الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

وبالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا « يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ » بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه وبإسقاط أو زيادة أو تغيير ، فكل ذلك من التحريف ، وأفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين « وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » ولم يكن إلا حظا من الأصول التي تدور على مدارها السعادة ، ولا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة اللازمة كقولهم بالتشبيه ، وخاتمية نبوة موسى ، ودوام شريعة التوراة ، وبطلان النسخ والبداء إلى غير ذلك.

« وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ » أي على طائفة خائنة منهم ، أو على خيانة منهم « إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » وقد تقدم مرارا أن استثناء القليل منهم لا ينافي ثبوت اللعن والعذاب للجماعة التي هي الشعب والأمة (١) قوله تعالى : « وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا » ، قال الراغب : غري بكذا أي لهج به ولصق ، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به ، وأغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به.

وقد كان المسيح عيسى بن مريم نبي رحمة يدعو الناس إلى الصلح والسلم ، ويندبهم إلى الإشراف على الآخرة ، والإعراض عن ملاذ الدنيا وزخارفها ، وينهاهم عن التكالب لأجل هذا العرض الأدنى (٢) فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم والصلح حربا ، وبدل المؤاخاة والموادة التي ندبوا إليها معاداة ومباغضة كما يقول : « فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ». وهذه العداوة والبغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الأمم المسيحية وكالنار الآخرة التي لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.

__________________

(١) ومن عجيب القول ما في بعض التفاسير أن المراد بالقليل عبد الله بن سلام وأصحابه مع أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم قبل نزول السورة بمدة ، وظاهر الآية استثناء بعض اليهود الذين لم يكونوا قد أسلموا إلى حين نزول الآية.

(٢) راجع في ذلك إلى بيانات المسيح ع في مختلف مواقفه المنقولة عنه في الأناجيل الأربعة.

٢٤١

ولم يزل منذ رفع عيسى بن مريم عليه‌السلام ، واختلف حواريوه والدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم ، ولم يزل ينمو ويكثر حتى تبدل إلى الحروب والمقاتلات والغارات وأنواع الشرد والطرد وغير ذلك حتى انتهى إلى حروب عالمية كبري تهدد الأرض بالخراب والإنسانية بالفناء والانقراض.

كل ذلك من تبدل النعمة نقمة وإنتاج السعي ضلالا « وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ».

* * *

( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ـ ١٥. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ـ ١٦. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ١٧. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ـ ١٨. يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ

٢٤٢

وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ١٩. )

( بيان )

لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله وتعزيرهم وعلى حفظ ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذي واثقهم به دعاهم إلى الإيمان برسوله الذي أرسله وكتابه الذي أنزله ، بلسان تعريفهما لهم وإقامة البينة على صدق الرسالة وحقية الكتاب ، وإتمام الحجة عليهم في ذلك : أما التعريف فهو الذي يشتمل عليه قوله : « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً » (إلخ) ، وقوله : « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ » (إلخ).

وأما إقامة البينة فما في قوله : « يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ » (إلخ) فإن ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للأخصاء من علمائهم ، وكذا قوله : « يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ » (إلخ) فإن المطالب الحقة التي لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة وحقية الكتاب.

وأما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله : « أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ». وقد رد الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض : « إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ » وقول اليهود والنصارى. « نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ».

قوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة وبشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » : الآية ( الأعراف : ١٥٧ ) وقوله تعالى : « يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ » الآية : ( البقرة : ١٤٦ ) وقوله : « مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ـ إلى قوله ـ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ » الآية

٢٤٣

( الفتح : ٢٩ ) وكبيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم الرجل الذي كتموه وكابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي : « لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ » الآيات : ( المائدة : ٤١ ) وهذا الحكم أعني حكم الرجم موجود الآن في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم.

وأما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب ، ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين ، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد والنبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك ، وما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات ، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد ، وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية.

قوله تعالى : « قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ » ظاهر قوله : « قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ » كون هذا الجائي قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين والمتكلم وهذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن ، وعلى هذا فيكون قوله : « وَكِتابٌ مُبِينٌ » معطوفا عليه عطف تفسير ، والمراد بالنور والكتاب المبين جميعا القرآن ، وقد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى : « وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ » : ( الأعراف : ١٥٧ ) وقوله : « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » : ( التغابن : ٨ ) وقوله : « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً » : ( النساء : ١٧٤ ).

ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما ربما أفاده صدر الكلام في الآية ، وقد عده الله تعالى نورا في قوله : « وَسِراجاً مُنِيراً » : ( الأحزاب : ٤٦ ).

قوله تعالى : « يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ » الباء في قوله : « بِهِ » للآلة والضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية ، وكذا القرآن وحقيقة الهداية قائمة به قال تعالى : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » : ( القصص : ٥٦ ) ، وقال : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى

٢٤٤

صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ » ( الشورى : ٥٣ ) والآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن وإلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادي حقيقة وغيره سبب ظاهري مسخر لإحياء أمر الهداية.

وقد قيد تعالى قوله : « يَهْدِي بِهِ اللهُ » بقوله : « مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ » ويئول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه ، فالمراد بالهداية هو الإيصال إلى المطلوب ، وهو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر.

وقد أطلق تعالى السلام فهو السلامة والتخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة ، فيوافق ما وصف القرآن الإسلام لله والإيمان والتقوى بالفلاح والفوز والأمن ونحو ذلك ، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى : « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ » : ( الحمد : ٦ ) في الجزء الأول من الكتاب أن لله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى : « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » : ( العنكبوت : ٦٩ ) ، وقال تعالى : « وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » : ( الأنعام : ١٥٣ ) فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الإيصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها ويبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.

فمعنى الآية ـ والله العالم ـ : يهدي الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والآخرة ، وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة.

فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله ، وقد قال تعالى : « وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ » : ( الزمر : ٧ ) ، وقال : « فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ » : ( التوبة : ٩٦ ) ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم والانخراط في سلك الظالمين ، وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله : « وَاللهُ

٢٤٥

لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » : ( الجمعة : ٥ ) فالآية أعني قوله : « يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ » تجري بوجه مجرى قوله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » : ( الأنعام : ٨٢ ).

قوله تعالى : « وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ » في جمع الظلمات وإفراد النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه ولا تفرق وإن تعددت بحسب المقامات والمواقف بخلاف طريق الباطل.

والإخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته ورضاه كما قال تعالى : « كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ » : ( إبراهيم : ١ ) فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه وقال : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ » : ( إبراهيم : ٥ ) فلم يقيده بالإذن لاشتمال الأمر على معناه.

وإذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه وقد جاء الإذن بمعنى العلم يقال : أذن به أي علم به ، ومن هذا الباب قوله تعالى : « وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ » : ( التوبة : ٣ ) « فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ » : ( الأنبياء : ١٠٩ ) ، وقوله : « وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ » : ( الحج : ٢٧ ) إلى غيرها من الآيات.

وأما قوله تعالى : « وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » ، فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله : « وَيُخْرِجُهُمْ » ، بين قوله « يَهْدِي بِهِ اللهُ » ، وبين هذه الجملة ، ولأن الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التي تتعلق بالسبل الجزئية.

ولا ينافي تنكير قوله : « صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه ـ إلا في سورة الفاتحة ـ لأن قرينة المقام تدل على ذلك ، وإنما التنكير لتعظيم شأنه وتفخيم أمره.

قوله تعالى : « لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ » هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران ، وهي القائلة باتحاد الله سبحانه

٢٤٦

بالمسيح فهو إله وبشر بعينه ، ويمكن تطبيق الجملة أعني قولهم : « إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ » على القول بالبنوة وعلى القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالاتحاد.

قوله تعالى : « قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ » وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً » (الآية) هذا برهان على إبطال قولهم : من جهة مناقضة بعضه بعضا لأنهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الأرض ، وهم جميعا كسائر أجزاء السماوات والأرض وما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه وسلطانه ، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد ، وأن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء ، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه ومن في الأرض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره ، وكيف يجوز الهلاك على الله سبحانه؟! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة.

فقوله : « فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً » كناية عن نفي المانع مطلقا فملك شيء من الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه ، ولازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشيء ، وهو أن يكون سبب من الأسباب يستقل في التأثير في شيء بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه ، ولا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه وسلطانه.

وقوله : « إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً » إنما قيد المسيح بقوله : « ابْنُ مَرْيَمَ » للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبي كسائر البشر ، ولذلك بعينه عطف عليه « أُمَّهُ » لكونها مسانخة له من دون ريب ، وعطف عليه « مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً » لكون الحكم في الجميع على حد سواء.

ومن هنا يظهر أن في هذا التقييد والعطف تلويحا إلى برهان الإمكان ، ومحصله أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كأمه وسائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، ويجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك ولا مانع هناك يمنع ، ولو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك.

وقوله : « وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما » في مقام التعليل للجملة السابقة ،

٢٤٧

والتصريح بقوله : « وَما بَيْنَهُما » مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات والأرض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح ، وأسلم من ورود التوهمات والشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات والأرض ولم يذكر ما بينهما ، ومورد الكلام مما بينهما.

وتقديم الخبر أعني قوله : « وَلِلَّهِ » للدلالة على الحصر ، وبذلك يتم البيان ، والمعنى : كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح وغيره ووقوع ما أراده من ذلك ، والملك والسلطنة المطلقة في السماوات والأرض وما بينهما لله تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه ومضي أمره.

وقوله : « يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعني قوله : « وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما » فإن الملك ـ بضم الميم ـ وهو نوع سلطنة ومالكية على سلطنة الناس وما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة ونفوذ المشيئة ، ولله سبحانه ذلك في جميع السماوات والأرض وما بينهما ، فله القدرة على كل شيء وهو يخلق ما يشاء من الأشياء فله الملك المطلق في السماوات والأرض وما بينهما فخلقه ما يشاء وقدرته على كل شيء هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم يمضي إرادته لو أراد ، وهو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته.

وأما البرهان على نفوذ مشيته وشمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه ، ولعله لذلك كرر لفظ الجلالة في الآية مرات فقد آل فرض الألوهية في شيء إلى أنه لا شريك له في ألوهيته.

قوله تعالى : « وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » لا ريب أنهم لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح عليه‌السلام فلا اليهود كانت تدعي ذلك حقيقة ولا النصارى ، وإنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز ، وقد ورد في كتبهم المقدسة هذا الإطلاق كثيرا كما في حق آدم (١) ويعقوب (٢) وداود (٣)

__________________

(١) آية ٣٨ من الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا.

(٢) آية ٢٢ من الإصحاح الرابع من سفر الخروج من التوراة.

(٣) آية ٧ من المزمور ٢ من مزامير داود.

٢٤٨

وإقرام (١) وعيسى (٢) وأطلق (٣) أيضا على صلحاء المؤمنين.

وكيف كان فإنما أريد بالأبناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الأبناء من الأب ، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين والأحكام المجراة بين الناس لأن تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازي به غيرهم ولا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية ، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب والكرامة.

فالمراد بهذه النبوة الاختصاص والتقرب ، ويكون عطف قوله : « وَأَحِبَّاؤُهُ » على قوله : « أَبْناءُ اللهِ » كعطف التفسير وليس به حقيقة ، وغرضهم من دعوى هذا الاختصاص والمحبوبية إثبات لازمه وهو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة والكرامة لأن تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية ، وحباهم به من الكرامة.

والدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى : « يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » ، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم : « نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » أنه لا سبيل إلى عذابهم وإن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة : « يَغْفِرُ » ، ردا عليهم ولا لقوله : « بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ » موقع حسن مناسب فمعنى قولهم : « نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » أنا خاصة الله ومحبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا وإن فعلنا ، ما فعلنا وتركنا ما تركنا لأن انتفاء السبيل ووقوع الأمن التام من كل مكروه ومحذور هو لازم معنى الاختصاص والحب.

قوله تعالى : « قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ » أمر نبيه بالاحتجاج عليهم ورد دعواهم بالحجة ، وتلك حجتان : إحداهما : النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم ، وثانيتهما : معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم.

ومحصل الحجة الأولى التي يشتمل عليها قوله : « فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ » أنه لو

__________________

(١) آية ٩ من الإصحاح ٣١ من نبوة إرميا.

(٢) موارد كثيرة من الأناجيل وملحقاتها.

(٣) آية ٩ من الإصحاح ٥ إنجيل متى ، وفي غيره من الأناجيل.

٢٤٩

صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهي لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروي أو دنيوي فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم والصالحين من شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم ، وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء ، وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم وضرب الذلة والمسكنة على آخرين ، وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون أعراضهم ويخربون بلادهم ، وما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى.

وأما النصارى فلا فساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود ، ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى اليوم ، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها ، والقرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف وغيرها.

وليس لهؤلاء أن يقول : هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل « البلاء للولاء » ولا دليل على كونها عن سخط إلهي يسحب نكالا ووبالا وقد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الأنبياء والرسل كإبراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم ، ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد ومؤتة وغيرهما ، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبة إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات؟

وذلك أنه لا ريب لأحد أن هذه المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين ، وتأخذ الصالحين والطالحين معا ، سنة الله التي قد خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الإنسان من الصلاح ، والطلاح مقام العبد من ربه.

فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الإنسانية من جوهره كالأنبياء الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية وإن شئت فقل ترفيعا للدرجة.

٢٥٠

ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو إيمان ، وصلاح أو طلاح ، ولا ينبغي أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا امتحانات وابتلاءات إلهية تخد للإنسان خده إلى الجنة أو إلى النار.

ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والإفساد والانغمار في لجج الشهوة والغضب ، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة ، والاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الأمم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وأصحاب مدين وقوم لوط ، إثر ما فرطوا في جنب الله. فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير.

وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ » : ( آل عمران : ١٤١ ).

وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى عليه‌السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما يزيد على ألفي سنة ـ وكذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الإسلام ـ فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال ـ مملوء من أنواع الذنوب التي أذنبوها ، وجرائم ارتكبوها ، ولم يبقوا منها باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم ، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق إلا اسم العذاب والنكال.

وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الأمم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الإلهي سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وبالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات إلهية ، وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب ، وليس لأحد على الله كرامة ، ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة ، ولا عدهم أبناء الله وأحباءه ، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب.

قال تعالى مخاطبا لهم : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ـ إلى أن قال ـ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ

٢٥١

ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ » : ( آل عمران : ١٤٤ ) وقال تعالى : « لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً » : ( النساء : ١٢٣ ).

وفي الآية أعني قوله : « قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ » وجه آخر وهو أن يكون المراد بالعذاب الأخروي ، والمضارع ( يُعَذِّبُكُمْ ) بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة : أما اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم : « لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً » : ( البقرة : ٨٠ ) وأما النصارى فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب الذي أصاب المسيح بالصلب والأناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه ، والكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة. هذا. لكن الوجه هو الأول.

قوله تعالى : « بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ » حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها : أن النظر في حقيقتكم يؤدي إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه ، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم ، ولا يزيد أحد من الخليقة من السماوات والأرض وما بينهما على أنه مخلوق لله الذي هو المليك الحاكم فيه وفي غيره بما شاء وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفي غيره ، وإذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم ، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية أو كرامة أو غير ذلك من أن يريد في شيء ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضي الحكم.

فقوله : « بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ » بمنزلة إحدى مقدمات الحجة ، وقوله : « وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما » مقدمة أخرى وقوله : « وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ » مقدمة ثالثة ، وقوله : « يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » بمنزلة نتيجة البيان التي تناقض دعواهم : أنه لا سبيل إلى تعذيبهم.

قوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ » قال الراغب : الفتور سكون بعد حدة ولين بعد شدة ، وضعف بعد قوة قال تعالى :

٢٥٢

« يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ » أي سكون خال عن مجيء رسول الله.

والآية خطاب ثان لأهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الآية الأولى بينت لهم أن الله أرسل إليهم رسولا أيده بكتاب مبين يهدي بإذن الله إلى كل خير وسعادة ، وهذه الآية تبين أن ذلك البيان الإلهي أنما هو لإتمام الحجة عليهم أن يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير.

وبهذا البيان يتأيد أن يكون متعلق الفعل ( يُبَيِّنُ لَكُمْ ) في هذه الآية هو الذي في الآية السابقة ، والتقدير : يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي إن هذا الدين الذي تدعون إليه هو بعينه دينكم الذي كنتم تدينون به مصدقا لما معكم والذي يرى فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين التي بينته الكتب الإلهية ، ولازم هذا الوجه أن يكون قوله : « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ) من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق به وهو قوله : « أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا » (إلخ) إليه وإنما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلق والمتعلق به وهو شائع في اللسان ، قال :

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

قربا مربط النعامة مني

إن بيع الكريم بالشسع غال

ويمكن أن يكون خطابا مستأنفا والفعل ( يُبَيِّنُ لَكُمْ ) إنما حذف متعلقه.

للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان ، أو لتفخيم أمره أي يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه ، وقوله : « عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ » لا يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى : يبين لكم ما مست حاجتكم إلى بيانه والزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك.

وقوله : « أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ » ، متعلق بقوله : « قَدْ جاءَكُمْ » بتقدير : حذر أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا.

وقوله : « وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى

٢٥٣

جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافي عموم القدرة ، وقد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى : « ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ » الآية : ( البقرة : ١٠٦ ) في الجزء الأول من الكتاب.

( كلام في طريق التفكر الذي يهدي إليه القرآن وهو بحث مختلط )

مما لا نرتاب فيه أن الحياة الإنسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالإدراك الذي نسميه فكرا ، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة أقوم ، فالحياة القيمة ـ بأية سنة من السنن أخذ الإنسان ، وفي أي طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان ـ ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه ، وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة.

وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوعة كقوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » : ( الأنعام : ١٢٢ ) ، وقوله : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » : ( الزمر : ٩ ) ، وقوله : « يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ » : ( المجادلة : ١١ ) وقوله : « فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ » : ( الزمر : ١٨ ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا تحتاج إلى الإيراد. فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح وترويج طريق العلم مما لا ريب فيه.

والقرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدي إليه طريق من الطرق الفكرية ، قال تعالى : « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » : ( إسراء : ٩ ) أي الملة أو السنة أو الطريقة التي هي أقوم ، وعلى أي حال هي صراط حيوي كونه أقوم يتوقف على كون طريق الفكر فيه أقوم ، وقال تعالى : « قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( المائدة : ١٦ ) والصراط المستقيم هو الطريق البين الذي لا اختلاف فيه ولا تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب ، ولا يناقض بعض أجزائه بعضا.

٢٥٤

ولم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيم الذي يندب إليه إلا أنه أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية ، وإدراكهم المركوز في نفوسهم ، وأنك لو تتبعت الكتاب الإلهي ثم تدبرت في آياته وجدت ما لعله يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل ، أو تلقن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجة لإثبات حق أو لإبطال باطل كقوله : « قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ » (الآية) أو تحكي الحجة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وسائر الأنبياء العظام ، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما ع كقوله : « قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » : ( إبراهيم : ١٠ ) ، وقوله : « وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » : ( لقمان : ١٣ ) ، وقوله : « وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ » الآية : ( غافر : ٢٨ ) ، وقوله حكاية عن سحرة فرعون : « قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا » إلى آخر ما احتجوا به : ( طه : ٧٢ ).

ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء وهم لا يشعرون ، حتى أنه علل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم مما لا سبيل للعقل إلا تفاصيل ملاكاته بأمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله : « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ » : ( العنكبوت : ٤٥ ) وقوله : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » : ( البقرة : ١٨٣ ) ، وقوله في آية الوضوء : « ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » : ( المائدة : ٦ ) إلى غير ذلك من الآيات.

وهذا الإدراك العقلي أعني طريق الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن الكريم ويبني على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع ، ويزجر عنه من باطل أو شر أو ضر أنما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة مما يتغير ولا يتبدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان ، ولا يختلف فيه اثنان ، وإن فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنما هو من قبيل المشاجرة في البديهيات ينتهي إلى عدم تصور أحد المتشاجرين أو كليهما حق المعنى المتشاجر فيه لعدم التفاهم الصحيح.

٢٥٥

وأما أن هذا الطريق الذي نعرفه بحسب فطرتنا الإنسانية ما هو؟ فلئن شككنا في شيء لسنا نشك أن هناك حقائق خارجية واقعية مستقلة منفكة عن أعمالنا كمسائل المبدأ والمعاد ، ومسائل أخرى رياضية أو طبيعية ونحو ما إذا أردنا أن نحصل عليها حصولا يقينيا استرحنا في ذلك إلى قضايا أولية بديهة غير قابلة للشك ، وأخرى تلزمها لزوما كذلك ، ونرتبها ترتيبا فكريا خاصا نستنتج منها ما نطلبه كقولنا : أ. ب ، وكل ب. ج ، ف أ. ج ، وكقولنا : لو كان أ. ب ف ج. د ، ولو كان ج د ف هـ. ز ينتج : لو كان أ ب ، ف هـ. ز وكقولنا : إن كان أ. ب فج. د ولو كان ج. د ، ف هـ. ز لكن أ. ليس ب ، ينتج : هـ ليس ز.

وهذه الأشكال التي ذكرناها والمواد الأولية التي أشرنا إليها أمور بديهية يمتنع أن يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية أو لاختلاط في الفهم مقتض لعدم تعقل هذه الأمور الضرورية بأخذ مفهوم تصوري أو تصديقي آخر مكان التصور أو التصديق البديهي ، كما هو الغالب فيمن يتشكك في البديهيات.

ونحن إذا راجعنا التشكيكات والشبه التي أوردت على هذا الطريق المنطقي المذكور وجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم ومقاصدهم على مثل القوانين المدونة في المنطق الراجعة إلى الهيئة والمادة بحيث لو حللنا كلامهم إلى المقدمات الابتدائية المأخوذة فيه عاد إلى مواد وهيئات منطقية ، ولو غيرنا بعض تلك المقدمات أو الهيئات إلى ما يهتف المنطق بعدم إنتاجها عاد الكلام غير منتج ، ورأيتهم لا يرضون بذلك ، وهذا بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم الإنسانية بصحة هذه الأصول المنطقية مسلمون لها مستعملون إياها ، جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.

١ ـ كقول بعض المتكلمين : « لو كان المنطق طريقا موصلا لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق لكنا نجدهم مختلفين في آرائهم » فقد استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر ، وقد غفل هذا القائل عن أن معنى كون المنطق آلة الاعتصام أن استعماله كما هو حقه يعصم الإنسان من الخطإ ، وأما أن كل مستعمل له فإنما يستعمله صحيحا فلا يدعيه أحد ، وهذا كما أن السيف آلة القطع لكن لا يقطع إلا عن استعمال صحيح.

٢ ـ وقول بعضهم : « إن هذه القوانين دونت ثم كملت تدريجا فكيف يبتني عليها ثبوت الحقائق الواقعية؟ وكيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم يستعملها؟ وهذا

٢٥٦

كسابقه قياس استثنائي ومن أردإ المغالطة. وقد غلط القائل في معنى التدوين ، فإن معناه الكشف التفصيلي عن قواعد معلومة للإنسان بالفطرة إجمالا لا إن معنى التدوين هو الإيجاد.

٣ ـ وقول بعضهم : « إن هذه الأصول إنما روجت بين الناس لسد باب أهل البيت أو لصرف الناس عن اتباع الكتاب والسنة فيجب على المسلمين اجتنابها » وهذا كلام منحل إلى أقيسة اقترانية واستثنائية. ولم يتفطن المستدل به أن تسوية طريق لغرض فاسد أو سلوكه لغاية غير محمودة لا ينافي استقامته في نفسه كالسيف يقتل به المظلوم ، وكالدين يستعمل لغير مرضاة الله سبحانه.

٤ ـ وقول بعضهم : « إن السلوك العقلي ربما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح الكتاب والسنة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين » وهذا قياس اقتراني مؤلف غولط فيه من جهة أن هذا المنهي ليس هو شكل القياس ولا مادة بديهية بل مادة فاسدة غريبة داخلت المواد الصحيحة.

٥ ـ وقول بعضهم : « المنطق إنما يتكفل تمييز الشكل المنتج من الشكل الفاسد وأما المواد فليس فيها قانون يعصم الإنسان من الخطإ فيها ولا يؤمن الوقوع في الخطإ لو راجعنا غير أهل العصمة ، فالمتعين هو الرجوع إليهم » وفيه مغالطة من جهة أنه سيق لبيان حجية أخبار الآحاد أو مجموع الآحاد والظواهر الظنية من الكتاب ، ومن المعلوم أن الاعتصام بعصمة أهل العصمة عليه‌السلام إنما يحصل فيما أيقنا من كلامهم بصدوره والمراد منه معا يقينا صادقا ، وأنى يحصل ذلك في أخبار الآحاد التي هي ظنية صدورا ودلالة؟ وكذا في كل ما دلالته ظنية ، وإذا كان المناط في الاعتصام هو المادة اليقينية فما الفرق بين المادة اليقينية المأخوذة من كلامهم والمادة اليقينية المأخوذة من المقدمات العقلية؟ واعتبار الهيئة مع ذلك على حاله.

وقولهم : « لا يحصل لنا اليقين بالمواد العقلية بعد هذه الاشتباهات كلها » فيه : أولا أنه مكابرة. وثانيا : أن هذا الكلام بعينه مقدمة عقلية يراد استعمالها يقينية ، والكلام مشتمل على الهيئة.

٢٥٧

٦ ـ وقول بعضهم : « إن جميع ما يحتاج إليه النفوس الإنسانية مخزونة في الكتاب العزيز ، مودعة في أخبار أهل العصمة عليه‌السلام فما الحاجة إلى أسآر الكفار والملاحدة؟ ».

والجواب عنه أن الحاجة إليها عين الحاجة التي تشاهد في هذا الكلام بعينه ، فقد ألف تأليفا اقترانيا منطقيا ، واستعملت فيه المواد اليقينية لكن غولط فيه أولا بأن تلك الأصول المنطقية بعض ما هو مخزون مودع في الكتاب والسنة ، ولا طريق إليها إلا البحث المستقل.

وثانيا : أن عدم حاجة الكتاب والسنة واستغناءهما عن ضميمة تنضم إليهما غير عدم حاجة المتمسك بهما والمتعاطي لهما ، وفيه المغالطة ، وما مثل هؤلاء إلا كمثل الطبيب الباحث عن بدن الإنسان لو ادعى الاستغناء عن تعلم العلوم الطبيعية والاجتماعية والأدبية ، لأن الجميع متعلق بالإنسان. أو كمثل الإنسان الجاهل إذا استنكف عن تعلم العلوم معتذرا أن جميع العلوم مودعة في الفطرة الإنسانية.

وثالثا : أن الكتاب والسنة هما الداعيان إلى التوسع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة ( وليست إلا المقدمات البديهية أو المتكئة على البديهية ) قال تعالى : « فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ » : ( الزمر : ١٨ ) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الكثيرة ، نعم الكتاب والسنة ينهيان عن اتباع ما يخالفهما مخالفة صريحة قطعية لأن الكتاب والسنة القطعية من مصاديق ما دل صريح العقل على كونهما من الحق والصدق ، ومن المحال أن يبرهن العقل ثانيا على بطلان ما برهن على حقيته أولا ، والحاجة إلى تمييز المقدمات العقلية الحقة من الباطلة ثم التعلق بالمقدمات الحقة كالحاجة إلى تمييز الآيات والأخبار المحكمة من المتشابهة ثم التعلق بالمحكمة منهما ، وكالحاجة إلى تمييز الأخبار الصادرة حقا من الأخبار الموضوعة والمدسوسة وهي أخبار جمة.

ورابعا : أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ ، ولا يؤثر فيه إيمان حامله وكفره ، ولا تقواه وفسقه ، والإعراض عن الحق بغضا لحامله ليس إلا تعلقا بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان رسله عليه‌السلام.

٢٥٨

٧ ـ وقول بعضهم : « إن طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب والسنة الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنة والاجتناب عن تعاطي الأصول المنطقية والعقلية فإن فيه التعرض للهلاك الدائم والشقوة التي لا سعادة بعدها أبدا ».

وفيه أن هذا البيان بعينه قد تعوطي فيه الأصول المنطقية والعقلية فإنه مشتمل على قياس استثنائي أخذ فيه مقدمات عقلية متبينة عند العقل ولو لم يكن كتاب ولا سنة.

على أن البيان إنما يتم فيمن لا يفي استعداده بفهم الأمور الدقيقة العقلية وأما المستعد الذي يطيق ذلك فلا دليل من كتاب ولا سنة ولا عقل على حرمانه من نيل حقائق المعارف التي لا كرامة للإنسان ولا شرافة إلا بها ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والعقل جميعا.

٨ ـ وقول بعضهم ـ فيما ذكره ـ : « إن طريق السلف الصالح كان مباينا لطريق الفلسفة والعرفان وكانوا يستغنون بالكتاب والسنة عن استعمال الأصول المنطقية والعقلية كالفلاسفة ، وعن استعمال طرق الرياضة كالعرفاء.

ثم لما نقلت فلسفة يونان في عصر الخلفاء إلى العربية رام المتكلمون من المسلمين وقد كانوا من تبعة القرآن إلى تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية فتفرقوا بذلك إلى فرقتي الأشاعرة والمعتزلة ، ثم نبغ آخرون في زمان الخلفاء تسموا بالصوفية والعرفاء كانوا يدعون كشف الأسرار والعلم بحقائق القرآن وكانوا يزعمون أنهم في غنى عن الرجوع إلى أهل العصمة والطهارة ، وبذلك امتازت الفقهاء والشيعة ـ وهم المتمسكون بذيلهم عليه‌السلام ـ عنهم ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة ( قبل مائة سنة تقريبا ) وعند ذلك أخذ هؤلاء ( يعني الفلاسفة والعرفاء ) في التدليس والتلبيس وتأويل مقاصد القرآن والحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفية والعرفانية حتى اشتبه الأمر على الأكثرين.

واستنتج من ذلك أن هذه الأصول مخالفة للطريقة الحقة التي يهدي إليها الكتاب والسنة.

ثم أورد بعض الإشكالات على المنطق ـ مما أوردناه ـ كوجود الاختلاف بين المنطقيين أنفسهم ، ووقوع الخطإ مع استعماله ، وعدم وجود البديهيات واليقينيات بمقدار كاف في المسائل الحقيقية ، ثم ذكر مسائل كثيرة من الفلسفة وعدها جميعا مناقضة لصريح ما يستفاد من الكتاب والسنة.

٢٥٩

هذا محصل كلامه وقد لخصناه تلخيصا.

وليت شعري أي جهة من الجهات الموضوعة في هذا الكلام على كثرتها تقبل الإصلاح والترميم فقد استظهر الداء على الدواء.

أما ما ذكره من تاريخ المتكلمين وانحرافهم عن الأئمة عليهم‌السلام وقصدهم إلى تطبيق الفلسفة على القرآن وانقسامهم بذلك إلى فرقتي الأشاعرة والمعتزلة وظهور الصوفية وزعمهم أنهم ومتبعيهم في غنى عن الكتاب والسنة وبقاء الأمر على هذا الحال وظهور الفلسفة العرفانية في القرن الثالث عشر كل ذلك مما يدفعه التاريخ القطعي ، وسيجيء إشارة إلى ذلك كله إجمالا.

على أن فيه خطأ فاحشا بين الكلام والفلسفة فإن الفلسفة تبحث بحثا حقيقيا ويبرهن على مسائل مسلمة بمقدمات يقينية والكلام يبحث بحثا أعم من الحقيقي والاعتباري ، ويستدل على مسائل موضوعة مسلمة بمقدمات هي أعم من اليقينية والمسلمة ، فبين الفنين أبعد مما بين السماء والأرض ، فكيف يتصور أن يروم أهل الكلام في كلامهم تطبيق الفلسفة على القرآن؟ على أن المتكلمين لم يزالوا منذ أول ناجم نجم منهم إلى يومنا هذا في شقاق مع الفلاسفة والعرفاء ، والموجود من كتبهم ورسائلهم والمنقول من المشاجرات الواقعة بينهم أبلغ شاهد يشهد بذلك.

ولعل هذا الإسناد مأخوذ من كلام بعض المستشرقين القائل بأن نقل الفلسفة إلى الإسلام هو الذي أوجد علم الكلام بين المسلمين. هذا ، وقد جهل هذا القائل معنى الكلام والفلسفة وغرض الفنين والعلل الموجبة لظهور التكلم ورمي من غير مرمى.

وأعجب من ذلك كله أنه ذكر بعد ذلك : الفرق بين الكلام والفلسفة بأن البحث الكلامي يروم إثبات مسائل المبدأ والمعاد مع مراعاة جانب الدين والبحث الفلسفي يروم ذلك من غير أن يعتني بأمر الدين ثم جعل ذلك دليلا على كون السلوك من طريق الأصول المنطقية والعقلية سلوكا مباينا لسلوك الدين مناقضا للطريق المشروع فيه هذا. فزاد في الفساد ، فكل ذي خبرة يعلم أن كل من ذكر هذا الفرق بين الفنين أراد أن يشير إلى أن القياسات المأخوذة في الأبحاث الكلامية جدلية مركبة من مقدمات مسلمة : ( المشهورات والمسلمات ) لكون الاستدلال بها على مسائل مسلمة ، وما أخذ في الأبحاث الفلسفية منها

٢٦٠