلا تمكنهم من سمعك فإنا إليك أحوج منك إلينا ، فقال لي : تذكر يوم سألتك : هل لنا ملك؟ فقلت : نعم ـ طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم ، وفسحة من دنياكم حتى تصيبوا منا دما حراما في شهر حرام في بلد حرام؟ فعرفت أنه قد حفظ الحديث ـ فقلت : لعل الله عز وجل أن يكفيك ـ فإني لم أخصك بهذا وإنما هو حديث رويته ، ثم لعل غيرك من أهل بيتك أن يتولى ذلك ، فسكت عني ـ.

فلما رجعت إلى منزلي أتاني بعض موالينا فقال ، جعلت فداك والله لقد رأيتك في موكب أبي جعفر ، وأنت على حمار وهو على فرس ، وقد أشرف عليك يكلمك كأنك تحته فقلت بيني وبين نفسي : هذا حجة الله على الخلق ، وصاحب هذا الأمر الذي يقتدى به ، وهذا الآخر يعمل بالجور ، ويقتل أولاد الأنبياء ـ ويسفك الدماء في الأرض بما لا يحب الله ، وهو في موكبه وأنت على حمار! فدخلني من ذلك شك حتى خفت على ديني ونفسي ـ.

قال عليه‌السلام : فقلت : لو رأيت من كان حولي وبين يدي ـ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي من الملائكة ـ لاحتقرته واحتقرت ما هو فيه ـ فقال : الآن سكن قلبي ـ.

ثم قال : إلى متى هؤلاء يملكون أو متى الراحة منهم؟ فقلت : أليس تعلم أن لكل شيء مدة؟ قال : بلى ، فقلت : هل ينفعك علمك ـ إن هذا الأمر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين؟ إنك لو تعلم حالهم عند الله عز وجل ، وكيف هي كنت لهم أشد بغضا ـ ولو جهدت وجهد أهل الأرض ـ أن يدخلوهم في أشد ما هم فيه من الإثم لم يقدروا ، فلا يستفزنك الشيطان ـ فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ـ ولكن المنافقين لا يعلمون ، ألا تعلم أن من انتظر أمرنا ، وصبر على ما يرى من الأذى والخوف هو غدا في زمرتنا؟ فإذا رأيت الحق قد مات وذهب أهله ، ورأيت الجور قد شمل البلاد ، ورأيت القرآن قد خلق ـ وأحدث فيه ما ليس فيه ووجه على الأهواء ، ورأيت الدين قد انكفأ كما ينكفئ الإناء (١) ورأيت أهل

__________________

(١) الماء.

٣٩٧

الباطل قد استعلوا على أهل الحق ، ورأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه ويعذر أصحابه ، ورأيت الفسق قد ظهر ـ واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ورأيت المؤمن صامتا لا يقبل قوله ، ورأيت الفاسق يكذب ولا يرد عليه كذبه وفريته ، ورأيت الصغير يستحقر بالكبير ، ورأيت الأرحام قد تقطعت ، ورأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه ولا يرد عليه قوله ، ورأيت الغلام يعطي ما تعطي المرأة ـ ورأيت النساء يتزوجن بالنساء ، ورأيت الثناء قد كثر ، ورأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة الله ـ فلا ينهى ولا يؤخذ على يديه ، ورأيت الناظر يتعوذ بالله ـ مما يرى المؤمن فيه من الاجتهاد ، ورأيت الجار يؤذي جاره وليس له مانع ، ورأيت الكافر فرحا لما يرى في المؤمن ، مرحا لما يرى في الأرض من الفساد ، ورأيت الخمور تشرب علانية ـ ويجتمع عليها من لا يخاف الله عز وجل ، ورأيت الأمر بالمعروف ذليلا ، ورأيت الفاسق فيما لا يحب الله قويا محمودا ، ورأيت أصحاب الآيات (١) يحقرون ويحقر من يحبهم ، ورأيت سبيل الخير منقطعا وسبيل الشر مسلوكا ، ورأيت بيت الله قد عطل ويؤمر بتركه ـ ورأيت الرجل يقول ما لا يفعله ، ورأيت الرجال يتمنون للرجال والنساء للنساء ، ورأيت الرجل معيشته من دبره ـ ومعيشة المرأة من فرجها ، ورأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها الرجال ، ورأيت التأنيث في ولد العباس ـ قد ظهر وأظهروا الخضاب ـ وامتشطوا كما تمشط المرأة لزوجها ، وأعطوا الرجال الأموال على فروجهم ، وتنوفس في الرجل ، وتغاير عليه الرجال ، وكان صاحب المال أعز من المؤمن ، وكان الربا ظاهرا لا يعير ، وكان الزنا تمتدح به النساء ، ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال ، ورأيت أكثر الناس وخير بيت من يساعد النساء على فسقهن ، ورأيت المؤمن محزونا محتقرا ذليلا ـ ورأيت البدع والزنا قد ظهر ، ورأيت الناس يعتدون بشاهد الزور ، ورأيت الحرام يحلل ، والحلال يحرم ، ورأيت الدين بالرأي وعطل الكتاب وأحكامه ، ورأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على الله ، ورأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلا بقلبه ـ ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط الله عز وجل ، ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير ، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم ، ورأيت الولاية قبالة لمن زاد ، ورأيت ذوات الأرحام ينكحن ويكتفى بهن ، ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة ـ ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله ، ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء ، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور

__________________

(١) الآثار.

٣٩٨

يعلم ذلك ويقيم عليه ، ورأيت المرأة تقهر زوجها ـ وتعمل ما لا يشتهي وتنفق على زوجها ، ورأيت الرجل يكري امرأته وجاريته ـ ويرضى بالدني من الطعام والشراب ، ورأيت الإيمان بالله عز وجل كثيرة على الزور ، ورأيت القمار قد ظهر ، ورأيت الشراب يباع ظاهرا ليس له مانع ، ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر ، ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها لا يمنعها أحد أحدا ـ ولا يجترئ أحد على منعها ، ورأيت الشريف يستذله الذي يخاف سلطانه ، ورأيت أقرب الناس من الولاة ـ من يمتدح بشتمنا أهل البيت ، ورأيت من يحبنا يزور ولا تقبل شهادته ، ورأيت الزور من القول يتنافس فيه ، ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه ـ وخف على الناس استماع الباطل ، ورأيت الجار يكرم الجار خوفا من لسانه ، ورأيت الحدود قد عطلت وعمل فيها بالأهواء ، ورأيت المساجد قد زخرفت ، ورأيت أصدق الناس عند الناس المفتري الكذب ، ورأيت الشر قد ظهر والسعي بالنميمة ، ورأيت البغي قد فشا ، ورأيت الغيبة تستملح ويبشر بها الناس بعضهم بعضا ، ورأيت طلب الحج والجهاد لغير الله ـ ورأيت السلطان يذل للكافر المؤمن ، ورأيت الخراب قد أديل من العمران ، ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان ، ورأيت سفك الدماء يستخف بها ، ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لغرض الدنيا ـ ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى وتستند إليه الأمور ، ورأيت الصلاة قد استخف بها ، ورأيت الرجل عنده المال الكثير لم يزكه منذ ملكه ، ورأيت الميت ينشر من قبره ويؤذى وتباع أكفانه ، ورأيت الهرج قد كثر ، ورأيت الرجل يمسي نشوان ـ ويصبح سكران لا يهتم بما الناس فيه ، ورأيت البهائم تنكح ، ورأيت البهائم تفرس بعضها بعضا ، ورأيت الرجل يخرج إلى مصلاه ويرجع ـ وليس عليه شيء من ثيابه ، ورأيت قلوب الناس قد قست ـ وجمدت أعينهم وثقل الذكر عليهم ، ورأيت السحت قد ظهر يتنافس فيه ، ورأيت المصلي إنما يصلي ليراه الناس ، ورأيت الفقيه يتفقه لغير الدين ـ يطلب الدنيا والرئاسة ، ورأيت الناس مع من غلب ، ورأيت طالب الحلال يذم ويعير ـ وطالب الحرام يمدح ويعظم ، ورأيت الحرمين يعمل فيها بما لا يحب الله ـ لا يمنعهم مانع ولا يحول بينهم وبين العمل القبيح أحد ، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين ، ورأيت الرجل يتكلم بشيء من الحق ـ ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ـ فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول : هذا عنك موضوع ، ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشر ، ورأيت مسلك الخير وطريقه خاليا لا يسلكه أحد ، ورأيت الميت يهز به فلا يفزع له أحد ، ورأيت كل عام يحدث فيه من البدعة

٣٩٩

والشر أكثر مما كان ، ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلا الأغنياء ، ورأيت المحتاج يعطى على الضحك به ـ ويرحم لغير وجه الله ، ورأيت الآيات في السماء لا يفزع لها أحد ـ ورأيت الناس يتسافدون كما تسافد البهائم ـ لا ينكر أحد منكرا تخوفا من الناس ، ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة الله ـ ويمنع اليسير في طاعة الله ، ورأيت العقوق قد ظهر واستخف بالوالدين ـ وكانا من أسوإ الناس حالا عند الولد ـ ويفرح بأن يفتري عليهما ، ورأيت النساء وقد غلبن على الملك وغلبن على كل أمر لا يؤتى إلا ما لهن فيه هوى ، ورأيت ابن الرجل يفتري على أبيه ـ ويدعو على والديه ويفرح بموتهما ، ورأيت الرجل إذا مر به يوم ـ ولم يكسب فيه الذنب العظيم ـ من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام ـ أو شرب مسكر كئيبا حزينا ـ يحسب أن ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره ، ورأيت السلطان يحتكر الطعام ، ورأيت أموال ذوي القربى ـ تقسم في الزور ويتقامر بها وتشرب بها الخمور ، ورأيت الخمر يتداوى بها ويوصف للمريض ويستشفى بها ، ورأيت الناس قد استووا في ترك الأمر بالمعروف ـ والنهي عن المنكر وترك التدين به ، ورأيت رياح المنافقين وأهل النفاق قائمة ـ ورياح أهل الحق لا تحرك ، ورأيت الأذان بالأجر والصلاة بالأجر ، ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف الله ـ مجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم أهل الحق ـ ويتواصفون فيها شراب المسكر ، ورأيت السكران يصلي بالناس ـ وهو لا يعقل ولا يشان بالسكر ـ وإذا سكر أكرم واتقى وخيف وترك لا يعاقب ويعذر بسكره ، ورأيت من أكل أموال اليتامى يحمد بصلاحه ، ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله ، ورأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع ، ورأيت الميراث قد وضعته الولاة ـ لأهل الفسوق والجرأة على الله ـ يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون ، ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى ـ ولا يعمل القائل بما يأمر ، ورأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها ، ورأيت الصدقة بالشفاعة ـ ولا يراد بها وجه الله ويعطي لطلب الناس ، ورأيت الناس همهم بطونهم وفروجهم ـ لا يبالون بما أكلوا وما نكحوا ، ورأيت الدنيا مقبلة عليهم ، ورأيت أعلام الحق قد درست فكن على حذر ـ واطلب إلى الله عز وجل النجاة ، واعلم أن الناس في سخط الله عز وجل ـ وإنما يمهلهم لأمر يراد بهم فكن مترقبا ـ واجتهد ليراك الله عز وجل في خلاف ما هم عليه ـ فإن نزل بهم العذاب ـ وكنت فيهم عجلت إلى رحمة الله ، وإن أخرت ابتلوا ـ وكنت قد خرجت مما هم فيه من الجرأة على الله عز وجل ـ واعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين ، وأن رحمة الله قريب من المحسنين.

أقول : وهناك أخبار مأثورة عن النبي والأئمة من أهل بيته عليه‌السلام كثيرة

٤٠٠