الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٢

فليس يقبل التحول والتغير فليس يقبل نسخا ولا إبطالا ولا غير ذلك ، ولازم ذلك أن الشريعة الإسلامية مستمرة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى : « وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ » الإذاعة هي النشر والإشاعة ، وفي الآية نوع ذم وتعيير لهم في شأن هذه الإذاعة ، وفي قوله في ذيل الآية « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ » (إلخ) دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الإذاعة ، وليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك ، ويؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال ولو بقي وحده بلا ناصر.

ويظهر به أن الأمر الذي جاءهم من الأمن أو الخوف كان بعض الأراجيف التي كانت تأتي بها أيدي الكفار ورسلهم المبعوثون لإيجاد النفاق والخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر وتبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين ، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لإخزاء المؤمنين.

فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى ، وقد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران ، والآيات هاهنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها ، قال تعالى في سورة آل عمران : « الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ـ إلى قوله ـ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » : ( آل عمران : ـ ١٧٥ ).

الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح ـ وهو محنة ـ أحد ـ إلى الخروج إلى الكفار ، وأن أناسا كانوا يخزلون الناس ويخذلونهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويخوفونهم جمع المشركين.

ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه ، وتعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم ويخافوا الله أن كانوا مؤمنين.

والمتدبر فيها وفي الآيات المبحوث عنها أعني قوله « وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ » (الآية) لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر ـ الصغرى ويعدها في جملة ما يعد من الخلال التي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله « فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ » (الآية) وقوله « وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ » (الآية) وقوله « وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ »

٢١

(الآية) وقوله « وَيَقُولُونَ طاعَةٌ » (الآية) ثم يجري على هذا المجرى قوله « وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ » (الآية).

قوله تعالى : « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ » لم يذكر هاهنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله « فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ » : الآية النساء : ٥٩ ) لأن الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه ، ولا صنع فيه لغير الله ورسوله.

وأما الرد المذكور هاهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف ، ولا معنى لرده إلى الله وكتابه ، بل الصنع فيه للرسول ولأولي الأمر منهم ، لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه ويذكروا للرادين صحته أو سقمه وصدقه أو كذبه.

فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل ، والصدق من الكذب على حد قوله تعالى « لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ » : ( المائدة : ٩٤ ) « وقوله وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ » : ( العنكبوت. ـ ١١ ).

والاستنباط استخراج القول من حال الإبهام إلى مرحلة التمييز والمعرفة ، وأصله من النبط ( محركة ) ، وهو أول ما يخرج من ماء البئر ، وعلى هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول وأولي الأمر بمعنى أنهم يحققون الأمر فيحصلون على الحق والصدق وأن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعلمون حق الأمر وصدقه بإنباء الرسول وأولي الأمر لهم.

فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول وأولي الأمر كما هو الظاهر من الآية : لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول وأولي الأمر أي إذا استصوبه المسئولون ورأوه موافقا للصلاح ، وإن كان المراد بهم الرادين : لعلمه الذين يستفسرونه ويبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين.

وأما أولوا الأمر في قوله : ( وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ) « فالمراد بهم هو المراد بأولي الأمر في قوله « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » : ( النساء : ٥٩ ) على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره وقد تقدم أن أصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة غير أن الذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.

أما القول بأن أولي الأمر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الإمارة على

٢٢

سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم ودائرة عملهم ، وأما أمثال ما هو مورد الآية وهو الإخلال في الأمن وإيجاد الخوف والوحشة العامة التي كان يتوسل إليها المشركون ببعث العيون وإرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الأخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لأمراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الأخبار.

وأما القول بأن أولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر ، إذ العلماء وهم يومئذ المحدثون والفقهاء والقراء والمتكلمون في أصول الدين ـ إنما خبرتهم في الفقه والحديث ونحو ذلك ، ومورد قوله « وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ » ، هي الأخبار التي لها أعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما أفضى قبولها أو ردها أو الإهمال فيها من المفاسد الحيوية والمضار الاجتماعية إلى ما يمكن أن لا يستصلح بأي مصلح آخر ، أو يبطل مساعي أمة في طريق سعادتها ، أو يذهب بسؤددهم ويضرب بالذل والمسكنة والقتل والأسر عليهم ، وأي خبرة للعلماء من حيث إنهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردها إليهم؟ وأي رجاء في حل أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟

وأما القول بأن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية ، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عام يشمله وما بعده ، وعلى الأول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الأربعة من بين الناس ومن بين الصحابة خاصة ، والحديث والتاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل ، وعلى الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم ، وكان لازمه أن تتصدى الآية لبيان ذلك كما في جميع الأحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالأحكام الخاصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أثر في الآية من ذلك.

وأما القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل والعقد ، وهذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة مشخصة هم أهل الحل والعقد على حد ما يوجد بين الأمم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء ، وجمعية المبعوثين إلى المنتدى وغير ذلك فإن الأمة لم يكن يجري فيها إلا حكم الله ورسوله ، اضطر إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة وخاصة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم.

وكيف كان ، يرد عليه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجمع في مشاورته المؤمنين والمنافقين كعبد الله

٢٣

بن أبي وأصحابه ، وحديث مشاورته يوم أحد معروف ، وكيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله.

على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده عبد الرحمن بن عوف ، وهذه الآيات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين وتعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به وبأصحابه أعني قوله « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا » ( الآيات ) فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له ، رواه النسائي في صحيحة ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ورواه الطبري وغيره في تفاسيرهم ، وقد مرت الرواية في البحث الروائي السابق. وإذا كان الأمر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الآية بإرجاع الأمر ورده إلى مثل هؤلاء؟.

فالمتعين هو الذي رجحناه في قوله تعالى « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » (الآية).

قوله تعالى : « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً » قد تقدم أن الأظهر كون الآيات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى ، وبعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة لبسط الخوف والوحشة بين الناس وإخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبإ ، واتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر.

وبذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع وجهز الجيوش فاخشوهم ولا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع ، وقد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر ، ولم يسلم من ذلك إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض خاصته وهو المراد بقوله تعالى « إِلَّا قَلِيلاً » ، فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل وساروا.

وهذا الذي استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذي يؤيده ما مر ذكره من القرائن ، على ما فيه من الاستقامة.

وللمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شيء منها من فساد أو تكلف ، فقد قيل : المراد بالفضل والرحمة ما هداهم الله إليه من إيجاب طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم ، والمراد بالمستثنى هم المؤمنون أولو الفطرة السليمة والقلوب الطاهرة ، ومعنى الآية : ولو لا هذا الذي هداكم الله إليه من وجوب الطاعة ، وإرجاع الأمر إلى

٢٤

الرسول وإلى أولي الأمر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق والصلاح. وفيه أنه تخصيص الفضل والرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه ، وهو بعيد من البيان القرآني ، مع أن ظاهر الآية أنه امتنان في أمر ماض منقض.

وقيل ، إن الآية على ظاهرها ، والمؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل ورحمة زائدين وإن كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الإلهية ، وفيه أن الذي يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه ولم يدفع في الآية. وقد قال تعالى : « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً » : ( النور : ٢١ ) وقال مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو خير الناس : « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ » : ( الإسراء : ٧٥ ).

وقيل : إن المراد بالفضل والرحمة القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : المراد بهما الفتح والظفر ، فيستقيم الاستثناء لأن الأكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح وظفر وما أشبههما من العنايات الظاهرية الإلهية ، ولا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم. وقيل ) الاستثناء إنما هو من قوله « أَذاعُوا بِهِ » ، وقيل ) الاستثناء من قوله « الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ » ،. وقيل : إن الاستثناء إنما هو في اللفظ وهو دليل على الجمع والإحاطة فمعنى الآية : ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا ، وهذا نظير قوله تعالى « سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ » : ( الأعلى : ٧ ) فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفي النسيان ، وجميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر.

قوله تعالى : « فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ » ، التكليف من الكلفة بمعنى المشقة لما فيه من تحميل المشقة على المكلف ، والتنكيل من النكال ، وهو على ما في المجمع : ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله وليعتبر به غيره من المكلفين.

والفاء في قوله « فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ » ،. للتفريع والأمر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الآيات السابقة. وهو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو وتبطئتهم في ذلك ، ويدل عليه ما يتلوه من الجمل أعني قوله « لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ » (إلخ) فإن المعنى : فإذا

٢٥

كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد ويكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك ، ولا يشق عليك تثاقلهم ومخالفتهم لأمر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك ، وإنما يتوجه إليك تكليف نفسك لا تكليفهم ، وإنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل ( وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ). وقوله « لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ » أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف.

وقوله « عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ » (إلخ) قد تقدم أن « عسى » تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن « عسى » من الله حتم.

وفي الآية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه ، وأن يعرض عن المتثاقلين ولا يلح عليهم بالإجابة ويخليهم وشأنهم ، ولا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه وتحريض المؤمنين أطاع من أطاع ، وعصى من عصى.

بحث روائي

في الكافي ، بإسناده عن محمد بن عجلان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله عير أقواما بالإذاعة في قوله عز وجل : « وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ » فإياكم والإذاعة.

وفيه ، بإسناده عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال الله عز وجل : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » ، وقال « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ » فرد أمر الناس إلى أولي الأمر منهم ، الذين أمر بطاعتهم والرد إليهم.

أقول والرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد بأولي الأمر في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى.

وفي تفسير العياشي ، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ » قال : هم الأئمة.

٢٦

أقول : وروي هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا عليه‌السلام في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفية ، وروى هذا المعنى أيضا المفيد في الاختصاص ، عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه‌السلام في حديث طويل.

وفي تفسير العياشي ، عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه‌السلام : في قوله « وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ » ، قال : الفضل رسول الله ، ورحمته أمير المؤمنين.

وفيه ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وحمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ » ، ـ قال : فضل الله رسوله ، ورحمته ولاية الأئمة.

وفيه ، عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح عليه‌السلام قال : الرحمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والفضل علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

أقول : والروايات من باب الجري ، والمراد النبوة والولاية فإنهما السببان المتصلان اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال ومصيدة الشيطان ، إحداهما : سبب مبلغ ، والأخرى : سبب مجر ، والرواية الأخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه بالرحمة حيث قال : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » : (الآية) ( الأنبياء : ١٠٧ ).

وفي الكافي ، بإسناده عن علي بن حديد عن مرازم قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله كلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يكلف به أحدا من خلقه ، ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه ، وإن لم يجد فئة تقاتل معه ، ولم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله ولا بعده ، ثم تلا هذه الآية : « فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ».

ثم قال : وجعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز وجل : « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها » وجعل الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعشر حسنات

وفي تفسير العياشي ، عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الناس لعلي عليه‌السلام ، إن كان له حق فما منعه أن يقوم به؟ قال فقال إن الله لا يكلف هذا لإنسان واحد إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ » فليس هذا إلا للرسول ، وقال لغيره : « إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ » ـ فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره.

وفيه ، عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : ما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا

٢٧

قط ـ فقال : لا ، إن كان عنده أعطاه ، وإن لم يكن عنده ـ قال : يكون إن شاء الله ، ولا كافي بالسيئة قط ، وما لقي سرية مذ نزلت عليه ، « فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ » إلا ولى بنفسه.

أقول : وفي هذه المعاني روايات أخر.

* * *

( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً ـ ٨٥. وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ـ ٨٦. اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً ـ ٨٧. فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ـ ٨٨. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ـ ٨٩. إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ـ ٩٠. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ـ ٩١. )

٢٨

بيان

الآيات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا ( ٨٥ ـ ٩١ ) لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين وهم المنافقون منهم ، ويظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الإيمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم وشاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم ، واختلفت أنظار المسلمين في أمرهم ، فمن قائل يرى قتالهم ، وآخر يمنع منه ويشفع لهم لتظاهرهم بالإيمان ، والله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال ويحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم.

ويلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال ، ويستهل لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية ، وببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية أخرى.

قوله تعالى : « مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها » ، النصيب والكفل بمعنى واحد ، ولما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك كانت لها نوع سببية لإصلاح شأن فلها شيء من التبعة والمثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة ، وهو مقصد الشفيع والمشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة ، وهو قوله تعالى « مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً » (إلخ).

وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين ، وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له ، ويجتنبوها إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر وفساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا ، فإن في ترك الفساد القليل على حاله ، وإمهاله في أن ينمو ويعظم فسادا معقبا لا يقوم له شيء ، ويهلك به الحرث والنسل فالآية في معنى النهي عن الشفاعة السيئة وهي شفاعة أهل الظلم والطغيان والنفاق والشرك المفسدين في الأرض.

قوله تعالى : « وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها » (الآية) أمر بالتحية قبال

٢٩

التحية بما يزيد عليها أو يماثلها ، وهو حكم عام لكل تحية حيي بها ، غير أن مورد الآيات هو تحية السلم والصلح التي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية.

قوله تعالى : « اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ » (إلخ) معنى الآية ظاهر ، وهي بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنه قيل : خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة والسيئة ، ولا تبطلوا تحية من يحييكم بالإعراض والرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه ويجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه ورده.

قوله تعالى : « فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ » (الآية) الفئة الطائفة ، والإركاس الرد.

والآية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة والتمهيد أعني قوله « مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً » (الآية) ، والمعنى : فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطي لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين ، وتحزبتهم حزبين : فئة ترى قتالهم ، وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم ، والإغماض عن شجرة الفساد التي تنمو بنمائهم ، وتثمر برشدهم ، والله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الأعمال ، أتريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ ومن يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.

وفي قوله « وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً » التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم ، ولو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به وألقى إلى من هو بين واضح عنده وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : « وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً » (إلخ) هو بمنزلة البيان لقوله « وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ » ، والمعنى : أنهم كفروا وزادوا عليه أنهم ودوا وأحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.

ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم وقتلهم حيث وجدتموهم ، والاجتناب عن ولايتهم ونصرتهم ، وفي قوله « فَإِنْ تَوَلَّوْا » ،. دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم ، وإن تولوا فيقتلوهم.

٣٠

قوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ » استثنى الله سبحانه من قوله « فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ » ، طائفتين : ( إحداهما ) ( الَّذِينَ يَصِلُونَ ) (إلخ) أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه ، و ( الثانية ) الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر ، فيعتزلون المؤمنين ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه ، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور ، وقوله « حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ » ، أي ضاقت.

قوله تعالى : « سَتَجِدُونَ آخَرِينَ » ، إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم ، ولذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله « فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ » بالشرط المنفي أعني قوله « فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ » (إلخ) وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم ومعنى الآية ظاهر.

كلام في معنى التحية

الأمم والأقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها وأنواعها من الإشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك ، وهي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.

وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الداني للعالي ، والوضيع للشريف ، والمطيع لمطاعه ، والعبد لمولاه ، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها ، وإن اختلفت ألوانه ، ولذلك ما نرى أن هذه التحية تبدأ من المطيع وتنتهي إلى المطاع ، وتشرع من الداني الوضيع وتختتم في العالي الشريف ، فهي من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.

والإسلام ـ كما تعلم ـ أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهي إليها ،

٣١

ويتولد ، منها ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية وسنة مقابلة لسنة الوثنية ورسم الاستعباد ، وهو إلقاء السلام الذي هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه ، ودحض حريته الفطرية الإنسانية الموهوبة له فإن أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الأفراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه وعرضه وماله ، وكل أمر يئول إلى أحد هذه الثلاثة.

وهذا هو السلام الذي سن الله تعالى إلقاؤه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى : « فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً » ( النور : ٦١ ) وقال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » : ( النور : ٢٧ ) وقد أدب الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتسليم للمؤمنين وهو سيدهم فقال : « وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » : ( الأنعام : ٥٤ ) وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله : « فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » : ( الزخرف : ٨٩ ).

والتحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر ونحوه ، وفي لسان العرب : وكانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه : أنعم صباحا ، وأبيت اللعن ، ويقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة ، وأنه لا حرب هنالك. ثم جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام ، وأمروا بإفشائه. ( انتهى ).

إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه عليه‌السلام كثيرا : ولا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج ونحوه قال تعالى : حكاية عنه فيما يحاور أباه : « قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي » : ( مريم : ٤٧ ) وقال تعالى « وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ » : ( هود : ٦٩ ) والقصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.

ولقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه ، واستعمله في موارد من كلامه ، قال تعالى : « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » : ( الصافات : ٧٩ ) وقال : « سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ: » ( الصافات : ١٠٩ ) وقال : « سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ » : ( الصافات : ١٢٠ ) وقال « سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ » : ( الصافات : ١٣٠ ) وقال : « وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ » : ( الصافات : ١٨١ ).

٣٢

وذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال : « الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » : ( النحل : ٣٢ ) وقال : « وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » : ( الرعد : ٢٤ ) وذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال : « وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ » : ( يونس : ١٠ ) ، وقال تعالى : ( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً » : ( الواقعة : ٢٦ ).

( بحث روائي )

في المجمع في قوله تعالى « وَإِذا حُيِّيتُمْ » (الآية) : قال : ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره ، عن الصادقين : أن المراد بالتحية في الآية السلام وغيره من البر.

وفي الكافي ، بإسناده عن السكوني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : السلام تطوع والرد فريضة.

وفيه ، بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يسلم الصغير على الكبير ، والمار على القاعد ، والقليل على الكثير.

وفيه ، بإسناده عن عيينة (١) عن مصعب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : القليل يبدءون الكثير بالسلام ، والراكب يبدأ الماشي ، وأصحاب البغال يبدءون أصحاب الحمير ، وأصحاب الخيل يبدءون أصحاب البغال.

وفيه ، بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، وإذا لقيت جماعة سلم الأقل على الأكثر ، وإذا لقي واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة :

أقول : وروي ما يقرب منه في الدر المنثور ، عن البيهقي عن زيد بن أسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه ، بالإسناد عنه عليه‌السلام قال : إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم ،

__________________

(١) عنبسة ( خ ل )

٣٣

وإذا سلم على القوم وهم جماعة ، أجزأهم أن يرد واحد منهم.

وفي التهذيب ، بإسناده عن محمد بن مسلم قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو في الصلاة فقلت : السلام عليك ، فقال : السلام عليك ، فقلت : كيف أصبحت؟ فسكت ، فلما انصرف قلت : أيرد السلام وهو في الصلاة؟ قال : نعم ، مثل ما قيل له.

وفيه ، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا سلم عليك الرجل وأنت تصلي ، قال : ترد عليه خفيا كما قال وفي الفقيه ، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام قال : لا تسلموا على اليهود ، ولا على النصارى ، ولا على المجوس ، ولا على عبدة الأوثان ، ولا على موائد شراب الخمر ، ولا على صاحب الشطرنج والنرد ، ولا على المخنث ، ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات ، ولا على المصلي لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام ، لأن التسليم من المسلم تطوع والرد فريضة ، ولا على آكل الربا ، ولا على رجل جالس على غائط ـ ولا على الذي في الحمام ، ولا على الفاسق المعلن بفسقه.

أقول : والروايات في معنى ما تقدم كثيرة ، والإحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم ، ونشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة والتعادل من استعلاء وإدحاض ، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير ، والقليل للكثير ، والواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة وإنما هو مبني على وجوب رعاية الحقوق فإن الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق ، وإهمال أمر الفضائل والمزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعي فضل ذي الفضل ، وحق صاحب الحق ، وإنما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله ، ويتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنساني.

وأما النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنما هو متفرع على النهي عن توليهم والركون إليهم كما قال تعالى : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » : ( المائدة : ٥١ ) وقال : « لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ » ( الممتحنة : ١ ) وقال « وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا » : ( هود : ١١٣ ) إلى غير ذلك من الآيات.

نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق

٣٤

التسليم عليهم ليحصل به تمام الأنس وتمتزج النفوس كما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك في قوله « فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ » : ( الزخرف : ٨٩ ) وكما في قوله يصف المؤمنين « وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً » : ( الفرقان : ٦٣ ).

وتفسير الصافي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن رجلا قال له : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ورحمة الله ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله ، فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليك ، فقال الرجل : نقصتني فأين ما قال الله « وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها » (الآية) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنك لم تترك فضلا ورددت عليك مثله : أقول : وروي مثله في الدر المنثور ، عن أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسي.

وفي الكافي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : مر أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوم فسلم عليهم فقالوا : عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه ، فقال لهم أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم ، قالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.

أقول : وفيه إشارة إلى أن السنة في التسليم التام ، وهو قول المسلم « السلام عليك ورحمة الله وبركاته » مأخوذة من حنيفية إبراهيم ، عليه‌السلام وتأييد لما تقدم أن التحية بالسلام من الدين الحنيف.

وفيه ، عن الصادق عليه‌السلام : أن من تمام التحية للمقيم المصافحة ، وتمام التسليم على المسافر المعانقة.

وفي الخصال ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله ، وهو يقول : يغفر الله لكم ويرحمكم ، قال الله تعالى : « وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها » ( الآية).

وفي المناقب : جاءت جارية للحسن عليه‌السلام بطاق ريحان ، فقال لها ، أنت حرة لوجه الله ، فقيل له في ذلك ، فقال عليه‌السلام : أدبنا الله تعالى فقال : « إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها » (الآية) وكان أحسن منها إعتاقها.

٣٥

أقول : والروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الآية.

وفي المجمع في قوله تعالى « فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ » (الآية) قال اختلفوا في من نزلت هذه الآية فيه ، فقيل : نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة ، فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة ـ لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة ، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا : فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون ، وقال آخرون : إنهم مشركون ، فأنزل الله فيهم الآية : قال : وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وفي تفسير القمي ، في قوله تعالى « وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا » (الآية) أنها نزلت في أشجع وبني ضمرة ، وهما قبيلتان ، وكان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هادن بني ضمرة ، وواعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا ، ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلا إنهم أبر العرب بالوالدين ، وأوصلهم للرحم ، وأوفاهم بالعهد.

وكان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة ، وهم بطن من كنانة ، وكانت أشجع بينهم وبين بني ضمرة حلف بالمراعاة والأمان ، فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسيرهم إلى بني ضمرة تهيأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه وبين بني ضمرة فأنزل الله : « وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ».

ثم استثنى بأشجع فقال : « إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ».

وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح ، وقد كانوا قربوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهابوا لقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبعث إليهم من يغزوهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رجيلة ، وهم سبعمائة فنزلوا شعب سلع ، وذلك في شهر ربيع الأول

٣٦

سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسيد بن حصين وقال له : اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.

فخرج أسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال : ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على أسيد وعلى أصحابه فقالوا : جئنا لنوادع محمدا ، فرجع أسيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم. ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه ، ثم قال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة ، ثم أتاهم فقال : يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا : قربت دارنا منك ، وليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك ، وضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم ، فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم ، وفيهم نزلت هذه الآية « إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ـ إلى قوله ـ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ».

وفي الكافي ، بإسناده عن الفضل أبي العباس عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عز وجل « أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ » قال : نزلت في بني مدلج ، لأنهم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك لرسول الله ، فلسنا معكم ولا مع قومنا عليك ، قال : قلت : كيف صنع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : وادعهم إلى أن يفرغ من العرب ، ثم يدعوهم فإن أجابوا ، وإلا قاتلهم.

وفي تفسير العياشي ، عن سيف بن عميرة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ـ « أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ » قال : كان أبي يقول : نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكونوا مع قومهم. قلت : فما صنع بهم؟ قال : لم يقاتلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى فرغ من عدوه ، ثم نبذ إليهم على سواء. قال : و « حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ » هو الضيق.

وفي المجمع : المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : المراد بقوله تعالى « قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ » هو هلال بن عويمر السلمي واثق عن قومه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال في موادعته : على أن لا نخيف يا محمد من أتانا ولا تخيف من أتاك ـ فنهى الله أن يتعرض لأحد عهد إليهم.

٣٧

أقول : وقد روي هذه المعاني وما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس وغيره.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس: في قوله « إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ » ، (الآية) قال : نسختها براءة : « فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ».

* * *

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ـ ٩٢. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ـ ٩٣. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ـ ٩٤. )

( بيان )

قوله تعالى : « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً » الخطأ بفتحتين من غير مد ، ومع المد على فعال : خلاف الصواب ، والمراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الآية

٣٨

التالية « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ».

والمراد بالنفي في قوله « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً » ، نفي الاقتضاء أي ليس ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطإ ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن ، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفي الاقتضاء قوله تعالى « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ » : ( الشورى : ٥١ ) وقوله « ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها » : ( النمل : ٦٠ ) وقوله « فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ » : ( يونس : ٧٤ ) إلى غير ذلك.

والآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط ، ولا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا وحرم ذلك إلا في قتل الخطإ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد ولكن بزعم أن المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك.

وقد ذكر جمع من المفسرين : أن الاستثناء في قوله « إِلَّا خَطَأً » منقطع ، قالوا : وإنما لم يحمل قوله « إِلَّا خَطَأً » على حقيقة الاستثناء لأن ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطإ أو إباحته. ( انتهى ) وقد عرفت أن ذلك لا يؤدي إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطإ ، أو عدم وضع الحرمة فيه ، ولا محذور فيه قطعا. فالحق أن الاستثناء متصل.

قوله تعالى : « وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً ـ إلى قوله ـ يَصَّدَّقُوا » التحرير جعل المملوك حرا! والرقبة هي العنق شاع استعمالها في النفس المملوكة مجازا! والدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما ، والمعنى : ومن قتل مؤمنا بقتل الخطإ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة ، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية.

قوله تعالى : « فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ » ، الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول ، والقوم العدو هم الكفار المحاربون ، والمعنى : إن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله كفار محاربون لا يرثون وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا.

قوله تعالى : « وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ » ، الضمير في « كانَ » يعود إلى

٣٩

المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق ، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد ، والمعنى : وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة ، وقد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق.

قوله تعالى : « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ » ، أي من لم يستطع التحرير ـ لأنه هو الأقرب بحسب اللفظ ـ وجب عليه صيام شهرين متتابعين.

قوله تعالى : « تَوْبَةً مِنَ اللهِ » (إلخ) أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف رحمة من الله لفاقد الرقبة ، وينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع ، ويمكن أن يكون قوله « تَوْبَةً » قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفارة أعني قوله « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » (إلخ) والمعنى : أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا. وليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » : ( البقرة : ١٧٩ ).

وكذا هو توبة من الله للمجتمع وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا ، ويرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالي بالدية المسلمة.

ومن هنا يظهر أن الإسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعا من القتل ، ويرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة. وسنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث.

وأما تشخيص معنى الخطإ والعمد والتحرير والدية وأهل القتيل والميثاق وغيره المذكورات في الآية فعلى السنة. من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.

قوله تعالى : « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ » ، التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذي له ، وحيث إن الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان وكان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح وهو يزعم أنه من الصيد وهو في الواقع إنسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الإنسان ، وكذا إذا ضرب إنسانا بالعصا قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطإ ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وأن المقتول مؤمن.

٤٠