فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

إلى قوله تعالى « ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا » (١).

والأول أقوى ، لان ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فليس هو أكلا بالباطل.

وقيل : معناه التجاوز والاخذ من غير وجهه ولذلك قال تعالى « بينكم ».

وقوله تعالى « الا أن تكون تجارة » فيه دلالة على بطلان من حرم الكسب ، لان الله حرم أكل الأموال بالباطل وأحله بالتجارة على طريق المكاسب ، ومثله قوله « وأحل الله البيع وحرم الربا » (٢).

وقوله تعالى « عن تراض منكم » قيل في معنى التراضي بالتجارة قولان : أحدهما ـ امضاء البيع بالتفرق أو التخاير بعد العقد في قول شريح والشعبي وابن سيرين ، لقوله عليه‌السلام « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » (٣) أو يكون بيع خيار. وربما قالوا أو يقول أحدهما للاخر اختر ، وهو مذهبنا.

الثاني ـ امضاء البيع بالعقد على قول مالك بن أنس وأبي حنيفة بعلة رده إلى عقد النكاح ، ولا خلاف أنه لا خيار فيه بعد الافتراق. وقيل معناه إذا تغابنوا فيه مع التراضي فإنه جائز.

ثم قال تعالى « ولا تقتلوا أنفسكم » أي لا تهلكوها بترك التجارة وبارتكاب الآثام والعدوان في أكل الأموال بالباطل وغيره « ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا » الإشارة إلى أكل الأموال بالباطل.

وقوله تعالى « الا أن تكون تجارة » من رفع فالمعنى الا أن يقع ، ومن نصب فمعناه الا أن تكون الأموال تجارة ، أي أموال تجارة ، وحذف المضاف ، ويكون الاستثناء منقطعا ، ويجوز أن يكون التقدير الا أن تكون التجارة تجارة. والرفع أقوى ، لأنه أدل على الاستثناء ، فان التحريم لاكل المال بالباطل على الاطلاق.

__________________

١) سورة النور : ٦١.

٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

٣) الكافي ٥ / ١٧٠.

٤١

(باب آداب التجارة)

قال الله تعالى « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » (١).

فندب تعالى إلى الانفاق من طيب الاكتساب ، ونهى عن طلب الخبيث للمعيشة به والانفاق ، فمن لم يتفقه لم يميز بين العقود الصحيحة والفاسدة ولم يعرف فرق ما بين الحلال والحرام من الكسب ، فلم يكن مجتنبا للخبيث من الأعمال.

وينبغي للتاجر إذا عامله مؤمن ألا يربح عليه الا في حال الضرورة ، ويقنع بما لابد له من اليسير مع الاضطرار أيضا.

قال تعالى « خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين » (٢) أمر الله نبيه عليه‌السلام أن يأخذ مع الناس بالعفو ، وهو التساهل فيما بينه وبينهم ، وأن يترك الاستقصاء عليهم في ذلك. وهذا يكون في مطالبة الحقوق الواجبة لله وللناس وفي غيرها ، وهو في معنى الخبر عن النبي عليه‌السلام : رحم الله سهل القضاء سهل الاقتضاء بائعا ومشتريا.

ولا ينافي ذلك أن لصاحب الحق والديون وغيرها استيفاء الحق وملازمة صاحبه حتى يستوفيه ، لان ذلك مندوب إليه دون أن يكون واجبا.

« وأمر بالعرف » أي المعروف ، وهو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع « وأعرض عن الجاهلين » [ أمر بالاعراض عن السفيه الذي ان بايعه

__________________

١) سورة البقرة : ٢٦٧.

٢) سورة الأعراف : ١٩٩.

٤٢

أو شاراه سفه عليه ] (١) وآذاه ، والى هذا أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله لأهل السوق كل بكرة يغتدي إليهم : تبركوا بالسهولة ، واقتربوا من المتبايعين ، وتناهوا عن اليمين ، وجانبوا الكذب والظلم ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، وإياكم ومخالطة السفلة وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له ، ولا تعاملوا الا من يشاء في خير ، قال تعالى « وأعرض عن الجاهلين » (٢).

(فصل)

قال الله تعالى « وأوفوا الكيل إذا كلتم » (٣) ولا يكون الوفاء حتى يميل الميزان.

وكان عليه‌السلام يقول : زن يا وزان وأرجح. فلهذا أمرنا أن لا نأخذ الا ناقصا وان لا نعطي الا راجحا.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من باع واشترى فليحفظ خمس خصال والا فلا يشتري ولا يبيع : الربا ، والحلف ، وكتمان العيب ، والمدح إذا باع ، والذم إذا اشترى (٤).

قال الله تعالى « أحل الله البيع وحرم الربا » (٥).

وقال « ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم » (٦).

__________________

١) ليست الزيادة في ج.

٢) وسائل الشيعة ١٢ / ٢٨٤.

٣) سورة الإسراء : ٣٥.

٤) وسائل الشيعة ١٢ / ٢٨٤.

٥) سورة البقرة : ٢٧٥.

٦) سورة البقرة : ٢٢٤.

٤٣

وقال « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون » (١).

فلا ينبغي تزيين متاعه ، بأن يري جيده ويكتم رديه ، ولقوله تعالى « وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة » (٢) فالغلول الخيانة ، لأنه يجري في الملك على خفى من غير الوجه الذي يحل ، كالغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر. وانما خصت الخيانة بالصفة دون السرقة لأنه يجري إليها بسهولة ، لأنها مع عقد الأمانة.

وقال النبي عليه‌السلام حين مر على رجل يبيع التمر وكان يخلط الردئ بالجيد : من غشنا فليس منا (٣).

ولا يجوز أن يشوب اللبن بالماء ، لان العيب لا يتبين فيه.

وعن إسحاق : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبعث إلى الرجل يقول له : ابتع لي ثوبا ، فيطلب له في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده؟ قال : لا يقربن هذا ولا يدنس نفسه ، ان الله عزوجل يقول « انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا » (٤) ، وإن كان ما عنده خيرا مما يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده الا باعلامه ذلك (٥).

وكذلك من باع لغيره شيئا فلا يشتريه لنفسه وان زاد في ثمنه على ما يطلب في الحال الا بعلم من صاحبه واذن من جهته.

__________________

١) سورة الأنفال : ٢٧.

٢) سورة آل عمران : ١٦١.

٣) انظر وسائل الشيعة ١٢ / ٢٠٨ ـ ٢١١ ففيه أحاديث بهذا المضمون لا بهذا اللفظ.

٤) سورة الأحزاب : ٧٢.

٥) تهذيب الأحكام ٦ / ٣٥٢ مع اختلاف يسير.

٤٤

ولا يجوز للرجل أن يدخل في سوم أخيه ، فقد عاتب الله نبيه داود فقال  « ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها » (١) الآية وإذا تعسر عليه نوع من التجارة فليتحول منه إلى غيره.

(باب أحكام الربا)

قال الله تعالى « الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » (٢).

أصل الربا الزيادة ، من قولهم ربا الشئ يربو : إذا زاد ، والربا هو الزيادة على رأس المال في جنسه أو مماثله ، وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في الاجل ، أو كاعطاء درهم بدرهمين أو دينار بدينارين.

والمنصوص عليه تحريم التفاضل في ستة أشياء : الذهب ، والفضة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والملح. وقيل الزبيب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها : مثلا بمثل يدا بيد ، من زاد واستزاد فقد أربى.

فهذه الستة أشياء لا خلاف بينهم في حصول الربا فيها ، وباقي الأشياء عند الفقهاء مقيس عليها ، وفيها خلاف بينهم.

وعندنا ان الربا في كل ما يؤكل ويوزن إذا كان الجنس واحدا منصوصا عليه ، والعموم يتناول كل ذلك ولا يحتاج إلى قياس.

والربا محرم متوعد عليه كبيرة موبقة بلا خلاف بهذه الآية وبقوله « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا » (٣) وبقوله : « فإن لم تفعلوا فأذنوا

__________________

١) سورة ص : ٢٣.

٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

٣) سورة البقرة : ٢٧٨.

٤٥

بحرب من الله ورسوله » (١).

أما قوله « لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » قال ابن عباس : ان قيامهم على هذه الصفة يكون يوم القيامة إذا قاموا من قبورهم ، ويكون ذلك أمارة على أنهم آكلة الربا.

وقوله « يتخبطه الشيطان من المس » مثل لا حقيقة عند الجبائي على وجه النسبة بحال من تغلب عليه المرة السوداء ، فتضعف نفسه ، ونسب إلى الشيطان مجازا لما كان عند وسوسته.

ثم قال « ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا » معناه ذلك العقاب لهم بسبب قولهم انما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا.

قال ابن عباس : كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه يطالبه به ، قال المطلوب منه له زدني في الاجل وأزيدك في المال ، فيتراضيان عليه ويعملان به ، فإذا قيل لهم هذا ربا قالوا هما سواء ، يعنون به أن الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الاجل عند محل الدين سواء ، فذمهم الله وأوعدهم وخطأهم.

وقال بعضهم : انهم قالوا الزيادة على رأس المال بعد تصييره على جهة الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع ، وذلك خطأ لان أحدهما محرم والاخر مباح ، وهو أيضا منفصل منه في العقد ، لان الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الاخر لأجل البيع.

والفرق بين البيع والربا أن البيع ببدل ، لان الثمن فيه بدل المثمن ، والربا ليس كذلك ، وانما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الاجل أو زيادة في الجنس.

« وقد أحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف »

__________________

١) سورة البقرة : ٢٧٩.

٤٦

أي له ما أكل ، وليس عليه رد ما سلف إذا لم يكن علم أنه حرام.

قال أبو جعفر عليه‌السلام : من أدرك الاسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية وضع الله عنه ما سلف. فمن ارتكب ربا بجهالة ولم يعلم أن ذلك محظور فليستغفر الله في المستقبل وليس عليه فيما مضى شئ ، ومتى علم أن ذلك محرم وتمكن من عمله فكل ما يحصل له من ذلك محرم عليه ويجب عليه رده إلى صاحبه.

وقال السدي في معنى قوله « فله ما سلف » له ما أكله وليس عليه رد ما سلف ، فأما من لم يقبض بعد فلا يجوز له أخذه وله رأس المال.

ويحتمل أن يكون أراد « فله ما سلف » يعني من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه.

وقوله « وأمره إلى الله » معناه في جواز العفو عنه ان لم يتب « ومن عاد » لاكل الربا بعد التحريم « فأولئك أصحاب النار » لان ذلك لا يصدر الا عن كافر ، لان مستحل الربا كافر بالاجماع.

(فصل)

والوعيد في الآية متوجهة إلى من أربى وان لم يأكله ، وانما ذكر الله الذين يأكلون الربا لأنها في قوم كانوا يأكلونه فوصفهم بصفتهم ، فحكمها ثابت في جميع من أربي. والآية الأخرى التي ذكرناها تبين ما قلناه ، وعليه أيضا الاجماع.

وقيل : الوجه في تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش والاجلاب ، فالتاجر إذا وجد المربى ومن يعطيه دراهم فضلا بدراهم لا يقرض. وقد قال أبو عبد الله عليه‌السلام : انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف

٤٧

قرضا أو رفدا (١).

ثم قال تعالى « يمحق الله الربا ويربي الصدقات » (٢). المحق نقصان الشئ حالا بعد حال. قال البلخي : محقه في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه وتسميته به.

وقال تعالى « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا اضعافا مضاعفة » (٣) قيل في تحريم الربا خاصة ، مع ما في قوله « أحل الله البيع وحرم الربا » (٤) وغير ذلك قولان :

أحدهما ـ التصريح بالنهي عنه بعد الاخبار بتحريمه ، فلما في ذلك من تصريف الحظر له وشدة التحذير منه.

الثاني ـ لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الأضعاف المضاعفة. وقيل في معناه ههنا قولان : أحدهما للمضاعفة بالتأخير أجلا بعد أجل كما أخر أجلا إلى غيره زيد عليه زيادة على المال. الثاني أي تضاعفون به أموالكم.

والربا المنهي عنه قال عطا ومجاهد هو ربا الجاهلية ، وهو الزيادة على أصل المال للتأخير عن الاجل الحال ، ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة.

ووجه تحريم الربا هو المصلحة التي علم الله تعالى ، فان ذلك يدعو إلى العدل ويحض عليه ، ويدعو أيضا إلى مكارم الأخلاق بالاقراض وانظار المعسر من غير زيادة.

__________________

١) في الوسائل ١٢ / ٤٢٢ فما بعد أحاديث بهذا المعنى.

٢) سورة البقرة : ٢٧٦.

٣) سورة آل عمران : ١٣٠.

٤) سورة البقرة : ٢٧٥.

٤٨

ومعنى « لا تأكلوا الربا » لا تزيدوا على رأس المال ، وليس المراد النهي عن الاكل فقط ، وانما جاز ذلك لأنه معلوم المراد.

وقوله تعالى « أضعافا مضاعفة » حال للرباء ، والاضعاف جمع ضعف ، والربا مصدر ، كأنه قال : لا تزيدوا زيادة متكررة.

وقد بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن قليل الربا حرام ككثيرة.

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قوله « يمحق الله الربا ويربي الصدقات » وقيل قد أربى من يأكل الربا يربو ماله؟ قال أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدين ، وان تاب منه ذهب ماله وافتقر (١).

(باب)

(البيع بالنقد والنسيئة والشرط في العقود)

البيع نقدا ونسيئة جائز ، لان قول الله عزوجل « وأحل الله البيع » يتناوله على كل الوجوه ، فمن باع شيئا ولم يذكر فيه ثمنه نقدا ولا نسيئة كان الثمن حالا.

فان ذكر أن يكون الثمن آجلا فلا يخلو اما أن يكون مجهولا مثل قدوم الحاج وادراك الغلات فالبيع باطل على هذا ، وإن كان الاجل معينا كان البيع صحيحا ، والأجل على ما ذكر. والذي يدل على هذا الفصل والتفصيل قوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى » (٢).

وكذلك إذا باع بنسيئة ولم يذكر الاجل أصلا كان البيع أيضا باطلا ، لان الله اعتبر في هذه الآية الاجل وأن يكون ذلك الاجل مسمى معينا.

__________________

١) وسائل الشيعة ١٢ / ٤٢٤.

٢) سورة البقرة : ٢٨٢.

٤٩

والآية تدل على صحة اشتراء السلف ، وصحته بيع النسيئة بشرط تعيين أجلهما.

ولابد من حضور الثمن والمثمن ، ولا يجوز تأخير الثمن عن وقت وجوبه لزيادة فيه ، لأنه ربا على ما ذكرناه. [ ولا بأس بتعجيله بنقصان شئ منه ، لقوله تعالى « فلا جناح عليهما أن يصلحا » ] (١).

(فصل)

وقوله تعالى « وأحل الله البيع » عام في كل بيع شرعي.

ثم اعلم أن البيع هو انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر على وجه التراضي على ما يقتضيه الشرع.

وهو على ثلاثة أضرب : بيع عين مرئية ، وبيع موصوف في الذمة ، وبيع خيار الرؤية.

فأما بيع الأعيان المرئية : فهو أن يبيع انسان عبدا حاضرا أو ثوبا حاضرا أو عينا من الأعيان حاضرة فيشاهد البائع والمشتري ذلك ، فهذا بيع صحيح بلا خلاف.

وأما بيع الموصوف في الذمة : فهو أن يسلمه في شئ موصوف إلى أجل معلوم ويذكر الصفات المقصودة ، فهذا أيضا صحيح بلا خلاف.

واما بيع خيار الرؤية : فهو بيع الأعيان الغائبة ، وهو أن يبتاع شيئا لم يره مثل أن يقول « بعتك هذا الثواب الذي في كمي » أو « الثوب الذي في الصندوق » وما أشبه ذلك ، فيذكر جنس المبيع فيتميز من غير جنسه ويذكر الصفة. ولا فرق بين أن يكون البائع رآه والمشتري لم يره أو يكون المشتري رآه والبائع لم

__________________

١) الزيادة من م.

٥٠

يره أو لم يرياه معا. فإذا عقد البيع ثم رأى المبيع فوجده على ما وصفه كان البيع ماضيا ، وان وجده بخلافه كان له رده وفسخ العقد.

ولابد من ذكر الجنس والصفة : فمتى لم يذكر هما أو واحدا منهما لم يصح البيع. ومتى شرط المشتري خيار الرؤية لنفسه كان جائزا ، فإذا رآه بالصفة التي ذكرها لم يكن له الخيار ، وان وجده مخالفا كان له الخيار. هذا إذا لم يكن رآه ، وإن كان قد رآه ، فلا وجه لشرط الرؤية لأنه عالم به قبل الرؤية.

وقوله تعالى « الا أن تكون تجارة عن تراض منكم » يدل أيضا على أكثر ما ذكرناه.

(فصل)

وقوله تعالى « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى » يدل على صحة السلف في جميع المبيعات ، وانما يجوز ذلك إذا جمع شرطين : تمييز الجنس من غيره مع تحديده بالوصف ، والثاني ذكر الاجل فيه. فإذا اختل شئ منهما لم يصح السلف ، وهو بيع مخصوص.

وكل شئ لا يتحدد بالوصف ـ مثل روايا الماء والخبز واللحم ـ لم يصح السلف فيه ، لان ذلك لا يمكن تحديده بوصف لا يختلط به سواه. وقال بعض أصحابنا انه جائز ، والأول أظهر.

وكل شرط يوافق شريعة الاسلام اعتبره المشتري فإنه يلزم ، لقوله تعالى  « أوفوا بالعقود » ولقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « المؤمنون عند شروطهم ».

وعن فضيل : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما الشرط في الحيوان؟ قال : ثلاثة أيام شرط ذلك في ضمن العقد أو لم يشرط ، ويكون الخيار للمبتاع خاصة في هذه المدة ما لم يحدث فيه حدثا. قلت : فما الشرط في غير الحيوان؟ قال :

٥١

البيعان في الخيار ما لم يفترقا ، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما الا أن يشترطا إلى مدة معينة (١).

وقال عليه‌السلام : لا بأس بالسلم في المتاع [ إذا وصفت الطول والعرض (٢) إلى أجل معلوم ، وفي الحيوان ] (٣) إذا وصفت أسنانها (٤).

وقوله تعالى « وأشهدوا إذا تبايعتم » (٥) يختص بهذا النوع من المبايعة.

(باب)

(في أشياء تتعلق بالمبايعة ونحوها)

الاحتكار يكون في ستة أشياء : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والسمن ، والملح.

وهو حبسها من البيع ، ولا يجوز ذلك وبالناس حاجة ولا يوجد غيره في البلد. فإذا ضاق الطعام ولا يوجد الا عند من احتكره كان للسلطان أن يجبره على بيعه ، ولم يكرهه على سعر بعينه إذا باع هو على التقريب من سعر الوقت. فإن كان سعر الغلة مثلا عشرين منا بدينار فلا يمكن أن يبيع خمسة أمنان بدينار ، ويجبره على ما هو مقاربة للعشرين.

وقد بينها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله تعالى « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ».

وقال عليه‌السلام : علامة رضا الله في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم ،

__________________

١) الكافي ٥ / ١٧٠ بمضمونه.

٢) إلى هنا في رواية في الكافي ٥ / ١٩٩.

٣) الزيادة من م.

٤) الكافي ٥ / ٢٢٠.

٥) سورة البقرة : ٢٨٢.

٥٢

[ وعلامة غضب الله على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم ] (١).

وعلى هذا قوله تعالى حكاية عن اخوة يوسف عليه‌السلام له « يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل » (٢) وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما فشكوا إليه سرعة نفاد طعامهم.

فقال تكيلون أم تهيلون (٣)؟ فقالوا : نهيل يا رسول الله ـ يعنون الجزاف. فقال عليه السلام لهم : كيلوا ولا تهيلوا فإنه أعظم للبركة (٤).

وروي : أن من أهان بالمأكول أصابه المجاعة.

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا أصابتكم مجاعة فأعينوا بالزبيب (٥).

وقوله تعالى « ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير » (٦) معناه لو كنت عالما بما يكون من أحوال الدنيا لاشتريت في الرخص وبعت في الغلاء « وما مسني السوء » أي الفقر.

فان قيل : فهل اطلع نبيه على الغيب؟

قلنا : على الاطلاق لا ، لان الله تعالى يقول « وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء » (٧) والمعنى ولكن الله اجتبى رسوله بأعلامه كثيرا من الغائبات.

__________________

١) الكافي ٥ / ١٦٢ والزيادة منه ومن م.

٢) سورة يوسف : ٨٨.

٣) كل شئ أرسلته ارسالا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه قلت هلته أهيله هيلا انهال أي جرى وانصب .. وأهلت الدقيق لغة في هلت ـ صحاح اللغة ٥ / ١٨٥٥.

٤) الكافي ٥ / ١٦٧.

٥) المصدر السابق ٥ / ٣٠٨.

٦) سورة الأعراف : ١٨٨.

٧) سورة آل عمران : ١٧٩.

٥٣

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : إذا حدثتم بشئ فسلوني من كتاب الله. ثم قال في حديثه : ان الله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال. فقالوا : يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله! فقال : ان الله يقول في كتابه « لا خير في كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس » (١) وقال  « ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما » (٢) وقال « لا تسئلوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم » (٣). ثم قال : لا تمانعوا قرض الخمير والجبن ، فان منعه يورث الفقر.

وقال علي عليه‌السلام : من باع الطعام نزعت منه الرحمة (٤).

وقال أبو الحسن عليه‌السلام : من اشترى الحنطة زاد ماله ، ومن اشترى الدقيق ذهب نصف ماله ، ومن اشترى الخبز ذهب ماله. وذلك لمن يقدر ولا يفعل (٥).

(فصل)

وقوله تعالى « وأوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم » (٦) المعين أعطوا الواجب وافيا غير ناقص ، ويدخل الوفاء في الكيل والذرع والعدد. والمخسر : المعرض للخسران في رأس المال ، يقال أخسر يخسر : إذا جعله يخسر في ماله ، وهو نقيض أربحه. والقسطاس الميزان. نهاهم

__________________

١) سورة النساء : ١١٣.

٢) سورة النساء : ٤.

٣) سورة المائدة : ١٠٤. والحديث في تهذيب الأحكام ٧ / ٢٣١ ، وليس فيه الذيل المذكور هنا.

٤) وسائل الشيعة ١٢ / ٩٩.

٥) الكافي ٥ / ١٦٦ بهذا المعنى عن الصادق عليه‌السلام وليس بلفظه.

٦) سورة الشعراء : ١٨١ ـ ١٨٢.

٥٤

الله أن يكونوا من المخسرين.

وقال تعالى « ولا تنقصوا المكيال والميزان اني أراكم بخير » (١) نهاهم أن يبخسوا الناس فيما يكيلونه أو يزنونه ، وقال لهم « اني أراكم بخير » أي برخص السعر ، وحذرهم الغلاء في قول ابن عباس.

وقال تعالى « ويل للمطففين » (٢) هدد الله بهذا الخطاب كل من بخس غيره حقه ونقصه ماله من مكيل وموزون ، فالبائع والمشتري مخاطبان بهذا ، لان الكيل ووزن المتاع على البائع فتوفية ذلك عليه ، ووزن الثمن على المشتري.

فإن لم يحسنا ذلك لم يتعرضا له وليول كل واحد منهما ما عليه غيره وأجرته عليه ، والكيال ووزان الا متعة يعينان البائع فأجرتهما عليه ، والناقد ووزان الذهب والفضة يعينان المشتري فأجرتهما عليه.

والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن. ولفظة « المطففين » صفة ذم لا يطلق على من طفف شيئا يسيرا إلى أن يصير إلى حال يتفاحش. وفي الناس من قال لا يطلق حتى يطفف أقل ما يجب فيه القطع في السرقة ، لان ما يقطع فيه فهو كثير.

قال ابن عباس : كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلا إلى أن أنزل الله هذه الآية فأحسنوا الكيل.

ثم قال تعالى « الذين إذا اكتالوا على الناس » أي أخذوا ما عليهم « وإذا كالوهم أو وزنوهم » فان بعض المفسرين يجعلهم فعلا في موضع رفع بمعنى الفاعل والباقون يجعلونه في موضع نصب ، وهو الصحيح.

__________________

١) سورة هود : ٨٤.

٢) سورة المطففين : ١.

٥٥

(فصل)

وقوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم » (١) يدل على أنه إذا كان لرجل مال فيه عيب وأراد بيعه وجب عليه أن يبين للمشتري عيبه ولا يكتمه ، أو يتبرأ إليه من العيوب ، والأحوط الأول.

قال تعالى « وتخونوا أماناتكم » أي ولا تخونوا أماناتكم ، وعمومه يدل على أكثر مسائل البيع ، فإن لم يبين البائع العيب الذي في المبيع واشتراه انسان فوجد به العيب كان المشتري بالخيار ان شاء رضي به وان شاء رده بالعيب واسترجع الثمن وان شاء أخذ الأرش.

وان اختار فسخ البيع ورد المبيع فإن لم يكن حصل من جهة المبيع نماء رده واسترجع الثمن ، وان حصل نماء وفائدة فلا يخلو أن يكون كسبا من جهته أو نتاجا وثمرة ، فإن كان كسبا مثل أن كسب بعمله أو بتجارته أو يوهب له شئ أو يصطاد أو يحتطب فإنه يرد المعيب ولا يرد الكسب ، لقول النبي عليه‌السلام : الخراج بالضمان. والخراج اسم للفائدة والغلة التي تحصل من جهة المبيع ، ومعنى الخبر أن الخراج لمن يكون المال يتلف من ملكه ، ولما كان المبيع ان تلف يتلف من ملك المشتري ـ لأن الضمان انتقل إليه ـ كان الخراج له والنتاج والثمرة أيضا للمشتري ، وان حصل من المبيع نماء قبل القبض كان ذلك للبائع إذا أراد الرد بالعيب ، لان ضمانه على الظاهر من الخبر على البائع ههنا.

ولا يجوز لكافر أن يشتري عبدا مسلما ولا يثبت ملكه عليه ، لقوله تعالى « ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » (٢).

__________________

١) سورة الأنفال : ٢٧.

٢) سورة النساء : ١٤١.

٥٦

ولا يجوز بيع رباع مكة ولا اجارته ، لقوله تعالى « سواء العاكف فيه والبادي » (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اشتروا وإن كان غاليا ، فان الرزق ينزل مع الشراء (٢).

وقال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارة حتى ضمن له إقالة النادم وانظار المعسر وأخذ الحق واعطاء الحق (٣).

وقيل في قوله تعالى « أحل الله البيع وحرام الربا » يحتمل احلال الله البيع معنيين :

أحدهما ـ أن يكون احلال بيع يعقده البيعان عن تراض منهما وكانا جايزي الامر. وهذا لا يصح ، لان الله لما أحل البيع وحرم الربا وقد يتراضيان بما يؤدي إلى الربا ، ولا يصح ذلك.

والثاني ـ أن يكون أحل الله البيع المشروع ، فيكون من العام الذي أراد به الخاص ، فبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أحله الله وما حرمه ، أو يكون داخلا فيهما. فأصل البيع كله مباح الا ما نهى النبي عليه‌السلام ، وما فارق ذلك من البيوع التي لا ربا فيها أبحناه بما وصفنا من إباحة الله البيع.

ونظيره قولنا ان السلم مخصوص من خبر النهي عن بيع ما ليس عند الانسان ولا يكون داخلا في عمومه.

ومن هذا الجنس ما أمر الله به من قتال المشركين كافة ، وقوله تعالى « حتى

__________________

١) سورة الحج : ٢٥.

٢) تهذيب الأحكام ٧ / ٤.

٣) الكافي ٥ / ١٥١ مع اختلاف يسير.

٥٧

يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون » (١). فلم يدخل أهل الكتاب في عموم النهي أمرنا فيها بقتال المشركين ، فلما قال رسول الله « يا حكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك » واذن في السلف علمنا أن هذا لا يدخل في عموم الأول.

(باب الرهن وأحكامه)

قال الله تعالى « وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة » (٢) الرهن في اللغة الثبات والدوام ، وفي الشريعة اسم لما يجعل وثيقة في دين ، وهو جائز بالاجماع والسنة والكتاب.

قال الله تعالى « فرهان مقبوضة » تقديره والوثيقة رهن ويجوز فعليه رهن مقبوضة.

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على شعير أخذه لأهله (٣).

قيل : وانما عدل عن أصحابه إلى يهودي لئلا يلزمه منه بالابراء ، فإنه لم يأمن ان استقرض من بعضهم أن يبرئه منه ، وذلك يدل على أن الابراء يصح من غير قبول المبرأ.

وعقد الرهن يحتاج إلى ايجاب وقبول وقبض برضا الراهن.

وليس الرهن بواجب ، وانما هو وثيقة جعلت إلى رضا المتعاقدين ، ويجوز في السفر والحضر.

والدين الذي يجوز أخذ الرهن به هو كل دين ثابت في الذمة ، مثل الثمن

__________________

١) سورة التوبة : ٢٩.

٢) سورة البقرة : ٢٨٣.

٣) مستدرك الوسائل ٢ / ٤٩٤ بمضمونه.

٥٨

والأجرة والمهر والعوض في الخلع وأرش الجناية وقيمة المتلف ، كل ذلك يجوز أخذ الرهن به.

وفي الدية على العاقلة يجوز بعد الحول وقبل الحول لا يجوز ، فإن لم يقبض المرهون لم ينعقد الرهن ، لان الله جعل من شرط صحة الرهن أن تكون مقبوضة ، قال تعالى « فرهان مقبوضة ».

والرهن والرهان (١) كلاهما جمع ، وأحدهما رهن ، كجبل وجبال وسقف وسقف ، ولا يعرف في الأسماء فعل وفعل غير هذين. ولو قلنا الرهن جمع الجمع ـ لان فعالا وفعالا كثير ـ لكان أقيس.

ويجوز أخذ الرهن في الحضر مع وجود الكاتب ، لما قدمنا أن النبي صلى الله عليه وآله اشترى طعاما نسيئة ورهن فيه درعا.

ولما أمر تعالى بالاشهاد في السلم بقوله « وأشهدوا إذا تبايعتم » سنة واحتياطا ، أمر بالرهن احتياطا أيضا إذا لم يوجد كاتب ولا شهيد.

وانما أورد ذكر كون السفر فيه وشرط الكلام به : اما لان تلك الحال التي نزلت الآية فيها كانت على تلك الصفة ، واما لان فقدان البينة على الأغلب في حال السفر لا لأنه شرط في صحته.

(فصل)

ثم قال تعالى « فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أوتمن أمانته » (٢). فبين سبحانه بهذا أن الاشهاد والكتابة في المداينة والرهن ليس بواجب على ما ذكرناه ، وانما هو على جهة الاحتياط. معناه ان ائتمنه فلم يقبض منه رهنا فليؤد الذي

__________________

١) بضم الراء في الأول وكسره في الثاني.

٢) سورة البقرة : ٢٨٣.

٥٩

اؤتمن الأمانة ، يعني على الذي عليه الدين بأن يؤدي إليه حقه في محله ويؤدي الأمانة كما وثق به واعتقد فيه ، أي ليقض دينه الذي أمنه عليه. والائتمان افتعال من الامن ، يقال أمنه وائتمنه.

« وليتق الله ربه » أن يظلمه أو يخونه وهو وثق به وائتمنه ولم يرتهن منه شيئا.

وقرأ ابن عباس ومجاهد « ولم تجدوا كتابا » يعني ما تكتبون فيه من طرس وغيره.

وإذا ارتهن صاحب الدين وأشهد فقد أكد الاحتياط. ولا بأس أن يكون الرهن أكثر قيمة من المال الذي عليه أو أقل ثمنا منه أو مساويا له ، لان عموم اللفظ يتناوله على الأحوال.

وانما قلنا إن الأحوط هو الاشهاد مع التمكن وان استوثق من ماله رهنا ، لأنه ان اختلفا في مقدار المبلغ الذي الرهن لأجله كان على المرتهن البينة ، فإن لم يكن له بينة فعلى صاحب الرهن اليمين. وكذا إذا اختلفا في متاع فقال الذي عنده أنه رهن وقال صاحب المتاع أنه وديعة كان على المدعي لكونه رهنا البينة بأنه رهن ، وقد روي أن القول قول المرتهن مع يمينه لأنه أمينه ، والبينة على الراهن ما لم يستغرق الرهن ثمنه.

ومن أدل الدليل على أن الاشهاد والارتهان يصح اجتماعهما قوله تعالى بعد هذا « ولا تكتموا الشهادة » يعني بعد تحملها « ومن يكتمها فإنه آثم قلبه » انما أضاف إلى القلب مجازا لأنه على الكتمان ، والا فالاثم هو الحي ، وقالت عائشة : الصامت عن الحق كالناطق بالباطل ، وكاتم الشهادة كشاهد الزور.

« والله بما تعملون عليم » يعني بما تسترونه وبما تكتمونه.

وانما ذكر تعالى بعد ذلك « وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » لان المعنى فيه كتمان الشهادة. ويحتمل أن يريد جميع الأحكام التي تقدمت ، خوفهم الله من العمل بخلافه.

٦٠