فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

الطعام ، كما قال الشاعر :

* جعلت عين الأكرمين سكرا (١)

أي طعما. الثالث المصدر من قولك سكر سكرا ، وأصله انسداد المجاري بما يلقى فيها ومنه السكر ، وهو القسم الرابع (٢).

على أنه كان يقتضي أن يكون كل ما أسكر منه يكون حلالا ، وذلك خلاف الاجماع ، لأنهم يقولون القدر الذي لا يسكر هو المباح ، وكان يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحا ، وذلك لا يقوله أحد من المسلمين. ويلزم أن يكون النقيع حلالا ، وذلك خلاف الاجماع.

(باب)

(بيان تحريم الخمر)

حدث علي بن يقطين قال : سأل المهدي الخليفة أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن الخمر أهي محرمة في كتاب الله تعالى ، فان الناس انما يعرفون النهي [ عنها ] ولا يعرفون التحريم [ لها ]. فقال له أبو الحسن : هي محرمة في كتاب الله تعالى. فقال : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله تعالى يا أبا الحسن؟ فقال : قول الله تعالى « قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم » (٣) ،

__________________

١) رواية التبيان « عيب الأكرمين ». وفى اللسان « جعلت اعراص الكرام سكرا ».

٢) من قوله « والسكر في اللغة » إلى هنا منقول من البيان٦ / ٤٠١ مشوها ، وفيه :الثالث السكون ، قال الشاعر « وجعلت عين الحرور تسكر » ، والرابع المصدر.

٣) سورة الأعراف : ٣١.

٢٨١

فأما قوله « ما ظهر منها » فإنه يعني بذلك الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر في الجاهلية ، وأما قوله « وما بطن » فإنه يعني به ما نكح من الاباء ، فان الناس كانوا من قبل أن يبعث الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان للرجل زوجة ومات عنها زوجها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله ذلك ، وأما قوله « والاثم » فإنه يعني به الخمرة بعينها ، وقد قال الله تعالى في مواضع أخر « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما » (١) فإنما عنى بالاثم حراما عظيما ، وقد سماها الله تعالى أخبث الأسماء رجسا.

ثم قال عليه‌السلام : ان أول ما نزل في تحريم الخمر « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما » ، فلما نزلت هذه الآية أحس القوم بتحريم الخمر وعلموا أن الاثم مما يجب اجتنابه ، ثم نزلت آية أخرى وهي قوله « انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون » (٢) ، وكانت هذه الآية أشد من الأولى وأغلظ في التحريم ، ثم ثلث بآية أخرى وكانت أغلظ في الآية الأولى والثانية وأشد ، وهي قوله « انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون » (٣) ، فأمر باجتنابها وفسر عللها التي لها ومن أجلها حرمها.

ثم بين تعالى تحريمها وكشفه في الآية الرابعة مع ما دل عليه في هذه الآي

__________________

١) سورة البقرة : ٢١٦. والى هنا ينتهى الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام كما في الكافي ٦ / ٤٠٦ مع اختلاف في ألفاظ يسيرة.

٢) سورة المائدة : ٩١.

٣) سورة المائدة : ٩٢.

٢٨٢

المتقدمة بقوله « قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم » ، وقال في الآية « يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير » فخبر أن الاثم في الخمر وغيرها وأنه حرام ، وذلك أن الله تعالى إذا أراد أن يفرض فريضة أنزلها شيئا بعد شئ حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر الله ونهيه فيها وذلك من فعل الله تعالى ووجه التدبير والصواب لهم ليكونوا أقرب إلى الاخذ بها وأقل لنفارهم منها. فقال المهدي : هذه والله فتوى هاشمية (١).

(فصل)

وروي أنه شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر ، فأراد أن يحده فقال له قدامة انه لا يجب علي الحد لان الله تعالى يقول « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا » (٢) فدرأ عنه الحد ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فأتى المسجد وفيه عمر فقال له : لم تركت إقامة الحد على قدامة في شربه الخمر؟ فقال : تلا علي آية وتلاها عمر. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله ، ان الذين آمنوا لا يستحلون حراما ، فاردد قدامة واستتبه مما قال فان تاب فأقم عليه الحد وان لم يتب فاقتله فقد خرج من الملة ، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (٣).

والآية انما أنزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب ، كعثمان بن مظعون وغيره ، فبين الله لهم انه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات ، أي ليس عليهم أثم وخروج فيما طعموا من الحلال.

__________________

١) الكافي ٤ / ٤٠٦ في رواية مرسلة غير الرواية السابقة مع اختلاف في ألفاظ.

٢) سورة المائدة : ٩٣.

٣) انظر تفسير البرهان ١ / ٥٠٠

٢٨٣

وهذه اللفظة صالحة للاكل والشرب.

وقوله « ثم اتقوا وآمنوا » أي اتقوا شربها بعد التحريم « ثم اتقوا » أي دانوا على الاتقاء. فالاتقاء الأول من الشرب ، والاتقاء الثاني هو الدوام عليه ، والاتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي وضم الاحسان إليه.

وقال الله تعالى « واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا » (١). قال أبو جعفر عليه‌السلام : الميثاق هو ما بين لهم في حجة الوداع من تحريم كل مساء وكيفية الوضوء على ما ذكره الله في كتابه ونصب أمير المؤمنين عليه‌السلام إماما للخلق كافة (٢).

وتحريم الفقاع لا يعلل بالسكر وانما تحريمه مثل لحم الخنزير والدم.

(فصل)

وقد أباح الله تعالى الماء الذي هو أذل موجود وأعز مفقود ، وقد قال تعالى  « وجعلنا من الماء كل شئ حي » (٣) وقال « هو الذي أنزل من السماء ماءا لكم منه شراب » (٤) أخبر تعالى أنه الذي ينزل من السماء ماءا ، يعني غيثا ومطرا لمنافع خلقه فينبت بذلك الماء هذه الأشياء التي عددها.

وقال تعالى « وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا » إلى أن قال « يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه » (٥) من أصفر وأبيض وأحمر مع

__________________

١) سورة المائدة : ٧.

٢) تفسير البرهان ١ / ٤٥٤ بمضمونه.

٣) سورة الأنبياء : ٣٠.

٤) سورة النحل : ١٠

٥) سورة النحل : ٦٨.

٢٨٤

انها تأكل الحامض والمر فيجعله الله تعالى عسلا حلوا لذيذا فيه شفاء للناس.

وأكثر المفسرين على أن الهاء راجعة إلى العسل ، وهو الشراب الذي ذكر أن فيه شفاءا من كثير من الأمراض. وانما قال « من بطونها » وهو خارج من فيها لان العسل يخلقه الله في بطن النحل ثم يخرجه إلى فيه ثم يخرجه من فيه ، ولو قال من فيها لظن أنها تلقيه من فيها وليس بخارج من البطن.

وقال الرضي في كتاب مجاز القرآن : ان العسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل ، وانما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار وأصناف النبات (١) ، لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة وعلى أوصاف معلومة ، والنحل ملهمة بتتبع تلك المساقط [ وتعهد تلك المواقع ] (٢) فتنقل العسل بأفواهها إلى المواضع المعدة لها ، قال تعالى « يخرج من بطونها » والمراد من جهة بطونها وجهة بطونها أفواهها ، وهذا من غوامض البيان وشرائف الكلام (٤).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : اشربوا ماء السماء فإنه يطهر البدن ويدفع الأسقام ، قال تعالى « وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان » (٤).

وجاء رجل فشكى إليه وجع البطن فقال عليه‌السلام : ألك زوجة؟ قال : نعم. قال : استوهب منها درهما من صداقها بطيبة نفسها من مالها واشتر به عسلا واسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه. ففعل الرجل فبرء ، فسئل عليه‌السلام عن ذلك فقال سمعت الله تعالى يقول في كتابه « فان طبن لكم عن شئ منه نفسا

__________________

١) في المصدر « وأضغاث النبات ».

٢) الزيادة من المصدر.

٣) تلخيص البيان ص ١٩٣.

٤) سورة الأنفال : ١١. والحديث في الكافي ٦ / ٣٨٧.

٢٨٥

فكلوه هنيئا مريئا » (١) وقال « يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس » (٢) وقال « ونزلنا من السماء ماءا مباركا » (٣) ، فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنئ والمرئ رجوت فيه لك الشفاء (٤).

(باب الزيادات)

قال الشافعي : إنفحة (٥) الميتة نجسة لا يحل الانتفاع بها ، وعندنا وعند أبي حنيفة هي طاهرة ، وبذلك نصوص عن أئمة الهدى عليهم‌السلام (٦) ، يؤيد ذلك قوله تعالى « كلوا مما في الأرض حلالا طيبا » (٧) وهذا عام الا ما أخرجه الدليل ، ولا دليل على تحريم الا نفحة من الميتة ولا نجاستها من كتاب وسنة ولا اجماع.

ويؤكد ذلك ما ذكره أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه المشهور عن أبي حمزة الثمالي قال : كنت في مسجد النبي عليه‌السلام إذ دخل رجل وقال لي : من أنت؟ فقلت : رجل من أهل الكوفة. قال : تعرف محمد الباقر؟ قلت : نعم فما حاجتك إليه؟ قال : هيأت أربعين مسألة أسأله عنها فما كان من حق أخذته وما كان من باطل تركته [ قال أبو حمزة : فقلت له : هل تعرف ما بين الحق والباطل؟ قال : نعم ] قلت : ما حاجتك إليه ان كنت تعرف الفرق ما بين الحق والباطل.

__________________

١) سورة النساء : ٤.

٢) سورة النحل : ٦٩.

٣) سورة ق : ٩.

٤) وسائل الشيعة ١٧ / ٧٥ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٥) الإنفحة ـ بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة ـ كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل ، فإذا أكل فهو كرش ، وكذلك المنفحة بكسر الميم .. والإنفحة لا تكون الا لذي كرش ، وهو شئ يستخرج من بطن ذيه ، اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ـ لسان العرب (نفح).

٦) انظر وسائل الشيعة ٢ / ١٠٨٨ ـ ١٠٩٠.

٧) سورة البقرة : ١٦٨.

٢٨٦

قال : أنتم قوم لا تطاقون. فما انقطع كلامه حتى أقبل أبو جعفر عليه‌السلام وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج ، فقال للرجل : من أنت؟ فقال : أنا قتادة بن دعامة البصري. قال : أنت فقيه البصرة. قال : نعم أخبرني عن الجبن. فتبسم أبو جعفر عليه‌السلام وقال : رجعت مسائلك إلى هذا. فقال : ضلت عني. فقال عليه‌السلام : لا بأس به. فقال : ربما جعلت فيه إنفحة الميتة.

قال : ليس بها بأس ، ان الإنفحة ليس لها عروق وليس فيها دم وليس لها عظم انما تخرج من بين فرث ودم ، وانما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة [ فهل تؤكل تلك البيضة ]. قال : [ لا و ] لا آمر بأكلها. فقال عليه‌السلام : [ ولم؟ فقال : لأنها من الميتة ، قال له ] فان حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال : نعم. قال : فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة كذلك الإنفحة مثل البيضة ، فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه (١).

مسألة :

قوله تعالى « كل الطعام كان حلا » (٢) أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام والحل مصدر حل الشئ ، كما يقال عز الرجل عزا وذلت الدابة ذلا ، ولذا استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، قال تعالى « لا هن حل لهم ولاهم يحلون لهن » (٣).

والمعنى كل الطعام لم يزل حلالا لهم من قبل انزال التوراة وتحريم ما حرم

__________________

١) الكافي ٦ / ٢٥٦ ، وقد اختصر الحديث هنا واضفنا إليه ما لابد منه من المصدر وهي الجمل الموضوعة ما بين المعقوفتين.

٢) سورة آل عمران : ٩٣.

٣) سورة الممتحنة : ١٠.

٢٨٧

عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شئ قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه.

وهو رد على اليهود وتكذيب لهم ، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نزل فيهم من قوله « فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم » (١) الآية ، وفي قوله « وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر » (٢) ، فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه وما هو الا تحريم قديم وكانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده وهلم جرا إلى أن انتهى ـ التحريم إلينا. وغرضهم تكذيب شهادة الله تعالى عليهم بالبغي والظلم وأكل الربا ، فقال تعالى « قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين ».

__________________

١) سورة النساء : ١٦٠.

٢) سورة الأنعام : ١٤٦.

٢٨٨

كتاب الوقوف والصدقات

قال الله تعالى « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » (١).

لما نزلت هذه الآية عمد كثير من الصحابة إلى نفائس أموالهم فتصدقوا بها زيادة على الزكوات الواجبة كما روي عن أبي طلحة أنه قال : يا رسول الله ان لي حائطا وقد جعلته صدقة. فقال : اجعله صدقة على فقراء أهلك ، فجعله بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب (٢).

وقد ورد في القرآن آي كثيرة تحت على الوقوف والصدقات بظواهرها ، قال الله تعالى « وافعلوا الخير » (٣) ، وهو أمر بالطاعات والقربات.

فان قيل : ما أنكرتم من فساد الاستدلال بذلك من جهة أن الخير لا نهاية له ، ومحال أن يوجب الله تعالى علينا مالا يصح أن نفعله ، وإذا لم يصح ايجاب الجميع فليس البعض بذلك أولى من البعض وبطل الاستدلال بالآية.

__________________

١) سورة آل عمران : ٩٢.

٢) الدر المنثور ٢ / ١٩٤.

٣) سورة الحج : ٧٧.

٢٨٩

قلنا : لا شبهة في أن ايجاب مالا يتناهى لا يصح ، غير أنا نفرض المسألة فنقول : قد ثبت أن من وقف وتصدق على بعض فقراء المؤمنين يكون فاعلا للخير ، وفعل المرة صحيح غير محال ، فيجب تناول الآية له ، وهكذا يفرض في كل مسألة. وموضع استدلالنا بعموم هذه الآية وأمثالها على استحباب شئ من العبادات أو وجوب شئ من القربات هو أن نعين على ما يصح تناول الايجاب والاستحباب له ثم ندخله في عموم الآية.

(باب)

(كيفية الوقف واحكامه)

قال الله تعالى « وأقرضوا الله قرضا حسنا » (١) نزلت حين وقف بعض الأنصار نخيلا ، وسمى تعالى ذلك قرضا تلطفا في القول ، لان الله تعالى من حيث أنه يجازيهم على ذلك بالثواب فكأنه استقرض منهم لرد عوضه.

وانما قال « حسنا » أي على وجه لا يكون فيه وجه من وجوه القبح.

و « ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله » (٢) أي ما تعطوا الفقراء والمساكين تجدوا ثوابه وجزاءه.

ثم اعلم أن وجوه العطايا ثلاثة ، اثنان منها في الحياة وواحد بعد الوفاة ، فالذي بعد الوفاة هو الوصية ، ولها كتاب مفرد نذكره فيما بعد انشاء الله ، وأما اللذان في حال الحياة فهما الهبة والوقف ، وللهبة باب مفرد يجئ بعد هذا.

وأما الوقف فهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وجمعه وقوف وأوقاف ، وقفت يقال ولا يقال أوقفت الا شاذا نادرا ، ويقال حبست وأحبست.

__________________

١) سورة الحديد : ١٨.

٢) سورة البقرة : ١١٠.

٢٩٠

فإذا وقف شيئا من أملاكه زال ملكه عنه إذا قبض الموقوف عليه أو من يتولى عنه ، وان لم يقبض لم يخص الوقف ولم يلزم. فهذان شرطان في صحة الوقف.

فمتى لم يقبض الوقف ولم يخرجه من يده أو وقف مالا يملكه كان الوقف باطلا فإذا قبض الوقف فلا يجوز الرجوع له فيه بعد ذلك ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة ولا غيرها ، ولا يجوز لاحد من ورثته التصرف فيه.

(فصل)

وما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا أحبس بعد سورة النساء (١).

فلا يدل على حظر الوقف أو كراهيته ، وانما المعنى في ذلك أحد أمرين : أحدهما : أراد حبس الزانية التي ذكرها الله في قوله « فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا » (٢) ، فان الله نسخ هذا الحكم على لسان رسوله عليه‌السلام بقوله : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.

والثاني : أراد الحبس الذي كان يفعله الجاهلية في نفي السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ، قال الله تعالى « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » (٣). فالسائبة هي الناقة تلد عشرة بطون كلها إناث فتسيب تلك الناقة فلا تركب ولا تحلب الا لضيف. والبحيرة هي ولدها الذي تجئ به في البطن الحادي عشر ، فإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها فهي البحيرة.

وأما الوصيلة فهي الشاة تلد خمس بطون في كل بطن اثنان ، فإذا ولدت البطن السادس ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فما يلد بعد ذلك يكون حلالا

__________________

١) الدر المنثور ٢ / ١٢٩.

٢) سورة النساء : ١٥.

٣) سورة المائدة : ١٠٣.

٢٩١

للذكور وحراما على الإناث. وأما الحام فهو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فكان لا يركب.

وكذلك يحمل على الوجهين ما روي عن شريح أنه قال : جاء محمد باطلاق الحبس.

(فصل)

يجوز وقف الأراضي والعقار والرقيق والماشية والسلاح وكل عين يبقى بقاءا متصلا ويمكن الانتفاع بها ، فأما إذا كانت في الذمة أو كانت مطلقة ـ وهو أن يقول وقفت فرسا أو عبدا فان ذلك لا يجوز لأنه لا يمكن الانتفاع به ما لم يتعين ولا يمكن تسليمه ولا القبض.

ويجوز وقف المشاع ، كما يصح بتعدد ألفاظ الوقف مثل تصدقت ووقفت وحبست وسلبت وحرمت وأبدت ، فإذا قال تصدقت بداري أو بكذا لم ينصرف إلى الوقف ، لان التصدق يحتمل الوقف ويحتمل صدقة التمليك المتطوع بها ويحتمل الصدقة المفروضة ، فإذا قرنه بقرينة تدل على الوقف انصرف إلى الوقف وزال الاحتمال.

والقرينة أن تقول : تصدقت صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة ، أو قال صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث ، لأن هذه كلها لا تصرف الا إلى الوقف.

وإذا قال حبست أو سبلت رجع إلى الوقف وصار صريحا فيه ، لان الشرع ورد بهما ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر : حبس الأصل وسبل الثمرة. وعرف الشرع آكد من عرف العادة.

والأقوى عندنا أن صريح الوقف عندنا قول واحد ، وهو « وقفت » لا غير وبه

٢٩٢

يحكم بالوقف ، فأمر غيره من الألفاظ فلا يحكم به الا بدليل.

ولا يجوز أن يقف شيئا على حمل هذه الجارية ولم ينفصل الحمل بعد. ولا ينتقض بالوقف على أولاد الأولاد ما تناسلوا ، لأن الاعتبار بما ولد ، فإذا صح في حقه صح في حق الباقين على وجه التبع لهم.

وإذا وقف دارا وقبض فإنه يزول ملك الواقف كما يزول بالبيع وينتقل إلى الموقوف عليه وهو الصحيح. وقال قوم ينتقل إلى الله تعالى. وإنما قلنا ذلك لأنه يثبت عليه اليد وليس فيه أكثر من أنه لا يملك بيعه على كل حال وانما يملك بيعه على وجه عندنا ، وهو إذا خيف على الوقف الخراب أو كان بأربابه حاجة شديدة أو لا يقدرون على القيام به أو يخاف وقوع خلاف بينهم يؤدي إلى فساد يجوز لهم بيعه ، ومع عدم ذلك كله لا يجوز.

والوقف على المساجد وما فيه صلاح المؤمنين انما يصح ان كانت هذه الأشياء لا تملك ، لان الوقف عليها لمصالح المسلمين فالوقف عليها وقف على المسلمين والمسلمون يملكون.

فان وقف انسان شيئا على قومه ولم يسمهم كان ذلك وقفا على جماعة أهل لغته من الذكور دون الإناث ، لقوله تعالى « لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء » ، فدل على أن لفظ القوم لا يقع على النساء.

(فصل)

العمرى نوع من الهبات يفتقر في صحتها إلى ايجاب وقبول ، ويقتضي لزومها إلى قبض كسائر الهبات.

وهي مشتقة من العمر ، وصورتها أن يقول الرجل لاخر « أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك عمرك أو هي لك ما حييت ».

٢٩٣

وهذا عقد جائز ، فان قال هذه الدار لك عمرك ولعقبك من بعدك فإنه جائز ، وانما هي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها.

وأما إذا أطلق ذلك ولم يذكر العقب فان العمرى يصح ويكون للمعمر حياته ، فإذا مات رجع إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان مات وهو الصحيح ، ولا فرق عندنا سواء علقه بموت المعمر أو المعمر.

والرقبى جائزة عندنا ، وصورتها صورة العمرى الا أن اللفظ يختلف. ومن أصحابنا من قال : الرقبى أن تقول « جعلت خدمة هذا العبد لك مدة حياتك أو مدة حياتي ». وهي مأخوذة من رقبة العبد.

(باب)

(الهبة وأحكامها)

الهبة جائزة لكتاب الله وللسنة ، فالكتاب قوله تعالى « تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان » (١) والهبة من البر. وقوله تعالى « ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله » إلى قوله  « وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين » (٢).

والسنة أكثر من أن تحصى.

والهبة والصدقة والهدية ، بمعنى واحد ، غير أنه إذا قصد الثواب والتقرب بالهبة إلى الله سميت صدقة ، وإذا قصد بها التودد والمواصلة سميت هدية.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقبل الهدية ويأكلها ولا يقبل الصدقة ولا يأكلها.

__________________

١) سورة المائدة : ٢.

٢) سورة البقرة : ١٧٧.

٢٩٤

فإذا ثبت هذا فإنه لا يلزم شئ منها الا بالقبض.

(فصل)

الهبات على ثلاثة أصناف : هبة لمن هو فوق الواهب ، وهبة لمن هو دونه ، وهبة لمن هو مثله. ويقتضي كل واحد منها الثواب (١) عندنا على بعض الوجوه.

وصدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام ، ومن شرطها الايجاب والقبول ، ولا يلزم الا بالقبض أو ما يجرى مجراه.

[ وكل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة ] (٢).

وإذا كان لانسان في ذمة رجل مال فوهبه له كان ذلك ابراء بلفظ الهبة.

وقال قوم من شرط صحته قوله ، وهذا حسن لان في ابرائه من الحق الذي عليه منة عليه ولا يجبر على قبول المنة. وقال آخرون انه يصح شاء من عليه الحق أو أنى ، لقوله « فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم » (٣) فاعتبر مجرد الصدقة ولم يعتبر القبول ، وقال الله تعلى « ودية مسلمة إلى أهله الا ان يصدقوا » (٤) فأسقط الدية لمجرد التصدق ولم يعتبر القبول. هذا أيضا قوي ظاهر.

__________________

١) المراد بالثواب ههنا العوض ، اما انه يقتضى الثواب فلما روى أبو هريرة عن النبي عليه‌السلام أنه قال « الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها » ، واما اقتصار الثواب على بعض الوجوه فهو أن الواجب اما أن يطلق أو يشرط الثواب ، فان أطلق اقتضى أن يشبه قدر ما يكون ثوابا لمثله في العبادة ، وان شرط الثواب فإن كان الثواب مجهولا صح اجماعا ، وإن كان معلوما ففيه خلاف ـ وهذا خلاصة كلام الشيخ في المبسوط.

٢) الزيادة من ج.

٣) سورة البقرة : ٢٨٠.

٤) سورة النساء : ٩٢.

٢٩٥

(باب الزيادات)

قوله تعالى « ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة » (١).

فالبر العطف والاحسان ، وهو مصدر ، وقد يكون بمعنى البار ، أي الواسع الاحسان ، وأصله من الاتساع.

بين سبحانه ان البر كله ليس في الصلاة وانما هي مصلحة من المصالح الدينية ، والتقدير ولكن البر بر من آمن بالله ، أي لكن ذا البر من آمن بالله ، أي صدق بالله. ويدخل فيه جميع مالا يتم معرفة الله الا به.

« واليوم الآخر » بمعنى القيامة ، وان الملائكة عباد الله والكتب المنزلة وأنبياءه كلهم.

« وأعطى المال على حبه » أي حب المال ، والايتاء حب الله ، وهذا أبلغ.

« وذوي القربى » قرابة المعطي ، وقيل قرابة الرسول عليه‌السلام. قال ابن عباس : في المال حقوق سوى الزكاة ، ويدخل فيها ما يتطوع به الانسان قربة إلى الله من الوقوف والصدقات والهبات لان ذلك كله من البر. قال : ولا يجوز حمله على الزكاة المفروضة لأنه عطف عليه الزكاة.

وانما خص هؤلاء لان الغالب انه لا يوجد الاضطرار الا في هؤلاء ، ولئلا يظن أنه مستحق الزكاة الواجبة لا يجوز أن يعطى ما يتصدق به تطوعا ، والآية تعمها.

__________________

١) سورة البقرة : ١٧٧.

٢٩٦

وشرائط الوقوف شيئان : ان يخرج الوقف من يده ويقبضه الموقوف عليه أو من يتولى عنه ، ويكون ملكا للواقف.

والوقف والصدقة شئ واحد ، ولا يصحان الا بالقربة إلى الله تعالى.

والوقف لابد ان يكون مؤبدا.

٢٩٧

كتاب الوصايا

الوصية مشتقة من وصاء النبت إذا اتصل بعضه ببعض ، وكل وصية أمر وليس كل أمر وصية ، فعلى هذا معنى الوصية وصل الامر بمثله أو بغيره مما يؤكد. قال أبو علي النحوي : كأن الموصي وصل جل امره بالموصى إليه. فقال : وصى فلان وأوصى إذا وصل تصرف ما قبل الموت بما يكون بعد الموت. والتوصية أبلغ من الايصاء لأنها لمرار كثيرة.

والأصل في ذلك الكتاب والسنة ، اما الكتاب فقد قال الله تعالى « يوصيكم الله في أولادكم » (١). فذكر ههنا الوصية في أربعة مواضع : أحدها قوله « فلأمه السدس من بعد وصية ». الثاني في فرض الزوج ، قال الله تعالى « فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ». والثالث في فرض الزوجة ، قال  « فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ». الرابع قوله « فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين » (١). فثبت بذلك ان الوصية لها حكم في الشرع.

__________________

١) سورة النساء ١١ ـ ١٢.

٢٩٨

فإذا ثبت هذا فالناس في الوصية على ثلاثة اضرب :

منهم من لا تصح له الوصية بحال ، وهو الكافر الذي لا رحم له مع الميت وعند المخالف الوارث.

والثاني : من تصح له الوصية بلا خلاف ، مثل الأجانب ، فإنه يستحب لهم الوصية ، وعندنا الوارث تصح له الوصية أيضا.

والثالث : من هو مختلف فيه ، وهو على ضربين : منهم الأقرباء الذين لا يرثونه بوجه ، مثل ذوي الأرحام عند من لم يورث ذوي الأرحام مثل بنت الأخ وبنت العم والخالة والعمة. والضرب الاخر يورثون لكن ربما يكون معهم من يحجبهم ، مثل الأخت مع الأب والولد ، فإنه يستحب أن يوصي لهم وليس بواجب.

وعندنا ان الوصية لهؤلاء كلهم مستحبة.

(باب)

(الحث على الوصية)

قال الله تعالى « كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين » (١) معنى كتب فرض الا أنه ههنا معناه الحث والترغيب دون الفرض والايجاب.

وفى الآية دلالة على أن الوصية للوارث جائزة ، لأنه تعالى قال « للوالدين والأقربين » ، والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير قاتلين عمدا وظلما. ومن خص الآية بالكافرين فقد قال قولا بلا دليل. ومن ادعى نسخ الآية فلا نسلم له ذلك بلا دليل.

وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء ، فان ادعوا الاجماع على

__________________

١) سورة البقرة : ١٨٠.

٢٩٩

نسخها كان ذلك دعوى باطلة ونحن نخالف في ذلك ، وقد خالف في نسخها طاوس ، فإنه خصها بالكافرين لمكان الخبر ولم يحملها على النسخ ، وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر ان هذه الآية مجملة وآية المواريث مفصلة وليست نسخا ، فمع هذا الخلاف كيف يدعى الاجماع على نسخها.

ومن ادعى نسخها بقوله عليه‌السلام « لا وصية لوارث » (١) فقد أبعد ، لان هذا أولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به اجماعا ، ولو سلمنا الخبر لجاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث ، لأنا لو خلينا وظاهر الآية لاجزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين والأقربين (٢).

وأما من قال إن الآية منسوخة بأنه للوارث ، فقوله أيضا بعيد من الصواب لان الشئ انما ينسخ غيره إذا لم يكن الجمع بينهما ، فأما إذا لم يكن بينهما تناف ولا تضاد بل يمكن الجمع بينهما فلا يجب حمل الآية على النسخ ، ولا تنافى بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهما من الميراث وبين الامر للوصية لهم على جهة الخصوص ، فلم يجب حمل الآية على النسخ.

وقول من قال حصول الاجماع على أن الوصية ليست فرضا يدل على أنها منسوخة. باطل أيضا ، لان اجماعهم على أنها لا تفيد الفرض لا يمنع من كونها مندوبا إليها ومرغبا فيها ، ولأجل ذلك كانت الوصية للأقربين الذين ليسوا بوارثين ثابتة بالآية ولم يقل أحد انها منسوخة في حيزهم.

ومن قال إن النسخ في الآية ما يتعلق بالوالدين ـ وهو قول الحسن ـ فقد قال قولا ينافي ما قاله مدعو نسخ الآية على كل حال ، ومع ذلك فليس الامر على ما قال ، لأنه لا دليل على دعواه.

__________________

١) مسند أحمد بن حنبل ٤ / ١٨٦.

٢) ذكر المرتضى الحديث المروى عن النبي « ص » بشأن الوصية للوارث وتكلم في طرقه والرد عليه ـ راجع الانتصار ص ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٣٠٠