الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

فقال : الرشا. فقيل له : في الحكم؟ قال : ذاك الكفر.

أقول : قوله : « ذاك الكفر » كأنه إشارة إلى ما وقع بين الآيات المبحوث عنها من قوله تعالى في سياق ذم السحت والارتشاء في الحكم : « وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » وقد تكرر في الروايات عن الباقر والصادق عليه‌السلام أنهما قالا : وأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله وبرسوله ، والروايات في تفسير السحت وحرمته كثيرة مروية من طرق الشيعة وأهل السنة مودعة في جوامعهم.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : « فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ » (الآية) : أخرج ابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والطبراني والحاكم ـ وصححه ـ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من هذه السورة ـ يعني من المائدة ـ : آية القلائد وقوله : « فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ » فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم ، فنزلت : « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ » قال : فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

وفيه ، أخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس: في قوله : « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ » قال : نسختها هذه الآية ـ « وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » : أقول : وروي أيضا عن عبد الرزاق عن عكرمة مثله ، والمتحصل من مضمون الآيات لا يوافق هذا النسخ فإن الاتصال الظاهر من سياق الآيات يقضي بنزولها دفعه واحدة ولا معنى حينئذ لنسخ بعضها بعضا ، على أن قوله تعالى : « وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » ، آية غير مستقلة في معناها بل مرتبطة بما تقدمها ولا وجه على هذا لكونها ناسخة ، ولو صح النسخ مع ذلك كان ما قبلها أعني قوله : « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » ، في الآية السابقة أحق بالنسخ منها. على أنك قد عرفت أن الأظهر رجوع الضمير في قوله تعالى : « بَيْنَهُمْ » إلى الناس مطلقا دون أهل الكتاب أو اليهود خاصة ، على أنه قد تقدم في أوائل الكلام على السورة : أن سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ » : (الآية) عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أن مما استحقت به الإمامة : التطهير والطهارة من الذنوب ـ والمعاصي الموبقة التي توجب النار ثم العلم المنور ـ وفي نسخة : المكنون ـ بجميع ما يحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها ، والعلم بكتابها خاصه وعامه ، والمحكم والمتشابه

٣٦١

ودقائق علمه ، وغرائب تأويله ، وناسخه ومنسوخه. قلت : وما الحجة ـ بأن الإمام لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟ قال : قول الله فيمن أذن الله لهم في الحكومة ـ وجعلهم أهلها : « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ـ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ » فهذه الأئمة دون الأنبياء ـ الذين يربون الناس بعلمهم ، وأما الأحبار فهم العلماء دون الربانيين ، ثم أخبر ـ فقال : « بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ » ولم يقل بما حملوا منه.

أقول : وهذا استدلال لطيف منه عليه‌السلام يظهر به عجيب معنى الآية وهو معنى أدق مما تقدم بيانه ومحصله : أن الترتيب الذي اتخذته الآية في العد فذكرت الأنبياء ثم الربانيين ثم الأحبار يدل على ترتبهم بحسب الفضل والكمال : فالربانيون دون الأنبياء وفوق الأحبار ، والأحبار هم علماء الدين الذين حملوا علمه بالتعليم والتعلم.

وقد أخبر الله سبحانه عن نحو علم الربانيين بقوله : « بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ » ولو كان المراد بذلك نحو علم العلماء لقيل : بما حملوا كما قال : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها » : الآية ( الجمعة : ٥ ) فإن الاستحفاظ هو سؤال الحفظ ، ومعناه التكليف بالحفظ نظير قوله : « لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ » : ( الأحزاب ٨ ) أي ليكلفهم بأن يظهروا ما كمن في نفوسهم من صفة الصدق ، وهذا الحفظ ثم الشهادة على الكتاب لا يتمان إلا مع عصمة ليست من شأن غير الإمام المعصوم من قبل الله سبحانه فإن الله سبحانه بنى إذنه لهم في الحكم على حفظهم للكتاب ، واعتبر شهادتهم بانيا ذلك عليه ، ومن المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب ، وهي التي يثبت بها الكتاب مع جواز الخطإ والغلط عليهم.

فهذا الحفظ والشهادة غير الحفظ والشهادة اللذين بيننا معاشر الناس ، بل من قبيل حفظ الأعمال والشهادة التي تقدم في قوله تعالى : « لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » : ( البقرة : ١٤٣ ) وقد مر في الجزء الأول من الكتاب.

ونسبة هذا الحفظ والشهادة إلى الجميع مع كون القائم بهما البعض كنسبة الشهادة على الأعمال إلى جميع الأمة مع كون القائم بها بعضهم ، وهو استعمال شائع في القرآن نظير قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » : ( الجاثية : ١٦ ).

وهذا لا ينافي تكليف الأحبار بالحفظ والشهادة وأخذ الميثاق منهم بذلك لأنه ثبوت شرعي اعتباري غير الثبوت الحقيقي الذي يتوقف على حفظ حقيقي خال عن الغلط

٣٦٢

والخطإ ، والدين الإلهي كما لا يتم من دون هذا لا يتم من دون ذاك.

فثبت أن هناك منزلة بين منزلتي الأنبياء والأحبار ، وهي منزلة الأئمة وقد أخبر به الله سبحانه في قوله : « وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ » : ( السجدة : ٢٤ ) ولا ينافيه قوله : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا » : ( الأنبياء : ٧٣ ) فإن اجتماع النبوة والإمامة في جماعة لا ينافي افتراقهما في غيرهم ، وقد تقدم شطر من الكلام في الإمامة في قوله تعالى : « وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ » الآية : ( البقرة : ١٢٤ ) في الجزء الأول من الكتاب.

وبالجملة للربانيين والأئمة وهم البرازخ بين الأنبياء والأحبار العلم بحق الكتاب والشهادة عليه بحق الشهادة.

وهذا في الربانيين والأئمة من بني إسرائيل لكن الآية تدل على أن ذلك لكون التوراة كتابا منزلا من عند الله سبحانه مشتملا على هدى ونور أي المعارف الاعتقادية والعملية التي تحتاج إليها الأمة ، وإذا كان ذلك هو المستدعي لهذا الاستحفاظ والشهادة للذين لا يقوم بهما إلا الربانيون والأئمة كان هذا حال كل كتاب منزل من عند الله مشتمل على معارف إلهية وأحكام عملية وبذلك يثبت المطلوب.

فقوله عليه‌السلام : « فهذه الأئمة دون الأنبياء » أي هم أخفض منزلة من الأنبياء بحسب الترتيب المأخوذ في الآية كما أن الأحبار ـ وهم العلماء ـ دون الربانيين ، وقوله : « يربون الناس بعلمهم » ظاهر في أنه عليه‌السلام أخذ لفظ الرباني من مادة التربية دون الربوبية ، وقد اتضح معاني بقية فقرات الرواية بما قدمناه من محصل المعنى.

ولعل هذا المعنى هو مراده عليه‌السلام فيما رواه العياشي أيضا عن مالك الجهني قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ـ إلى قوله ـ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ » قال : فينا نزلت.

وفي تفسير البرهان في قوله تعالى : « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » : عن الكافي ، بإسناده عن عبد الله بن مسكان رفعه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من حكم في درهمين بحكم جور ـ ثم جبر عليه كان من أهل هذه الآية : « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » فقلت : وكيف يجبر عليه؟ فقال : يكون له سوط وسجن فيحكم عليه ـ فإن رضي بحكمه وإلا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه.

٣٦٣

أقول : ورواه الشيخ في التهذيب ، بإسناده عن ابن مسكان مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورواه العياشي في تفسيره مرسلا عنه. ومعنى صدر الحديث مروي بطرق أخرى أيضا عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام.

والمراد بتقييد الحكم بالجبر إفادة أن يكون الحكم مما يترتب عليه الأثر فيكون حكما فصلا بحسب نفسه بالطبع وإلا فمجرد الإنشاء لا يسمى حكما.

وفي الدر المنثور ، أخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ، والظَّالِمُونَ ، والْفاسِقُونَ » في اليهود خاصة.

أقول : فيه : أن الآيات الثلاث مطلقة لا دليل على تقييدها ، والمورد لا يوجب التصرف في إطلاق اللفظ ، على أن مورد الآية الثالثة النصارى دون اليهود ، على أن ابن عباس قد روي عنه ما يناقض ذلك.

وفيه ، أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآيات في المائدة ، قلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا ـ قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها فقرأت عليه ـ فقال : لا ، بل نزلت علينا ، ثم لقيت مقسما ـ مولى ابن عباس ـ فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة قلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم ينزل علينا ـ قال : إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا ، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم.

ثم دخلت على علي بن الحسين ـ فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة ـ وحدثته أني سألت عنها سعيد بن جبير ومقسما ـ قال : فما قال مقسم؟ فأخبرته بها ، قال : قال : صدق ـ ولكنه كفر ليس ككفر الشرك ، وفسق ليس كفسق الشرك ، وظلم ليس كظلم الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال ـ فقال سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته؟ (١) لقد وجدت له فضلا عليك وعلى مقسم.

أقول : قد ظهر انطباق الرواية على ما يظهر من الآية فيما تقدم من البيان.

وفي الكافي ، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وفي تفسير العياشي ، عن أبي بصير عنه عليه‌السلام : في قوله تعالى : « فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ » الآية ـ قال : يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره.

__________________

(١) قال ظ.

٣٦٤

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله : « فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ » قال : الرجل تكسر سنه أو تقطع يده أو يقطع الشيء أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك فيحط عنه قدر خطاياه ـ فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك : أقول : وروي مثله أيضا عن الديلمي عن ابن عمر ، ولعل ما وقع في هذه الرواية والرواية السابقة عليها من انقسام التكفير بحسب انقسام العفو مستفاد من تنزيل الدية شرعا ـ وهي منقسمة ـ منزلة القصاص ثم توزين القصاص والدية جميعا بمغفرة الذنوب وهي أيضا منقسمة فينطبق البعض على البعض كما انطبق الكل على الكل.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً » قال : لكل نبي شريعة وطريق.

وفي تفسير البرهان في قوله تعالى : « أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ » ، عن الكافي بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه رفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنة : رجل يقضي بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة.

وقال عليه‌السلام : الحكم حكمان : حكم الله وحكم الجاهلية ـ فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية.

أقول : وفي المعنيين جميعا أخبار كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة مودعة في أخبار القضاء والشهادات ، والآية تشعر بل تدل على المعنيين جميعا : أما بالنسبة إلى المعنى الأول فلأن الحكم بالجور سواء علم به أو حكم بغير علم فكان جورا بالمصادفة وكذا الحكم بالحق من غير علم كل ذلك من اتباع الهوى وقد نهى الله عنه بقوله : « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ » فحذر اتباع الهوى في الحكم وقابل به الحكم بالحق فعلم بذلك أن العلم بالحق شرط في جواز الحكم وإلا لم يجز لأن فيه اتباع الهوى.

على أنه يصدق عليه حكم الجاهلية المقابل لحكم الله تعالى.

وأما المعنى الثاني وهو كون الحكم منقسما إلى حكم الجاهلية وحكم الله فهو مستفاد من ظاهر قوله تعالى : « أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً » من حيث

٣٦٥

المقابلة الواقعة بين الحكمين ، والله أعلم.

وفي تفسير الطبري ، عن قتادة : في قوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ ـ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ » قال : أما الربانيون ففقهاء اليهود ـ وأما الأحبار فعلماؤهم ، قال : وذكر لنا أن نبي الله ص قال ـ لما أنزلت هذه الآية : نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان.

أقول : ورواه السيوطي ، أيضا في قوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ » (الآية) عن عبد بن حميد وعن ابن جرير عن قتادة.

وظاهر الرواية أن المنقول من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله متعلق بالآية أي أن الآية هي الحجة في ذلك فيشكل بأن الآية لا تدل إلا على الحكم بالتوراة على اليهود لقوله تعالى : « لِلَّذِينَ هادُوا » لا على غير اليهود ولا على الحكم بغير التوراة كما هو ظاهر الرواية إلا أن يراد بقوله : « نحن نحكم » ، أن الأنبياء يحكمون كذا وكذا ، وهو مع كونه معنى سخيفا لا يرتبط بالآية.

والظاهر أن بعض الرواة غلط في نقل الآية ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما قاله بعد نزول قوله تعالى : « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » ( الآيات ) وينطبق على ما تقدم أن ظاهر الآية رجوع الضمير في قوله : « بَيْنَهُمْ » إلى الناس دون اليهود خاصة. فأخذ الراوي الآية مكان الآية

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ـ ٥١. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ـ ٥٢. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ ـ ٥٣. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ

٣٦٦

يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ـ ٥٤. )

( بيان )

السير الإجمالي في هذه الآيات يوجب التوقف في اتصال هذه الآيات بما قبلها ، وكذا في اتصال ما بعدها كقوله تعالى : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ » ( إلى آخر الآيتين ) ثم اتصال قوله بعدهما : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً » إلى تمام عدة آيات ثم في اتصال قوله : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ » (الآية).

أما هذه الآيات الأربع فإنها تذكر اليهود والنصارى ، والقرآن لم يكن ليذكر أمرهم في آياته المكية لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذ بل إنما يتعرض لحالهم في المدينة من الآيات ، ولا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإن المسلمين إنما كانوا مبتلين يومئذ بمخالطة اليهود ومعاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم ومكرهم خاصة دون النصارى إلا في النصف الأخير من زمن إقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة فلعل الآيات الأربع نزلت فيه ، ولعل المراد بالفتح فيها فتح مكة.

لكن تقدم أن الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجة الوداع وقد فتحت مكة فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكة؟ أو أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة وقبل نزول السورة جميعا؟

ثم إن الآية الأخيرة أعني قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ » (الآية) هل هي متصلة بالآيات الثلاث المتقدمة عليها؟ ومن المراد بهؤلاء القوم الذين تتوقع ردتهم؟

ومن هؤلاء الآخرون الذين وعد الله أنه سيأتي بهم؟ كل واحد منها أمر يزيد إبهاما على إبهام ، وقد تشتت ما ورد من أسباب النزول وليست إلا أنظار المفسرين من السلف كغالب أسباب النزول المنقولة في الآيات ، وهذا الاختلاف الفاحش أيضا مما يشوش الذهن في تفهم المعنى ، أضف إلى ذلك كله مخالطة التعصبات المذهبية الأنظار القاضية فيها كما سيمر بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات وأقوال المفسرين من السلف والخلف.

٣٦٧

والذي يعطيه التدبر في الآيات أن هذه الآيات الأربع على ما نقلناها متصلة الأجزاء منقطعة عما قبلها وما بعدها ، وأن الآية الرابعة من متممات الغرض المقصود بيانه فيها غير أنه يجب التحرز في فهم معناها عن المساهلات والمسامحات التي جوزتها أنظار الباحثين من المفسرين في الآيات وخاصة فيما ذكر فيها من الأوصاف والنعوت على ما سيجيء.

وإجمال ما يتحصل من الآيات أن الله سبحانه يحذر المؤمنين فيها اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، ويهددهم في ذلك أشد التهديد ، ويشير في ملحمة قرآنية إلى ما يئول إليه أمر هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينية ، وأن الله سيبعث قوما يقومون بالأمر ، ويعيدون بنية الدين إلى عمارتها الأصلية.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » قال في المجمع : الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإعداده لأمر ، وهو افتعال من الأخذ ، وأصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاء ، وأدغمتها في التاء التي بعدها ومثله الاتعاد من الوعد ، والأخذ يكون على وجوه تقول : أخذ الكتاب إذا تناوله ، وأخذ القربان إذا تقبله ، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه ، وأصله جواز الشيء من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى.

وقال الراغب في المفردات : الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد ( انتهى موضع الحاجة ) وسيأتي استيفاء البحث في معنى الولاية.

وبالجملة الولاية نوع اقتراب من الشيء يوجب ارتفاع الموانع والحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوى والانتصار فالولي هو الناصر الذي لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شيء ، وإن كان من جهة الالتيام في المعاشرة والمحبة التي هي الانجذاب الروحي فالولي هو المحبوب الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته ، ويعطيه فيما يهواه وإن كان من جهة النسب فالولي هو الذي يرثه مثلا من غير مانع يمنعه ، وإن كان من جهة الطاعة فالولي هو الذي يحكم في أمره بما يشاء.

ولم يقيد الله سبحانه في قوله : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » الولاية بشيء من الخصوصيات والقيود فهي مطلقة غير أن قوله تعالى في الآية التالية : « فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ » ، يدل على أن المراد بالولاية نوع من القرب والاتصال يناسب هذا الذي اعتذروا به بقولهم : « نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ »

٣٦٨

وهي الدولة تدور عليهم ، وكما أن الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود والنصارى فيتأيدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود والنصارى فينجو منها باتخاذهما أولياء المحبة والخلطة.

والولاية بمعنى قرب المحبة والخلطة تجمع الفائدتين جميعا أعني فائدة النصرة والامتزاج الروحي فهو المراد بالآية ، وسيجيء ما في القيود والصفات المأخوذة في الآية الأخيرة : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ » ، من الدلالة على أن المراد بالولاية هاهنا ولاية المحبة لا غير.

وقد أصر بعض المفسرين على أن المراد بالولاية ولاية النصرة وهي التي تجري بين إنسانين أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليين الآخر عند الحاجة ، واستدل على ذلك بما محصله أن الآيات ـ كما يلوح من ظاهرها ـ منزلة قبل حجة الوداع في أوائل الهجرة أيام كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة ومن حولهم من يهود فدك وخيبر وغيرهم ، ومن ورائهم النصارى وكان بين طوائف من العرب وبينهم عقود من ولاية النصرة والحلف ، وربما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أن عبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج تبرأ من بني قينقاع لما حاربت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بينه وبينهم ولاية حلف ، لكن عبد الله بن أبي رأس المنافقين لم يتبرأ منهم وسارع فيهم قائلا : ( نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ).

أو ما ورد في قصة أبي لبابة لما أرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليخرج بني قريظة من حصنهم وينزلهم على حكمه ، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه : أنه الذبح.

أو ما ورد أن بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة ، وبعضهم كان يكاتب يهود المدينة لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض.

أو ما ورد أن بعضهم قال : إنه يلحق بفلان اليهودي أو بفلان النصراني إثر ما نزل بهم يوم أحد من القتل والهزيمة.

وهؤلاء الروايات كالمتفقة في أن القائلين : « نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ » كانوا هم المنافقين ، وبالجملة فالآيات إنما تنهى عن المحالفة وولاية النصرة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى.

وقد أكد ذلك بعضهم حتى ادعى أن كون الولاية في الآية بمعنى ولاية المحبة والاعتماد مما تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرأ منه سبب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل.

٣٦٩

وكيف يصح حمل الآية على النهي عن معاشرتهم والاختلاط بهم وإن كانوا ذوي ذمة أو عهد ، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع الصحابة في المدينة ، وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامة ( انتهى ما ذكره ملخصا ).

وهذا كله من التساهل في تحصيل معنى الآية أما ما ذكروه من كون الآيات نازلة قبل عام حجة الوداع وهي سنة نزول سورة المائدة فمما ليس فيه كثير إشكال لكنه لا يوجب كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبة.

وأما ما ذكروه من أسباب النزول ودلالتها على كون الآيات نازلة في خصوص المحالفة وولاية النصرة التي كانت بين أقوام من العرب وبين اليهود والنصارى. ففيه ( أولا ) أن أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق ويعتمد عليه ، و ( ثانيا ) أنها لا توجه ولاية النصارى وإن وجهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين وبين النصارى ولاية الحلف يومئذ ، و ( ثالثا ) أنا نصدق أسباب النزول فيما تقتضيها إلا أنك قد عرفت فيما مر أن جل الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمنة لتطبيق الحوادث المنقولة تاريخا على الآيات القرآنية المناسبة لها ، وهذا أيضا لا بأس به.

وأما الحكم بأن الوقائع المذكورة فيها تخصص عموم آية من الآيات القرآنية أو تقيد إطلاقها بحسب اللفظ فمما لا ينبغي التفوه به ، ولا أن الظاهر المتفاهم يساعده. ولو تخصص أو تقيد ظاهر الآيات بخصوصية في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الآية لمات القرآن بموت من نزل فيهم ، وانقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع التي بعد عصر التنزيل ، ولا يوافقه كتاب ولا سنة ولا عقل سليم.

وأما ما ذكره بعضهم : « أن أخذ الولاية بمعنى المحبة والاعتماد خطأ تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرأ منه أسباب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل » فمما لا يرجع إلى معنى محصل بعد التأمل فيه فإن ما ذكره من تبري أسباب النزول وما ذكره من الحالة العامة أن تشمل الآيات ذلك وتصدق عليه إذا لم يأب ظهور الآية من الانطباق عليه ، وأما قصر الدلالة على مورد النزول والحالة العامة الموجودة وقتئذ فقد عرفت أنه لا دليل عليه بل الدليل ـ وهو حجية الآية في ظهورها المطلق ـ على خلافه فقد عرفت أن الآية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجة في المعنى المطلق ، وهو الولاية بمعنى المحبة.

٣٧٠

وما ذكره من تبري الآية بمفرداتها وسياقها من ذلك من عجيب الكلام ، وليت شعري ما الذي قصده من هذا التبري الذي وصفه وحمله على مفردات الآية ولم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها.

وكيف تتبرأ من ذلك مفردات الآية أو سياقها وقد وقع فيها بعد قوله : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » قوله تعالى : « بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » ولا ريب في أن المراد بهذه الولاية ولاية المحبة والاتحاد والمودة ، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لأن يقال : لا تحالفوا اليهود والنصارى بعضهم حلفاء بعض ، وإنما كان ما يكون الوحدة بين اليهود ويرد بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبة القومية ، وكذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلا مجرد المحبة والمودة من جهة الدين؟

وكذا قوله تعالى بعد ذلك : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » فإن الاعتبار الذي يوجب كون موالي جماعة من تلك الجماعة هو أن المحبة والمودة تجمع المتفرقات وتوحد الأرواح المختلفة وتتوحد بذلك الإدراكات ، وترتبط به الأخلاق ، وتتشابه الأفعال ، وترى المتحابين بعد استقرار ولاية المحبة كأنهما شخص واحد ذو نفسية واحدة ، وإرادة واحدة ، وفعل واحد لا يخطئ أحدهما الآخر في مسير الحياة ، ومستوى العشرة.

فهذا هو الذي يوجب كون من تولى قوما منهم ولحوقه بهم ، وقد قيل : من أحب قوما فهو منهم ، والمرء مع من أحب ، وقد قال تعالى في نظيره نهيا عن موالاة المشركين : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ ـ إلى أن قال بعد عدة آيات ـ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » : ( الممتحنة : ٩ ) وقال تعالى : « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ » : ( المجادلة : ٢٢ ) وقال تعالى في تولي الكافرين ـ واللفظ عام يشمل اليهود والنصارى والمشركين جميعا ـ : « لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ » : ( آل عمران : ٢٨ ) والآية صريحة في ولاية المودة والمحبة دون الحلف والعهد ، وقد كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين اليهود ، وكذا بينه وبين المشركين يومئذ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات وموادعات.

وبالجملة الولاية التي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية المحبة والمودة

٣٧١

دون الحلف والنصرة وهو ظاهر ، ولو كان المراد بقوله : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » أن من حالفهم على النصرة بعد هذا النهي فإنه لمعصيته النهي ظالم ملحق بأولئك الظالمين في الظلم كان معنى ـ على ابتذاله ـ بعيدا من اللفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.

ومن دأب القرآن في كل ما ينهى عن أمر كان جائزا سائغا قبل النهي أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقا ، واحتراما للسيرة النبوية الجارية قبله كقوله : « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا » : ( التوبة : ٢٨ ) وقوله : « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا » الآية : ( البقرة : ١٨٧ ) وقوله : « لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ » : ( الأحزاب : ٥٢ ) إلى غير ذلك.

فقد تبين أن لغة الآية في مفرداتها وسياقها لا تتبرأ من كون المراد بالولاية ولاية المحبة والمودة ، بل إن تبرأت فإنما تتبرأ من غيرها.

وأما قولهم : إن المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجيء أن السياق لا يساعده فالمراد بقوله : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » النهي عن موادتهم الموجب لتجاذب الأرواح والنفوس الذي يفضي إلى التأثير والتأثر الأخلاقيين فإن ذلك يقلب حال مجتمعهم من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية.

وإنما عبر عنهم باليهود والنصارى ، ولم يعبر بأهل الكتاب كما عبر بمثله في الآية الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الإشعار بقربهم من المسلمين نوعا من القرب يوجب إثارة المحبة فلا يناسب النهي عن اتخاذهم أولياء ، وأما ما في الآية الآتية : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ » من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهي عن اتخاذهم أولياء فتوصيفهم باتخاذ دين الله هزوا ولعبا يقلب حال ذلك الوصف ـ أعني كونهم ذوي كتاب ـ من المدح إلى الذم فإن من أوتي الكتاب الداعي إلى الحق والمبين له ثم جعل يستهزئ بدين الحق ويلعب به أحق وأحرى به أن لا يتخذ وليا ، وتجتنب معاشرته ومخالطته وموادته.

وأما قوله تعالى : « بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » فالمراد بالولاية ـ كما تقدم ـ ولاية المحبة المستلزمة لتقارب نفوسهم ، وتجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى ، والاستكبار عن الحق وقبوله ، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه ، وتناصرهم على النبي

٣٧٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة ، وليسوا على وحدة من الملية لكن يبعث القوم على الاتفاق ، ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق ، ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى ، والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا.

فهذا هو الذي جعل الطائفتين : اليهود والنصارى ـ على ما بينهما من الشقاق والعداوة الشديدة ـ مجتمعا واحدا يقترب بعضه من بعض ، ويرتد بعضه إلى بعض ، يتولى اليهود النصارى وبالعكس ، ويتولى بعض اليهود بعضا ، وبعض النصارى بعضا ، وهذا معنى إبهام الجملة : « بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » في مفرداتها ، والجملة في موضع التعليل لقوله : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » والمعنى لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة.

وربما أمكن أن يستفاد من قوله : « بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » معنى آخر ، وهو أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذي هم أولياؤكم على البعض الآخر ، ولا ينفعكم ذلك فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.

قوله تعالى : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » التولي اتخاذ الولي ، و « من » تبعيضية والمعنى أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم ، وهذا إلحاق تنزيلي يصير به بعض المؤمنين بعضا من اليهود والنصارى ، ويئول الأمر إلى أن الإيمان حقيقة ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب والخلوص ، والكدورة والصفاء كما يستفاد ذلك من الآيات القرآنية قال تعالى : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » : ( يوسف : ١٠٦ ) وهذا الشوب والكدر هو الذي يعبر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله : « فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ».

فهؤلاء الموالون لأولئك أقوام عدهم الله تعالى من اليهود والنصارى وإن كانوا من المؤمنين ظاهرا ، وأقل ما في ذلك أنهم غير سالكين سبيل الهداية الذي هو الإيمان بل سالكو سبيل اتخذه أولئك سبيلا يسوقه إلى حيث يسوقهم وينتهي به إلى حيث ينتهي بهم.

ولذلك علل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » فالكلام في معنى : أن هذا الذي يتولاهم منكم هو منهم غير سألك سبيلكم لأن سبيل الإيمان هو سبيل الهداية الإلهية ، وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم ، والله لا يهدي القوم الظالمين.

والآية ـ كما ترى ـ تشتمل على أصل التنزيل أعني تنزيل من تولاهم من المؤمنين

٣٧٣

منزلتهم من غير تعرض لشيء من آثاره الفرعية ، واللفظ وإن لم يتقيد بقيد لكنه لما كان من قبيل بيان الملاك ـ نظير قوله : « وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ » : ( البقرة : ١٨٤ ) وقوله : « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ » : ( العنكبوت : ٤٥ ) إلى غير ذلك ـ لم يكن إلا مهملا يحتاج التمسك به في إثبات حكم فرعي إلى بيان السنة ، والمرجع في البحث عن ذلك فن الفقه.

قوله تعالى : « فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ » تفريع على قوله في الآية السابقة : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » فمن عدم شمول الهداية الإلهية لحالهم ـ وهو الضلال ـ مسارعتهم فيهم واعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول ، وقد قال تعالى : « يُسارِعُونَ فِيهِمْ » ولم يقل يسارعون إليهم ، فهم منهم وحالون في الضلال محلهم ، فهؤلاء يسارعون فيهم لا لخشية إصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك ، وإنما هي معذرة يختلقونها لأنفسهم لدفع ما يتوجه إليهم من ناحية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين من اللوم والتوبيخ بل إنما يحملهم على تلك المسارعة توليهم أولئك ( اليهود والنصارى ).

ولما كان من شأن كل ظلم وباطل أن يزهق يوما ويظهر للملأ فضيحته ، وينقطع رجاء من توسل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحق كما قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » كان من المرجو قطعا أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم ، ويظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه.

وبهذا البيان يظهر وجه تفرع قوله : « فَتَرَى الَّذِينَ » (إلخ) على قوله : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » وقد تقدم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم.

فهؤلاء القوم منافقون من جهة إظهارهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ما ليس في قلوبهم حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود والنصارى بعنوان الخشية من إصابة الدائرة ، وعنوانه الحقيقي الموافق لما في قلوبهم هو تولي أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم ، وأما كونهم منافقين بمعنى الكافرين المظهرين للإيمان فسياق الآيات لا يوافقه.

وقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه على ما يؤيده أسباب النزول الواردة فإن هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم ويجاملونهم من جانب ، ومن الجانب الآخر كانوا يتولون اليهود والنصارى بالحلف والعهد على النصرة استدرارا للفئتين ، وأخذا بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أي حال ،

٣٧٤

ويكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أي واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.

وما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنها تتضمن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده ، والفتح فتح مكة أو فتح قلاع اليهود وبلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا ولا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين ، ولا ندامة في الاحتياط ، وإنما كان يصح الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرة واتصلوا باليهود والنصارى ثم دارت الدائرة عليهم ، وكذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم وصيرورتهم خاسرين بقوله : « حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ » لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم ومطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتقاء من مكروه يخافه على نفسه ثم صادف إن لم يقع ما كان يخاف وقوعه ، والاحتياط في العمل من الطرق العقلائية التي لا تستتبع لوما ولا ذما.

إلا أن يقال : إن الذم إنما لحقهم لأنهم عصوا النهي الإلهي ولم تطمئن قلوبهم بما وعده الله من الفتح ، وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.

قوله تعالى : « فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ » لفظة « عسى » وإن كان في كلامه تعالى للترجي كسائر الكلام ـ على ما قدمنا أنه للترجي العائد إلى السامع أو إلى المقام ـ لكن القرينة قائمة على أنه مما سيقع قطعا فإن الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » وتثبيت صدقه ، فما يشتمل عليه واقع لا محالة.

والذي ذكره الله تعالى من الفتح ـ وقد ردد بينه وبين أمر من عنده غير بين المصداق بل الترديد بينه وبين أمر مجهول لنا ـ لعله يؤيد كون اللام في « بِالْفَتْحِ » للجنس لا للعهد حتى يكون المراد به فتح مكة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ » : ( القصص : ٨٥ ) وقوله : « لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ » ( الفتح : ٢٧ ) وغير ذلك.

والفتح الواقع في القرآن وإن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى : « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ » ( السجدة : ٣٠ ) فإنه تعالى وصف هذا الفتح بأنه لا ينفع عنده الإيمان لمن كان كافرا قبله ، وأن الكفار ينتظرونه ، وأنت تعلم أنه لا ينطبق على فتح مكة ولا على سائر الفتوحات التي

٣٧٥

نالها المسلمون حتى اليوم فإن عد نفع الإيمان وهو التوبة إنما يتصور لأحد أمرين ـ كما تقدم بيانه في الكلام على التوبة (١) ـ : إما بتبدل نشأة الحياة وارتفاع الاختيار لتبدل الدنيا بالآخرة ، وإما بتكون أخلاق وملكات في الإنسان يقسو بها القلب قسوة لا رجاء معها للتوبة والرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى : « يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً » : ( الأنعام : ١٥٨ ) وقال تعالى : « وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ » : ( النساء : ١٨ ).

وكيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكة أو فتح قلاع اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو ، إلا أن في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله : « فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا » (إلخ) وقوله : « وَيَقُولُ الَّذِينَ » (إلخ) عليه خفاء تقدم وجهه.

وإن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للإسلام على الكفر والحكم الفصل بين الرسول وقومه فهو من الملاحم القرآنية التي ينبئ تعالى فيها عما سيستقبل هذه الأمة من الحوادث ، وينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ » إلى آخر الآيات : ( يونس : ٤٧ ـ ٥٦ ).

وأما قوله : « فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ » فإن الندامة إنما تحصل عند فعل ما لم يكن ينبغي أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغي أن يترك ، وقد فعلوا شيئا ، والله سبحانه يذكر في الآية التالية حبط أعمالهم وخسرانهم في صفقتهم فإنما أسروا في أنفسهم تولي اليهود والنصارى لينالوا به وبالمسارعة فيهم ما كانت اليهود والنصارى يريدونه من انطفاء نور الله والتسلط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين.

فهذا ـ لعله ـ هو الذي أسروه في أنفسهم ، وسارعوا لأجله فيهم ، وسوف يندمون على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحق.

قوله تعالى : « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا » ( إلى آخر الآية ) وقرئ « يَقُولُ » بالنصب عطفا على قوله : « فَيُصْبِحُوا » وهي أرجح لكونها أوفق بالسياق فإن ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم وقول المؤمنين : « أَهؤُلاءِ » (إلخ) جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم ومسارعتهم في اليهود والنصارى ، وقوله : « هؤُلاءِ » إشارة إلى اليهود والنصارى ، وقوله : « لَمَعَكُمْ » خطاب

__________________

(١) في الكلام على قوله تعالى : « إنما التوبة على الله ، الآيتين » النساء ١٧ : ١٨ في الجزء الرابع من الكتاب.

٣٧٦

للذين في قلوبهم مرض ويمكن العكس ، وكذا الضمير في قوله : « حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا » ، يمكن رجوعه إلى اليهود والنصارى ، وإلى الذين في قلوبهم مرض.

لكن الظاهر من السياق أن الخطاب للذين في قلوبهم مرض ، والإشارة إلى اليهود والنصارى ، وقوله : « حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ » ، كالجواب لسؤال مقدر ، والمعنى : وعسى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الإيمان عند حلول السخط الإلهي بهم : أهؤلاء اليهود والنصارى هم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم التي بالغوا وجهدوا فيها جهدا إنهم لمعكم فلما ذا لا ينفعونكم؟! ثم كأنه سئل فقيل : فإلى م انتهى أمر هؤلاء الموالين؟ فقيل في جوابه : حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.

( كلام في معنى مرض القلب )

وفي قوله تعالى : «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» دلالة على أن للقلوب مرضا فلها لا محالة صحة إذ الصحة والمرض متقابلان لا يتحقق أحدهما في محل إلا بعد إمكان تلبسه بالآخر كالبصر والعمى ألا ترى أن الجدار مثلا لا يتصف بأنه مريض لعدم جواز اتصافه بالصحة والسلامة.

وجميع الموارد التي أثبت الله سبحانه فيها للقلوب مرضا في كلامه يذكر فيها من أحوال تلك القلوب وآثارها أمورا تدل على خروجها من استقامة الفطرة ، وانحرافها عن مستوى الطريقة كقوله تعالى : « وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً » : ( الأحزاب : ١٢ ) وقوله تعالى : « إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ » : ( الأنفال : ٤٩ ) وقوله تعالى : « لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ » : ( الحج : ٥٣ ) إلى غير ذلك.

وجملة الأمر أن مرض القلب تلبسه بنوع من الارتياب والشك يكدر أمر الإيمان بالله والطمأنينة إلى آياته ، وهو اختلاط من الإيمان بالشرك ، ولذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال ، ويصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال والأفعال ما يناسب الكفر بالله وبآياته.

وبالمقابلة تكون سلامة القلب وصحته هي استقراره في استقامة الفطرة ولزومه مستوى الطريقة ، ويئول إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه وركونه إليه عن كل شيء يتعلق به هوى الإنسان ، قال تعالى : « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » ( الشعراء : ٨٩ ).

ومن هنا يظهر أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين كما لا يخلو تعبير القرآن عنهما

٣٧٧

بمثل قوله : « الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » في غالب الموارد عن إشعار ما بذلك ، وذلك أن المنافقين هم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، والكفر الخاص موت للقلب لا مرض فيه قال تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » : ( الأنعام : ١٢٢ ) وقال : « إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ » ( الأنعام : ٣٦ ).

فالظاهر أن مرض القلب في عرف القرآن هو الشك والريب المستولي على إدراك الإنسان فيما يتعلق بالله وآياته ، وعدم تمكن القلب من العقد على عقيدة دينية.

فالذين في قلوبهم مرض بحسب طبع المعنى هم ضعفاء الإيمان ، الذين يصغون إلى كل ناعق ، ويميلون مع كل ريح ، دون المنافقين الذين أظهروا الإيمان واستبطنوا الكفر رعاية لمصالحهم الدنيوية ليستدروا المؤمنين بظاهر إيمانهم والكفار بباطن كفرهم.

نعم ربما أطلق عليهم المنافقون في القرآن تحليلا لكونهم يشاركونهم في عدم اشتمال باطنهم على لطيفة الإيمان ، وهذا غير إطلاق الذين في قلوبهم مرض على من هو كافر لم يؤمن إلا ظاهرا قال تعالى : « بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً » : ( النساء : ١٤٠ ).

وأما قوله تعالى في سورة البقرة : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ـ إلى أن قال ـ : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ـ إلى أن قال ـ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ » : الآيات ( البقرة : ٧ ـ ٢٠ ) فإنما هو بيان لسلوك قلوبهم من الشك في الحق إلى إنكاره ، وأنهم كانوا في بادئ حالهم مرضى بسبب كذبهم في الإخبار عن إيمانهم وكانوا مرتابين لم يؤمنوا بعد ، فزادهم الله مرضا حتى هلكوا بإنكارهم الحق واستهزائهم له.

وقد ذكر الله سبحانه أن مرض القلب على حد الأمراض الجسمانية ربما أخذ في الزيادة حتى أزمن وانجر الأمر إلى الهلاك وذلك بإمداده بما يضر طبع المريض في مرضه ، وليس إلا المعصية قال تعالى : « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً » ( البقرة : ١٠ ) وقال تعالى «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ـ إلى أن قال ـ : وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى

٣٧٨

رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ » : ( التوبة : ١٢٦ ) وقال تعالى ـ وهو بيان عام ـ : « ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ » : ( الروم : ١٠ ).

ثم ذكر تعالى في علاجه الإيمان به قال تعالى ـ وهو بيان عام ـ : « يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ » : ( يونس : ٩ ) وقال تعالى : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » : ( فاطر : ١٠ ) فعلى مريض القلب ـ إن أراد مداواة مرضه ـ أن يتوب إلى الله ، وهو الإيمان به وأن يتذكر بصالح الفكر وصالح العمل كما يشير إليه الآية السابقة الذكر : « ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ » : ( التوبة : ١٢٦ ).

وقال سبحانه وهو قول جامع في هذا الباب : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً » : ( النساء : ١٤٦ ) وقد تقدم أن المراد بذلك الرجوع إلى الله بالإيمان والاستقامة عليه والأخذ بالكتاب والسنة ثم الإخلاص.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ » ارتد عن دينه رجع عنه ، وهو في اصطلاح أهل الدين الرجوع من الإيمان إلى الكفر سواء كان إيمانه مسبوقا بكفر آخر كالكافر يؤمن ثم يرتد أو لم يكن ، وهما المسميان بالارتداد الملي والفطري ( حقيقة شرعية أو متشرعية ).

ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بالارتداد في الآية هو ما اصطلح عليه أهل الدين ، ويكون الآية على هذا غير متصلة بما قبلها ، وإنما هي آية مستقلة تحكي عن نحو استغناء من الله سبحانه عن إيمان طائفة من المؤمنين بإيمان آخرين.

لكن التدبر في الآية وما تقدم عليها من الآيات يدفع هذا الاحتمال فإن الآية على هذا تذكر المؤمنين بقدرة الله سبحانه على أن يعبد في أرضه ، وأنه سوف يأتي بأقوام لا يرتدون عن دينه بل يلازمونه كقوله تعالى : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » : ( الأنعام : ٨٩ ) أو كقوله تعالى : « وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » : ( آل عمران : ٩٧ ) وقوله تعالى : « إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ

٣٧٩

حَمِيدٌ » : ( إبراهيم : ٨ ).

والمقام الذي هذه صفته لا يقتضي أزيد من التعرض لأصل الغرض ، وهو الإخبار بالإتيان بقوم مؤمنين لا يرتدون عن دين الله ، وأما أنهم يحبون الله ويحبهم ، وأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين إلى آخر ما ذكر في الآية من الأوصاف فهي أمور زائدة يحتاج التعرض لها إلى اقتضاء زائد من المقام والحال.

ومن جهة أخرى نجد أن ما ذكر في الآية من الأوصاف أمور لا تخلو من الارتباط بما ذكر في الآيات السابقة من تولي اليهود والنصارى فإن اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين لا يخلو من تعلق القلب بهم تعلق المحبة والمودة ، وكيف يحتوي قلب هذا شأنه على محبة الله سبحانه وقد قال تعالى : « ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ » : ( الأحزاب : ٤ ) ومن لوازم هذا التولي أن يتذلل المؤمن لهؤلاء الكفار ، وأن يتعزز على المؤمنين ويترفع عنهم كما قال تعالى : « أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » : ( النساء : ١٣٩ ).

ومن لوازم هذا التولي المساهلة في الجهاد عليهم والانقباض عن مقاتلتهم ، والتحرج من الصبر على كل حرمان ، والتحمل لكل لائمة في قطع الروابط الاجتماعية معهم كما قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ ـ إلى أن قال ـ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ » : ( الممتحنة : ١ ) وقال تعالى : « قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ » : ( الممتحنة : ٤ ).

وكذلك الارتداد بمعناه اللغوي أو بالعناية التحليلية صادق على تولي الكفار كما قال تعالى في الآية السابقة ( آية : ٥١ ) : « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ » وقال أيضا : « وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ » : ( آل عمران : ٢٨ ) وقال تعالى : « إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ » : ( النساء : ١٤٠ ).

فقد تبين بهذا البيان أن للآية اتصالا بما قبلها من الآيات وأن الآية مسوقة لإظهار أن دين الله في غنى عن أولئك الذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة وتولي اليهود والنصارى لدبيب النفاق في جماعتهم ، واشتمالها على عدة مرضى القلوب لا يبالون باشتراء الدنيا بالدين ، وإيثار ما عند أعداء الدين من العزة الكاذبة والمكانة الحيوية الفانية على حقيقة

٣٨٠