الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » : ( النساء : ٤٨ ) أن تلك الآية ، وكذا قوله تعالى « إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً » : ( الزمر : ٥٣ ) تصلحان لتقييد هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا » الضرب هو السير في الأرض والمسافرة ، وتقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد ، والتبين هو التمييز والمراد به التمييز بين المؤمن والكافر بقرينة قوله « وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً » والمراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الإيمان ، وقرئ : « لمن ألقى إليكم السلم » بفتح اللام وهو الاستسلام.

والمراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال والغنيمة ، وقوله « فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ » جمع مغنم وهو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذي يريدونه لكثرتها وبقائها فهي التي يجب عليكم أن تؤثروها.

قوله تعالى : « كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا » (إلخ) أي على هذا الوصف. وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا ـ كنتم من قبل أن تؤمنوا فمن الله عليكم بالإيمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم أن تبينوا ، وفي تكرار الأمر بالتبين تأكيد في الحكم.

والآية مع اشتمالها على العظة ونوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذي ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا ، فالظاهر أنه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه إنما يظهر الإيمان خوفا على نفسه ، والآية توبخه بأن الإسلام إنما يعتبر بالظاهر ، ويحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير.

وعلى هذا فقوله « تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا » موضوع في الكلام على اقتضاء الحال ، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الإيمان من غير اعتناء بأمره وتبين في شأنه حال من يريد المال والغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالإيمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من

٤١

موجه العذر ، وهذا هو الحال الذي كان عليه المؤمنون قبل إيمانهم لا يبتغون إلا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالإيمان ، ومن عليهم بالإسلام كان الواجب عليهم أن يتبينوا فيما يصنعون ولا ينقادوا لأخلاق الجاهلية وما بقي فيهم من إثارتها.

( بحث روائي )

في الدر المنثور في قوله تعالى « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً » (الآية) : أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة ، من بني عامر بن لؤي يعذب ، عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلقيه عياش بالحرة ، فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ، ثم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره فنزلت ، « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً » (الآية) ، فقرأها عليه ، ثم قال له : قم فحرر.

أقول : وروي هذا المعنى بغيره من الطرق ، وفي بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين خرج عياش وكان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم وهم يعذبونه ولقي حارثا وقد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه فقتله عياش إذ ذاك. وما أثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار وأنسب لتأريخ نزول سورة النساء.

وروى الطبري في تفسيره عن ابن زيد: أن الذي نزلت فيه الآية هو أبو الدرداء ، كان في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة له ، فوجد رجلا من القوم في غنم له ، فحمل عليه بالسيف فقال لا إله إلا الله ، فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ، ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبره فنزلت الآية

وروي في الدر المنثور ، أيضا عن الروياني وابن مندة وأبي نعيم عن بكر بن حارثة الجهني: أنه هو الذي نزلت فيه الآية ، لقصة نظيرة قصة أبي الدرداء ، والروايات على أي حال لا تزيد على التطبيق.

وفي التهذيب ، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل ، فإن الله تعالى يقول : « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » ، ـ يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث الحديث.

٤٢

وفي تفسير العياشي ، عن موسى بن جعفر عليه‌السلام : سئل كيف تعرف المؤمنة؟ قال : على الفطرة.

وفي الفقيه ، عن الصادق عليه‌السلام : في رجل مسلم في أرض الشرك ، فقتله المسلمون ثم علم به الإمام بعد ، فقال عليه‌السلام : يعتق مكانه رقبة مؤمنة وذلك قول الله عز وجل : « فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ».

أقول : وروى مثله العياشي.

وفي قوله « يعتق مكانه » ، إشعار بأن حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الإشارة إليه.

وربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفارات هو إضافة حر غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية. فافهم ذلك.

وفي الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام : إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين ، فأفطر أو مرض في الشهر الأول فإن عليه أن يعيد الصيام ، وإن صام الشهر الأول ، وصام من الشهر الثاني شيئا ، ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضي.

أقول : أي يقضي ما بقي عليه كما قيل ، وقد استفيد من التتابع.

وفي الكافي ، وتفسير العياشي ، عنه عليه‌السلام : أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا له توبة؟ فقال : إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له ، وإن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أشياء الدنيا ، فإن توبته أن يقاد منه ، وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول ، فأقر عندهم بقتل صاحبهم ، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية ، وأعتق نسمة وصام شهرين متتابعين ، وأطعم ستين مسكينا توبة إلى الله عز وجل.

وفي التهذيب ، بإسناده عن أبي السفاتج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عز وجل « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ » قال : جزاؤه جهنم إن جازاه.

أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور ، عن الطبراني وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والروايات كما ترى تشتمل على ما قدمناه من نكات الآيات ، وفي باب القتل والقود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث.

وفي المجمع في قوله تعالى « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ » (الآية) قال ،

٤٣

نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني ، وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرسل معه قيس بن هلال الفهري ، وقال له : قل لبني النجار : إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه ، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية ، فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان ، فقال : ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك ، اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدية فضل ، فرماه بصخرة فقتله وركب بعيرا ، ورجع إلى مكة كافرا ، وأنشد يقول.

قتلت به فهرا وحملت عقله

سراة بني النجار أرباب فارع

فأدركت ثاري واضطجعت موسدا

وكنت إلى الأوثان أول راجع

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أؤمنه في حل ولا حرم: رواه الضحاك وجماعة من المفسرين ( انتهى.

أقول : وروي ما يقرب منه عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ » (الآية) أنها نزلت لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزاة خيبر ، وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود ، في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام ، كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى ، فلما أحس بخيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، جمع أهله وماله في ناحية الجبل فأقبل يقول ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فمر به أسامة بن زيد فطعنه فقتله ، فلما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره بذلك ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله؟ فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فلا كشفت الغطاء عن قلبه ، ولا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت. فحلف أسامة بعد ذلك ، أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فتخلف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حروبه فأنزل في ذلك : « وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا » (الآية).

أقول : وروى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدي ، وروي في الدر المنثور ، روايات كثيرة في سبب نزول الآية ، في بعضها : أن القصة لمقداد بن الأسود وفي بعضها لأبي الدرداء ، وفي بعضها لمحلم بن جثامة ، وفي بعضها لم يذكر اسم للقاتل ولا المقتول

٤٤

وأبهمت القصة إبهاما ، هذا ، ولكن حلف أسامة بن زيد واعتذاره إلى علي عليه‌السلام في تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ والله أعلم

* * *

( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ـ ٩٥. دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ـ ٩٦. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ـ ٩٧. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ـ ٩٨. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ـ ٩٩. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ـ ١٠٠. )

( بيان )

قوله تعالى : « لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ـ إلى قوله ـ وَأَنْفُسِهِمْ » الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى والعرج والمرض ، والمراد بالجهاد بالأموال

٤٥

إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين ، وبالأنفس القتال.

وقوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى » ، يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه.

ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولي الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولي الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله وإن قلنا : إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التي فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم ، وبالجملة ففي الكلام تحضيض للمؤمنين وتهييج لهم ، وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة.

قوله تعالى : « فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً » الجملة في مقام التعليل لقوله « لا يَسْتَوِي » ، ولذا لم توصل بعطف ونحوه ، والدرجة هي المنزلة ، والدرجات المنزلة بعد المنزلة ، وقوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى » أي وعد الله كلا من القاعدين والمجاهدين ، أو كلا من القاعدين غير أولي الضرر والقاعدين أولي الضرر والمجاهدين الحسنى ، والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك ، والجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله « لا يَسْتَوِي ـ إلى قوله ـ دَرَجَةً » إنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من إيمانه وسائر أعماله فدفع ذلك بقوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ».

قوله تعالى : « وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً » هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لإجمال التفضيل المذكور أولا ، ويفيد مع ذلك فائدة أخرى ، وهي الإشارة إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذي يتضمنه قوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى » فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله والواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة والرحمة.

وأمر الآية في سياقها عجيب ، أما أولا : فلأنها قيدت المجاهدين ( أولا ) بقوله « فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ » و ( ثانيا ) بقوله « بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ » و ( ثالثا ) أوردته من

٤٦

غير تقييد. وأما ثانيا : فلأنها ذكرت في التفضيل ( أولا ) أنها درجة ، و ( ثانيا ) أنها درجات منه.

أما الأول فلأن الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود ، والفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس ، وبالسماحة والجود بأعز الأشياء عند الإنسان وهو المال ، وبما هو أعز منه ، وهو النفس ، ولذلك قيل أولا : « وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ » ليتبين بذلك الأمر كل التبين ، ويرتفع به اللبس ، ثم لما قيل : « فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً » ، لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لأن اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى » مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل ، وهو إنفاق المال وبذل النفس على حبهما فلذا اكتفي بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل : « الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ » وأما قوله ثالثا « وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً » فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلا.

وأما الثاني فقوله « فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً » « دَرَجَةً » منصوب على التمييز ، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من غير أن يعترض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر ، وقوله « وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ » كان لفظة « فَضَّلَ » فيه مضمنة معنى الإعطاء أو ما يشابهه ، وقوله « دَرَجاتٍ مِنْهُ » بدل أو عطف بيان لقوله « أَجْراً عَظِيماً » والمعنى : وأعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما وهو الدرجات من الله ، فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة ، ويبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة ، وهي الأجر العظيم الذي يثاب به المجاهدون.

ولعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا « دَرَجَةً » وثانيا « دَرَجاتٍ مِنْهُ » ، وقد ذكر المفسرون للتخلص من الإشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها من تكلف.

٤٧

منها : أن المراد بالتفضيل في صدر الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين أولي الضرر بدرجة وفي ذيل الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر بدرجات.

ومنها : أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة الدنيوية كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما وبالدرجات في آخر الآية المنازل الأخروية وهي أكثر بالنسبة إلى الدنيا ، قال تعالى : « وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ » : ( إسراء ـ ٢١ ).

ومنها : أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة عند الله ، وهي أمر معنوي ، وبالدرجات في ذيل الآية منازل الجنة ودرجاتها الرفيعة وهي حسية ، وأنت خبير بأن هذه الأقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ.

والضمير في قوله « مِنْهُ » لعله راجع إلى الله سبحانه ، ويؤيده « قوله وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً » بناء على كونه بيانا للدرجات ، والمغفرة والرحمة من الله ، ويمكن رجوع الضمير إلى الأجر المذكور قبلا.

وقوله « وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً » ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات وهي المنازل من الله سبحانه أيا ما كانت فهي مصداق المغفرة والرحمة ، وقد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة ـ وهي الإفاضة الإلهية للنعمة ـ تتوقف على إزالة الحاجب ورفع المانع من التلبس بها ، وهي المغفرة ، ولازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم ، وكل درجة ومنزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التي بعدها ، والدرجة التي فوقها ، فصح بذلك أن الدرجات الأخروية كائنة ما كانت مغفرة ورحمة من الله سبحانه ، وغالب ما تذكر الرحمة وما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله « مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ » ( المائدة : ٩ ) وقوله « وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ » : ( الأنفال : ٤ ) ، وقوله « مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ » : ( هود : ١١ ) ، وقوله « وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ » : ( الحديد : ٢٠ ) ، وقوله « وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا » : ( البقرة : ٢٨٦ ) إلى غير ذلك من الآيات.

ثم ختم الآية بقوله : « وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً » ومناسبة الاسمين مع مضمون الآية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها « وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ».

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ » لفظ « تَوَفَّاهُمُ » صيغة ماض أو صيغة مستقبل ـ والأصل تتوفاهم حذفت إحدى التاءين من اللفظ تخفيفا ـ نظير قوله

٤٨

تعالى « الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ » : ( النحل : ٢٨ ).

والمراد بالظلم كما تؤيده الآية النظيرة هو ظلمهم لأنفسهم بالإعراض عن دين الله وترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك والتوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين ، والقيام بما تندب إليه من وظائف العبودية ، وهذا هو الذي يدل عليه السياق في قوله « قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ » إلى آخر الآيات الثلاث.

وقد فسر الله سبحانه الظالمين ( إذا أطلق ) في قوله « لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً » : ( الأعراف : ٤٥ ) ، ومحصل الآيتين تفسير الظلم بالإعراض عن دين الله وطلبه عوجا ومحرفا ، وينطبق على ما يظهر من الآية التي نحن فيها.

قوله تعالى : « قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ » أي فيما ذا كنتم من الدين ، وكلمة « م » هي ما الاستفهامية حذفت عنها الألف تخفيفا.

وفي الآية دلالة في الجملة على ما تسميه الأخبار بسؤال القبر ، وهو سؤال الملائكة عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى : « الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً » : الآيات ( النحل : ٣٠ ).

قوله تعالى : « قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها » كان سؤال الملائكة ( فِيمَ كُنْتُمْ ) سؤالا عن الحال الذي كانوا يعيشون فيه من الدين ، ولم يكن هؤلاء المسئولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب وهو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين لكون أهل الأرض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم وبين الأخذ بشرائع الدين والعمل بها.

٤٩

ولما كان هذا الذي ذكروه من الاستضعاف ـ لو كانوا صادقين فيه ـ إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك ، وكان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الأرض التي ذكروها ، ولم تكن لهم سلطة على غيرها من الأرض فلم يكونوا مستضعفين على أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج والمهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الأرض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه ولزموه ، وكان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة ، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف ، وإنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.

فقوله « أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها » الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله « فِيمَ كُنْتُمْ » ويمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين والمتقين جميعا ، وثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال.

وقد أضافت الملائكة الأرض إلى الله ، ولا يخلو من إيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الإيمان والعمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين « وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً » (الآية).

ووصف الأرض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله « فَتُهاجِرُوا فِيها » أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها ، ولو لا فرض السعة لكان يقال : فتهاجروا منها.

ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المساءلة بقوله « فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ».

قوله تعالى : « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ » ، الاستثناء منقطع ، وفي إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذي فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم وإنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الآية ، وفي تفصيل بيانهم بالرجال والنساء والولدان إيضاح للحكم الإلهي ورفع للبس. وقوله « لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة ثم استعملت استعمال الآلة فهي ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شيء وشيء أو حال للحصول على شيء أو حال آخر ، وغلب استعماله في ما يكون على خفية وفي الأمور المذمومة ، وفي مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته.

والمعنى : لا يستطيعون ولا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف

٥٠

المشركين عن أنفسهم ، ولا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسي كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمي مكة ، والسبيل المعنوي وهو كل ما يخلصهم من أيدي المشركين ، واستضعافهم لهم بالعذاب والفتنة.

( كلام في المستضعف )

يتبين بالآية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه.

توضيحه : أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين وكل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلما لا يناله العفو الإلهي ، ثم يستثني من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ثم يعرفهم بما يعمهم وغيرهم من الوصف ، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم ، وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها ، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الإسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي ونحو ذلك كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.

فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط ، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة ، ولا قدرة مع الغفلة ، ولا سبيل مع هذا الجهل.

هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلة ، وهو الذي يدل عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » : ( البقرة : ٢٨٦ ) فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان كما أن الممنوع من الأمر بما يمتنع معه ليس في وسع الإنسان.

٥١

وهذه الآية أعني آية البقرة كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطي ضابطا كليا في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره ، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان ، ولا يكون له في امتناع الأمر الذي امتنع عليه صنع ، فالجاهل بالدين جملة أو ، بشيء من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك وكان معصية ، وإذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره ، ولم يعد فاعلا للمعصية ، متعمدا في المخالفة ، مستكبرا عن الحق جاحدا له ، فله ما كسب وعليه ما اكتسب ، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه.

ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شيء له ولا عليه لعدم كسبه أمرا بل أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين « فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً » وقوله تعالى « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » : ( براءة : ١٠٦ ) ورحمته سبقت غضبه.

قوله تعالى : « فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ » ، هؤلاء وإن لم يكسبوا سيئة لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الإنسان يدور بين السعادة والشقاوة وكفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة ، فالإنسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهي الذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن ، ولذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم.

وإنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله « وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً » اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أوعدوا بأن مأواهم جهنم وساءت مصيرا.

قوله تعالى : « وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً » قال الراغب : الرغام ( بفتح الراء ) التراب الرقيق ، ورغم أنف فلان رغما وقع في الرغام ، وأرغمه غيره ، ويعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر :

إذا رغمت تلك الأنوف لم أرضها

ولم أطلب العتبي ولكن أزيدها

فمقابلته بالإرضاء مما ينبه على دلالته على الإسخاط ، وعلى هذا قيل : أرغم الله

٥٢

أنفه ، وأرغمه أسخطه ، وراغمة ساخطة ، وتجاهدا على أن يرغم أحدهما الآخر ثم يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى : « يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً » أي مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرا يلزمه أن يغضب منه كقولك : غضبت إلى فلان من كذا ورغمت إليه ( انتهى ).

فالمعنى : ( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، أي طلبا لمرضاته في التلبس بالدين علما وعملا يجد في الأرض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من إقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لإرغام المانع وإسخاطه أو لمنازعته المانع ومساخطته ، ويجد سعة في الأرض.

وقد قال تعالى في سابق الآيات : « أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً » ، ولازم التفريع عليه أن يقال : ومن يهاجر يجد في الأرض سعة إلا أنه لما زيد قوله « مُراغَماً كَثِيراً » وهو من لوازم سعة الأرض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضا بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام ، وهو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك وتهييجهم وتشجيعهم على المهاجرة وتطييب نفوسهم.

قوله تعالى : « وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ » (إلخ) المهاجرة إلى الله ورسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام التي يتمكن فيها من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ، والعمل به.

وإدراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجاته فإن الإدراك هو سعي اللاحق بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه ، وكذا وقوع الأجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الأجر والثواب له تعالى وأخذه ذلك في عهدته ، فهناك أجر جميل وثواب جزيل سيوافي به العبد لا محالة ، والله سبحانه يوافيه بألوهيته التي لا يعزها شيء ولا يعجزها شيء ولا يمتنع عليها ما أرادته ، ولا تخلف الميعاد. وختم الكلام بقوله « وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً » تأكيدا للوعد الجميل بلزوم توفيه الأجر والثواب.

وقد قسم الله سبحانه في هذه الآيات المؤمنين أعني المدعين للإيمان من جهة الإقامة في دار الإيمان ودار الشرك إلى أقسام ، وبين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة وتنبيها ثم ترغيبا في الهجرة إلى دار الإيمان ، والاجتماع هناك ، وتقوية

٥٣

المجتمع الإسلامي ، والاتحاد والتعاون على البر والتقوى وإعلاء كلمة الحق ورفع راية التوحيد وأعلام الدين.

فطائفة أقامت في دار الإسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وقاعدين غير أولي الضرر ، وقاعدين أولي الضرر ، وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة.

وطائفة أقامت في دار الشرك ، وهي ظالمة لا تهاجر في سبيل الله ومأواهم جهنم وساءت مصيرا ، وطائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وطائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله ورسوله ثم أدركها الموت فقد وقع أجرها على الله.

والآيات تجري بمضامينها على المسلمين في جميع الأوقات والأزمنة وإن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بين هجرته إلى المدينة وفتح مكة وكانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام وهي المدينة وما والاها فيها جماعة المسلمين أحرار في دينهم وجماعة من المشركين وغيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد ونحوه ، وإلى أرض الشرك وهي مكة وما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم ، ويزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب ، ويفتنونهم لردهم عن دينهم.

لكن الآيات تحكم على المسلمين بملاكها دائما فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من تعلم معالم الدين ، ويستطيع إقامة شعائره والعمل بأحكامه ، وأن يهجر الأرض التي لا علم فيها بمعارف الدين ، ولا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمى اليوم دار الإسلام أو دار شرك فإن الأسماء تغيرت اليوم وهجرت مسمياتها وصار الدين جنسية ، والإسلام مجرد تسم من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه.

والقرآن الكريم إنما يرتب الأثر على حقيقة الإسلام دون اسمه ويكلف الناس من العمل ما فيه شيء من روحه لا ما هو صورته ، قال تعالى : « لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً » : ( النساء : ١٢٤ ) ، وقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ

٥٤

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » : ( البقرة : ٦٢ ).

( بحث روائي )

في الدر المنثور ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر ، فأصيب بعضهم ، وقتل بعض ، فقال المسلمون : قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الآية : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ » ـ إلى آخر الآية.

قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية ، وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه الآية ، « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ » إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا ، وأيسوا من كل خير فنزلت فيهم ، « ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » ، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا ، فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون ـ فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك: في الآية قال هم أناس من المنافقين ، تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، فلم يخرجوا معه إلى المدينة ، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر ، فأصيبوا يوم بدر فيمن أصيب ، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

وفيه ، أخرج ابن جرير عن ابن زيد: في الآية قال : لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وظهر ، ونبع الإيمان نبع النفاق معه ، فأتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجال ، فقالوا : يا رسول الله لو لا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا ، ويفعلون ويفعلون لأسلمنا ، ولكن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له ، فلما كان يوم بدر قام المشركون ، فقالوا لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله ، فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، معهم فقتلت طائفة منهم ، وأسرت طائفة.

٥٥

قال : فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ » ، (الآية) كلها « أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ـ وتتركوا ، هؤلاء الذين يستضعفونكم ـ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ».

ثم عذر الله أهل الصدق فقال : « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ـ يتوجهون له ، لو خرجوا لهلكوا ، فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ » إقامتهم بين ظهري المشركين.

وقال الذين أسروا : يا رسول الله ، إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا ، فقال الله : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ، إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً ، مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ـ صنيعكم الذي صنعتم ، خروجكم مع المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ ـ خرجوا مع المشركين ـ فأمكن منهم ».

وفيه ، أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن جرير عن عكرمة : في قوله « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ـ إلى قوله ـ وَساءَتْ مَصِيراً » ، قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف.

قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم ، لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش ، من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة ، خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا ، واجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفارا ، ورجعوا عن الإسلام وهم هؤلاء الذين سميناهم.

أقول : والروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة ، وهي وإن كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنه تطبيق حسن.

ومن أهم ما يستفاد منها ، وكذا من الآيات بعد التدبر وجود منافقين بمكة قبل الهجرة وبعدها. فإن لذلك تأثيرا في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة البراءة إن شاء الله العزيز.

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان بمكة

٥٦

رجل يقال له ضمرة من بني بكر ، وكان مريضا ، فقال لأهله أخرجوني من مكة فإني أجد الحر ، فقالوا : أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة ، فخرجوا به فمات على ميلين من مكة فنزلت هذه الآية ، « وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ».

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة إلا أن فيها اختلافا شديدا في تسمية هذا الذي أدركه الموت ، ففي بعضها ضمرة بن جندب ، وفي بعضها أكثم بن صيفي ، وفي بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقي ، وفي بعضها ضمرة بن العيص من بني ليث ، وفي بعضها جندع بن ضمرة الجندعي ، وفي بعضها أنها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجرا إلى حبشة فنهشته حية في الطريق فمات.

وفي بعض الروايات عن ابن عباس : أنه أكثم بن صيفي. قال الراوي : قلت فأين الليثي؟ قال : هذا قبل الليثي بزمان ، وهي خاصة عامة.

أقول : يعني أنها نزلت في أكثم خاصة ثم جرت في غيره عامة ، والمتحصل من الروايات أن ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة : أكثم بن صيفي ، وليثي ، وخالد بن حزام ، وأما نزول الآية في أي منهم فكأنه تطبيق من الراوي.

وفي الكافي ، عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المستضعف ، فقال : هو الذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر ، ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان ، لا يستطيع أن يؤمن ، ولا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان ، ومن الرجال والنساء ، على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم : أقول والحديث مستفيض عن زرارة ، رواه الكليني ، والصدوق ، والعياشي ، بعدة طرق عنه.

وفيه ، بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله. قال : الدين واسع ، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم ، قلت : جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال : نعم. فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى ، وأتولاكم ، وأبرأ من أعدائكم ومن ركب رقابكم ، وتأمر عليكم ، وظلمكم حقكم. فقال : والله ما

٥٧

جهلت شيئا ، هو والله الذي نحن عليه. فقلت : فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال : إلا المستضعفين. قلت : من هم؟ قال نساؤكم وأولادكم.

ثم قال : أرأيت أم أيمن؟ ، فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه.

وفي تفسير العياشي ، عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن المستضعفين. فقال : البلهاء في خدرها ، والخادم تقول لها : صلي فتصلي لا تدري إلا ما قلت لها ، والجليب الذي لا يدري إلا ما قلت له ، والكبير الفاني ، والصبي ، والصغير ، هؤلاء المستضعفون ، فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء والبيع ، لا تستطيع أن تعينه في شيء تقول : هذا المستضعف؟ لا ، ولا كرامة.

وفي المعاني ، عن سليمان : عن الصادق عليه‌السلام في الآية قال : يا سليمان ، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك ، المستضعفون قوم يصومون ، ويصلون ، تعف بطونهم وفروجهم ، ولا يرون أن الحق في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، إذا كانوا آخذين بالأغصان ، وأن يعرفوا أولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته ، وإن عذبهم فبضلالتهم.

أقول : قوله « لا يرون أن الحق في غيرنا » ، يريد صورة النصب أو التقصير المؤدي إليه كما يدل عليه الروايات الآتية.

وفيه ، عن الصادق عليه‌السلام : أنه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا ، ومن لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف.

وفيه وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام في الآية قال : لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبون ، ولا يهتدون سبيلا إلى الحق فيدخلون فيه ، هؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة ، وباجتناب المحارم التي نهى الله عنها ، ولا ينالون منازل الأبرار.

وفي تفسير القمي ، عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك ما حال الموحدين ، المقرين بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من المذنبين ، الذين يموتون وليس لهم إمام ، ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال : أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها. فمن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة ، فإنه يخد له خد إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب ، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة ، حتى يلقى الله فيحاسبه

٥٨

بحسناته وسيئاته ، فإما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله. قال وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله ، والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم.

فأما النصاب من أهل القبلة ، فإنه يخد لهم خد إلى النار التي خلقها الله بالمشرق ، فيدخل عليه اللهب والشرر والدخان ، وفورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم وفي الخصال ، عن الصادق عن أبيه عن جده عن علي عليه‌السلام قال : إن للجنة ثمانية أبواب ، باب يدخل منه النبيون والصديقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا ، إلى أن قال وباب يدخل منه سائر المسلمين ـ ممن يشهد أن لا إله إلا الله ، ولم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت عليه‌السلام.

وفي المعاني ، وتفسير العياشي ، عن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ » قال : هم أهل الولاية. قلت : أي ولاية؟ قال : أما إنها ليست بولاية في الدين ، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار ، وهم المرجون لأمر الله عز وجل.

أقول : وهو إشارة إلى قوله تعالى « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ » : الآية ( التوبة : ١٠٦ ) وسيأتي ما يتعلق به من الكلام إن شاء الله.

وفي النهج ، قال عليه‌السلام : ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة ، فسمعتها أذنه ، ووعاها قلبه.

وفي الكافي ، عن الكاظم عليه‌السلام : أنه سئل عن الضعفاء ، فكتب عليه‌السلام : الضعيف من لم ترفع له حجة. ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف.

وفيه ، عن الصادق عليه‌السلام : أنه سئل : ما تقول في المستضعفين؟ فقال شبيها بالفزع فتركتم أحدا يكون مستضعفا؟ وأين المستضعفون ، فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق ، إلى العواتق في خدورهن ، وتحدثت به السقاءات في طريق المدينة.

وفي المعاني ، عن عمر بن إسحاق قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ، ما حد المستضعف الذي ذكره الله عز وجل؟ قال : من لا يحسن سورة من سور القرآن ، وقد خلقه الله عز وجل خلقه ما ينبغي لأحد أن لا يحسن.

٥٩

أقول : وهاهنا روايات أخر غير ما أوردناه لكن ما مر منها حاو لمجامع ما فيها من المقاصد ، والروايات وإن كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد هو مقتضى إطلاق الآية على ما قدمناه ، وهو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير

* * *

( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ـ ١٠١. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ـ ١٠٢. فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ـ ١٠٣. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ـ ١٠٤. )

٦٠