لا تخونوا الله والرسول

صباح علي البيّاتي

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف:

صباح علي البيّاتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

السنة ، ونحن محقون في هذا الاعتقاد ، وإلا لاستلزم الأمر منا القول بوقوع التحريف في القرآن ، وهذا ما لا نقول به ولا نعتقد أن أحداً من المسلمين بكافة مذاهبهم وطوائفهم يرضىٰ بالقول به .

وإن غرضنا من إيراد هذه الشواهد ليس إلّا إقامة الحجة علىٰ المتعصبين الذين يفترون علىٰ الشيعة ويتخذون وجود هذه الروايات الضعيفة في كتب الشيعة دليلاً علىٰ قولهم بالتحريف ، وإنا لله وإنا إليه راجعون :

١ ـ عن علقمة : دخلت في نفر من أصحاب عبد الله الشام ، فسمع بنا أبو الدرداء ، فأتانا فقال : أفيكم من يقرأ ؟ فقلنا : نعم ، قال : فأيكم أقرأ ؟ فأشاروا إلي ، فقال : إقرأ ، فقرأت : والليل إذا يغشىٰ والنهار إذا تجلىٰ والذكر والانثىٰ ؛ فقال : أنت سمعتها من فيّ صاحبك ؟ قلت : نعم ، قال : وأنا سمعتها من فيّ النبي وهؤلاء يأبون علينا (١) .

وفي رواية مسلم والترمذي : أنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأها : وما خلق ، فلا أُتابعهم (٢) .

٢ ـ عن عمر بن الخطاب : إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه

_______________

(١) صحيح البخاري ٦ / ٢١٠ .

(٢) صحيح مسلم ١ / ٥٦٥ ، صحيح الترمذي ٥ / ١٩١ ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .

١٤١

الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشىٰ إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ثم إنا كنا نقرأ ـ فيما نقرأ من كتاب الله ـ أن لا ترغبوا عن آبائكم... .

فالرجم في كتاب الله حق علىٰ من زنىٰ إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت عليه البينة .

وعن سعيد بن المسيب ـ وهو من أكابر التابعين ـ عن عمر قوله : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل : لا نجد حدّين في كتاب الله ، فقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا ، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ، فانا قد قرأناها (١) .

٣ ـ عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه ، قال : دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىٰ الذين قتلوا ـ يعني أصحابه ببئر معونة ـ ثلاثين صباحاً حين يدعو علىٰ رعل

_______________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٢٠٨ كتاب المحاربين من أهل الردة ـ باب رجم الحبلىٰ من الزنا إذا أحصنت ، صحيح مسلم ٣ / ١٣١٧ ، مسند أحمد ١ / ٤٠ و ٥٥ ، الموطأ ٢ / ٨٢٤ : ١٠ ، مسند أحمد ١ / ٣٦ و ٤٣ ، الاتقان في علوم القرآن ١ / ٢٠٦ و ٢ / ٤٢ و ٣ / ٨٣ وقال : إن الله بعث محمداً .

١٤٢

ولحيان وعصيّة عصت الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أنس : فأنزل الله تعالىٰ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذين قتلوا أصحاب بئر معونة قرآناً قرأناه حتىٰ نسخ بعد : بلغوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه (١) .

٤ ـ عن البراء بن عازب ، قال : نزلت هذه الآية : حافِظوا علىٰ الصَّلواتِ وَصَلاةِ العَصْرِ ، فقرأناها ماشاء الله ، ثم نسخها الله ، فنزلت : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ ) ، فقال رجل كان جالساً عند شقيق له : هي إذاً صلاة العصر ؟ فقال البراء : قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله ، والله أعلم (٢) .

٥ ـ عن أبي يونس مولىٰ عائشة أُم المؤمنين عن عائشة : أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً ، فلما بلغت ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ) قال : فأملت علي : حافِظوا علىٰ الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوسطىٰ وَصَلاةِ العَصْرِ ، قالت : سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) .

٦ ـ عن أنس قال : ما وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىٰ سرية ما وجد عليهم ، كانوا يسمّون القراء ، قال سفيان : نزل فيهم : بلغوا عنا أنا قد

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٣٦ ـ ١٣٧ باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة و ٤ / ٢٢ و٢٦ باب فضل الجهاد والسير ، مسند أحمد ٣ / ١٠٩ .

(٢) صحيح مسلم ١ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ .

(٣) الموطأ ١ / ١٣٨ : ٢٥ ، صحيح مسلم ١ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، فتح الباري ٨ / ١٥٨ .

١٤٣

رضينا ورضي عنا ، قيل لسفيان : فيمن نزلت ؟ قال : في أهل بئر معونة (١) .

٧ ـ عن زر عن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ، فقرأ : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ومن نعتها لو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيته سأل ثانياً وإن أعطيته سأل ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله علىٰ من تاب وإن الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيراً فلن يكفره (٢) .

٨ ـ عن عائشة قالت : نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها .

كان فيما أنزل الله من القرآن ثم سقط : لا يحرم إلّا عشر رضعات أو خمس معلومات (٣) .

٩ ـ عن أبي موسىٰ الأشعري أنه قال لقراء أهل البصرة : إنا كنا

_______________

(١) مسند أحمد ٣ / ١١١ ، ٢٥٥ .

(٢) المستدرك ٢ / ٢٢٤ وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، كنز العمال ٢ / ٥٦٧ .

(٣) سنن ابن ماجه ١ / ٦٢٥ .

١٤٤

نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة ، فنسيتها غير أني حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغىٰ وادياً ثالثاً ولا يملأ جوفه إلّا التراب ، وكنا نقرأ سورة نشبهها باحدىٰ المسبّحات أولها : سبح لله ما في السماوات ، فانسيتها غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة (١) .

١٠ ـ عن زر بن حبيش قال : قال أبي بن كعب : يا زر ، كأيّن تقرأ سورة الأحزاب ؟ قلت : ثلاث وسبعون آية ، قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة أو هي أطول من سورة البقرة ، وإن كنا لنقرأ منها آية الرجم ، وفي لفظ : وإن في آخرها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ، فرُفع فيما رُفع [ عب ط ص عم وابن منيع ن وابن جرير وابن المنذر وابن الانباري في المصاحف ، قط في الافراد ، ك وابن مردويه ص ] (٢) .

١١ ـ قرأ أبي بن كعب : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً إلّا مَن تاب فان الله كان غفوراً رحيما ، فذُكر لعمر فأتاه فسأله عنها ، فقال : أخذتها من فيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس لك عمل إلا الصفق

_______________

(١) صحيح مسلم ٧٢٦ ، ١٠٥٠ .

(٢) كنز العمال ٢ / ٥٦٧ .

١٤٥

بالاسواق . [ ع ابن مردويه ] (١) .

١٢ ـ عن أبي إدريس الخولاني قال : كان أُبي يقرأ : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ولو حميتم كما حما لفسد المسجد الحرام فأنزل الله سكينته علىٰ رسوله ، فبلغ ذلك عمر فاشتدّ عليه ، فبعث إليه فدخل عليه ، فدعا ناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال : من يقرأ منكم سورة الفتح ؟ فقرأ زيد علىٰ قراءتنا اليوم ، فغلّظ له عمر ، فقال أُبيّ : لأتكلّم ، قال : تكلم ، فقال : لقد علمت أني كنت أدخل علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقرؤني وأنت بالباب ، فإن أحببت أن أُقرئ الناس علىٰ ما أقرأني أقرأت وإلّا لم أُقرئ حرفاً ما حييتُ ، قال : بل أقرئ الناس [ ن وابن أبي داود في المصاحف ك وروىٰ ابن خزيمة بعضه ] (٢) .

١٣ ـ عن بجالة قال : مرّ عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف : النبي أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمهاتهم وهو أبٌ لهم ، فقال : يا غلام حكّها ، قال : هذا مصحف أُبَيّ ، فذهب إليه فسأله ، فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق (٣) .

_______________

(١) المصدر السابق ٢ / ٥٦٨ .

(٢) كنز العمال ٢ / ٥٦٨ ـ ٥٩٤ .

(٣) المصدر السابق ٢ / ٥٦٩ .

١٤٦

١٤ ـ عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم نجد فيما أُنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة ؟ فانا لم نجدها ، قال : أُسقط فيما أُسقط من القرآن (١) .

١٥ ـ عن عائشة أنها قالت : كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّا علىٰ ما هو الآن (٢) .

١٦ ـ قال السيوطي : أَخرج إبن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة ، قال : التي تسمّون سورة التوبة هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحداً إلّا نالت منه ، ولا تقرؤون مما كنا نقرأ إلّا ربعها .

وأخرج أبو الشيخ عن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : ما تقرؤون ثلثها ، يعني سورة التوبة (٣) .

١٧ ـ عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أنا الرزاق ذو القوة المتين (٤) .

_______________

(١) المصدر السابق : ٥٦٧ .

(٢) الاتقان في علوم القرآن ٣ / ٨٢ ، الدر المنثور ٥ / ١٨٠ .

(٣) الدر المنثور ٤ / ١٢٠ ـ ١٢١ .

(٤) مسند أحمد ١ / ٣٩٤ ، صحيح الترمذي ٥ / ١٩١ عن عبد الرحمن بن يزيد ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .

١٤٧

هذا بعض ما ورد في كتب أهل السنة وصحاحهم من روايات تنسب النقص والتحريف إلىٰ القرآن الكريم ، وهي كثيرة جداً كما اعترف بذلك الآلوسي (١) .

والملاحظ أن المحدثين والحفاظ من أهل السنة يصححون هذه الأحاديث ـ كما مر في أقوال الحاكم والترمذي والذهبي ـ كما أن وجود هذه الروايات في صحيحي البخاري ومسلم يقتضي صحتها عند أهل السنة ، لأنهم يقولون بأن كل ما في الصحيحين ينبغي أن يكون صحيحاً ، بل لقد صرّح بعض علماء أهل السنة بذلك ، كما يتبين من كلام الرافعي : فذهب جماعة من أهل الكلام... إلىٰ جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء (٢) .

كما نسب بعض العلماء إلىٰ بعض الصحابة القول بأن في القرآن لحناً .

قال ابن جزي : ( والمقيمين ) منصوب علىٰ المدح باضمار فعل ، وهو جائز كثيراً في الكلام ، وقالت عائشة : هو من لحن كتّاب المصحف (٣) .

_______________

(١) روح المعاني ١ / ٢٥ .

(٢) إعجاز القرآن : ٤١ .

(٣) التسهيل بعلوم التنزيل ١ / ١٦٤ ، ٣ / ١٥ .

١٤٨

وقال الآلوسي : أُسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته... (١) .

وإضافة لهذا وذاك فاننا لو راجعنا صحاح أهل السنة في كيفية جمع القرآن ، لوجدنا أن رواياتهم تثبت أن القرآن قد جُمع بطريق الآحاد وليس بطريق التواتر ، حتىٰ أن بعض الآيات قد أُخذت عن شخص واحد فقط هو خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ولا أريد الافاضة في هذا الموضوع ، فمن أراد التحقق فليراجع روايات جمع القرآن في الصحاح .

خلاصة القول : إننا لو حاسبنا أهل السنة علىٰ هذه الروايات التي في كتبهم وصحاحهم لاستوجب ذلك إتهامهم بالقول بعدم صحة حفظ القرآن ، وفي هذا تكفير لهم ، وهي التهمة التي يحاول شيخ الوهابية أن يلصقها بأتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وصدق القائل : رمتني بدائها وانسلت .

رأي علماء الشيعة في التحريف :

بعد أن تبين لنا بطلان التهمة التي يُرمىٰ بها الشيعة بالقول

_______________

(١) روح المعاني ١ / ٢٥ .

١٤٩

بتحريف القرآن ، أجد من المناسب هنا أن أنقل بعض كلمات علمائهم الأعلام حول هذا الموضوع ، حتىٰ يتبين الحق الصراح لكل ذي بصر وبصيرة :

١ ـ الفضل بن شاذان ، المتوفىٰ سنة ( ٢٦٠ هـ ) :

نجده في كتابه الايضاح ينص علىٰ بعض أهل السنة القول بتحريف القرآن ، مما يدلل علىٰ عدم إعتقاده بصحة القول بالتحريف (١) .

٢ ـ الشيخ الصدوق ، محمد بن علي بن بابويه القمي ، المتوفىٰ ( ٣٨١ هـ ) :

يقول : اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالىٰ علىٰ نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك... ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب (٢) .

٣ ـ الشيخ المفيد ، محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ ) :

قال : وقد قال جماعة من أهل الامامة : انه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف

_______________

(١) الايضاح ١١٢ ـ ١١٤ ، ذكر ما ذهب من القرآن .

(٢) الاعتقادات : ٨٤ ضمن مصنفات الشيخ المفيد .

١٥٠

أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه علىٰ حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالىٰ الذي هو القرآن المعجز... وأما الزيادة فيه فمقطوع علىٰ فسادها من وجه ويجوز صحتها من وجه : فالوجه الذي أقطع علىٰ فساده أن يمكن لأحد من الخلق زيادة مقدار سورة فيه علىٰ حدّ يلتبس به عند أحد من الفصحاء ، وأما الوجه المجوّز فهو أن يزاد فيه الكلمة والكلمتان والحرف والحرفان وما أشبه ذلك مما لا يبلغ حدّ الاعجاز ويكون ملتبساً عند أكثر الفصحاء بكلم القرآن ، غير أنه لابدّ متىٰ وقع ذلك من أن يدلّ الله عليه ، ويوضح لعباده عن الحق فيه ، ولست أقطع علىٰ كون ذلك ، بل أميل إلىٰ عدمه وسلامة القرآن عنه (١) .

_______________

(١) أوائل المقالات : ٨١ ـ ٨٢ .

وللمزيد راجع كتاب « التحقيق في نفي التحريف » للسيد علي الميلاني .

١٥١
١٥٢

الفصل السادس : التقيّة

قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب في « مطلب التقية » :

ومنها ايجابهم التقيّة ، ورووا عن الصادق رضي‌الله‌عنه : « التقيّة ديني ودين آبائي » حاشاه عن ذلك ، وفسر بعضهم قوله تعالىٰ ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) أكثركم تقية وأشدكم خوفاً من الناس... (١) .

وفي : « مطلب تركهم الجمعة والجماعة » قال :

ومنها أن اليهود ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا ، وكذلك هؤلاء ضربت عليهم الذلة حتىٰ أحيوا التقية من شدة خوفهم وذلهم... (٢) .

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٠ .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٥ .

١٥٣

نقول : إنَّ من المحزن حقاً أن يصبح موضوع التقية سُلَّماً للتشنيع علىٰ الشيعة وقذفهم بما لا يليق ونعتهم بأشنع الأوصاف حتىٰ شبههم الشيخ باليهود ، وكأن التقية بدعة قد ابتدعتها الشيعة لأغراض لا تمت إلىٰ الدين بصلة .

إن التقية ليست من بدع الشيعة ، وليس التزامهم بها بمثل تلك الصورة المشوهة التي يحاول البعض أن يلصقوها بالشيعة ، فالتقية شيء ثابت في الشريعة الاسلامية ، نزل بها القرآن الكريم وأقرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتزم بها المسلمون منذ عهد الصحابة وحتىٰ يومنا هذا ، وبيّن الفقهاء أحكامها ، بل إن الذين يشنعون علىٰ الشيعة قد يكونون أكثر التزاماً منهم بالتقية لو أنهم تعرضوا لمثل ما تعرض له الشيعة من محن علىٰ مرّ العصور .

قال الامام الباقر عليه‌السلام لبعض أصحابه : « يا فلان ، مالقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا ، ومالقي شيعتنا ومحبونا من الناس ! إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وقد أخبر أنّا أولىٰ الناس بالناس ؛ فتمالأت علينا قريش حتىٰ أخرجت الأمر عن معدنه واحتجت علىٰ الأنصار بحقنا وحجتنا ، ثم تداولتها قريش ، واحداً بعد واحد ، حتىٰ رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتىٰ قُتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غُدر به وأُسلم

١٥٤

ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره وعولجت خلاخيل أمهات أولاده ، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل . ثم بايع الحسين عليه‌السلام من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه ، ثم لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونُستضام ونُقصىٰ ونمتهن ونُحرم ونُقتل ونُخاف ولا نأمن علىٰ دمائنا ودماء أوليائنا . ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلىٰ أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغّضونا إلىٰ الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه‌السلام ، فقُتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل علىٰ الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدمت داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلىٰ زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين عليه‌السلام ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة ، حتىٰ أن الرجل ليقال له : زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي ، وحتىٰ صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعله يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالىٰ شيئاً منها

١٥٥

ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع » (١) .

هكذا كان حال الشيعة في زمن بني أُمية ـ كما وصفه الامام الباقر عليه‌السلام ـ ثم جاء دور العباسيين الذي كانوا أشد وطأة علىٰ أهل البيت وشيعتهم من أسلافهم الأمويين ، وكتب التاريخ ممتلئة بتلك الحوادث المفجعة ، ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني .

ثم جاء العثمانيون ليكملوا المسيرة الظالمة ، إذ كان السلطان سليم ـ كما يحدثنا السيد أسد حيدر ـ شديد التعصب علىٰ أهل الشيعة ، ولاسيما أنه كان في تلك الأيام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعية تنافي مذهب أهل السنة ، وكان قد تمسك بها جماعة من الأهالي ، فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة ، فقتلوا نحو أربعين ألف رجل ، وأخرج فتوىٰ شيخ الاسلام بأنه يؤجر علىٰ قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدهم (٢) .

كما ذكر الشيخ المظفر رحمه‌الله بعض فضائع العثمانيين تجاه الشيعة ،

_______________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٤٣ ـ ٤٤ .

(٢) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ١ / ٢٤٤ عن مصباح الساري ونزهة القاري : ١٢٣ ـ ١٢٤ .

١٥٦

ومنها ما حدث في مدينة حلب ، حيث أفتىٰ الشيخ نوح الحنفي في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم ، تابوا أو لم يتوبوا !! فزحفوا علىٰ شيعة حلب وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون ، وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون منهم من ديارهم... (١) .

أما المذابح التي ارتكبت بحق الشيعة ، وما أريق من دمائهم وما انتهب من أموالهم ، وما تعرض له مشاهدهم المقدسة من تخريب علىٰ أيدي الوهابيين بفتوىٰ شيخهم محمد بن عبد الوهاب ، فحدّث ولا حرج ، إستكمالاً للمخطط الذي بدأه معاوية في تصفية آثار النبوة والقضاء علىٰ سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلال تصفية أتباعه المتمسكين بسنته كما سوف يتبين في بعض الفصول القادمة .

وأكتفي بهذا القدر من الشواهد التاريخية حتىٰ يعرف القارئ الكريم الظروف التي أحاطت بالشيعة مما جعلهم يلجؤون إلىٰ التقية .

ويبقىٰ السؤال : هل خالف الشيعة شريعة الاسلام في الالتزام بالتقية ؟

لقد حدّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مفهوم التقية عند الشيعة

_______________

(١) تاريخ الشيعة : ١٤٧ ، التقية في فقه أهل البيت ٥١ / ١ .

١٥٧

بقوله ـ في نفس المطلب الذي نحن بصدده ـ :

والمفهوم من كلامهم أن معنىٰ التقية عندهم كتمان الحق أو ترك اللازم أو ارتكاب المنهي خوفاً من الناس... (١) .

فلنستعرض الآن مفهوم التقية عند أهل السنة من خلال أقوال بعض علمائهم ، حتىٰ يتبين لنا إن كانوا يخالفون مفهومها عند الشيعة : في شيء :

١ ـ قال أحمد مصطفىٰ المراغي في تفسيره لقوله تعالىٰ : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّـهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (٢) ، قال :

أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال ، إلّا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتقىٰ ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية أن ردّ المفاسد مقدّم علىٰ جلب المصالح ، وإذا جاز موالاتهم لاتقاء الضرر فأولىٰ أن تجوز لمنفعة المسلمين ، وإذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلىٰ الأولىٰ ، إما بدفع ضرر أو جلب منفعة ،

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢١ .

(٢) سورة آل عمران : ٢٨ .

١٥٨

وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت ، وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية : بأن يقول الانسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقي الضرر من الأعداء يعود إلىٰ النفس أو العرض أو المال ، فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالايمان لا يكون كافراً ، بل يُعذر ، كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش علىٰ الكفر ، فوافقها مكرهاً وقلبه مليء بالايمان ، وفيه نزلت الآية ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١) .

٢ ـ وقال ابن العربي المالكي :

وقد اختلف الناس في التهديد ، هل هو إكراه أم لا ؟ والصحيح إنه إكراه ، فان القادر الظالم إذا قال لرجل : إن لم تفعل كذا وإلّا قتلتك أو ضربتك أو أخذت مالك أو سجنتك ، ولم يكن له من يحميه إلّا الله ، فله أن يقدم علىٰ الفعل ويسقط عنه الاثم في الجملة ، إلّا في القتل ، فلا خلاف بين الأُمة أنه إذا أُكره عليه بالقتل لا يحل له أن يفدي

_______________

(١) تفسير المراغي ٣ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، والآية في سورة النحل : ١٠٦ .

١٥٩

نفسه بقتل غيره ويلزمه أن يصبر علىٰ البلاء الذي ينزل به... واختلف في الزنا ، والصحيح أنه يجوز له الاقدام عليه ولا حدّ عليه... وأما الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف علىٰ شرط أن يلفظ بلسانه وقلبه منشرح بالايمان... (١) .

٣ ـ قال القرطبي :

لما سمح الله عزوجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الاكراه ولم يؤاخذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها ، فاذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم ، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « رُفع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه »... روىٰ ابن القاسم عن مالك أن من أُكره علىٰ شرب الخمر وترك الصلاة أو الافطار في رمضان أن الاثم عنه مرفوع... (٢) .

٤ ـ وقال أبو حيان :

صحة التقية من كل غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك الكفار وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، كما تصح التقية عنده في حالة الخوف علىٰ الجوارح والضرب بالسوط

_______________

(١) أحكام القرآن ٣ / ١١٧٧ ـ ١١٧٨ .

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٨١ .

١٦٠