فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

عفي له منه بمعنى أعطاه عفوا ، انما يقال أعفي له بكذا إذا أعطاه ، وانما هو عفو ولي المقتول عن دية القاتل.

وقوله « القاتل لا يكون أخا المقتول الا في النسب » ليس بصحيح ، لأنه يمكن أن يكون القاتل عمدا والمقتول مسلمين.

قال ابن مهرايزد : الصحيح أن الضمير في « أخيه » للقاتل الذي عفى له القصاص وأخوه ولي المقتول ، والضمير في « إليه » أيضا له ، أي يؤدي القاتل الدية إلى الولي العافي « باحسان » أي من غير مطل ولا أذى.

(فصل)

ثم قال « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » المشار إليه بذا ترخيص الله ترك القصاص والاقتصار على الدية « فمن اعتدى » بعد ذلك « فله عذاب أليم » أي من اعتدى بعد البيان في الآية فقتل غير قاتل وليه أو بعد قبول الدية فله عذاب أليم ، أي من قتل منكم نفسا في الدنيا قتلته في النار مائة ألف قتلة مثل قتله صاحبه.

وجاء في التفسير : ان الاعتداء ههنا أن يقتل بواحد عدة ، كما كان يفعل كبراء الكفار في الجاهلية. وكل هذا يحتمل في الآية ، والمروي عن ابن عباس أن الاعتداء هو القتل بعد قبول الدية ، وكذلك عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما‌السلام.

ومعنى « تخفيف من ربكم » أنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو ، وكان لأهل التوراة قصاص وعفو ولأهل الإنجيل عفو ودية.

وقال « ولكم في القصاص حياة » المراد به القصاص في القتل ، وانما كان فيه حياة من وجهين : أنه إذا هم الانسان بالقتل فذكر القصاص ارتدع ، فكان ذلك سببا للحياة ، حياة للذي هم هو بقتله وحياة له لأنه من أجل القصاص أمسك عن القتل ، فلسم من أن يقتل. وقال السدي. من جهة أنه لا يقتل الا القاتل دون غيره ، خلاف فعل الجاهلية الذين كانوا يتفالون بالطوائل. و

٤٠١

المعنيان جميعا حسنان ، ونظير هذه الآية قولهم « القتل أنفى للقتل ».

وانما خص الله بالخطاب أولي الألباب لأنهم المكلفون المأمورون ، ومن ليس بعاقل لا يصح تكليفه. فعلى هذا متى كان القاتل غير بالغ ـ وحده عشر سنين فصاعدا ـ أو يكون مع بلوغه زائل العقل اما أن يكون مجنونا أو مؤوفا فان قتلهما وإن كان عمدا فحكمه حكم الخطأ.

(فصل)

قوله تعالى « ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق » (١) يعني الا بالقود أو الكفر أو ما يجري مجراهما ، فان قتله كذلك حق وليس بظلم.

« ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف » (٢) أي فلا يسرف القاتل في القتل ، وجاز أن يضمر وان لم يجر له ذكر ، لان الحال يدل عليه ، ويكون تقييده بالاسراف جاريا مجرى قوله في أكل مال اليتيم « ولا تأكلوها اسرافا » وان لم يجز أن يأكل منه على الاقتصاد ، فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول لا تسرف في القتل ، لأنه يكون بقتله مسرفا فلا يسرف لان من قتل مظلوما كان منصورا بأن يقتص له وليه والسلطان ان لم يكن له ولي ، فيكون هذا رد القاتل عن القتل.

والاخر أن يكون في « يسرف » ضمير « الولي » ، أي لا يسرف الولي في القتل ، فاسرافه فيه أن يقتل غير من قتل أو يقتل أكثر من قاتل وليه ، أي فلا يسرف الولي فإنه منصور بقتل قاتل وليه والاقتصاص منه.

والسلطان الذي جعله الله للولي ، قال ابن عباس : هو القود أو العفو أو الدية.

__________________

١) سورة الأنعام : ١٥١ والاسراء : ٣٣.

٢) سورة الإسراء : ٣٣.

٤٠٢

(فصل)

ومما يقتضيه الآيات أن المرأة إذا قتلت رجلا واختار أولياؤه القود فليس لهم الا نفسها ، فان قتل الرجل امرأة عمدا وأراد أولياؤها قتله كان لهم ذلك إذا ردوا نصف دية الرجل.

وإذا قتل المسلم ذميا عمدا وجب عليه ديته ولا يجب فيه القود ، وكذلك إذا قتل حر عبدا أو أمة لم يكن عليه قود وعليه الدية يعطى قيمتهما يوم قتلهما فان زادت القيمة على دية الحر والحرة رد إليها.

فان قتل عبد حرا عمدا كان عليه القتل ان أراد أولياء المقتول ذلك ، فان طلبوا الدية كان على مولاه الدية كاملة أو تسليم العبد إليهم ان شاؤوا استرقوه وان شاؤوا قتلوه.

فإذا قتل جماعة واحدا فان أولياء الدم مخيرون بين أمور ثلاثة : أحدها أن يقتلوا القاتلين كلهم ويؤدوا فضل ما بين دياتهم ودية المقتول إلى أولياء المقتولين. والثاني أن يتخيروا واحدا منهم فيقتلوه ويؤدوا المستبقون ديته إلى أولياء صاحبهم بحساب أقساطهم من الدية. الثالث ان اختار أولياء المقتول أخذ الدية كانت على القاتلين بحسب عددهم ، والدليل على صحته اجماع الطائفة ، ولان ما ذكرناه أشبه بالعدل.

والذي يدل على الفصل الأول ـ زائدا على الاجماع ـ قوله تعالى « ولكم في القصاص حياة » ، ومعنى هذا أن القاتل إذا علم أنه ان قتل قتل كف عن القتل وكان ذلك أزجر له وكان داعيا إلى حياته وحياة من هم بقتله ، فلو أسقطنا القود في حال الاشتراك سقط هذا المعنى المقصود بالآية ، فكان من أراد قتل غيره من غير أن يقتل به شارك غيره في قتله ، فسقط القود عنهما.

٤٠٣

ويمكن أن يستدل أيضا على من خالف في قتل الجماعة بواحد بقوله تعالى « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » (١) ، والقاتلون إذا كانوا جماعة فكلهم معتدون ، فيجب أن يعاملوا ما عاملوا به القتيل.

فان قالوا : ان الله تعالى يقول « النفس بالنفس والحر بالحر » (٢) ، وهذا ينفي أن يؤخذ نفسان بنفس وحران بحر.

قلنا : المراد بالنفس والحر ههنا الجنس لا العدد ، فكأنه تعالى قال : ان جنس النفوس يؤخذ بجنس النفوس وكذا جنس الأحرار ، فالواحد والجماعة يدخلون في ذلك.

فان قيل : قد ثبت أن الجماعة إذا اشتركوا في سرقة نصاب لم يلزم كل واحد منهم قطع وإن كان كل واحد منهم إذا انفرد بسرقته لزمه القطع ، فأي فرق بين ذلك وبين القتل مع الاشتراك؟

قلنا : الذي نذهب إليه ـ وان خالفنا فيه الجماعة ـ أنه إذا اشترك نفسان في سرقة شئ من حرز وكان قيمة المسروق ربع دينار ويكون أيديهما عليه ، فإنه يجب عليهما القطع معا وقد سوينا بين القتل والقطع. ولهذه المسألة تفصيل ذكر في بابه.

(فصل)

واختلف أهل التأويل في قوله « من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا » (٣).

__________________

١) سورة البقرة : ١٩٤.

٢) سورة المائدة : ٤٥.

٣) سورة المائدة : ٣٢.

٤٠٤

قال الزجاج : معناه انه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنهم خصومه في قتل ذلك الانسان.

قال الحسن : معناه تعظيم الوزر والاثم.

قال ابن مسعود : من قتل نفسا فكأنما قتل الناس عند المقتول ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس عند المستقيد.

وقال ابن زيد : معناه ان يجب من القتل والقود مثلما يجب عليه لو قتل الناس جميعا ، ومعنى من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا من نجاها من الهلاك ـ مثل الغرق والحرق.

وقيل من عفا عن دمها وقد وجب القود عليها ، وقيل معناه من زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يفتدى به فيها ، بأن يعظم تحريم قتلها كما حرمه الله على نفسه فلم يقدم عليه فقد حيى الناس بسلامتهم منه وذلك احياؤه إياها ، وهو اختيار الطبري.

والله هو المحيى للخلق لا يقدر عليه غيره ، وانما قال أحياها على وجه المجاز ، يعني نجاها من الهلاك ، كما حكي عن نمرود « أنا أحي وأميت » فاستبقي واحدا وقتل الاخر.

والقول في ذلك أن يقال : أن الله تعالى شبه قاتل النفس بقاتل جميع الناس ومنجيها بمنجى جميع الناس ، وتشبيه الشئ بالشئ يكون من وجوه حقيقة ومجازا ، فيجب أن ينظر في التشبيه ههنا بماذا يتعلق ، فلا يجوز أن يكون شبه الفعل بالفعل ، لان قتل واحد لا يشبه قتل اثنين ، فلابد من أن يكون التشبيه في المعنى.

ولا يجوز أن يقال : شبه الاثم بالاثم والعقاب بالعقاب ، لان الذي يحاسب على الفتليل والقطمير ويتمدح بأنه لا يظلم مثقال حبة من خردل يمنع غناه

٤٠٥

وحكمته وعدله أن يساوي في العقاب بين قاتل نفس واحدة وبين قاتل نفسين فكيف من قتل نوع الناس ، فإذا التشبيه مجاز والمراد به تهويل أمر القتل ومبالغة في الزجر عنه وأنه يستحق في الدنيا من كل مؤمن البراءة واللعنة والعداوة ، كما لو تعرض له نفسه بالقتل لا يستحق كل ذل منه لكون المؤمنون يدا واحدة على من سواهم.

وقد قضى الحسن بن علي عليهما‌السلام في رجل اتهم بأنه قتل نفسا فأقر بأنه قتل ، وجاء آخر فأقر أن الذي قتل هو دون صاحبه ، ورجع الأول عن اقراره : أنه درأ عنهما القود والدية ودفع إلى أولياء المقتول الدية من بيت المال وقرأ هذه الآية ثم قال : هذا ان قتل ذلك فقد أحيا هذا (١).

والأولياء هم الوراث من الرجال ، فمن الأولاد الذكور ومن الأقارب من كان ذكرا من قبل الأب.

(باب)

(القتل الخطأ المحض)

قال الله تعالى « وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله الا أن تصدقوا » (٢).

اعلم أن النفي ههنا متعلق بالجواز في دين الله وحكمه ، أي لا يجوز ذلك في حكم الله. والظاهر اخبار بانتفاء الجواز ويتضمن النفي ، أي فلا تفعلوه. ولدخول كان إفادة أن هذا ليس حكما حادثا بل لم يزل حكم الله على هذا.

وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية ديتين وثلاث كفارات :

ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الاسلام فقال « ومن قتل مؤمنا

__________________

١) وسائل الشيعة ١٩ / ١٠٧ وما هنا نقل بالمعنى.

٢) سورة النساء : ٩٢.

٤٠٦

خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ».

وذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم ففيه الكفارة دون الدية ، فقال « فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة » ، لان قوله « وإن كان » كناية عن المؤمن الذي تقدم ذكره.

ثم ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار المعاهدين ، فقال « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ».

وعند المخالف ان ذلك كناية عن الذي في دار الاسلام. وما قلناه أليق بسياق الآية ، لان الكنايات كلها في كان عن المؤمن فلا ينبغي أن يصرفها إلى غيره بلا دليل.

ومعناه : لم يأذن الله ولا أباح لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيما عهده إليه ، لأنه لو أباحه أو اذن فيه لما كان خطأ ، والتقدير الا ان يقتله خطأ فان حكمه كذا ـ ذهب إليه قتادة.

وقوله « الا خطأ » استثناء منقطع في قول أكثر المفسرين ، وتقدير الآية الا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس ذلك فيما جعله الله له ، واجماع ان قتل المؤمن لا يجوز لا عمدا ولا خطأ. فالتقدير : غير جائز في حكم الله أن يقتل مؤمن مؤمنا لكن ان وقع عليه غلط فأخطأ في مقصده وفعل هذا المحظور فعليه كذا وكذا.

(فصل)

ثم أخبر سبحانه بحكم من قتل من المؤمنين مؤمنا خطأ فقال « ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة » معناه فعليه تحرير رقبة مؤمنة ، يعني مظهرة

٤٠٧

للايمان. وظاهر ذلك يقتضي أن تكون بالغة ليحكم لها بالايمان ، وذلك في ماله خاصة.

« ودية مسلمة إلى أهله » يؤديها عنه عاقلته إلى أولياء المقتول.

« الا أن يصدقوا » أولياء المقتول على من لزمته دية قتلهم فيعفو عنه ، فحينئذ يسقط عنهم وموضع أن من قوله « الا أن يصدقوا » نصب ، لان المعنى فعلية ذلك الا في حال التصدق ، ثم حذفت في. وقيل الا حال التصدق ، وأصله الا على أن تصدقوا ثم سقط على ويعمل فيه ما قبله على معنى الحال ، أو هو مصدر وقع موقع الحال. ويجوز في سبب النزول كلما قيل.

والذي يعول عليه : ان ما تضمنته الآية حكم من قتل خطأ.

وقال ابن عباس والحسن : الرقبة المؤمنة لا تكون الا بالغة قد آمنت وصامت وصلت ، فأما الطفل فإنه لا يجزي ، ولا الكافر. وقال عطا : كل رقبة ولدت في الاسلام فهي تجزي. والأول أقوى ، لان المؤمن على الحقيقة لا يطلق الا على بالغ عاقل مظهر للايمان ملتزم لوجوب الصلاة والصوم ، الا أنه لا خلاف أن المولود بين مؤمنين يحكم له بالايمان ، فهذا الاجماع ينبغي أن يجري في كفارة قتل الخطأ ، فأما الكافر والمولود بين كافرين فإنه لا يجزي بحال.

ودية قتل الخطأ يلزم العاقلة ، والعاقلة يرجع بها على القاتل إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال فلا شئ للعاقلة عليه ، ومتى كان للقاتل مال ولم يكن للعاقلة مال الزم في ماله الدية خاصة.

ولا يلزم العاقلة من دية الخطأ الا ما قامت به البينة ، فأما ما يقر به القاتل فليس عليهم منه شئ ويلزم القاتل ذلك في ماله خاصة.

وتستؤدى دية الخطأ في ثلاث سنين.

والعاقلة هم الذين يرثون دية القاتل ان لو قتل ، ولا يلزم من لا يرث من ديته شيئا.

٤٠٨

والدية المسلمة إلى أهل القتيل هي المدفوعة إليهم موفرة غير منقصة حقوق أهلها منها.

« الا أن يصدقوا » معناه يتصدقوا ، وهو في قراءة أبي فأدغمت التاء في الصادر لقرب مخرجهما.

(فصل)

وقوله تعالى « فإن كان من قدم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة » (١).

يعنى إن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم هم أعداء لكم مشركون وهو مؤمن فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة.

واختلفوا في معناه :

فقال قوم : إذا كان القتيل في عداد الأعداء وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر فمن قتله فلا دية له وعليه تحرير رقبة مؤمنة ، لان الدية ميراث وأهله كفار لا يرثونه ـ هذا قول ابن عباس.

وقال آخرون : بل عنى به من أهل الحرب من تقدم دار الاسلام ثم يرجع إلى دار الحرب ، فإذا مر بهم جيش من أهل الاسلام فهرب قومه وأقام ذلك المسلم بينهم فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا.

ثم قال « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة » معناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم وبينهم أيها المؤمنون ميثاق أو عهد ـ أي عهد وذمة ـ وليسوا أهل حرب لكم فدية مسلمة إلى أهله يلزم عاقله قاتله وتحرير رقبة مؤمنة على القاتل كفارة لقتله.

واختلفوا في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن

__________________

١) سورة النساء : ٩٣.

٤٠٩

أو كافر؟ فقال قوم هو كافر ، الا انه يلزم قاتله ديته لان له ولقومه عهدا ، ذهب إليه ابن عباس. وقال آخرون بل هو مؤمن ، فعلى قاتله ديته يؤديها إلى قومه من المشركين لأنهم أهل ذمة. وهو المروي في أخبارنا ، الا أنهم قالوا تعطى ديته ورثته المسلمين دون الكفار.

والميثاق العهد ، والمراد به ههنا الذمة وغيرها من العهود.

والخطأ هو أن يريد شيئا فيصيب غيره.

والدية الواجبة في قتل الخطأ مائة من الإبل ان كانت العاقلة من أهل الإبل.

وقال ابن مهرايزد : هو أن يكون المقتول مؤمنا [ من قوم معاهدين ، وذكر ابن إسحاق انه يجوز أن لا يكون مؤمنا ] (١) ، ولأجل المهادنة والميثاق وجبت الدية والكفارة.

(فصل)

أما دية أهل الذمة فقال قوم هي دية المسلم سواء ، ذهب إليه ابن مسعود واختاره أبو حنيفة. وقال قوم هي على النصف من دية المسلم ، وقال قوم هي على الثلث من دية المسلم ، ذهب إليه الشافعي وقال إنها أربعة آلاف.

وأما دية المجوسي فلا خلاف انها ثمانمائة درهم ، وكذلك عندنا دية اليهودي والنصراني ، والأنثى منهم أربعمائة درهم ، والدليل عليه اجماع الطائفة.

فان احتج المخالف بقوله « ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله » ثم قال « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة » ، وظاهر الكلام يقتضي ان الدية واحدة.

قلنا : هذا السؤال ساقط على قول من يقول هذا القتيل الذي هو من قوم

__________________

١) الزياد من ج.

٤١٠

بينكم بينهم ميثاق هو مؤمن ، ومعناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم وبينهم ميثاق ـ أي ذمة وعهد وليسوا من أهل حرب لكم ـ فدية مسلمة إلى أهله لأنهم أهل الذمة. واما على قول من يقول إن هذا القتيل كافر فلا شبهة في أن ظاهر الكلام لا يقتضي التساوي في مبلغ الدية ، وانما يقتضي التساوي في وجوب الدية على سبيل الجملة.

وفي تقديم تحرير الرقبة على الدية في صدر الآية وتقديم الدية على تحرير الرقبة في آخر الآية خبيئة لطيفة ، وكذلك في قوله « الا أن تصدقوا » إشارة حسنة والأحسن أن تكون الكناية في كان من قوله « فإن كان من قوم عدو لكم » للقتيل دون أن يكون للمؤمن ، لان قوله « وهو مؤمن » يمنع من ذلك.

وكذا الكناية في كان من قوله « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق » للمقتول لان المقتول يقع على المؤمن والكافر ، فإن كان القتيل من هؤلاء الكافرين كافرا فديته دية الكافر وإن كان مؤمنا فديته دية المؤمن. هذا هو المذهب ، ويجوز أن يكون كان تامة في أول الآية من قوله « وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ » أي ما وقع قتل مؤمن لمؤمن الا قتلا خطأ.

(فصل)

ثم قال تعالى « فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين » (١) اختلفوا في معناه : فقال قوم يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله المؤمن خطأ لاعساره فعليه صيام شهرين متتابعين ، وقال آخرون فمن لم يجد الدية فعليه صوم شهرين عن الدية والرقبة ، وقال مسروق تأويل الآية فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهله فعليه صوم شهرين متتابعين.

__________________

١) سورة النساء : ٩٢.

٤١١

والأول هو الصحيح ، لان دية قتل الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل باجماع الأمة على ذلك.

وصفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بافطار يوم على ما قدمناه في باب الكفارة.

ثم قال « توبة من الله » وهو نصب على القطع (١) ، ومعناه رخصة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه ما خفف عنكم من فرض تحرير رقبة مؤمنة بايجاب صوم شهرين متتابعين.

قال الجبائي : انما قال « توبة من الله » لأنه تعالى بهذه الكفارة التي يلزمها يدرأ العقاب والذم عن القاتل ، لأنه يجوز أن يكون عاصيا في السبب وان لم يكن عاصيا في القتل من حيث إنه رمى في موضع هو منهي عنه وان لم يقصد القتل. وهذا ليس بشئ ، لان الآية عامة في كل قاتل خطأ ، وما ذكره ربما اتفق في الآحاد.

والزام دية الخطأ للعاقلة ليس هو مؤاخذة البرئ بالسقيم ، فان ذلك ليس بعقوبة بل هو حكم شرعي تابع للمصالح ، ولو خلينا والعقل ما أوجبناه. وقد قيل إن ذلك على وجه المواساة والمعاونة.

ثم قال « ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها » واستدلت المعتزلة بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة يخلد في نار جهنم وانه إذا قتل مؤمنا يستحق الخلود فيها ولا يعفى عنه.

ولنا ان نقول لهم : ما أنكرتم ان يكون المراد بالآية الكفار ومن لا ثواب له أصلا ، فأما من يستحق الثواب فلا يجوز ان يكون مرادا بالخلود في النار أصلا. وقد استوفى الكلام فيه أصحابنا في الأصول.

__________________

١) الكوفيون يسمون الحال قطعا « ج ».

٤١٢

وقد ذكر جماعة من المفسرين ان الآية متوجهة إلى من يقتل مؤمنا تعصبا لايمانه ، وذلك لا يكون الا كافرا.

وقال علي بن موسى القمي : ان التقدير في الآية من يقتل مؤمنا لدينه ، والوعيد ورد على هذا الوجه ، لأنه إذا قتله لأجل انه مؤمن فقد كفر.

(فصل)

اما قوله « يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا » (١) فقد قال أبو جعفر عليه‌السلام : نزلت في أمر بنى النضير وبنى قريضة (٢).

قال قتادة : انما كان ذلك في قتيل بينهم ، قالوا إن أفتاكم محمد بالدية فاقتلوا وان أفتاكم بالقود فاحذروه ، فلما أرادوا الانصراف تعلقت قريضة بالنضير قالوا : يا أبا القاسم ـ وكرهوا أن يقولوا يا محمد لئلا يوافق ذلك ما في كتبهم من ذكره ـ هؤلاء إخواننا بنو النضير إذا قتلوا منا قتيلا لا يعطون القود منهم وأعطونا سبعين وسقا من تمر ، وان اخذوا الدية اخذوا منا مائة وأربعين وسقا ، وكذا جراحاتنا على انصاف جراحاتهم. فأنزل الله « وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط » (٣) أي فاحكم بينهم بالسواء. فقالوا : لا نرضى بقضائك ، فأنزل الله « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون » (٤).

ثم قال تعالى « وكيف يحكمونك وعندهم التوراة » (٥) شاهدا لك فيما

__________________

١) سورة المائدة : ٤١.

٢) روى ذلك في حديث طويل ـ انظر يجمع البيان ٢ / ١٩٣.

٣) سورة المائدة : ٤٢.

٤) سورة المائدة : ٥٠.

٥) سورة المائدة : ٤٣.

٤١٣

يخالفونك. ثم فسر ما فيها من حكم الله فقال « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين » الآية.

« فان تولوا » يعنى بني النضير لما قالوا لا نرضى بحكمك.

(باب)

(القتل الخطأ وشبيه العمد)

اعلم أن القتل على ثلاثة أضرب :

عمد محض ، وهو أن يكون عامدا بآلة يقتل غالبا كالسيف والسكين والحجر الثقيل ، عامدا في قصده ، وهو أن يقصد قتله بذلك. فمتى كان عامدا في قصده عامدا في فعله فهو العمد المحض ، قال تعالى « ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم » (١).

والثاني : خطأ محض ، وهو ما لم يشبه شيئا من العمد ، بأن يكون مخطئا في فعله مخطئا في قصده ، مثل أن رمى طائرا فأصاب انسانا ، فقد أخطأ في الامرين ، قال الله تعالى « ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة » (٢).

الثالث : عمد الخطأ أو شبه العمد ، والمعنى واحد ، وهو أن يكون عامدا في فعله مخطئا في قصده. فأما كونه عامدا في فعله فهو أن يعمد إلى ضربه لكنه بآلة لا تقتل غالبا كالسوط والعصا الخفيفة ، والخطأ في القصد أن يكون قصده تأديبا وزجره وتعليمه لكنه ان مات منه فهو عامد في فعله مخطئ في قصده.

ويمكن أن يستدل على هذا النوع من القتل أيضا بقوله « وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ » الآية. فالخطأ شبيه العمد هو أن يعالج الطبيب غيره بما

__________________

١) سورة النساء : ٩٣.

٢) سورة النساء : ٩٢.

٤١٤

قد جرت العادة بحصول النفع عنده أو بقصده فيؤدى ذلك إلى الموت. فان هذا وما قدمناه يحكم فيه بالخطأ شبيه العمد يلزم فيه الدية مغلظة ، ولا قود فيه على حال.

والدية فيه تلزم القاتل بنفسه في ماله خاصة ، وان لم يكن له مال استسعى فيها أو يكون في ذمته إلى أن يوسع الله عليه. والدية في ذلك مائة من الإبل أثلاثا ، وهذه الدية تستؤدى في سنتين.

وعلى هذا القاتل بعد اعطاء الدية كفارة عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد كان عليه صيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا ، كما على قاتل الخطأ المحض ، لان الآية أيضا دالة عليه.

وكفارة قتل العمد بعد العفو له ببدل أو بلا بدل هذه الثلاثة. والدليل عليه بعد الاجماع السنة ، فإن لم يقدروا على ذلك تصدقوا بما استطاعوا وصاموا ما قدروا عليه.

(باب)

(ديات الجوارح والأعضاء والقصاص فيها)

قال الله تعالى « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص » (١).

هذا وإن كان اخبارا من الله تعالى انه مما كتب على اليهود في التوراة ، فإنه لا خلاف أن ذلك ثابت في شرعنا. وذلك لأنه إذا صح بالقرآن أو بالسنة أن حكما من الاحكام كان ثابتا في شريعة من كان قبل نبينا من الأنبياء عليهم‌السلام

__________________

١) سورة المائدة : ٤٥.

٤١٥

ولا يثبت نسخة لا قرآنا ولا سنه ة فإنه يجب العمل به.

يقول الله عزوجل : فرضنا على اليهود الذين تقدم ذكرهم في التوراة أن النفس بالنفس ، ومعناه إذا قتلت نفس نفسا أخرى متعمدا فإنه يستحق عليه القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا وكان المقتول مكافئا للقاتل ، اما أن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين ، فأما أن يكون القاتل حرا مسلما والمقتول كافرا أو مملوكا فان عندنا لا يقتل به ، وفيه خلاف بين الفقهاء. وإن كان القاتل مملوكا أو كافرا والمقتول مثله أو فوقه فإنه يقتل بلا خلاف.

ويراعى في قصاص الأعضاء ما يراعى في قصاص النفس من التكافؤ ، ومتى لم يكونا متكافئين فلا قصاص على الترتيب الذي رتبناه في النفس سواء ، وفيه أيضا خلاف.

ويراعى في الأعضاء التساوي أيضا ، فلا يقلع العين اليمنى باليسرى ، ولا يقطع اليمين باليسار ، ولا يقطع الناقصة بالكاملة. فمن قطع يمين غيره وكانت يمين القاطع شلاء قال أبو علي : يقال له ان شئت قطعت يمينه الشلاء أو تأخذ دية يدك. وقد ورد في أخبارنا أن يساره تقطع إذا لم يكن للقاطع يمين.

وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : دية اليد إذا قطعت خمسون من الإبل ، فما كان جروحا دون الاصطلام (١) فيحكم به ذوا عدل منكم ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (٢). وفى هذا إشارة إلى أن الحكم بذلك أو بغيره ليس الا إلى حجة الله أو من يأمره الحجة.

فأما عين الأعور فإنها تقلع بالعين الذي يقلعها ، سواء كانت المقلوعة عوراء أو لم تكن ، فان قلعت العوراء كان فيها كمال الدية إذا كانت خلقة أو ذهبت

__________________

١) أي لم يقطع عضو تام ، والاصطلام الاستيصال.

٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ١٣٠.

٤١٦

بآفة من الله تعالى أو تقلع أحد عيني القالع ويلزمه مع ذلك نصف الدية ، وفيه خلاف.

(فصل)

وقوله تعالى « والجروح قصاص » التقدير أوجبنا أن النفس تقتل إذا قتلت نفسا بغير حق وفرضنا عليهم أن الجروح قصاص.

وظاهر هذه الآية لا يقتضى انا متعبدون بهذه الأحكام ، لأنها حكاية عن أمة أنه فرض عليهم ذلك ، الا ان العلماء مجمعون على انا أيضا بهذه الأحكام متعبدون لا بهذه الآية بل بالآية التي في سورة البقرة وهي مجارية لهذه. ولا يجب من الاتفاق في كثير من المتعبدات أن تكون الشريعتان واحدة بعينها.

ومعنى « النفس بالنفس » تقتل النفس بسبب قتل النفس. قيل وذلك مجمل وله بيان طويل ، وفيه تخصيص.

ومعنى « العين بالعين » تقلع العين لمن قلع عينا بغير حق.

وكذا ان قطع أنفه أو أذنه أو قلع أو كسر سنا له أو جرحه بجراحة يفعل به مثله. وهذا معنى قوله « والجروح قصاص » لان القصاص ان يتبع به فعله فيفعل مثل فعله ، ومعناها ذات قصاص ، أي يقاص الجارح قصاصا.

وتفاصيل هذه الأحكام بكتب الفقه أولى ، لكنا نذكر ألفاظا يسيرة.

(فصل)

وأما الجروح فإنه يقتص منها إذا كان الجارح مكافئا للمجروح على ما بيناه في النفس ، فيقتص بمثل جراحته الموضحة بالموضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة بالمنقلة. ولا قصاص في المأمومة وهي التي تبلغ أم الرأس ، ولا الجائفة

٤١٧

وهي التي تبلغ الجوف ، لان في القصاص منهما تضريرا بالنفس.

ولا ينبغي أن يقتص الجراح بعد أن يندمل من المجروح ، فإذا اندمل اقتص حينئذ من الجارح ، وان سرت إلى النفس كان فيها القود.

وكسر العظم لا قصاص فيه وانما فيه الدية.

وكل جارحة كانت ناقصة فإذا قطعت كان فيها حكومة ولا يقتص بها الجارحة الكاملة ، كيد شلاء وعين لا تبصر وسن سوداء متأكلة ، فان في جميع ذلك حكومة لا تبلغ دية تلك الجارحة ، وقد روينا في هذه الأشياء مقدرا ، وهو ثلث دية العضو الصحيح.

والعين تقلع بالعين وان تفاوتتا في الصغر والكبر والحسن والقبح وزيادة البصر ، الا أن تكون عمياء.

(فصل)

وقوله تعالى « فمن تصدق به فهو كفارة له » الهاء في كفارة له يحتمل عودها إلى أحد أمرين :

أحدهما : ـ وهو الأقوى ـ أنها عائدة على المتصدق من المجروح أو ولي المقتول ، لأنه إذا تصدق بذلك على الجارح لوجه الله تعالى كفر الله بذلك عنه عقوبة ما مضى من معاصيه.

الثاني : أنها تعود على المتصدق عليه ، لأنه يقوم مقام أخذ الحق عنه.

وانما رجحنا الأول لان العائد يجب أن يرجع إلى مذكور وهو « من » والمتصدق عنه لم يجر له ذكر. على أنه لو كان ههنا كفارة وقصاص ـ كما قتل خطأ المؤمن في دار الاسلام كفارة ودية ـ لما سقطت الكفارة وان أسقط المجروح القصاص ، كما لا تسقط الكفارة في قتل الخطأ وان تصدقوا بالدية فتسقط.

ومعنى من تصدق به عفا عن الحق وأسقط.

٤١٨

فان قيل : هل يكفر الذنب الا التوبة أو اجتناب الكبيرة.

قلنا : على مذهبنا لا يجوز أن يكفر الذنب شئ من أفعال الخير ، ويجوز أن يتفضل الله باسقاط (١) عقابها كما قال عليه‌السلام : من يعف يعف الله عنه (٢)

وقوله « فمن تصدق به » من لصاحب الحق والذي له أن يطلب القصاص ، والضمير في « به » لحقه يقول ولي المقتول : ومن جرح أو أصيب عضو منه ان عفى واحد منهم عن حقه ولم يطالب بالقصاص أو الدية ـ فهو أي فعله ذلك وتركه لحقه ـ كفارة له ، أي يكفر الله له ذنوبه فلا يؤاخذه بها. وقال ابن عباس : انه كفارة للحامي ، أي يسقط عنه الولي والمخرج القود والقصاص عن القاتل والجارح. فالأول أوجه.

(فصل)

وأما قوله « والذين إذا أصابعهم البغي هم ينتصرون » إلى قوله « وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله » (٣). العفو في الآية المراد به ما يتلق بالإساءة إلى نفوسهم الذي له الاختصاص بها ، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين.

وأما ما يتعلق بحقوق الله وحدوده فليس للامام تركها ولا العفو عنها ولا يجوز له عن المرتد وعمن يجري مجراه.

« وجزاء سيئة سيئة مثلها » يحتمل أن يكون المراد ما جعل الله لنا الاقتصاص منه من النفس بالنفس والعين بالعين ـ الآية ، فان المجني عليه [ له ] أن يفعل بالجاني مثل ذلك من غير زيادة. وسماه سيئة للازدواج ، كما قال « وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » (٤).

__________________

١) إلى هنا تنتهى نسخة « ج » من جامعة طهران.

٢) مستدرك الوسائل ٢ / ٨٧.

٣) سورة الشورى : ٣٩ ـ ٤٠.

٤) سورة النحل : ١٢٦.

٤١٩

ثم مدح العافي بماله أن يفعله فقال « فأجره على الله » أي فجزاؤه عليه وهو سبحانه يثيبه على ذلك « انه لا يحب الظالمين » أي لم أرغبكم في العفو عن الظالم لأني أحبه بل لأني أحب الاحسان والعفو.

ثم أخبر أن من انتصر بعد أن تعدي عليه فليس عليه سبيل قال قتادة « بعد ظلمه » فيما يكون فيه القصاص بين الناس في النفس أو الأعضاء أو الجرح ، فأما غير ذلك فلا يجوز أن يفعل بمن ظلمه.

وقال قوم : ان له أن ينتصر على يد سلطان عادل ، بأن يحمله إليه ويطالبه بأخذ حقه منه ، لان السلطان هو الذي يقيم الحدود ويأخذ من الظالم للمظلوم.

(فصل)

وقوله تعالى « ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما » (١).

فأول ما يكون الجنين نطفة وفيها عشرون دينارا ، ويصير علقة وفيها أربعون دينارا وفيما بينهما بحساب ذلك ، ثم يصير مضغة وفيها سبعون دينارا ، ثم يصير عظما وفيه ثمانون دينارا ، ثم يصير صورة بلا روح مكسوا عليها اللحم خلقا سويا شق له العينان والاذنان والأنف قبل أن تلجه الروح وفيه مائة دينار ، ثم تلجه الروح وفيه دية كاملة. وبذلك قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقرأ الآية (٢).

قوله « يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم » (٣). قال قوم :

__________________

١) سورة المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

٢) انظر تفسير البرهان ٣ / ١١١.

٣) سورة الحج : ٥.

٤٢٠