الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

تعالى : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » : ( الذاريات : ٥٦ ).

فكل ما تصرف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته فهو نعمة ، وإن انعكس الأمر عاد نقمة في حقه ، فالأشياء في نفسها عزل ، وإنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية ، ودخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبية لشئون العبد ، ولازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية ، وأن الشيء إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شيء منها ، قال تعالى : « اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ » : ( البقرة : ٢٥٧ ) ، وقال تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ » : ( محمد : ١١ ) وقال في حق رسوله : « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » : ( النساء : ٦٥ ) إلى غير ذلك.

فالإسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين ، وهو من جهة اشتماله ـ من حيث العمل به ـ على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الأمر بعده نعمة.

ولا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لأمور عباده إلا بولاية رسوله ، ولا ولاية رسوله إلا بولاية أولي الأمر من بعده ، وهي تدبيرهم لأمور الأمة الدينية بإذن من الله قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » ( النساء : ٥٩ ) وقد مر الكلام في معنى الآية ، وقال : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ » : ( المائدة : ٥٥ ) وسيجيء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.

فمحصل معنى الآية : اليوم ـ وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم ـ أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية ، وأتممت عليكم نعمتي وهي الولاية التي هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيرا إلهيا ، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله ، وهي أنما تكفي ما دام الوحي ينزل ، ولا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي ، ولا رسول بين الناس يحمي دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك ، وهو ولي الأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله القيم على أمور الدين والأمة.

فالولاية مشروعة واحدة ، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولي الأمر

١٨١

بعد النبي.

وإذا كمل الدين في تشريعه ، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله ولا يطاع فيه ـ والطاعة عبادة ـ إلا الله ومن أمر بطاعته من رسول أو ولي.

فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم ، وأن الله رضي لهم أن يتدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. وإذا تدبرت قوله تعالى : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » : ( النور : ٥٥ ) ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى : « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ » (إلخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله : « يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً » مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله : « وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ».

وسورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك وآية الجد وآية الحجاب وغير ذلك.

قوله تعالى : « فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » المخمصة هي المجاعة ، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذي هو ميلهما إلى الداخل.

وفي سياق الآية دلالة أولا على أن الحكم حكم ثانوي اضطراري ، وثانيا على أن التجويز والإباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار ويسكن به ألم الجوع ، وثالثا على أن صفة المغفرة ومثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشئها ، وهو الحكم الذي يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذي يستتبع العقاب.

١٨٢

( بحث علمي في فصول ثلاثة )

١ ـ العقائد في أكل اللحم : لا ريب أن الإنسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه ، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا أن يمتنع منه لتضرر أو تنفر.

أما التضرر فهو كان يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية ونحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل ، أو يجد الأكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التي في الأديان والشرائع المختلفة ، وهذا القسم امتناع عن الأكل فكري.

وأما التنفر فهو الاستقذار الذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه ، وقد شوهد ذلك في بعض الأطفال والمجانين ، ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير ، والنصارى يستطيبونه ، ويتغذى الغربيون من أنواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان والضفدع والفأر وغيرها ، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة المكتسبة.

فتبين أن الإنسان في التغذي باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع ، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه أنما هو عن فكر أو طبع ثانوي.

وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة ، وهذا تفريط يقابله في جانب الإفراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من إفريقية وغيرها إنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الإنسان.

وقد كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال الفأر والوزغ ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه ، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة

١٨٣

والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، وكان القائل منهم يقول : ما لكم تأكلون مما قتلتموه ولا تأكلون مما قتله الله؟! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم : ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرر به بدن الإنسان ولو بعلاج طبي فنى فجهاز التغذي لا يفرق بين هذا وذاك.

وكانت العرب أيضا تأكل الدم ، كانوا يملئون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف ، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم ، وأكل الدم رائج اليوم بين كثير من الأمم غير المسلمة.

وأهل الصين من الوثنية أوسع منهم سنة ، فهم ـ على ما ينقل ـ يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر وحتى الديدان والأصداف وسائر الحشرات.

وقد أخذ الإسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيعه الطباع المعتدلة من الإنسان ، ثم فسره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والإبل على كراهية في بعضها كالفرس والحمار ، وفي الطير ـ بغير الجوارح ـ مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب له ، وفي حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.

ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالإهلال به لله عز اسمه ، والغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة ، وهي إقبال الإنسان على أصل أكل اللحم ، ويحترم الفكر الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا ، وتجويز ما يستقذر ويتنفر منه.

٢ ـ كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تأباه؟ ربما يسأل السائل فيقول إن الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات التي تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعي الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنه يؤلمهم ما يؤلمنا ، ويشق عليهم ما يشق علينا ، والنفوس سواء.

وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان ، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به ، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت ، ونحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة؟ والله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء؟.

١٨٤

والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.

توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول ، فما من شيء إلا وفي إمكانه أن يتحول إلى آخر ، وأن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة ، لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر ، ولا يبقى هذا إلا ويفني ذاك ، فعالم المادة عالم التبديل ، والتبدل وإن شئت فقل : عالم الآكل والمأكول.

فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها وتفنيها.

ثم النبات يتغذى بالأرض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الأصلية وعناصره الأولية ، ولا يزال أحدهما يراجع الآخر.

ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء ، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد ، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك ، وهي تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهي تتغذى بدم الإنسان وسائر الحيوان ونحوه ، ثم الأرض تأكل الجميع.

فنظام التكوين وناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم ونحوها ، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك ، وهو الذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا. وفي مقدم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن ، فلا هو مثل الغنم والبقر من الأنعام لا تستطيع قطعا ونهشا ، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا.

ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمن الخلقة ، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية ، وإباحة العمل المهدي إليه بتسليم أحدهما وإنكار الآخر؟.

١٨٥

والإسلام دين فطري لا هم له إلا إحياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الإنسانية ، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة وتقضي به الفطرة.

وهو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيي أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين ، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوي من اللحوم ، وحكم الإحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة ، وهذان الحكمان أيضا ينتهي أصولهما إلى تصرف من التكوين ، وقد اعتبرهما الإسلام فحرم ما يضر نماء الجسم ، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الإنساني ، مثل ما أهل به لغير الله ، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك ، وحرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.

وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الإنسان وكثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان ، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة ، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا ، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام والأسقام والمصائب وأنواع العذاب.

ثم الرحمة الإنسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الإطلاق كالعدل ، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازي مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان وفيه هلاك الأرض ومن عليها.

ومع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين ، فأمر بنشر الرحمة عموما ، ونهى عن زجر الحيوان في القتل ، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه ـ ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة ـ ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه ، ووضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.

ومع ذلك كله الإسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل ، ومرجع ذلك

١٨٦

إلى اتباع حكم العقل.

وأما حديث الرحمة الإلهية وأنه تعالى أرحم الراحمين ، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم ، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه ، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس ، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا ، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات.

فتبين من جميع ما مر أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التي قيد بها الإباحة والشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة : فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم!.

٣ ـ لما ذا بني الإسلام على التذكية؟ وهذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم ، وهو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيئه الموت العارض حتف الأنف ، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز ، وحكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح؟.

وقد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني ، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق. وقد عرفت أن الإسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع.

على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذي به إلا فساد المزاج ومضار الأبدان هو بنفسه خلاف الرحمة ، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه.

١٨٧

( بحث روائي )

في تفسير العياشي ، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت آية : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » إلا وعلي شريفها وأميرها ، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في غير مكان ـ وما ذكر عليا إلا بخير.

أقول : وروي في تفسير البرهان ، عن موفق بن أحمد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: مثله إلى قوله : وأميرها. ورواه أيضا العياشي عن عكرمة.

وقد نقلنا الحديث سابقا عن الدر المنثور.

وفي بعض الروايات عن الرضا عليه‌السلام قال : ليس في القرآن « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » إلا في حقنا وهو من الجري أو من باطن التنزيل.

وفيه ، عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » قال : العهود.

أقول : ورواه القمي ، أيضا في تفسيره عنه.

وفي التهذيب ، مسندا عن محمد بن مسلم قال : سألت أحدهما عليهما‌السلام عن قول الله عز وجل : « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ » فقال : الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه الذي عنى الله تعالى.

أقول : والحديث مروي في الكافي ، والفقيه ، عنه عن أحدهما ، وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أحدهما ، وعن زرارة عن الصادق عليه‌السلام ، ورواه القمي في تفسيره ، ورواه في المجمع ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ » (الآية) الشعائر : الإحرام والطواف ـ والصلاة في مقام إبراهيم والسعي بين الصفا والمروة ، والمناسك كلها من شعائر الله ، ومن الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج ـ ثم أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها ـ أو قلدها ليعلم الناس أنها هدي ـ فلا يتعرض لها أحد. وإنما سميت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها ، وقوله : « وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ » ـ وهو ذو الحجة وهو من الأشهر الحرم ، وقوله : « وَلَا الْهَدْيَ » ـ وهو الذي يسوقه إذا أحرم المحرم ، وقوله : « وَلَا الْقَلائِدَ » قال :

١٨٨

يقلدها النعل التي قد صلى فيها. قوله : « وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ » قال : الذين يحجون البيت

وفي المجمع ، قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له : الحطم.

قال : وقال السدي : أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده ـ وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلى ما تدعو؟ وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه : يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة ـ يتكلم بلسان شيطان ـ فلما أجابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال؟ أنظرني لعلي أسلم ولي من أشاوره ، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعقب غادر ، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه ـ وانطلق به وهو يرتجز ويقول :

قد لفها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم

خدلج الساقين ممسوح القدم

ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا ـ فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية : « وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ».

قال : وقال ابن زيد : نزلت يوم الفتح ـ في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول الله ـ إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم ـ فأنزل الله تعالى الآية.

أقول : روى الطبري القصة عن السدي وعكرمة ، والقصة الثانية عن ابن زيد وروي في الدر المنثور ، القصة الثانية عن ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وفيه : أنه كان يوم الحديبية. والقصتان جميعا لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين وأهل النقل أن سورة المائدة نزلت في حجة الوداع ، إذ لو كان كذلك كان قوله : « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا » : ( البراءة : ٢٨ ) ، وقوله : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » ( البراءة : ٥ ) الآيتان جميعا نازلتين قبل قوله : « وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ » ولا محل حينئذ للنهي عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام.

ولعل شيئا من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس ومجاهد

١٨٩

وقتادة والضحاك : أن قوله : « وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ » منسوب بقوله : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (الآية) وقوله : « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ » (الآية) ، وقد وقع حديث النسخ في تفسير القمي ، وظاهره أنه رواية.

ومع ذلك كله تأخر سورة المائدة نزولا يدفع ذلك كله ، وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت عليه‌السلام أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » (الآية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ وعلى هذا يكون مفاد قوله : « وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ » كالمفسر بقوله بعد : « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا » ، أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض منهم لكم قبل هذا ، ولا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلا عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بإثم كالقتل أو عدوان كالذي دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر والتقوى.

وفي الدر المنثور : أخرج أحمد وعبد بن حميد : في هذه الآية يعني قوله : « وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ » (الآية) : والبخاري في تاريخه ، عن وابصة قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا لا أريد ـ أن أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه ـ فقال لي : يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأل؟ قلت : يا رسول الله أخبرني ـ قال : جئت لتسأل عن البر والإثم ، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول : يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك البر ـ ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في القلب ، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.

وفيه : أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة : أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الإثم ـ فقال : ما حاك في نفسك فدعه.

قال : فما الإيمان؟ قال : من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن.

وفيه : أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك ـ وكرهت أن يطلع عليه الناس.

أقول : الروايات ـ كما ترى ـ تبتني على قوله تعالى : « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » : ( الشمس : ٨ ) وتؤيد ما تقدم من معنى الإثم.

١٩٠

وفي المجمع : واختلف في هذا يعني قوله : ( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) فقيل : منسوخ بقوله : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » ـ عن أكثر المفسرين ، وقيل : ما نسخ من هذه السورة شيء ، ولا من هذه الآية ، لأنه لا يجوز أن يبتدأ المشركون ـ في الأشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا: ثم قال وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وفي الفقيه ، بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : الميتة والدم ولحم الخنزير معروف ، وما أهل لغير الله به يعني ما ذبح على الأصنام ، وأما المنخنقة فإن المجوس ـ كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة ، وكانوا يخنقون البقر والغنم ـ فإذا خنقت وماتت أكلوها ، والموقوذة كانوا يشدون أرجلها ـ ويضربونها حتى تموت فإذا ماتت أكلوها ، والمتردية كانوا يشدون عينها ـ ويلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها ، والنطيحة كانوا يتناطحون بالكباش ـ فإذا مات أحدهما أكلوه ، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ـ فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والأسد والدب ـ فحرم الله عز وجل ذلك ، وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران ، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما ، وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ـ قال : كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزون عشرة أجزاء ـ ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام ـ فيدفعونها إلى رجل والسهام عشرة ، وهي : سبعة لها أنصباء ، وثلاثة لا أنصباء لها.

فالتي لها أنصباء : الفذ والتوأم والمسبل ـ والنافس والحلس والرقيب والمعلى ، فالفذ له سهم ، والتوأم له سهمان ، والمسبل له ثلاثة أسهم ، والنافس له أربعة أسهم ، والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستة أسهم ، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا أنصباء لها : السفيح ، والمنيح ، والوغد ـ وثمن الجزور على من لم يخرج له من الأنصباء شيء ـ وهو القمار فحرمه الله.

أقول : وما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة والموقوذة والمتردية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية ، وكذا ذكر قوله : ( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) مع قوله : « وَما أَكَلَ السَّبُعُ » وقوله : « ذلِكُمْ فِسْقٌ » مع قوله « وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ » لا دلالة فيه على التقييد.

وفي تفسير العياشي ، عن عيوق بن قسوط : عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله :

١٩١

« الْمُنْخَنِقَةُ » قال : التي تنخنق في رباطها « وَالْمَوْقُوذَةُ » المريضة التي لا تجد ألم الذبح ـ ولا تضطرب ولا تخرج لها دم ـ وَ « الْمُتَرَدِّيَةُ » التي تردى من فوق بيت أو نحوه ـ « وَالنَّطِيحَةُ » التي تنطح صاحبها.

وفيه ، عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : المتردية والنطيحة وما أكل السبع ـ أن أدركت ذكاته فكله.

وفيه ، عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده ـ وأحل لهم ما سواه من رغبة منه ـ تبارك وتعالى ـ فيما حرم عليهم ، ولا زهد فيما أحل لهم ، ولكنه خلق الخلق ، وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم ـ فأحله وأباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم ، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه ـ وحرمه عليهم ثم أباحه للمضطر ـ وأحله لهم في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به ـ فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.

ثم قال : أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد ـ ولا يأكلها إلا ضعف بدنه ، ونحل جسمه ، ووهنت قوته ، وانقطع نسله ، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة.

وأما الدم فإنه يورث الكلب ، وقسوة القلب ، وقلة الرأفة والرحمة ، لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه ، ولا يؤمن على حميمه ، ولا يؤمن على من صحبه.

وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما ـ في صور شتى شبه الخنزير والقرد والدب ـ وما كان من الأمساخ ـ ثم نهى عن أكل مثله ـ لكي لا ينقع بها ولا يستخف بعقوبته.

وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها ، وقال. إن مدمن الخمر كعابد وثن ـ ويورثه ارتعاشا ويذهب بنوره ، وينهدم مروته ، ويحمله على أن يكسب على المحارم ـ من سفك الدماء وركوب الزنا ، ولا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمة وهو لا يعقل ذلك ، والخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر.

( بحث روائي آخر )

في غاية المرام ، عن أبي المؤيد موفق بن أحمد في كتاب فضائل علي ، قال : أخبرني

١٩٢

سيد الحفاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي فيما كتب إلي من همدان ، أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة ، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي ، حدثنا الحسين بن عليل الغنوي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الزراع ، حدثنا قيس بن حفص ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو هريرة عن أبي سعيد الخدري : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم دعا الناس إلى غدير خم ـ أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم ، وذلك يوم الخميس ـ يوم دعا الناس إلى علي وأخذ بضبعه ـ ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ـ ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الآية : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ـ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ـ ورضا الرب برسالتي والولاية لعلي ، ثم قال : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

وقال حسان بن ثابت : أتأذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتا؟ قال : قل ينزله الله تعالى ، فقال حسان بن ثابت :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم وأسمع بالنبي مناديا

بأني مولاكم نعم ووليكم

فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

وعن كتاب نزول القرآن ، في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للحافظ أبي نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري: مثله ، وقال في آخر الأبيات :

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى عليا معاديا

وعن نزول القرآن ، أيضا يرفعه إلى علي بن عامر عن أبي الحجاف عن الأعمش عن عضة قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في علي بن أبي طالب : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ » ـ وقد قال الله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ـ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

١٩٣

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ».

وعن إبراهيم بن محمد الحمويني قال : أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب علي بن الحسين بن عثمان بن عبد الله الخازن ، قال : أنبأنا الإمام برهان الدين ناصر بن أبي المكارم المطرزي إجازة ، قال : أنبأنا الإمام أخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن أحمد المكي الخوارزمي ، قال : أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلي من همدان ، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة ، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي ، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوي ، نبأنا محمد بن عبد الله الزراع ، نبأنا قيس بن حفص قال : حدثني علي بن الحسين العبدي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري ، وذكر مثل الحديث الأول.

وعن الحمويني أيضا عن سيد الحفاظ وأبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي ، قال : أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبد الله بن أحمد ، قال : نبأنا محمد بن أحمد بن علي ، قال : نبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، قال : نبأنا يحيى الحماني ، قال : حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري ، وذكر مثل الحديث الأول.

قال : قال الحمويني عقيب هذا الحديث : هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبي سعيد سعد بن مالك الخدري الأنصاري.

وعن المناقب الفاخرة ، للسيد الرضي ـ رحمه الله ـ عن محمد بن إسحاق ، عن أبي جعفر ، عن أبيه عن جده قال : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حجة الوداع نزل أرضا ـ يقال له : ضوجان ، فنزلت هذه الآية : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ـ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » ـ فلما نزلت عصمته من الناس نادى : الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه ، وقال : من أولى منكم بأنفسكم : فضجوا بأجمعهم فقالوا : الله ورسوله فأخذ بيد علي بن أبي طالب ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ـ لأنه مني وأنا منه ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ـ وكانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمة محمد ـ ثم أنزل الله تعالى على نبيه : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ـ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » ـ.

١٩٤

قال أبو جعفر : فقبلوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل ما أمرهم الله ـ من الفرائض في الصلاة والصوم والزكاة والحج ، وصدقوه على ذلك ـ.

قال ابن إسحاق : قلت لأبي جعفر : ما كان ذلك؟ قال ـ لتسع (١) عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة عشرة ـ عند منصرفه من حجة الوداع ، وكان بين ذلك وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مائة يوم ـ وكان سمع (٢) رسول الله بغدير خم اثنا عشر.

وعن المناقب ، لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال : من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة ـ كتب الله له صيامه ستين شهرا ، وهو يوم غدير خم ، بها أخذ النبي بيعة علي بن أبي طالب ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ـ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، فقال له عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ـ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، فأنزل الله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ ».

وعن المناقب ، لابن مردويه وكتاب سرقات الشعر ، للمرزباني عن أبي سعيد الخدري مثل ما تقدم عن الخطيب.

أقول : وروى الحديثين في الدر المنثور ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ووصف سنديهما بالضعف. وقد روي بطرق كثيرة تنتهي من الصحابة ( لو دقق فيها ) إلى عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاوية وسمرة : أن الآية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وكان يوم الجمعة ، والمعتمد منها ما روي عن عمر فقد رواه عن الحميدي وعبد بن حميد وأحمد البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر ، وعن ابن راهويه في مسنده وعبد بن حميد عن أبي العالية عن عمر ، وعن ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب عن عمر ، وعن البزاز عن ابن عباس ، والظاهر أنه يروي عن عمر.

ثم أقول : أما ما ذكره من ضعف سندي الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئا فقد أوضحنا في البيان المتقدم إن مفاد الآية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات

__________________

(١) سبع في نسخة البرهان.

(٢) سمى رسول الله بغدير خم اثنا عشر رجلا. نسخة البرهان

١٩٥

والمعاني المذكورة فيها ، فهاتان الروايتان وما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهي المتعينة للأخذ.

على أن هذه الأحاديث الدالة على نزول الآية في مسألة الولاية ـ وهي تزيد على عشرين حديثا من طرق أهل السنة والشيعة ـ مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » : الآية ( المائدة : ٦٧ ) وهي تربو على خمسة عشر حديثا رواها الفريقان ، والجميع مرتبط بحديث الغدير : « من كنت مولاه فعلي مولاه » وهو حديث متواتر مروي عن جم غفير من الصحابة ، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين.

ومن المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة إلى المدينة.

وهذه الولاية ( لو لم تحمل على الهزل والتهكم ) فريضة من الفرائض كالتولي والتبري اللذين نص عليهما القرآن في آيات كثيرة ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها نزول الآية أعني قوله : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ » ، فالآية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه ، ولا اعتماد على ما ينافي ذلك من الروايات لو كانت منافية.

وأما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغي أن يقال فيها غير أن هاهنا أمرا يجب التنبه له ، وهو أن التدبر في الآيتين الكريمتين : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ » (الآية) على ما سيجيء من بيان معناه ، وقوله : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » (الآية) والأحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما وروايات الغدير المتواترة ، وكذا دراسة أوضاع المجتمع الإسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والبحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتقي الناس في إظهاره ، ويخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيئوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة ، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ » (الآية) فلم يمهل في ذلك.

وعلى هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قوله : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » (الآية) وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيان الولاية إلى غدير خم ، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة وأما اشتمال بعض الروايات على

١٩٦

نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها.

وعلى هذا فلا تنافي بين الروايات أعني ما دل على نزول الآية في أمر الولاية ، وما دل على نزولها يوم عرفة كما روي عن عمر وعلي ومعاوية وسمرة ، فإن التنافي إنما كان يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم ، والآخر على النزول على يوم عرفة.

وأما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الآية تدل على كمال الدين بالحج وما أشبهه فهو من فهم الراوي لا ينطبق به الكتاب ولا بيان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعتمد عليه.

وربما استفيد هذا الذي ذكرناه

مما رواه العياشي في تفسيره ، عن جعفر بن محمد بن محمد الخزاعي عن أبيه قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل ـ فقال له : إن الله يقرئك السلام ، ويقول لك : قل لأمتك : اليوم أكملت دينكم بولاية علي بن أبي طالب ـ وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ـ ولست أنزل عليكم بعد هذا ، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وهي الخامسة ، ولست أقبل عليكم بعد هذه الأربعة إلا بها.

على أن فيما نقل عن عمر من نزول الآية يوم عرفة إشكالا آخر ، وهو أنها جميعا تذكر أن بعض أهل الكتاب

وفي بعضها: أنه كعب قال لعمر : إن في القرآن آية ـ لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود ـ لاتخذنا اليوم الذي نزلت فيه عيدا ، وهي قوله : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » (الآية) فقال له عمر : والله إني لأعلم اليوم ـ وهو يوم عرفة من حجة الوداع.

ولفظ ما رواه ابن راهويه وعبد بن حميد عن أبي العالية هكذا: قال كانوا عند عمر فذكروا هذه الآية ، فقال رجل من أهل الكتاب : لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيدا ، فقال عمر الحمد لله الذي جعله لنا عيدا ـ واليوم الثاني ، نزلت يوم عرفة ـ واليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الأمر ـ فعلمنا أن الأمر بعد ذلك في انتقاص.

وما يتضمنه آخر الرواية مروي بشكل آخر ففي الدر المنثور : عن ابن أبي شيبة وابن جرير عن عنترة قال : لما نزلت « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » ـ وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر ـ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يبكيك؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ـ فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص ، فقال : صدقت.

١٩٧

ونظيره الرواية بوجه رواية أخرى رواها أيضا في الدر المنثور ، عن أحمد عن علقمة بن عبد الله المزني قال : حدثني رجل قال : كنت في مجلس عمر بن الخطاب ـ فقال عمر لرجل من القوم : كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينعت الإسلام؟ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إن الإسلام بدئ جذعا ـ ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا. قال عمر : فما بعد البزول إلا النقصان.

فهذه الروايات ـ كما ترى ـ تروم بيان أن معنى نزول الآية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين واستقلاله بمكة في الموسم ، وتفسير إكمال الدين وإتمام النعمة بصفاء جو مكة ومحوضة الأمر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم ويتحذروا منهم.

وبعبارة أخرى المراد بكمال الدين وتمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من المعارف والأحكام ، وكذا المراد بالإسلام ظاهر الإسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل.

وإن شئت فقل : المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم ، وكذا في الإسلام ، فإن هذا المعنى هو الذي يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.

وأما كليات المعارف والأحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد الذي يشير إليه قوله في الرواية : « أنه لم يكمل شيء قط إلا نقص » فإن ذلك سنة كونية تجري أيضا في التاريخ والاجتماع بتبع الكون ، وأما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن والنواميس إلا عند من قال : إن الدين سنة اجتماعية متطورة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية.

إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولا : أن ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » وقد مر بيانه.

وثانيا : أنه كيف يمكن أن يعد الله سبحانه الدين بصورته التي كان يتراءى عليها كاملا وينسبه إلى نفسه امتنانا بمجرد خلو الأرض من ظاهر المشركين ، وكون المجتمع على ظاهر الإسلام فارغا من أعدائهم المشركين ، وفيهم من هو أشد من المشركين إضرارا وإفسادا ، وهم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية والتسرب في داخل المسلمين ، وإفساد الحال ، وتقليب الأمور ، والدس في الدين ، وإلقاء الشبه ، فقد كان لهم نبأ عظيم

١٩٨

تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين وما في سور البقرة والنساء والمائدة والأنفال والبراءة والأحزاب وغيرها.

فليت شعري أين صار جمعهم؟ وكيف خمدت أنفاسهم؟ وعلى أي طريق بطل كيدهم وزهق باطلهم؟ وكيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم ، وإتمام ظاهر النعمة عليهم ، والرضا بظاهر الإسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من المسلمين ، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطرا وأمر أثرا! وتصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم : « هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ » : ( المنافقون : ٤ ).

وكيف يمتن الله سبحانه ويصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه ، أو يذكر نعمه بالتمام وهي مشوبة بالنقمة ، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه! وقد قال تعالى : « وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً » : ( الكهف : ٥١ ) وقال في المنافقين : ـ ولم يرد إلا دينهم ـ « فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ » : ( البراءة : ٩٦ ) والآية بعد هذا كله مطلقة لم تقيد شيئا من الإكمال والإتمام والرضا ولا الدين والإسلام والنعمة بجهة دون جهة.

فإن قلت : الآية ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ إنجاز للوعد الذي يشتمل عليه قوله تعالى : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً » : الآية ( النور : ٥٥ ).

فالآية كما ترى ـ تعدهم بتمكين دينهم المرضي لهم ، ويحاذي ذلك من هذه الآية قوله : « أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » وقوله : « وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » فالمراد بإكمال دينهم المرضي تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين ، وأما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة ، وهذا هو المعنى الذي تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة ، ويذكر القوم أن المراد به تخليص الأعمال الدينية والعاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين.

قلت كون آية : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ » ، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا » (الآية) وكذا كون قوله في هذه الآية : « أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » ، محاذيا لقوله : « وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ » ، في تلك الآية ومفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه.

إلا أن آية سورة النور تبدأ بقوله : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ »

١٩٩

وهم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها ، وما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي وينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرع ، فتمكين دينهم المرضي لله سبحانه لهم إكمال ما في علم الله وإرادته من الدين المرضي بإفراغه في قالب التشريع ، وجمع أجزائه عندهم بالإنزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم.

وهذا ما ذكرناه : أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرعة بعد نزول الآية لا تخليص أعمالهم وخاصة حجهم من أعمال المشركين وحجهم ، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. وبعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.

وفي تفسير القمي ، قال : حدثني أبي ، عن صفوان بن يحيى ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : آخر فريضة أنزلها الولاية ـ ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » بكراع الغميم ، فأقامها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجحفة ـ فلم ينزل بعدها فريضة.

أقول : وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع ، عن الإمامين : الباقر والصادق عليه‌السلام ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام.

وفي أمالي الشيخ ، بإسناده ، عن محمد بن جعفر بن محمد ، عن أبيه أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : بناء الإسلام على خمس خصال : على الشهادتين ، والقرينتين. قيل له : أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان؟

قال : الصلاة والزكاة ـ فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى ، والصيام وحج بيت الله من استطاع إليه سبيلا ، وختم ذلك بالولاية فأنزل الله عز وجل : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ـ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ».

وفي روضة الواعظين ، للفتال ، ابن الفارسي عن أبي جعفر عليه‌السلام وذكر قصة خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للحج ثم نصبه عليا للولاية عند منصرفه إلى المدينة ونزول الآية ، وفيه خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الغدير وهي خطبة طويلة جدا.

أقول : روى مثله الطبرسي في الإحتجاج ، بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، وروى نزول الآية في الولاية أيضا الكليني في الكافي ، والصدوق في العيون ،

٢٠٠