الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

قوله تعالى : « وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً » قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم : زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.

قوله تعالى : « رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ » أحوال ثلاثة أو الأول حال والأخيران وصفان له. وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل وتمام الحجة من الله على الناس ، وأن العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً » : ( سورة البقرة : ٢١٣ ) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى : « وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً » وإذا كانت له العزة المطلقة والحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة ، قال تعالى : « قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ » : ( الأنعام : ١٤٩ ).

قوله تعالى : « لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ » ، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تنزيل كتاب إليهم من السماء ، فإن الذي ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله « فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ » ( إلى آخر الآيات ) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم ، لأن ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوحي من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحي ، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاءوا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.

ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.

ومتن شهادته قوله « أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ » فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى ، لأن من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين ، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق ، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحق فيختلط الأمر ، كما يشير إلى نفيه بقوله : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً » : ( الجن : ٢٨ ) وقال تعالى : « وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ » : ( الأنعام. ١٢١ ).

وبالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام

١٤١

لكن تقييده بقوله « بِعِلْمِهِ » يوضح المراد كل الوضوح ، ويفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله وهو يعلم ما ذا ينزل ، ويحيط به ويحفظه من كيد الشياطين.

وإذا كانت الشهادة على الإنزال والإنزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ » : ( البقرة : ٩٧ ) وقال تعالى في وصف هذا الملك المكرم : « إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ » : ( التكوير : ٢١ ) فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى وهم الذين ذكرهم إذ قال : « كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ » : ( عبس : ١٦ ).

وبالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد وكفى بالله شهيدا.

والدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى : « قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً » : ( إسراء : ٨٨ ) وقوله « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً » : ( النساء : ٨٢ ) ، وقوله « فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ » : ( يونس. ٣٨ ).

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً » لما ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه ونزول كتابه من عند الله ، وأنه من سنخ الوحي الذي أوحي إلى النبيين من قبله وأنه مقرون بشهادته وشهادة ملائكته وكفى به شهيدا حقق ضلال من كفر به وأعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.

وفي الآية تبديل الكتاب الذي كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث قال : « وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ » وفيه إيجاز لطيف كأنه قيل : إن الذين كفروا وصدوا عن هذا الكتاب والوحي الذي يتضمنه فقد كفروا وصدوا عن سبيل الله والذين كفروا وصدوا عن سبيل الله (إلخ).

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ » (إلخ) تحقيق وتثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة ، وعلى هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن

١٤٢

سبيل الله كما هو ظاهر.

ويمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة ، يبين فيها وجه ضلالهم البعيد والمعنى ظاهر.

( بحث روائي )

وفي تفسير البرهان في قوله تعالى : « وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً » : عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال : ألم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف؟

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ » (الآية) قال : حدثني أبي ، عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري ، عن أبي حمزة ، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج : يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني ـ فقلت : أيها الأمير أية آية هي؟ فقال : قوله « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ » والله إني لأمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ـ ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد ، فقلت : أصلح الله الأمير ليس على ما أولت ـ قال : كيف هو : قلت : إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا ، فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلا آمن به قبل موته ، ويصلي خلف المهدي قال : ويحك أنى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ فقلت : حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : والله جئت بها من عين صافية وفي الدر المنثور : أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال : قال لي الحجاج : يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها ـ إلا اعترض في نفسي منها شيء قال الله : « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ » وإني أوتي بالأسارى فأضرب أعناقهم ـ ولا أسمعهم يقولون شيئا ، فقلت : رفعت إليك على غير وجهها ، إن النصراني إذا خرجت روحه ـ ضربته الملائكة من قبله ومن دبره ـ وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله ـ أو ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته ـ فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه ، وإن اليهودي إذا خرجت نفسه ـ ضربته الملائكة من قبله ومن دبره ، وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته ، عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان ، فإذا كان عند نزول عيسى ـ

١٤٣

آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم : فقال : من أين أخذتها؟ فقلت : من محمد بن علي ـ قال : لقد أخذتها من معدنها. قال شهر : وايم الله ما حدثنيه إلا أم سلمة ، ولكني أحببت أن أغيظه :

أقول : ورواه أيضا ملخصا عن عبد بن حميد وابن المنذر ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية ، والظاهر أنه روى عن محمد بن علي ، ثم اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر عليه‌السلام ، والرواية ـ كما ترى ـ تؤيد ما قدمناه في بيان معنى الآية وفيه ، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي في الأسماء والصفات قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم؟.

وفيه : أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، ويقبض المال ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ، واقرءوا إن شئتم : « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ » ـ موت عيسى بن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.

أقول : والروايات في نزول عيسى عليه‌السلام عند ظهور المهدي عليه‌السلام مستفيضة من طرق أهل السنة ، وكذا من طرق الشيعة عن النبي والأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام.

وفي تفسير العياشي ، عن الحارث بن مغيرة : عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ـ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً » ـ قال : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : ظاهره وإن كان مخالفا لظاهر سياق الآيات المتعرضة لأمر عيسى عليه‌السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن ، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء بكتاب وشريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل كتابي أن يؤمن به ويؤمن بعيسى ومن قبله في ضمن الإيمان به ، فلو انكشف لكتابي عند الاحتضار مثلا حقية رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإيمان كل كتابي لعيسى عليه‌السلام إنما يعد إيمانا إذا آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أصالة وبعيسى (ع)

١٤٤

تبعا ، فالذي يؤمن به كل كتابي حقيقة ويكون عليهم يوم القيامة شهيدا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بعثته ، وإن كان عيسى عليه‌السلام كذلك أيضا فلا منافاة ، والخبر التالي لا يخلو من ظهور ما في هذا المعنى.

وفيه ، عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله في عيسى : « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ـ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً » ـ فقال : إيمان أهل الكتاب إنما هو لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه ، عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ـ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً » قال : ليس من أحد من جميع الأديان يموت ـ إلا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ـ حقا من الأولين والآخرين.

أقول : وكون الرواية من الجري أظهر. على أن الرواية غير صريحة في كون ما ذكره عليه‌السلام ناظرا إلى تفسير الآية وتطبيقها ، فمن المحتمل أن يكون كلاما أورد في ذيل الكلام على الآية ولذلك نظائر في الروايات.

وفيه ، عن المفضل بن عمر قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : « وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ » ، ـ فقال : هذه نزلت فينا خاصة ، إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا ـ حتى يقر للإمام وبإمامته ، كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا : « تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ».

أقول : الرواية من الآحاد ، وهي مرسلة ، وفي معناها روايات مروية في ذيل قوله تعالى : « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ » ( فاطر : ٣٢ ) سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وفيه : في قوله تعالى : « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ـ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ » (الآية) : عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قال : إني أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح والنبيين من بعده ـ فجمع له كل وحي.

أقول : الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من سنخ الوحي ما يوجب تفرق

١٤٥

السبيل وتفاوت الدعوة ، لا أن كل ما أوحي به إلى نبي على خصوصياته فقد أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا مما لا معنى له ، ولا أن ما أوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة ، فإن الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى ، ويؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.

وفي الكافي ، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه‌السلام : قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ » ، وأمر كل نبي بالسبيل والسنة.

وفي تفسير العياشي ، عن الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : وكان بين آدم وبين نوح ـ من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا ـ كما سمي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول الله عز وجل : « وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً » ـ يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء.

أقول : ورواه في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة عنه عليه‌السلام ، وفيه : من الأنبياء مستخفين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن ـ فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول الله عز وجل : « رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ » ـ يعني لم أسم المستخفين ـ كما سميت المستعلنين من الأنبياء ( الحديث ).

والمراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلا ولا سماهم ، كما قص بعض قصص المستعلنين وسمى من سمى منهم. ومن الجائز أن يكون قوله : « يعني لم أسم » (إلخ) من كلام الراوي.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي ـ أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.

أقول : وروى هذا المعنى القمي في تفسيره مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام وهو من قبيل الجري والتطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته عليه‌السلام ، وليس المراد به تحريف الكتاب ولا هو قراءة منه عليه‌السلام.

ونظيره ما رواه في الكافي ، وتفسير العياشي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، والقمي في تفسيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ) ـ آل محمد حقهم ( لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) ( الآية وما رواه في المجمع ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله « قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ

١٤٦

بِالْحَقِّ » ـ أي بولاية من أمر الله بولايته.

* * *

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ـ ١٧٠. يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ـ ١٧١. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ـ ١٧٢. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ـ ١٧٣. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ـ ١٧٤. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً ـ ١٧٥. )

١٤٧

( بيان )

بعد ما أجاب عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنزيل كتاب من السماء ببيان أن رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه ، وأن الكتاب الذي جاء به من عند ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة الناس كافة إلى نبيه وكتابه.

وقد كان بين فيما بين أن جميع رسله وأنبيائه ـ وقد ذكر فيهم عيسى ـ على سنة واحدة متشابهة الأجزاء والأطراف ، وهي سنة الوحي من الله فاستنتج منه صحة دعوة النصارى وهم أهل كتاب ووحي إلى أن لا يغلوا في دينهم ، وأن يلحقوا بسائر الموحدين من المؤمنين ، ويقروا في عيسى بما أقروا به هم وغيرهم في سائر الأنبياء أنهم عباد الله ورسله إلى خلقه.

فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن المبين أولا هو صدق نبوته في قوله « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ » ( الآيات ).

ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى عليه‌السلام لأنه المتبين ثانيا في ضمن الآيات المذكورة ثم دعا إلى اتباع كتابه وهو القرآن الكريم لأنه المبين أخيرا في قوله تعالى : « لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ » (الآية).

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ » ، خطاب عام لأهل الكتاب وغيرهم من الناس كافة ، متفرع على ما مر من البيان لأهل الكتاب ، وإنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه وهو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.

وقوله « خَيْراً لَكُمْ » حال من الإيمان وهي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللازمة أنه خير لكم.

وقوله « وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » ، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئا ، ولا ينقص من الله سبحانه شيئا ، فإن كل شيء مما في السماوات والأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شيء من ملكه فإن في طباع كل شيء مما في السماوات والأرض أنه لله لا شريك له فكونه موجودا وكونه مملوكا شيء واحد بعينه ، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شيء وهو شيء؟

١٤٨

والآية من الكلمات الجامعة التي كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معناها وسعة عجيبة في تبيانها ، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء وآثارها تعطي في الكفر والإيمان والطاعة والمعصية معاني لطيفة ، فعليك بزيادة التدبر فيها.

قوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ » ، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه‌السلام أنه خطاب للنصارى ، وإنما خوطبوا بأهل الكتاب ـ وهو وصف مشترك ـ إشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه ، ومما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق.

وربما أمكن أن يكون خطابا لليهود والنصارى جميعا ، فإن اليهود أيضا كالنصارى في غلوهم في الدين ، وقولهم على الله غير الحق ، كما قال تعالى : « وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ » : التوبة : ٣٠ ) ، وقال تعالى : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » : ( التوبة : ٣١ ) ، وقال تعالى : « قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ـ إلى أن قال ـ وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » : ( آل عمران : ٦٤ ).

وعلى هذا فقوله : « إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ » (إلخ) تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم.

هذا ، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله : « إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ » ، تعليلا لقوله : « لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ » ، ولازمه اختصاص الخطاب بالنصارى وقوله « إِنَّمَا الْمَسِيحُ » أي المبارك « عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » تصريح بالاسم واسم الأم ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأي معنى مغاير ، وليكون دليلا على كونه إنسانا مخلوقا كأي إنسان ذي أم. « وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ » تفسير لمعنى الكلمة ، فإنه كلمة « كن » التي ألقيت إلى مريم البتول ، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح والأب ، قال تعالى : « إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » : ( آل عمران : ٤٧ ) فكل شيء كلمة له تعالى غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية ، والذي اختص لأجله عيسى عليه‌السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده « وَرُوحٌ مِنْهُ » والروح من الأمر ، قال تعالى : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » : ( إسراء : ٨٥ ) ولما كان عيسى عليه‌السلام كلمة « كن » التكوينية وهي أمر فهو روح.

١٤٩

وقد تقدم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى : « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ » تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله : « إِنَّمَا الْمَسِيحُ » (إلخ) أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو ، وهو أن يكون إيمانا بالله بالربوبية ولرسله ـ ومنهم عيسى ـ بالرسالة ، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله ورسله ونفي الثلاثة خيرا لكم.

والثلاثة هم الأقانيم الثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، وقد تقدم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيح عليه‌السلام من سورة آل عمران.

قوله تعالى : « سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ » ، السبحان مفعول مطلق مقدر الفعل ، يتعلق به قوله : « أَنْ يَكُونَ » ، وهو منصوب بنزع الخافض ، والتقدير : أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد ، والجملة اعتراض مأتي به للتعظيم.

وقوله « لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ » حال أو جملة استيناف ، وهو على أي حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه ، فإن الولد كيفما فرض هو الذي يماثل المولد في سنخ ذاته متكونا منه ، وإذا كان كل ما في السماوات والأرض مملوكا في أصل ذاته وآثاره لله تعالى وهو القيوم لكل شيء وحده فلا يماثله شيء من هذه الأشياء فلا ولد له.

والمقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عز اسمه ولازم هذا أن يكون قوله « ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ » تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات والأرض مشمولة لهذه الحجة ، وليست مما في السماوات والأرض بل هي نفسها.

ثم لما كان ما في الآية من أمر ونهي هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في دنياهم وأخراهم ذيل الكلام بقوله « وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً » أي وليا لشئونكم ، مدبرا لأموركم ، يهديكم إلى ما هو خير لكم ويدعوكم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى : « لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ » احتجاج آخر على نفي ألوهية المسيح عليه‌السلام مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو أنه ثالث

١٥٠

ثلاثة ، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته ، وهذا مما لا ينكره النصارى ، والأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى ، ولا معنى لعبادة الولد الذي هو سنخ إله ولا لعبادة الشيء لنفسه ولا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الذي ينطبق وجوده على كل منها ، وقد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح عليه‌السلام.

وقوله « وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ » تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم وقد قال جماعة من المشركين ـ كمشركي العرب ـ : بكونهم بنات الله فالجملة استطرادية.

والتعبير في الآية أعني قوله « لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ » عن عيسى عليه‌السلام بالمسيح ، وكذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف ، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته وكيف يستنكف وهو مسيح مبارك؟ ولا الملائكة وهم مقربون؟ ولو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا ولا قرب هؤلاء ، وقد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله : « وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ » : ( آل عمران : ٤٥ ).

قوله تعالى : « وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً » حال.

من المسيح والملائكة وهو في موضع التعليل أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون عن عبادته والحال أن الذين يستنكفون عن عبادته ويستكبرون من عباده من الإنس والجن والملائكة يحشرون إليه جميعا ، فيجزون حسب أعمالهم ، والمسيح والملائكة يعلمون ذلك ويؤمنون به ويتقونه.

ومن الدليل على أن قوله : « وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ » (إلخ) في معنى أن المسيح والملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله « وَيَسْتَكْبِرْ » إنما قيد به قوله « وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ » لأن مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين ، وأما المسيح والملائكة فإن استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم ، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم ، فيكون معنى تعليل هذا بقوله : « وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ » ، أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته ( إلخ ».

وقوله « جَمِيعاً » أي صالحا وطالحا وهذا هو المصحح للتفضيل الذي يتلوه من قوله :

١٥١

« فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » (إلخ).

قوله تعالى : « وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً » التعرض لنفي الولي والنصير مقابلة لما قيل به من ألوهية المسيح والملائكة.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً » قال الراغب : البرهان بيان للحجة ، وهو فعلان مثل الرجحان والثنيان. وقال بعضهم : هو مصدر بره يبره إذا ابيض. انتهى ، فهو على أي حال مصدر. وربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا أطلق على نفس الدليل والحجة.

والمراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ » ويمكن أن يراد بالبرهان أيضا ذلك ، والجملتان إذا تؤكد إحداهما الأخرى.

ويمكن أن يراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويؤيده وقوع الآية في ذيل الآيات المبينة لصدق النبي في رسالته ، ونزول القرآن من عند الله تعالى ، وكون الآية تفريعا لذلك ويؤيده أيضا قوله تعالى في الآية التالية. « وَاعْتَصَمُوا بِهِ » لما تقدم في الكلام على قوله « وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( آل عمران. ١٠١ ) إن المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله والاتباع لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ » ، بيان لثواب من اتبع برهان ربه والنور النازل من عنده.

والآية كأنها منتزعة من الآية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أعني قوله « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ » ، ولعله لذلك لم يذكر هاهنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان والنور ، لأنه بعينه ما ذكر في الآية السابقة ، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الإشعار بأن جزاء المتبعين هاهنا جزاء المتبعين هنالك ، وليس هناك إلا فريقان : المتبعون والمتخلفون.

وعلى هذا فقوله في هذه الآية : « فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ » يحاذي قوله في تلك الآية : « فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ » وهو الجنة ، وأيضا قوله في هذه الآية : « وَفَضْلٍ » يحاذي قوله في تلك الآية : « وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ » وأما قوله « وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً » فهو

١٥٢

من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله : « وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( آل عمران : ١٠١ ).

* * *

( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ـ ١٧٦. )

( بيان )

آية تبين فرائض الكلالة من جهة الأبوين أو الأب على ما يفسرها به السنة ، كما أن ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الأم بحسب البيان النبوي ، ومن الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة هاهنا أكثر مما ذكر هناك ، ومن المستفاد من الآيات أن سهام الذكور أكثر من سهام الإناث.

قوله تعالى : « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ » ، قد تقدم الكلام في معنى الاستفتاء والإفتاء ومعنى الكلالة في الآيات السابقة من السورة.

وقوله « لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ » ظاهره الأعم من الذكر والأنثى على ما يفيده إطلاق الولد وحده. وقال في المجمع : فمعناه : ليس له ولد ولا والد ، وإنما أضمرنا فيه الوالد للإجماع ، انتهى. ولو كان لأحد الأبوين وجود لم تخل الآية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما.

وقوله « وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ » سهم الأخت من أخيها ، والأخ من أخته ، ومنه يظهر سهم الأخت من أختها والأخ من أخيه ، ولو كان للفرضين الأخيرين فريضة أخرى لذكرت.

١٥٣

على أن قوله « وَهُوَ يَرِثُها » في معنى قولنا لو انعكس الأمر ـ أي كان الأخ مكان الأخت ـ لذهب بالجميع ، وعلى أن قوله « فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » وهو سهم الأختين ، وسهم الإخوة لم يقيد فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت وأنوثته في السهام.

والذي صرحت به الآية من السهام سهم الأخت الواحدة ، والأخ الواحد ، والأختين ، والإخوة المختلطة من الرجال والنساء ، ومن ذلك يعلم سهام باقي الفروض : منها : الأخوان يذهبان بجميع المال ويقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الأخ الواحد بالجميع ، ومنها الأخ الواحد مع أخت واحدة ، ويصدق عليهما الإخوة كما تقدم في أول السورة فيشمله « وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً » على أن السنة مبينة لجميع ذلك.

والسهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الأب وحده ، أو كلالة الأبوين وحده ، وأما إذا اجتمعا كالأخت لأبوين مع الأخت لأب. لم ترث الأخت لأب وقد تقدم ذكره في الكلام على آيات أول السورة.

قوله تعالى : « يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا » ، أي حذر أن تضلوا ، أو لئلا تضلوا وهو شائع في الكلام ، قال عمرو بن كلثوم.

« فعجلنا القرى أن تشتمونا ».

( بحث روائي )

في المجمع ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : اشتكيت وعندي تسعة أخوات لي ـ أو سبع ـ فدخل علي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنفخ في وجهي فأفقت ، فقلت : يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال : أحسن ، قلت : الشطر؟ قال أحسن ، ثم خرج وتركني ورجع إلي ـ فقال : يا جابر إني لا أراك ميتا من وجعك هذا ، وإن الله قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين.

قالوا : وكانوا جابر يقول : أنزلت هذه الآية في.

أقول : وروي ما يقرب عنه في الدر المنثور.

١٥٤

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن البراء قال : آخر سورة نزلت كاملة : براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ).

أقول : وروي فيه عدة روايات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة كانوا يسمون الآية بآية الصيف ، قال في المجمع : وذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين : إحداهما في الشتاء ، وهي التي في أول هذه السورة ، وأخرى في الصيف ، وهي هذه الآية.

وفيه ، أخرج أبو الشيخ في الفرائض عن البراء قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلالة ـ فقال : ما خلا الولد والوالد.

وفي تفسير القمي ، قال : حدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن بكير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا مات الرجل وله أخت ـ لها نصف ما ترك من الميراث بالآية ـ كما تأخذ البنت لو كانت ، والنصف الباقي يرد عليها بالرحم ـ إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها ، فإن كان موضع الأخت أخ ـ أخذ الميراث كله لقول الله « وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ » ـ فإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية ، والثلث الباقي بالرحم ، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ، وذلك كله إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة.

أقول : وروى العياشي في تفسيره ذيل الرواية في عدة أخبار عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام.

وفي تفسير العياشي ، عن بكير قال : دخل رجل على أبي جعفر عليه‌السلام فسأله عن امرأة ـ تركت زوجها وإخوتها لأمها وأختا لأب ، قال : للزوج النصف : ثلاثة أسهم ، وللإخوة من الأم الثلث : سهمان ، وللأخت للأب سهم.

فقال الرجل : فإن فرائض زيد وابن مسعود ـ وفرائض العامة والقضاة على غير ذا ، يا أبا جعفر! يقولون : للأخت للأب والأم ثلاثة أسهم ـ نصيب من ستة يقول : إلى ثمانية.

فقال أبو جعفر : ولم قالوا ذلك؟ قال لأن الله قال : « وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ » فقال أبو جعفر عليه‌السلام : فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله؟ فإن الله سمى لها النصف ، وإن الله سمى للأخ الكل ـ فالكل أكثر من النصف فإنه تعالى قال : « فَلَهَا النِّصْفُ » ـ وقال للأخ : « وَهُوَ يَرِثُها » يعني جميع المال « إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ » ـ فلا تعطون

١٥٥

الذي جعل الله له الجميع ـ في بعض فرائضكم شيئا ـ وتعطون الذي جعل الله له النصف تاما؟.

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل توفي وترك ابنته وأخته لأبيه وأمه ـ فقال : للبنت النصف وليس للأخت شيء ، وما بقي فلعصبته فقيل : إن عمر جعل للأخت النصف ـ فقال ابن عباس : أنتم أعلم أم الله؟ قال الله : « إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ » ـ فقلتم أنتم : لها النصف وإن كان له ولد.

أقول : وفي المعاني السابقة روايات أخر

* * *

« سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية »

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ـ ١. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ـ ٢. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ

١٥٦

كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ـ ٣. )

( بيان )

الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها ومختتمها ، وعامة الآيات الواقعة فيها ، والأحكام والمواعظ والقصص التي تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت ، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها ، وأن عادته تعالى جرت بالرحمة والتسهيل والتخفيف على من اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن والتشديد على من بغى واعتدى وطغا بالخروج عن ربقة العهد بالطاعة ، وتعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين.

ولذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود والقصاص ، وعلى مثل قصة المائدة ، وسؤال المسيح ، وقصة ابني آدم ، وعلى الإشارة إلى كثير من مظالم بني إسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم ، وعلى كثير من الآيات التي يمتن الله تعالى فيها على الناس بأمور كإكمال الدين ، وإتمام النعمة ، وإحلال الطيبات ، وتشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج والعسر.

وهذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أواخر أيام حياته وقد ورد في روايات الفريقين : أنها ناسخة غير منسوخة ، والمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده وللتثبت فيها.

قوله تعالى. « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » العقود جمع عقد وهو شد أحد شيئين بالآخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر ، كعقد الحبل والخيط بآخر من مثله ، ولازمه التزام أحدهما الآخر ، وعدم انفكاكه عنه ، وقد كان معتبرا عندهم في

١٥٧

الأمور المحسوسة أولا ثم أستعير فعمم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك ، وكجميع العهود والمواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها.

ولما كان العقد ـ وهو العهد ـ يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد وسائر المعارف الأصلية والأعمال العبادية والأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء ، ومنها عقود المعاملات وغير ذلك ، وكان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد ، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد اليمين.

وكذا ما ذكره بعض آخر : أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم ، وهذا هو الحلف الدائر بينهم.

وكذا ما ذكره آخرون : أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل فهذه وجوه لا دليل على شيء منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر الجمع المحلى باللام وإطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها ، فالحمل على العموم هو الأوجه.

( كلام في معنى العقد )

يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » على الأمر بالوفاء بالعقود ، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء. والعقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي ، وهو نوع ربط شيء بشيء آخر بحيث يلزمه ولا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء ، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف ، وكعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح ، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها ، وكالعهد

١٥٨

الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه.

وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد جميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع مصاديقه وشدد فيه كل التشديد ، وذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا ، وأوعدهم إيعادا عنيفا ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.

وقد أرسلت الآيات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية ، وهو كذلك.

وليس ذلك إلا لأن العهد والوفاء به مما لا غنى للإنسان في حياته عنه أبدا ، والفرد والمجتمع في ذلك سيان ، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التي تترتب عليه ، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا ولا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان ، ولو صح للإنسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي ، وهو الركن الذي يلوذ به ويأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام والاستثمار.

ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى : « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً » : ( إسراء : ٣٤ ) والآية تشمل العهد الفردي الذي يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد والذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم وقوم وأمة وأمة ، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردي لأن العدل عنده أتم والبلية في نقضه أعم.

ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان قال تعالى : « بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ

١٥٩

عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ » : ( براءة : ٥ ) والآيات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين ، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم ، وهي تعزم على المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك ، وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا ، ومع ذلك تستثني قوما من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض ، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع ، كل ذلك احتراما للعهد ومراعاة لجانب التقوى.

نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه ويتلقى هباء باطلا ، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به ، قال تعالى : « كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ـ إلى أن قال ـ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ » : ( براءة : ١٢ ) ، وقال تعالى : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ » : ( البقرة : ١٩٤ ) ، وقال تعالى : « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ » : ( المائدة : ٢ ).

وجملة الأمر أن الإسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الإطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه ، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام والاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا لإماطتها.

ولعمري إن ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الإنسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا ينتظم سلك الاجتماع

١٦٠