فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

كان الطلاق بيد العبد. وكذلك ان عقد على حرة.

وهذا كله مما بينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله تعالى « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ».

(باب)

(بيان شرائط الطلاق)

فأول ما نقول في ذلك أن تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة ـ أي جزء كان ـ لا يقع به طلاق. ودليلنا بعد الاجماع قوله تعالى « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء » (١) ، فجعل الطلاق واقعا بما يتناوله اسم النساء ، واليد والرجل لا يتناولهما هذا الاسم بغير شبهة.

ولا يطعن على ما ذكرنا بقوله « تبت يدا أبي لهب » (٢) وبقوله « فبما كسبت أيديكم » (٣) ، وان عبر بها عن جميع البدن ، لان ذلك مجاز وكلامنا على الحقائق لقول الله مخاطبا لنبيه عليه‌السلام والمراد به أمته ، ومعناه إذا أردتم طلاق النساء كما قال « إذا قمتم إلى الصلاة » (٤) ، والنبي عليه‌السلام داخل تحت هذا الخطاب ، وهذه مسألة فيها خلاف.

وقال قوم : تقديره يا أيها النبي قل لامتك إذا طلقتم النساء. فعلى هذا يجوز أن يكون النبي عليه‌السلام خارجا من الحكم ، ويجوز أن يكون حكمه حكمهم ، كخطاب الرئيس الذي يدخل فيه الاتباع. وأجمعت الأمة أن حكم النبي حكم

__________________

١) سورة الطلاق : ١.

٢) سورة المسد : ١.

٣) سورة الشورى : ٣.

٤) سورة المائدة : ٦.

١٦١

أمته في الطلاق.

والطلاق في الشرع قد ذكرنا أنه عبادة عن تخلية المرأة على عقدة من عقد النكاح ، بأن يقول أنت طالق يخاطبها ، أو يقول هذه طالق ويشير إليها ، أو يقول فلانة بنت فلان طالق.

وعندنا لا يقع الطلاق الا بهذا اللفظ المخصوص ، ولا يقع الطلاق بشئ من كنايات الطلاق أراد به الطلاق أو لم يرد. وفيه خلاف.

ومن شرط وقوع الطلاق عندنا أن يكون الرجل ثابت العقل مريدا للطلاق غير مكره عليه ويتلفظ بما قدمناه ، وفحوى قوله تعالى « إذا طلقتم النساء » يدل على جميع ذلك. ويكون بمحضر من شاهدي عدل لقوله « وأشهدوا ذوي عدل منكم » على ما نذكره.

وان كانت مدخولا بها غير حامل ويكون الزوج حاضرا غير غائب ، فلابد من أن تكون طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع ، لقوله « وطلقوهن لعدتهن » ، ومعناه أن يطلقها وهي طاهر في طهر لاجماع فيه معها ويستوفي باقي الشروط ، أي طلقوهن مستقبلات لعدتهن كقولك أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلا لها.

(فصل)

وفي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قبل عدتهن وإذا طلقت المرأة في الطهر الذي ذكرناه طلقت مستقبلة لعدتها ، والمراد أن يطلقن في طهر لم يجامعهن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن ـ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي.

فمتى طلقها وقصد به ايقاع الطلاق على ما ذكرناه وقع تطليقة واحدة ، وهو أملك برجعتها ما لم تخرج من العدة ، فان خرجت قبل أن يراجعها كان كواحد من الخطاب.

١٦٢

ومتى تلفظ بثلاث تطليقات مع الشرائط كلها وقعت واحدة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا يقع الثلاث ، وفي أصحابنا من يقول متى تلفظ بالثلاث لا يقع شئ ، وذلك محمول على أنه إذا لم يحصل جميع شرائط الطلاق.

والعمل على ما قدمناه.

ومتى طلقها في الحيض والحال ما ذكرناه فلا يقع طلاقها لأنه خلاف المأمور به ، وهو منهي عنه والنهي يدل على فساد المنهي عنه. وعند الفقهاء أنه يقع الطلاق وإن كان بدعة.

ولم يبين المفسرون معنى اللام في قوله « لعدتهن » وكيف صار هذا اللفظ عبادة عما فسروه به من أن المراد طاهر من غير جماع. والقول في ذلك أن اللام لام العلة والسبب.

فان قيل : علة الفعل ما يولد عنه ، يعني الفعل يتولد من العلة ولم يتولد الطلاق من العدة وانما تولد من ايثار الزوج مفارقة المرأة.

والجواب : ان ذلك يحتاج إلى بيان ، لان في الكلام حذفا وايجازا ، كأنه قال تعهدوا بطلاقهن هذه الحالة لأجل عدتهن ، أي ليعتددن في الوقت ، لان ابتداء عدتها الطهر الذي طلق فيه ، « ثم أحصوا عدتها » أي احفظوا أقراءها. وان مضت الثلاثة منها ولم تراجعوهن فلا سبيل إلى المراجعة من بعد.

ومثل هذا اللام قوله « أقم الصلاة لدلوك الشمس » (١) ولقول النبي عليه‌السلام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (٢).

وقال أبو علي المرزوقي : اللام في قوله « لعدتهن » ظرف للطلاق بمنزلة

__________________

١) سورة الإسراء : ٧٨.

٢) وسائل الشيعة ٧ / ١٨٥.

١٦٣

وقت له ، والدليل عليه قوله تعلى « لأول الحشر » (١) ، فجعل له أولا.

وقيل العدة هنا الحيض ، والمعنى فطلقوهن قبل الحيض.

واحصاء العدة حفظ وقت الطلاق ثم أيام الطهر والحيض إلى أن يقع البينونة.

(فصل)

ثم قال تعالى « واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن » (٢) غلظ الله أمر المطلقين بالوعيد ، أي لا تخروجهن زمان العدة ، لأنه لا يجوز اخراجها من بيتها ، وأمر المطلقات ألا يخرجن باختيار أنفسهن قبل انقضاء عدتهن.

وعندنا وعند جميع الفقهاء يجب عليه السكنى والنفقة والكسوة إذا كانت المطلقة رجعية ، وان كانت بائنة فلا نفقة لها ولا سكنى. وقال عطا والضحاك وقتادة لا يجوز أن تخرج من بيتها حتى تنقضي عدتها الا عند الفاحشة. وقال الحسن وعامر والشعبي ومجاهد وابن زيد الفاحشة ههنا الزنا تخرج لإقامة الحد ، وقال ابن عباس الفاحشة البذاء على أهله ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما‌السلام (٣). وقال قتادة الفاحشة هو النشوز ، وقال ابن عمر هو خروجها قبل انقضاء العدة ، وفي رواية عن ابن عباس أن كل معصية لله ظاهرة فهي فاحشة.

وقوله « تلك حدود الله » يعني ما تقدم ذكره من كيفية الطلاق والعدة وترك اخراجها من بيتها الا عند الفاحشة حدود الله ، فالحدود نهايات تمنع أن يدخل في الشئ ما ليس منه أو يخرج عنه ما هو منه ، فقد بين الله بالأمر والنهي الحدود.

« ومن يتعد حدود الله » أي من يتجاوز حدود الله فقد فعل ما يستحق به العقاب ويحرم معه الثواب.

__________________

١) سورة الحشر : ٢.

٢) سورة الطلاق : ١.

٣) تفسير البرهان ٤ / ٣٤٥.

١٦٤

ثم قال « لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » أي يغير رأي الزوج في محبة الطلاق فيكون تطليقه على ما أمر الله به يملك الرجعة فيما بين الواحدة والثانية وما بين الثانية والثالثة إذا لم يكن خلعا على الحرة المطلقة التي دخل بها ، وقد ذكرناها.

وقال الضحاك : أي لعل يحدث بعد ذلك أمر الرجعة في العدة. وقيل معناه لعل الله يحدث بعد ذلك شهوة المراجعة.

« فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف » (١) قيل أي إذا بلغن إلى القرء الثالث وذلك قرب انقضاء عدتهن ، ومعناه إذا قاربن أجلهن ، الذي هو الخروج من عدتهن ، لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن ، لأنه عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها وقد ملكت نفسها وقد بانت منه بواحدة ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره ، وانما المعنى إذا قاربن الخروج من عدتهن فأمسكوهن ، بأن تراجعوهن بمعروف بما يجب لها من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة ، أو فارقوهن بمعروف بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة ، والمعروف عند الفراق الصداق أو المتعة وحسن الثناء.

(فصل)

ثم قال تعالى « وأشهدوا ذوي عدل منكم » فالاشهاد عندنا شرط في وقوع الطلاق ، لان ظاهر الامر بذلك يقتضيه ، والامر شرعا على الايجاب الا إذا دل دليل على كونه ندبا. فمتى طلق الرجل ولم يشهد شاهدين ممن ظاهره الاسلام كان طلاقه غير واقع ، وان أشهد رجلا بعد آخر ولم يشهدهما في مكان واحد لم يقع أيضا طلاق ، فان طلق بمحضر رجلين مسلمين ولم يقل لهما اشهدا وقع طلاقه

__________________

١) سورة الطلاق : ٢.

١٦٥

وجاز لهما أن يشهدا بذلك.

وشهادة النساء لا تقبل في الطلاق. ومتى فقدا لم يقع الطلاق.

فان قيل : ما الدليل على صحة جميع ما ذكرتم؟

قلنا : الحجة لنا بعد الاجماع قوله « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن » إلى قوله « وأشهدوا ذوي عدل منكم » فأمر تعالى فيه بالاشهاد ، وظاهر الامر في عرف الشرع كما قدمنا يقتضي الوجوب ، فليس لهم أن يحملوا ذلك ههنا على الاستحباب لفقد الدليل عليه.

ولا يخلو قوله « وأشهدوا » من أن يكون راجعا إلى الطلاق ، كأنه قال إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأشهدوا ، أو أن يكون راجعا إلى الفرقة ، أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالامساك.

ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة التي ليست ههنا شيئا يوقع ويفعل ، وانما هو العدول عن الرجعة ، وانما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها ، فتبين بالطلاق السابق. على أن أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة ، وظاهر الامر في الشرع يقتضي الوجوب.

ولا يجوز أن يرجع الامر بالشهادة إلى الرجعة ، لان أحدا لا يوجب فيها الاشهاد وانما هو يستحب فيها. فثبت أن الامر بالاشهاد راجع إلى الطلاق.

فان قيل : كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما؟ قلنا : إذا لم يلق الا بالطلاق وجب عوده إليه مع قرب وبعد.

فان قيل : أي فرق بينكم في حملكم هذ الشرط على الطلاق وهو بعيد منه في اللفظ وهو مجاز وعدول عن الحقيقة ، وبيننا إذا حملنا الامر بالاشهاد ههنا على الاستحباب ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام.

قلنا : حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع

١٦٦

بلا دليل ، ورد الشرط إلى ما بعد عنه إذا لم يلق بما قرب ليس بعدول عن الحقيقة ولا استعمال التوسع والتجوز في القرآن ، والخطاب كله مملوء من ذلك ، قال الله تعالى « انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه » (١). والتسبيح ـ وهو متأخر في اللفظ ـ لا يليق الا بالله دون رسوله.

ثم قال « وأقيموا الشهادة لله » (٢) أي لوجه الله خالصا لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم.

« ذلكم يوعظ به » أي ذلكم الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط يوعظ به « ومن يتق الله » جملة اعتراضية.

(فصل)

وقد فسرنا الآيات المتصلة بها إلى قوله تعالى « أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم » (٣) يقول الله مخاطبا لمن طلق زوجته بأمره أن يسكنها حيث يسكن هو. وقد بينا أن السكنى والنفقة يجبان للرجعية بلا خلاف ، أما البينونة فلا سكنى لها ولا نفقة عندنا الا إذا كانت حبلى. وهو مذهب الحسن. وقد روت فاطمة بنت قيس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا نفقة للمبتوتة (٤).

وقال الشافعي ومالك لها السكنى بلا نفقة ، وقال أهل العراق لها السكنى

__________________

١) سورة الفتح : ٨.

٢) سورة الطلاق : ٢.

٣) سورة الطلاق : ٦.

٤) البت : القطع ، والمبتوتة هنا بمعنى المقطوعة عن حبل النكاح ، لأنها بائنة لا يمكن الرجوع الا بنكاح جديد ، فكأن عصمة الزوجية انقطعت تماما بينها وبين زوجها انظر النهاية لابن الأثير ١ / ٩٢.

١٦٧

والنفقة معا ، وبه قال ابن مسعود وعمر.

وقوله « من وجدكم » أي ملككم ـ قاله السدي. وقال ابن زيد هو إذا قال صاحب المسكن لا أنزل هذه في بيتي وليس من وجده ، ويجوز له حينئذ أن ينقلها إلى غيره.

والوجد ملك ما يجده المالك له ، وذلك أنه قد يملك المالك ما يغيب عنه وقد يملك ما هو حاضر له ، فذلك وجده.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون أسكنوهن أمرا بالانفاق عليهن ، أي نزلوهن منزلة أنفسكم من وجدكم ولينفق كل واحد عليهن على قدر غناه وفقره.

ولفظ « الاسكان » و « الاحلال » و « الانزال » على ما قلنا يستعمل كثيرا في هذا المعنى ، يقال أحلني فلان من نعمته محل نفسه أي أشركني فيها حتى شاطرنيها. وذلك أولى ، لان الامر بالسكنى قد تقدم من قوله « لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ».

ثم قال « ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن » معناه لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة وتضيقوا عليهن في السكنى والنفقة ليخرجن ، أي لا تؤذوهن فتحوجوهن إلى الخروج ، أمر الله بالسعة.

وقد تكون المضارة من واحد ، كما يقال طارقت النعل ، ويمكن أن يكون ههنا من كل واحد منهما لصاحبه.

والتضييق قد يكون في الرزق وفي المكان وفي الامر.

« وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن » أمر من الله بالانفاق على الحامل المطلقة إذا كانت مبتوتة ، ولا خلاف في ذلك. وانما يجب أن ينفق عليها بسبب ما في بطنها ، وانما يسقط نفقتها بالوضع.

١٦٨

(باب)

(عدة المتوفى عنها زوجها وعدة المطلقة على اختلاف أحوالها)

قال الله تعالى « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » (١).

أمر تعالى أن يكون عدة كل متوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها حرة كانت أو أمة ، لان الله لم يخص.

فان كانت حبلى فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضي أربعة الأشهر والعشرة أيام ، وهو المروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) ، ووافقنا في الأمة الأصم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وقالوا عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام. واليه ذهب قوم من أصحابنا.

وقالوا في عدة الحامل أنها بوضع الحمل ، وعندنا ان وضع الحمل يختص عدة المطلقة.

والذي يجب على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابها الزينة والكحل والأثمد وترك النقلة عن المنزل في قول ابن عباس ، وقال الحسن ان الواجب عليها الامتناع من الزوج لا غير. وعندنا أنه يجوز لها ان تبيت في الدار التي مات فيها زوجها حيث شاءت وعليها الحداد إذا كانت حرة ، وان كانت أمة فليس عليها حداد. والحداد هو ترك الزينة وأكل ما فيه الراحة الطيبة وشمه.

فان احتج مخالفنا في هذا بظاهر قوله تعالى « وأولات الأحمال أجلهن أن

__________________

١) سورة البقرة : ٢٣٤.

٢) وسائل الشيعة ١٥ / ٤١٩.

١٦٩

يضعن حملهن » (١) وانه عام في المتوفى عنها زوجها وفي غيرها. عارضناهم بقوله  « والذين يتوفون منكم » الآية وانه عام في الحامل وغيرها. ثم لو كانت آياتهم التي ذكروها عامة الظاهر ، جاز أن نخصها بدليل ، وهو اجماعنا الامامية ، وفيه الحجة.

(فصل)

وقوله تعالى « الذين » رفع بالابتداء ، و « يتوفون منكم » صلة الذين ،  « يذرون أزواجا » عطف عليه. وخبر الذين قيل فيه أربعة أقوال :

أحدها : أن كون الجملة على تقدير والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربصن.

الثاني : يتربصن بعدهم ، أي يتربصن أزواجهم بعدهم.

الثالث : أن يكون الضمير في يتربصن لما عاد إلى مضاف في المعنى كان بمنزلته على تقدير يتربصن أزواجهم. هذا قول الزجاج ، والأول قول أبي العباس والثاني قول الأخفش. ونظيره قول الزجاج أن يقول إذا مات وخلف ابنتين ترثان الثلثين بالفرض ، المعنى ترث ابنتاه الثلثين.

الرابع : أن يعدل عن الاخبار عن الزوج ، لان المعنى على والفائدة فيه.

ذهب إليه الكسائي والفراء ، وأنكره أبو العباس والزجاج لأنه لا يكون مبتدأ لا خبر له ولا خبر الا عن مخبر عنه. و « يذرون أزواجا » أي يتركونها.

فان قيل : كيف قال « وعشرا » وانما العدة بالأيام والليالي ، ولذلك لم يجز أن يقول عشرا من الرجال والنساء.

قيل : لتغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره ، لان ابتداء

__________________

١) سورة الطلاق : ٤.

١٧٠

شهور الأهلة الليالي عند طلوع الهلال ، فلما كانت أوائل غلبت لان الأوائل أقوى من الثواني. ولا يقدح هذا في قولهم. إذا اختلط الذكر والأنثى كان الغلبة للذكر.

قال ابن المسيب وأبو العالية : انما زاد الله تعالى هذه العشرة على أربعة أشهر لان فيها ينفخ الروح على الولد.

ومعنى التربص أن تحبس نفسها عن الأزواج وتترك الزينة والطيب.

(فصل)

وهذه الآية التي قدمناها ناسخة لقوله تعالى « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج » (١) وان كانت هذه مقدمة عليها في التلاوة.

ولا خلاف في نسخ العدة سنة كاملة ، الا أن أبا حذيفة قال : العدة أربعة أشهر وعشرا وما زاد على الحول يثبت بالوصية والنفقة ، فان امتنع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرف في نفسها.

وأما حكم الوصية عندنا فباق لم ينسخ وإن كان على وجه الاستحباب.

وحكي عن الحسن أنها منسوخة بآية الميراث فلا وصية لوارث. وهذا فاسد ، لان آية الميراث لا تنافي الوصية ، فلا يجوز أن تكون ناسخة لها.

فمن نصب « وصية » فالتقدير فليوصوا وصية ، والرفع أي فعليهم وصية أو لأزواجهم وصية. وقيل لا يجوز غير الرفع ، لأنه لا يمكن الوصية بعد الوفاة ، ولان الفرض كان لهن وصوا أو لم يوصوا. قال الرماني : وهذا غلط ، لان المعنى والذين يحضرهم الوفاة منكم ، ولذلك قال تعالى « يتوفون » على لفظ الحال الذي يتطاول.

__________________

١) سورة البقرة : ٢٤٠.

١٧١

وأما قوله الفرض كان لهن وان لم يوصوا. فقد قال قتادة والسدي انما كان لهن بالوصية. على أنه لو كان على ما زعم لم ينكر أن يوجبه الله على الورثة ان فرط الزوج في الوصية.

« ومتاعا إلى الحول غير اخراج » كأنه قال متعوهن متاعا في مساكنهن لا اخراجا ، ويجوز أن تكون الإقامة في مساكنهن.

قال الحسن : « فان خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف » دليل على سقوط النفقة والسكنى بالخروج ، لأنه انما جعل لهن ذلك بالإقامة إلى الحول ، فان خرجن قبله بطل الحق الذي وجب بالإقامة.

وانما احتاج إلى هذا التخريج من يوجب النفقة للمعتدة عن الوفاة ، فأما من قال لا نفقة لها ولا سكنى فلا يحتاج إلى ذلك. وهو مذهبنا ، لان المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها ، فان كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ولدها الذي في بطنها.

وقد قدمنا أن الرجل إذا طلق زوجته قبل الدخول بها ما لم يكن عليها منه عدة وكذلك التي لم تبلغ المحيض ومثلها لا تحيض إذا طلقها ـ وحد ذلك ما دون تسع السنين ـ لم يكن عليها منه عدة وان دخل بها. وكذلك ان كانت آيسة ومثلها لا تحيض فليس عليها من عدة إذا طلقها وان كانت مدخولا بها. والدليل على هاتين المسألتين من القرآن ما ذكرناه من قبل.

ويمكن أن يستدل بقوله تعالى « وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن » (١) الآية ، على أن لا عدة على من لم يدخل بها ، وقد صرح تعالى بذلك في قوله  « يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تماسوهن

__________________

١) سورة البقرة ٢٣٧.

١٧٢

فما لكم عليهن من عدة تعتدونها » (١).

فأما من طلق من تحيض حيضا مستقيما فعدتها ثلاثة أطهار ، لقوله تعالى  « والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء » (٢) ، وانما أطلق سبحانه الكلام ههنا اطلاقا ولم يقيد لان الأغلب في العادة أن تكون المرأة مستقيمة الحيض ، وما سوى هذه الحالة يكون نادرا.

وإذا طلقها وهي حامل فعدتها أن تضع حملها ، لقوله تعالى « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعهن حملهن » (٣).

والآيسة من المحيض وفى سنها من تحيض والتي لا تحيض وفي سنها من تحيض فعدة كل واحدة منهما إذا كانت حرة ثلاثة أشهر إذا طلقها زوجها ، وقد بينا حكمها من قبل ، يدل عليه قوله « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم » الآية.

والحرة إذا كانت تحت مملوك فعدتها مثل عدتها إذا كانت تحت حر لا يختلف الحكم فيه. لان الله تعالى لم يفصل في كتابه بين الحالتين.

والأمة إذا كانت تحت حر وطلقها فعدتها قرآن ان كانت ممن تحيض ، وان كانت لا تحيض ومثلها تحيض فعدتها خمسة وأربعون يوما. واستدل عليه بعض المفسرين بقول « فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب » (٤) وقال : هذا على العموم.

هذا كله إذا كانت الحرة والأمة مدخولا بها.

والأمة إذا كانت أم ولد وتوفي عنها زوجها فعدتها مثل عدة الحرة ، وان

__________________

١) سورة الأحزاب : ٤٩.

٢) سورة البقرة : ٢٢٨.

٣) سورة الطلاق : ٤.

٤) سورة النساء : ٢٥.

١٧٣

كانت مملوكة ليست أم ولد فعدتها فعدتها شهران وخمسة أيام.

والتي لم يدخل بها إذا مات عنها الزوج فعدتها أربعة أشهر وعشرا ، لعموم قوله تعالى « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » (١). ويجب على ورثته أن يعطوها المهر كملا. ويستحب لها أن تترك نصف المهر ، وان لم تفعل كان لها المهر كله.

(باب)

(كيفية الطلاق الثلاث)

(وحكم المراجعة والتراجع والعضل)

قوله تعالى « الطلاق مرتان » (٢) يدل على صحة قولنا الطلاق الثلاث لا يقع بلفظ واحد ، فإنه تعالى لم يرد بذلك الخبر ، لأنه لو أراده لكان كذبا ، وانما أراد الامر ، فكأنه تعالى قال طلقوهن مرتين ، ويجري مجرى قوله « ومن دخله كان آمنا » (٣) ، والمراد يجب أن تؤمنوه. والمرتان لا تكون الا واحدة بعد واحدة. ومن جمع الطلاقين في كلمة واحدة [ لا يكون مطلقا مرتين ، كما أن من أعطى درهمين مرة واحدة ] (٤) لم يعطها مرتين.

فان قيل : العدد إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق ، مثاله إذا قال « له علي مائة درهم مرتان » ، وإذا ذكر العدد عقيب فعل اقتضى التفريق ، مثاله « إذا دخل الدار مرتين فاضربه ضربتين » ، والعدد في الآية عقيب اسم لا فعل.

__________________

١) سورة البقرة : ٢٣٤.

٢) سورة البقرة : ٢٢٩.

٣) سورة آل عمران : ٩٧.

٤) الزيادة من ج.

١٧٤

قلنا : قد بينا أن قوله « الطلاق مرتان » معناه طلقوا مرتين ، والعدد عقيب فعل لا اسم صريح.

فان قيل : إذا كان الثلاث لا تقع فأي معنى لقوله تعالى « لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » وانما المراد انك إذا خالفت السنة في الطلاق وجمعت بين الثلاث وتعديت ما حده الله تعالى لم تأمن أن تتوق نفسك إلى المراجعة فلا تتمكن منها.

قلنا : قوله « لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » مجمل غير مبين ، فمن أين أنه أراد ما ذكرتم ، والظاهر غير دال على هذا الامر الذي يحدثه الله.

والأشبه بالظاهر أن يكون ذلك الامر الذي يحدثه الله متعلقا بقوله « ومن يتعد حدود الله » لأنه قال « تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » فيشبه أن يكون المراد لا تدري ما يحدثه الله من عقاب يعجله الله في الدنيا على من تعدى حدوده ، وهذا أشبه مما ذكروه. وأقل الأحوال أن يكون الكلام يحتمله ، فسقط تعلقهم.

وقيل : يتعلق قوله « لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » بالنهي عن اخراجهن من بيوتهن لعله يبدو له في المراجعة. وهذا أيضا يحتمل ، فمن أين أن المراد ما ذكره.

(فصل)

وأبان سبحانه بقوله « الطلاق مرتان » عدد الطلاق ، لأنه كان في صدر الاسلام بغير عدد. قال قتادة : كان الرجل يطلق امرأته في صدر الاسلام ما شاء من واحدة إلى عشر ويراجعها في العدة ، فنزل قوله تعالى « الطلاق مرتان » يعني طلقتين.

« فامساك بمعروف أو تسريح باحسان » فبين أن عدد الطلاق ثلاثة ، فقوله  « مرتان » اخبار عن طلقتين بلا خلاف ، واختلفوا في الثالث : فقال ابن عباس

١٧٥

« أو تسريح باحسان » الطلقة الثالثة ، وقال غيره « فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » التطليقة الثالثة ، وهو الأقوى.

وقيل في قوله « الطلاق مرتان » قولان :

أحدهما : ما قاله ابن عباس ومجاهد ان معناه البيان عن تفصيل الطلاق في السنة ، وهو أنه إذا أراد طلاقها ينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع تطليقة واحدة ثم يتركها حتى تخرج من العدة.

والثاني : ما قاله عروة وقتادة أن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة مما لا يوجبها.

وفي الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين الا الفرقة الباينة. وقال الزجاج في الآية حذف ، لان التقدير عدد الطلاق الذي يملك فيها الرجعة مرتان ، بدلالة قوله « فامساك بمعروف أو تسريح باحسان » والمرتان هما دفعتان.

ومعنى قوله « فامساك » أي فالواجب عليه امساك ، والامساك خلاف الاطلاق.

قال الزجاج ظاهره خبر ومعناه أمر ، كأنه قال فليمسكها بعد ذلك بمعروف ، أي بما يعرف به إقامة الحق في امساك المرأة أو تخلية سبيلها بوجه حسن.

وقوله « بمعروف » أي على وجه جميل سائغ في الشريعة لا على وجه الاضرار بهن.

وقوله « أو تسريح باحسان » قيل فيه قولان :

أحدهما : انها الطلقة الثالثة ، وروي أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فأجابه عليه‌السلام : أو تسريح باحسان (١).

وقال السدي والضحاك هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهو المروي

__________________

١) الدر المنثور ١ / ٢٧٧.

١٧٦

عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما‌السلام (١).

والتسريح مأخوذ من السرح ، وهو الانطلاق.

وقد ذكرنا أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث لا تقع بمرة ، لأنه تعالى قال « الطلاق مرتان » ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنه قوله  « أو تسريح باحسان » أو قوله « فان طلقها فلا تحل له من بعد ».

ومن طلق بلفظ واحد فلا يكون أتى بالمرتين ولا بالثالثة ، كما أنه لما أوجب في اللعان أربع شهادات فلو أتى بلفظ واحد لما وقع موقعه ، وكما لو رمى بسبع حصيات في الجمار دفعة واحدة لم يكن مجزيا له ، فكذا الطلاق. ومتى ادعوا في ذلك خبرا فعليهم أن يذكروه لنتكلم عليه.

(فصل)

أما قوله « فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » فالمعنى فيه التطليقة الثالثة على ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) ، وبه قال الضحاك والسدي والجبائي والنظام وغيرهم.

وقال مجاهد : هو تفسير لقوله « أو تسريح باحسان » ، فإنه التطليقة الثالثة ، وهو اختيار الطبري.

وقوله « فان طلقها » يعني الزوج ان بانت منه ـ بأن يختر أن يراجعها في الثالث « فلا تحل له » أي فلا يجوز نكاحها ولا جماعها « حتى تنكح زوجا غيره » أي حتى تتزوج زوجا آخر فيطأها ذلك الزوج ، لان المراد بالنكاح التزويج ههنا الجماع لا التزويج وإن كان الأصل في النكاح التزوج ، لأنهم أجمعوا على أنه

__________________

١) تهذيب الأحكام ٨ / ٢٥ ـ ٢٧.

٢) تفسير البرهان ١ / ٢٢٣.

١٧٧

ان تزوجت ولم تجامع لم تحل لنكاح الزوج الأول.

وأهل المدينة اختلفوا في النكاح أأصله الجماع أم التزويج ، وعند أكثر الكوفيين ان أصله الجماع ، وتسمية التزويج به كما يسمى الشئ باسم ما هو من سببه (١).

وصفة الزوج الذي تحل المرأة للزوج الأول أن يكون بالغا ، ويعقد عليها عقدا صحيحا دائما ، ويذوق عسيلتها (٢) بأن يطأها وتذوق عسيلته بلا خلاف بين أهل العلم.

ولا يجوز لاحد أن يتزوجها في العدة ، فأما العقود الفاسدة أو عقود الشبهة فإنها لا تحل للزوج الأول. ومتى وطئها بعقد صحيح في زمان يحرم فيه وطئها ـ مثل أن تكون حائضا أو محرمة أو معتكفة ـ فإنها تحل للأول ، لان الوطئ يدخل في نكاح صحيح وانما حرم الوطئ لأمر طارئ عليه.

هذا عند أكثر أهل العلم ، وقال مالك الوطئ في الحيض لا يحل للأول وان وجب به المهر كله والعدة.

ثم قال تعالى « فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ان ظنا أن يقيما حدود الله ». بين سبحانه أن الزوج الثاني ان طلقها فلا حرج على الزوج الأول إذا خرجت هي من عدة الزوج الثاني ورأيا أمارة الخير بينهما وظنا الصلاح لأنفسهما بعد ذلك في التزويج أن يتراجعا بعقد مستأنف.

__________________

١) قال ابن فارص : النون والكاف والحاء أصل واحد ، وهو البضاع ، ونكح ينكح ، وامرأة ناكح في بنى فلان أي ذات زوج منهم ، والنكاح يكون العقد دون الوطئ ، يقال نكحت تزوجت وأنكحت غيري ـ معجم مقابيس اللغة ٥ / ٤٧٥.

٢) في الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل ، وصغرت بالهاء لان الغالب لى العسلالتأنيث. ويقال انما أنث لأنه أراد به العسلة وهي القطعة منه ، كما يقال للقطعة من الذهب ذهبة. قال الصغاني : وقيل إن العسيلة مصغرة ماء الرجل نفسه ، والنطفة تسمى عسيلة « ه ».

١٧٨

وموضع « أن يتراجعا » خفض عند الخليل ، وتقديره في أن يتراجعا ، وقال الزجاج موضعه النصب. وموضع أن الثانية نصب بلا خلاف يظن. وانما جاز حذف في من « أن يتراجعا » لطولها بالصلة ، ولو كان مصدرا لم يجز.

وقوله تعالى « فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا » يدل على أن الوطئ في عقد الشبهة لا يحل للزوج الأول ، لان الطلاق لا يلحق نكاح الشبهة ، وانما جعل الظن شرطا لأنه في المستقبل فلا يحصل العلم به. ومعناه ان عرفا من أخلاقهما وطرائقهما ما يقوي في ظنونهما أنهما يقومان بحدود الله تعالى.

(فصل)

وقوله تعالى « الطلاق مرتان فامساك بمعروف » (١) يدل على صحة المراجعة بعد التطليقة الأولى وقيل انقضاء العدة ، وكذلك يدل على صحة المراجعة بعد التطليقة الثانية قبل انقضاء العدة ، من غير اعتبار رضا المرأة إذا لم يكن خلعا ، لأنه تعالى قال « فامساك بمعروف » وهو المراجعة ولم يعتبر رضاها.

والتراجع الذي ذكره الله تعالى في قوله « فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا » (٢) هو أن يتعاقدا بعد العدة من موت الزوج الثاني أو طلاقه بمهر جديد وعقد مستأنف ، ورضاها لابد منه ههنا ، لأنه الان خاطب من الخطاب وهي أجنبية ، وقد أشار إليه بقوله « ان يتراجعا ». واعتبر ههنا في التراجع فعليهما وما اعتبر في التراجع هناك بقوله « فامساك » الا فعله.

ثم قال تعالى « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » (٣) والمعنى إذا بلغن قرب انقضاء

__________________

١) سورة البقرة : ٢٢٩.

٢) سورة البقرة : ٢٣٠.

٣) سورة البقرة : ٢٣١.

١٧٩

عدتهن ، لان بعد انقضاء العدة ليس له امساك. والامساك أيضا ههنا هو المراجعة قبل انقضاء العدة ، وبه قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، على هذا يقال لمن دنا من البلد فلان بلغ البلد.

والمراد بالمعروف ههنا الحق الذي يدعو إليه العقل أو الشرع للمعرفة بصحته خلاف المنكر الذي يزجر عنه العقل أو السمع لاستحالة المعرفة بصحته ، فما يجوز المعرفة بصحته معروف ومالا يجوز المعرفة بصحته منكر. والمراد به ههنا أن يمسكها على الوجه الذي أباحه له من القيام بما يجب لها من النفقة وحسن العشرة وغير ذلك ، ولا يقصد الاضرار بها.

(فصل)

وقوله تعالى « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » معناه لا ترجعونهن لا لرغبة فيهن بل لطلب الاصرار بهن ، اما في تطويل العدة أو طلب المعاداة أو غير ذلك ، فإنه غير جائز.

ويجوز أن يكون المراد بالمضارة التضييق عليها في العدة في النفقة والمسكن ، كما قال « أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ومن يفعل ذلك » أي المراجعة للضرر « فقد ظلم نفسه » (١) فالإشارة إلى الامساك ضرارا.

« ولا تتخذوا آيات الله هزوا » يعنى ما ذكره من الاحكام في النكاح والطلاق مما يجوز فيه المراجعة ، ومالهم على النساء من التربص حتى يفيؤا أو يوقعوه مما ليس لهم وغير ذلك ، أي لا يتركوا العمل بحدود الله فيكونوا مقصرين ، كما يقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه ويتوانى فيه انما أنت لاعب.

__________________

١) سورة الطلاق : ٦.

١٨٠