فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

غفور رحيم * وان عزموا الطلاق فان الله سميع عليم » (١).

اعلم أن الايلاء لا يقع الا بعد الدخول بها ، ومتى آلى بغير اسم الله أو حلف بالطلاق أو ما أشبهه أن لا يطأها فليطأها وليس عليه كفارة.

ولا خلاف بين أهل التأويل أن معنى « يؤلون » يحلفون ، والايلاء في الآية الحلف على اعتزال النساء وترك جماعهن على وجه الاضرار بهن ، وكأنه قيل الذين يؤلون أن يعتزلوا النساء تربص أربعة أشهر.

فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته كانت المرأة بالخيار ان شاءت صبرت عليه أبدا وان شاءت خاصمته إلى الحاكم ، فان استعدت عليه (٢) أنظره الحاكم بعد رفعها إليه أربعة أشهر ليرتأي في أمرها ، فان كفر وراجع والا خيره الحاكم بعد ذلك بين أن يكفر ويعود أو يطلق ، فان أقام على الاضرار بها حبسه الحاكم وضيق عليه في المطعم والمشرب حتى يفئ الي أمر الله فيكفر ويرجع أو يطلق.

واليمين التي يكون بها الرجل موليا هي اليمين بالله أو بشئ من صفاته التي لا يشركه فيها غيره على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه ، وهو المروي عن علي عليه‌السلام. وقال جماعة : هو في الجماع وغيره من الاضرار ، نحو الحلف أن لا يكلهما.

وقوله « حتى يفئ إلى أمر الله » أي حتى يرجع من الخطأ إلى الصواب.

فان قيل : ما الذي يكون به المولي فائيا؟.

قيل : عندنا يكون فائيا بأن يجامع ، وبه قال ابن عباس. وقال الحسن : يكون فائيا بالعزم في حال القدرة الا أنه ينبغي أن يشهد عليه فيه. وهذا عندنا يكون للمضطر الذي لا يقدر على الجمع.

ويجب عندنا على الفائي كفارة ، وبه قال ابن عباس وجماعة. ولا عقوبة

__________________

١) سورة البقرة : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٢) أي شكته إلى الحاكم.

٢٠١

عليه ، وهو المروي عنهما عليهما‌السلام (١). وقال الحسن : لا كفارة عليه لقوله تعالى « فان فاؤا فان الله غفور رحيم » فإنه ليس فيه أن يتبعه بكفارة.

ومتى حلف أنه لا يجامع أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا ، لان الايلاء على أربعة أشهر أو أكثر. ولا يجوز له وطؤها في تلك المدة وان لم يجب عليه أحكام الايلاء الاخر.

ومتى حلف أنه لا يقربها وهي مرضعة خوفا من أن تحبل فيضر ذلك بولدها لا يلزمه حكم الايلاء على ما ذكرناه آنفا.

ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير ، ويكون تقديره : للذين يؤلون تربص أربعة أشهر من نسائهم. ويجوز أن يكون معناه للذين يؤلون من أجل نسائهم.

والفقهاء جعلوا « من » متعلقة بالايلاء حتى إذا استعملوها معه قالوا « آلى من امرأته » إذا حلف الحلف الموصوف. وقال أبو مسلم : هي متعلقة باللام في  « للذين يؤلون » كما يقولون لك مني النصرة والمعونة. والصحيح أن الايلاء يستغنى عن من ، والمعروف آلى عن امرأته. والأحسن من هذا كله أن يكون  « من » ههنا للتبعيض ، أي من آلى من جملة نسائه على واحدة أو على بعضهن أو على جميعهن. وقال النحويون : اللام يفيد الاستحقاق ، كما يقول اللعن للكفار.

وقوله « من نسائهم » يتعلق بالظرف كما يقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر ، وليس من يتعلق يؤلون ، لان اللغة يحكم أن يقال آلى على امرأته. وقول القائل آلى فلان من امرأته ، وهم انما توهمه من هذه الآية لما سمع الله تعالى يقول « للذين يؤلون من نسائهم » ظن أن من

__________________

١) انظر وسائل الشيعة ١٥ / ٥٣٥.

٢٠٢

يتعلق بيؤلون ، فكرروا في كتاب الايلاء « إلى من امرأته » والصواب ما ذكرته.

(فصل)

(في اللعان)

قال الله تعالى « والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين » (١).

إذا قذف الرجل امرأته بالفجور وادعى أنه رأى معها رجلا يفجر لها مشاهدة ولم يقم به أربعة من الشهود كان عليه ملاعنتها ، وكذلك إذا انتفى من ولد زوجة له في حباله أو بعد فراقها مدة الحمل. ومعنى الآية ان من رمى زوجته بالزنا تلاعنا إذا لم تكن صماء أو خرساء إذا لم يكن له شهود أربعة.

والملاعنة أن يبدأ الرجل فيحلف بالله انه صادق فيما رماها به. ويحتاج أن يقول « أشهد بالله اني لصادق » ، لان شهادته أربع مرات تقوم مقام أربعة شهود في دفع الحد عنه ، ثم يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به. وإذا جحدت المرأة ذلك شهدت أربع شهادات انه لمن الكاذبين فيما رماها به ، وتشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

ثم يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ، كما فرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين هلال بن أمية وزوجته وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ، ولا ترمى هي ولا يرمى ولدها.

وعند أصحابنا انه لا لعان بينهما ما لم يدخل بها. واللعان عندنا يحصل بتمام اللعان من غير حكم الحاكم. وتمام اللعان انما يكون إذا تلاعن الرجل والمرأة جميعا على ما ذكرنا.

__________________

١) سورة النور : ٦.

٢٠٣

(فصل)

(في الارتداد)

قال الله تعالى « من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر » (١) وقال سبحانه  « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » (٢).

استدل بعض المفسرين بمجموع الآيتين على أن المرتد عن الاسلام تبين عنه امرأته لعموم الآيتين.

وعندنا أن المرتد على ضربين :

فإن كان مسلما ولد على فطرة الاسلام فقد بانت منه امرأته في الحال وقسم ماله بين ورثته ووجب عليه القتل من غير أن يستتاب وتعتد زوجته عدة المتوفى عنها زوجها.

وإن كان المرتد ممن كان أسلم عن كفر ثم ارتد استتيب ، فان عاد كان عقد زوجته ثابتا ، وان لم يرجع كان عليه القتل ، وان هرب إلى دار الحرب تعتد زوجته ثلاثة أشهر.

والأولى أن نقول : ان هذا الحكم يعلم بالسنة ، قال الله تعالى « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » وقال تعالى « آتاكم الرسول فخذوه » فتدل الآيتان عليه جملة أو من فحوى كل واحدة من الآيتين.

(باب الزيادات)

انما خص الله المؤمنات في قوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم

__________________

١) سورة البقرة : ٢١٧.

٢) سورة البقرة : ٢٢١.

٢٠٤

المؤمنات » (١) لئلا ينكح المؤمنون الاكل مؤمنة عفيفة ، كما قال عليه‌السلام : تخيروا لنطفكم. فيجب أن يتنزه عن مزاوجة الفواسق والفواجر والكوافر.

وفائدة ثم في قوله « ثم طلقتموهن » نفي التوهم عمن عسى تفاوت الحكم بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح وبين أن يبعد عهدها من النكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزوج ثم يطلقها.

وقرئ « تعتدونها » مخففا ، أي تعتدون فيها ، والمراد بالاعتداء ما في قوله « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » (٢).

والعامل في الظرف من قوله « إذا نكحتم » ما يتعلق به لكم ، والتقدير إذا نكحتم المؤمنات « ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن » لم يثبت لكم عليهن عدة.

والسراح الجميل هو دفع المتعة بحسب الميسرة والعشرة بغير جفوة ولا أذية.

وعن حبيب بن أبي ثابت قال : كنت قاعدا عند علي بن الحسين عليهما السلام فجاء رجل فقال : اني قلت : يوم أتزوج فلانة فهي طالق. فقال : اذهب وتزوجها فان الله تعالى بدأ بالنكاح قبل الطلاق ، وقرأ هذه الآية (٣).

مسألة :

ان قيل : قد أمر الله بطلاق العدة في قوله تعالى « فطلقوهن لعدتهن » (٤) ، فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلق العدة؟

قلنا : ان طلاق السنة أيضا طلاق العدة الذي ذكره الله ، الا أن أصحابنا قد اصطلحوا على أن يسموا الطلاق الذي لا يزاد عليه [ بعد المراجعة طلاق

__________________

١) سورة الأحزاب : ٤٩.

٢) سورة البقرة : ٢٣١.

٣) وسائل الشيعة ١٥ / ٢٨٩ مع اختلاف يسير.

٤) سورة الطلاق : ١.

٢٠٥

السنة والطلاق الذي يزاد عليه ] (١) شرط المراجعة طلاق العدة. ومما يعضده ما روى بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : الطلاق أن يطلق الرجل المرأة على طهر من غير جماع ويشهد رجلين عدلين على تطليقه ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء ، فهذا الطلاق الذي أمر الله به في القرآن وأمر به رسول الله في سنته ، وكل الطلاق لغير العدة فليس بطلاق (٢).

وعن حريز : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن طلاق السنة فقال : على طهر من غير جماع بشاهدي عدل ، ولا يجوز الطلاق الا بشاهدين والعدة ، وهو قوله  « فطلقوهن لعدتهن » الآية (٣).

مسألة :

عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن رجل قال لامرأته : أنت علي حرام. قال : لو كان لي عليه سلطان لأوجعت رأسه وقلت : الله أحلها لك فمن حرمها عليك ، انه لم يزد على أن كذب فزعم أن ما أحل الله له حرام ولا يدخل عليه طلاق ولا كفارة. فقلت : يقول الله « يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم » (٤) فجعل عليه فيه الكفارة. فقال : انما حرم عليه جاريته مارية فحلف أن لا يقربها ، وانما جعل عليه الكفارة في الحلف ولم يجعل عليه في التحريم (٥).

وهذا إشارة إلى الايلاء.

__________________

١) الزيادة من ج.

٢) وسائل الشيعة ١٥ / ٢٨٠.

٣) المصدر السابق ١٥ / ١٨١.

٤) سورة التحريم : ١.

٥) وسائل الشيعة ١٥ / ٢٩٢.

٢٠٦

مسألة :

فان قيل : ان أخلعت الزوجة في مرضها بأكثر من مهر مثلها هل يصح ذلك أم لا؟ وان صح فهل يكون ذلك من صلب مالها أم لا؟ قلنا : الخلع على هذا صحيح ، لان المرض لا يبطل المخالعة بمهر المثل أو أكثر منه ، ويكون ذلك من صلب مالها لقوله تعالى « ولا جناح عليهما فيما افتدت به » ، ولم يفرق بين حال المرض وغيره ، فوجب حمله على عمومه الا أن يدل دليل.

مسألة :

فان قيل : كيف عدى قوله « للذين يؤلون » بمن وهو معدى بعلى؟ قلنا : قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد ، فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين ، ويجوز أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر ، كقولك « لي منك كذا ».

والايلاء من المرأة أن يقول « والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا » أو « لا أقربك على الاطلاق ». ولا يكون فيما دون أربعة أشهر.

فان قيل : كيف موضع الفاء في قوله تعالى « فان فاؤا ».

قيل : موقع صحيح ، لان قوله « فان فاؤا » « وان عزموا » تفصيل لقوله  « للذين يؤلون » ، والتفصيل يعقب المفصل ، كما تقول : انا نزيلكم هذا الشهر فان أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره والا لم أقم الا ريثما أتحول.

مسألة :

وقوله تعالى « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » أراد المدخول

٢٠٧

بهن التي تحيض. واللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك.

وفي ذكر الأنفس ههنا تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنا على الطموح ويجبرنها على التربص.

وفى قوله تعالى « تربص أربعة أشهر » لأنهن يستنكفن هناك فلم يحتج إلى ذكر أنفسهن.

مسألة :

فان قيل : هل يصح الايلاء من الذمي؟

قلنا : يصح منه ذلك ، لقوله تعالى « للذين يؤلون من نسائهم » وهذا عام في الذمي والمسلم.

٢٠٨

كتاب العتق وأنواعه

قال الله تعالى « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه » (١).

هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعتقه (٢).

وانعام الله عليه الذي ذكره الله في الآية هو الاسلام وقد وفقه له ، وانعام النبي عليه‌السلام عتقه.

خاطب الله محمدا فقال : أذكر حين تقول للذي أنعم الله عليه بالهداية إلى الايمان وأنعمت عليه بالعتق « أمسك عليك زوجك » أي احبسها ولا تطلقها ، لان زيدا جاء إلى النبي عليه‌السلام مخاصما زوجته زينب بنت جحش على أن يطلقها ، فوعظه النبي وقال له : لا تطلقها واتق الله في مفارقتها.

« وتخفي في نفسك ما الله مبديه » فالذي أخفى في نفسه أنه ان طلقها زيد.

تزوجها وخشي من اظهار هذا للناس ، وكان الله أمره بتزوجها إذا طلقها زيد.

« فلما قضى زيد منها وطرا » أي لما طلق زيد امرأته أذن الله لنبيه في

__________________

١) سورة الأحزاب : ٣٧.

٢) أنظر أسباب النزول للواحدي ص ٢٣٧.

٢٠٩

تزويجها وأراد بذلك نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم زوجة الدعي ، وهو قوله تعالى « لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ».

فهذه الآية تدل على أن في العتق فضلا كثيرا وثوابا جزيلا ، ألا ترى أنه تعالى كنى عنه بقوله « أنعمت عليه ».

ويستحب عتق المؤمن المستبصر ، فان الانعام عليه أحسن.

ولا عتق الا ما أريد به وجه الله.

والعتق لا يصح ولا يقع بغير نية.

وكل آية تنطق بتحرير الرقبة في الكفارات فإنها تدل على جواز العتق بل على فضله وانه من أكرم الاحسان وأفضل الانعام. ولا خلاف في جوازه والفضل فيه بين الأمة.

والعنق على ضربين واجب وندب ، ويدخل كلا وجهيه تحت قوله تعالى  « ان الله يأمر بالعدل والاحسان » (١) ، فالامر بالعدل على وجه الايجاب وبالاحسان على وجه الندب.

فان قال « كل عبد أملكه فهو حر » لا يقع به عتق وان ملك في المستقبل الا أن يجعل ذلك نذرا على نفسه.

وإذا قال « كل عبد لي قديم فهو حر » فمن كان أتى له ستة أشهر من مماليكه صار حرا ، قضى به أمير المؤمنين عليه‌السلام وتلا قوله تعالى « والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم » (٢) ، وقد ثبت أن العرجون انما ينتهي إلى الشبه بالهلال في تقويه وضؤلته بعد ستة أشهر من أخذ الثمرة منه.

__________________

١) سورة النحل : ٩٠.

٢) سورة يس : ٣٩.

٢١٠

(باب)

(من إذا ملك العتق في الحال)

قال الله تعالى « حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم » (١) الآية.

يستدل بذلك ـ بعد الاجماع والسنة ـ على أنه متى ملك الانسان أحد والديه أو ولده ذكرا كان أو أنثى أو أخته أو عمته أو خالته أو واحدة من المحرمات عليه في النكاح من ذوي أرحامه انعتقوا في الحال ولم يثبت لهم معه استرقاق على حال.

وكل من ذكرناه من المحرمات من جهة النسب فان استرقاقهم لا يثبت ، فإنهم إذا كانوا من جهة الرضاع لا يثبت استرقاقهم أيضا ، لان التحريم عام لقوله عليه‌السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (٢) ، على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع.

وقوله « وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة » يدل فحوى هذه الآية على تحريم البنات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت من الرضاع على ما تقدم في كتاب النكاح.

وقوله تعالى « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا » إلى قوله « وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ان كل من في السماوات والأرض الا آتي الرحمن عبدا » (٣). فيه دلالة على أن النبوة والعبودية لا تجتمعان ، وانه إذا ملك الانسان ابنه عتق عليه.

__________________

١) سورة النساء : ٢٣.

٢) أنظر وسائل الشيعة ١٤ / ٢٩٣.

٣) سورة مريم ٨٨ ـ ٩٣.

٢١١

ويستحب للانسان إذا ملك من سواهم من ذوي أرحامه أن يعتقه ، فان ملك أخاه أو ابن أخيه وابن أخته أو عمه أو خاله وغيرهم من الرجال فلا بأس ، والأولى عتقه.

(باب)

(من يصح ملكه ومن لا يصح)

قال الله تعالى « ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » (١) يدل بعمومه على أن الكافر إذا اشترى عبدا مسلما فالبيع باطل ، وكذلك ان أسلم مملوك لذمي لا يقر عنده بل يباع من مسلم ويعطى ثمنه الذمي.

ولا بأس أن يشتري الانسان ما يسبيه الظالمون إذا كانوا مستحقين للسبي.

ولا بأس أن يشتري من أهل الحرب أولادهم. ويجوز وطئ من هذه صفتها ، وإن كان فيه الخمس لمستحقيه لم يصل إليهم لأنهم جعلوا شيعتهم من ذلك في حل وسعة.

وكل من قامت البينة على عبوديته ـ سواء كان بالغا أو لم يكن ـ جاز تملكه ، وكذا من أقر على نفسه بالعبودية وكان بالغا. والدليل على جميع ذلك كل آية تدل على صحة الاقرار والبينة.

والله تعالى بين وجه حكمته في إباحة الاسترقاق بقوله « أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض » (٢) ، بأن جعلنا بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء ، وبعضهم موالي وبعضهم عبيدا واماءا ، وبعضهم مرضى وبعضهم أصحاء بحسب ما علمنا من مصالحهم.

__________________

١) سورة النساء : ١٤١.

٢) سورة الإسراء : ٢١.

٢١٢

« وللآخرة أكبر درجات » فذلك أولى أن يرغب فيه ، فقد يكون كثير من المماليك خيرا من ساداتهم وان كانوا جميعا مسلمين ، وكذا الفقير والغني جميعه نوع من التكليف.

(باب)

(بيع أمهات الأولاد)

أم الولد هي التي تلد من مولدها ، سواء كان ما وضعته تاما أو غير تام وان أسقطت نطفة. ويجوز بيعها بعد وفاة أولادها ، والدليل عليه قول الله تعالى « وأحل الله البيع وحرم الربا » (١) ، وهذا عام في أمهات الأولاد وغيرهن.

فان قيل : قد أجمعنا على أن قوله « وأحل الله البيع » مشروط بالملك ، فان بيع مالا يملكه لا يجوز.

قلنا : الملك باق في أم الولد بلا خلاف ، لان وطؤها مباح له ، ولا وجه لاباحته الا بملك اليمين.

ويدل عليه أيضا أنه لا خلاف في جواز عتقها بعد الولد ولو لم يكن الملك لما جاز العتق ، وكذلك أجمعوا على أن قاتلها لا يجب عليه الدية وانما يجب عليه قيمتها إذا كانت دون دية الحرة أو مثلها ، وكذلك يجوز مكاتبتها وأن يأخذ سيدها ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها. وهذا كله يدل على بقاء الملك.

وحمل ذلك على الرهن وان ملك الشئ المرهون هو باق للراهن وان لم يجز بيعه ، فذلك قياس ونحن لا نقول به.

على أنهم إذا سلموا بقاء الملك في أمهات الأولاد فبقاؤه يقتضي استمرار أحكامه ، وإذا ادعوا فيه النقصان طولبوا بالدلالة ولم يجدوها. على أنه لو سلمنا

__________________

١) سورة البقرة : ٢٧٥.

٢١٣

نقصان الملك تبرعا لجاز أن نحمله على أنه لا يجوز بيعها مع ولدها. وهذا ضرب من النقصان.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى « والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم » (١) ، وقد علمنا أن للمولى أن يطأ أم ولده ، وانما يطأها بملك اليمين لأنه لا عقد ههنا ، وإذا جاز أن يطأها بالملك جاز أن يبيعها بعد وفاة ولدها كما جاز ذلك في سائر جواريه.

(باب الولاء)

قال الله تعالى « فإخوانكم في الدين ومواليكم » (٢) والمراد بمواليكم مماليككم الذين أنتم بهم أولى. وهذا المعنى فيهم على العموم ، فيكون الولاء لمعتق الذي أنعم عليه بأن أعتقه تبرعا لا في واجب كما قال تعالى في حق زيد.

ولهذا نقول : الولاء انما يثبت في العتق الذي ليس بواجب بل يكون على سبيل التبرع ، وأما إن كان العتق في أمر واجب ككفارة ظهار أو كفارة قتل أو افطار في شهر رمضان أو نذر أو يمين أو ما أشبه ذلك من جهات الواجب ، فان الولاء يرتفع منه والمعتق سائبة لا ولاء للمعتق عليه ، فلا يدخل تحت الآية ، لان العتق على سبيل التبرع هو الانعام والاحسان عليه واليه ، والى ذلك أشار سبحانه بقوله « وأنعمت عليه » (٣).

ولولا النصوص من أئمة الهدى عليهم‌السلام في هذا المعنى لما كان لاحد أن يتكلم في مثله من القرآن (٤).

__________________

١) سورة المؤمنون : ٥ ـ ٦.

٢) سورة الأحزاب : ٥.

٣) سورة الأحزاب : ٣٧.

٤) أنظر وسائل الشيعة ١٦ / ٣٨ ـ ٣٩.

٢١٤

وولاء المعتق في واجب لمن تضمن جريرته خاصة ، وميراثه له إذا لم يكن له ذو رحم مسلم حر ، سواء كان المتضمن لحدثه معتقه أو سواه ، فقوله « والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم » (١) منسوخ فيمن لا قرابة له دون من ليس له أحد منهم.

وان لم يتضمن جريرته أحد فولاؤه للامام وحدثه الخطأ المحض بالشهادة عليه.

وليس للولاء قسم آخر سوى هذه الثلاثة ، فان توفي هذا المعتق وله زوجة فلها الربع والباقي لسيده الذي أعتقه تطوعا أو يرد إلى ضامن جريرته أو إلى الامام إذا أعتق في واجب ولم يضمن جريرته أحد.

(باب)

(ان المملوك لا يملك شيئا)

قال الله تعالى « ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ » (٢) في هذه الآية دلالة على أن المملوك لا يملك شيئا من الأموال ما دام رقا ، لان قوله « مملوكا لا يقدر على شئ » ليس المراد به نفي القدرة لأنه قادر ، وانما المراد أنه لا يملك التصرف في الأموال ، وذلك عام في جميع ما يملك ويتصرف فيه.

فان ملكه مولاه شيئا ملك التصرف فيه بجميع ما أباح له سيده وأراده ، فان أصيب العبد في نفسه بما يستحق به الأرش كان له ذلك وحل له التصرف فيه وليس له رقبة المال على وجه.

(باب المكاتبة)

قال الله تعالى « والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان

__________________

١) سورة النساء : ٣٣.

٢) سورة النحل : ٧٥.

٢١٥

علمتم فيهم خيراً » (١) ومعناه ان للانسان إذا كان له أمة أو عبد يطلب المكاتبة ، وهي أن يقوم على نفسه وينجم عليه [ ليؤدي قيمة نفسه إليه ، فإنه يستحب لسيده أن يجيبه إلى ذلك ويساعده عليه ] (٢) ، لدلالة قوله « فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا » وهذا أمر ترغيب عند الفقهاء ، وأما عند الطبري وعمر بن دينار وعطاء هو واجب عليه إذا طلب.

والمكاتبة على ضربين : مشروط ومطلق.

فصورة الكتابة المطلقة أن يقول الانسان لعبده أو أمته : قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا دينارا أو درهما في نجوم معلومة (٣) على انك إذا أديت ذلك فأنت حر ، فيرضى العبد ويكاتبه عليه ، ويشهد بذلك على نفسه. فمتى أدى مال الكتابة في النجوم التي سماها صار حرا ، فان عجز عن أداء ذلك ينعتق بحساب ما أدى ويبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه.

وان كانت الكتابة مشروطة ، وهي أن يقول لبعده في حال المكاتبة : متى عجزت عن أداء قيمتك فأنت رد في الرق ولى جميع ما أخذت منك. فمتى عجز عن ذلك ـ وحد العجز هو أن يؤخر نجما إلى نجم أو يعلم من حاله أنه لا يقدر على أداء ثمنه ـ فإنه يرجع رقا وجاز لمولاه رده إلى الرق.

وقوله تعالى « ان علمتم فيهم خيرا » الخير الذي يعلم منه هو القوة على التكسب بحيث يحصل به مال الكتابة. وقال الحسن : معناه ان علمتم منهم صدقا. وقال ابن عباس وعطا : ان علمتم لهم مالا. وقال ابن عمر : ان علمتم فيهم قدرة على التكسب ، قال لأنه إذا لم يقدر على ذلك أطعمني أوساخ أيدي الناس.

__________________

١) سورة النور : ٣٣.

٢) الزيادة من ج.

٣) النجوم المعلومة هي الدفعات التي يتوافقان على اعطاء المال فيها ، فان النجم الوقت المضروب ، ويقال نجمت المال إذا أديته نجوما.

٢١٦

(فصل)

ولا يجوز للسيد أن يكاتب عبده حتى يكون عاقلا ، فإن كان مجنونا لم يجز مكاتبته ، لقوله تعالى « فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا » ، والخير الكسب والأمانة ، لأنه تعالى قال « والذين يبتغون الكتاب » والمجنون لا ابتغاء له.

والمكاتبة مشتقة من الكتب ، وهو الضم والجمع ، لأنه ضم أجل إلى أجل في عقد المعاوضة على ذلك.

ودليل جوازها قوله تعالى « والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم » فأمر بالكتابة.

فإذا ثبت هذا فمتى دعا العبد سيده إلى مكاتبته ـ والحال ما ذكرناه في الآية ـ فالمستحب له أن يجيبه إلى ذلك وليس بواجب ، سواء دعاه إلى ذلك بقيمة مثله أو أقل أو أكثر.

واختلفوا في الامر بالكتابة مع طلب المملوك لذلك وعلم مولاه أنه فيه خيرا : فقال عطا هو فرض ، وقال مالك والثوري وابن زيد هو على الندب ، وهو مذهبنا.

وقوله تعالى « وآتوهم من مال الله الذي آتاكم » (١) أمر من الله أن يعطي السيد مكاتبه من ماله الذي أنعم الله عليه ، بأن يحط عنه شيئا منه. وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : يحط عنه ربع مال الكتابة (٢).

__________________

١) سورة النور : ٣٣.

٢) الدر المنثور ٥ / ٤٦ ، وفي حديث آخر فيه عن ابن عباس عنه عليه‌السلام قوله : أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه.

٢١٧

وقال سفيان : أحب أن يعطيه الربع أو أقل وليس بواجب. وقال ابن عباس : أمره بأن يضع عنه من مال الكتابة شيئا. وقال الحسن : حثه الله على معونته.

وقال قوم : المعنى آتوهم سهمهم يا أرباب الأموال من الصدقة التي ذكرها في قوله « وفي الرقاب » ويكون السيد داخلا تحت عموم الخطاب أيضا ، وهو مذهبنا.

(فصل)

والمسلم إذا كان له عبد كافر فكاتبه لا تصح الكتابة ، لقوله تعالى « ان علمتم فيهم خيرا » وهذا لا خير فيه ، ولقوله « وآتوهم من مال الله الذي آتاكم » وهذا ليس من أهلها لان ذلك من الصدقة وليس الكافر من أهلها.

وروي أنه لكان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح ، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت الآية (١).

ولا تنعقد عندنا الا بأجل ، ومتى كانت بغير أجل معلوم كانت باطلة [ وكذلك لابد أن يكون العوض معلوما ، فإن لم يعين كانت باطلة ] (٢).

وأقل ما يجزي فيه أجل واحد عندنا ، وعند بعضهم أجلان.

فان قيل : يجب أن تكون الكتابة جائزة بمال معجل ومؤجل كما يجوز البيع بمال معجل ومؤجل ، إذ لم يذكر الله في واحد منهما أجلا.

قلنا : لفظ الكتابة يدل على التأجيل في ذلك ، إذ لو كانت معجلة لم تكتب ، ففارقت البيع. على أن الكتابة في الابة مجملة لا لها من بيان وقد بينها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما ذكرنا ، لقوله « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ».

__________________

١) أسباب النزول للواحدي ص ٢١٩.

٢) الزيادة من م.

٢١٨

(باب التدبير)

والقرآن يدل عليه على سبيل العموم من آية العتق ، لأنه جنس من أجناس العتق. مع أنه نوع من الوصية.

والتدبير (١) هو أن يقول الرجل لمملوكه ـ عبده أو أمته ـ : أنت رق في حياتي وحر بعد وفاتي. فإذا نوى وقال ذلك ثبت له التدبير. وهو بمنزلة الوصية يجوز للمدبر نقضه ما دام فيه الروح ، فمتى لم ينقضه ومات كان المدبر من الثلث.

والتدبير ليس بعتق مشروط ، لان العتق بالشرط لا يصح على ما قدمنا ، وانما هو وصية بالعتق منصوص عليه : مطلق ان يعلقه بموت مطلق فيقول « إذا مت فأنت حر » ، والمقيد أن يقيد الموت بشئ يخرج به عن اطلاق فيقول : « ان مت من مرضي هذا أو في سفري هذا فأنت حر ».

وأي تدبير كان فإذا مات السيد نظرت فإذا احتمله الثلث عتق كله ، فإن لم يكن له سواه عتق ثلثه إذا لم يكن عليه دين ودبره فرارا من الدين ، فان دبره وعليه دين فرارا منه لم يصح تدبيره. فان دبره ثم استدان بعد ذلك صح التدبير على ما ذكرنا.

وصريح التدبير أن يقول : إذا مت فأنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق. غير أنه لابد فيه من النية لوجه الله تعالى. وسمي مدبرا عن العتق عن دبر حياة سيده يقال دبر عبده تدبيرا ، إذا علق عتقه لوتاته.

__________________

١) التدبير تحير العبد دبر وفاة المولى ، أي بعد وفاته ، فالمولى مدبر (بتشديد الدال وكسره) والعبد مدبر (بتشديد الدال وفتحه).

٢١٩

(باب الزيادات)

أما قول الله تعالى « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه » فمعناه أنعم تعالى عليه بالاسلام الذي هو أعظم النعم وبتوفيقك لعتقه ومحبته « وأنعمت عليه » (١) بما وفقك الله فيه ، فهو منقلب في نعمة الله ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة.

وفي هذا إشارة إلى أن المستحب أن لا يعتق الانسان الا من أغنى نفسه ويقدر على اكتساب ما يحتاج إليه.

ومن أعتق صبيا فالأفضل أن يجعل له شيئا يعينه به على معيشته وينعم به عليه ، لان النعمة إذا أتمت فهي نعمة.

ومن نذر أن يعتق رقبة مؤمنة غير معينة جاز له أن يعتق صبيا لم يبلغ الحلم مولودا بين مؤمنين أو بحكمه.

مسألة :

وقوله تعالى « والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم » الذين مبتدأ فيكون محله رفعا أو يكون منصوبا بفعل مضمر يفسره « فكاتبوهم » (٢) ، كقولك زيدا فاضربه. ودخلت الفاء في ذلك لتضمنه معنى الشرط.

والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، وهو أن يقول الانسان لمملوكه : كاتبتك على ألف درهم. فإذا أداها عتق على ما ذكرناه. ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ووفيته في أجله وكتبت على نفسك أن تفي لي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق.

__________________

١) سورة الأحزاب : ٣٧.

٢) سورة النور : ٣٣.

٢٢٠