لا تخونوا الله والرسول

صباح علي البيّاتي

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف:

صباح علي البيّاتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

صلاة أبي بكر :

لم يبق من أدلة الشيخ إلّا الاحتجاج بصلاة أبي بكر...

أما ادعاؤه أن الاحتجاج بصلاة أبي بكر قد ورد علىٰ لسان الصحابة ومن بينهم أمير المؤمنين عليه‌السلام .

فلا صحة له ، والأخبار في ذلك موضوعة علىٰ لسانه من قبل المتعصبين المذهبيين ، وإلّا فلماذا امتنع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن البيعة ستة أشهر كما ورد في صحاح الأخبار مما تقدم .

أما الربط بين إمامة الصلاة وإمامة الأُمة فلا يصح ، وقد اعترف علماء أهل السنة بذلك ، فقد قال ابن حزم : أما من ادعىٰ أنه إنما قُدّم قياساً علىٰ تقديمه إلىٰ الصلاة فباطل بيقين ، لأنه ليس كل من استحق الامامة في الصلاة يستحق الامامة في الخلافة ، إذ يستحق الامامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ، ولا يستحق الخلافة إلّا قرشي ، فكيف والقياس كله باطل !! (١) .

ورفض هذا المبدأ أيضاً الشيخ محمد أبو زهرة أيضاً حيث قال : وقال قائلهم : « لقد رضيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا » ؟ ولكنه

_______________

(١) الفصل في الملل ٤ / ١٠٩ .

٦١

لزوم ما لا يلزم ، لأن سياسة الدنيا غير شؤون العبادة ، فلا تكون الاشارة واضحة ، وفوق ذلك فانه لم يحدث في اجتماع السقيفة الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة أن احتج أحد المحتجين بهذه الحجة ، ويظهر أنهم لم يعتقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين (١) .

كما أن فقه أهل السنة لا يقيم اعتباراً للتفاضل في إمامة الصلاة ، إذ تصح عندهم إمامة الفاسق والفاجر لأهل التقوىٰ والصلاح ، ويستدلون في ذلك بحديث ينسبونه إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « صلّوا خلف كل بر وفاجر » ، ويستدلّون علىٰ صحة ذلك بصلاة بعض فضلاء الصحابة خلف الوليد بن عقبة وهو سكران ، والذي سماه القرآن فاسقاً باجماع المفسرين .

ولو كانت إمامة الصلاة تعني إمامة الأُمة ، لكان سالم مولىٰ أبي حذيفة وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف أكثر استحقاقاً لها ، لأنهم أمّوا المسلمين وفيهم أبو بكر ، فقد أخرج البخاري عن عبدالله بن عمر قال : كان سالم مولىٰ أبي حذيفة يؤُم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر وأبو

_______________

(١) تاريخ المذاهب الاسلامية : ٢٣ .

٦٢

سلمة وزيد وعامر بن ربيعة (١) .

وكان عمرو بن العاص أميراً علىٰ جيش ذات السلاسل ، وكان يؤمهم في الصلاة حتىٰ صلىٰ بهم بعض صلواته وهو جنب ، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح (٢) .

وأخرج جمع من المحدثين أن عبد الرحمن بن عوف قد صلىٰ إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) .

بينما نجد أبا بكر يتأخر عن إمامة الصلاة عند حضور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب إلىٰ بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلىٰ أبي بكر فقال : أتصلي للناس فأُقيم ؟ قال نعم ، فصلىٰ أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس في الصلاة ، فتخلّص حتىٰ وقف في الصف ، فصفق الناس ، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته ، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأىٰ رسول

_______________

(١) صحيح البخاري ٩ / ٨٨ كتاب الاحكام باب استقضاء الموالي واستعمالهم .

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٢٧٢ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٧٤ ، السيرة النبوية لابن كثير ٣ / ٥١٦ .

(٣) صحيح مسلم ١ / ٢٣٠ باب المسح علىٰ العمامة ، مسند أحمد ٤ / ٢٤٨ و ٢٥٠ و ٢٥١ ، سنن أبي داود ١ / ٣٧ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٩٢ ، سنن النسائي ١ / ٧٧ باب كيف المسح علىٰ العمامة ، البداية والنهاية ٥ / ٢٢ .

٦٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن امكث مكانك ، فرفع أبو بكر رضي‌الله‌عنه يديه فحمد الله علىٰ ما أمره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتىٰ استوىٰ في الصف ، وتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلىٰ ، فلما انصرف قال : « يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك » ؟ فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم... (١) .

وقد ثبت من جميع طرق حديث إمامة أبي بكر للصلاة ، أنه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة ، خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهادىٰ بين رجلين ـ علي والعباس أو الفضل بن العباس ـ فصلىٰ بهم إماماً وأزاح أبا بكر عن إمامة الصلاة .

ولا شك أن خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ورجلاه تخطان في الأرض من شدة الوجع ـ كما ذكرت الروايات ، يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أدرك غرض عائشة ـ إذ أرسلت إلىٰ أبيها ليؤم المسلمين ـ فجابهها النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك الجملة الخشنة : « إنكن لصويحبات يوسف » ، ثم خرج وهو علىٰ هذه الحالة المؤلمة ليزيل عن أذهان الناس ما قد يعلق بها من تصور أن النبي هو الذي أمره بالصلاة بالمسلمين .

وقد أثبت ابن الجوزي أن أبابكر لم يكن إماماً في تلك الصلاة

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٧٠ ـ ١٧٤ باب من دخل ليؤم الناس فجاء الامام فتأخر الأول...

٦٤

في كتاب صنفه خصيصاً لهذا الغرض ، حين قسمه إلىٰ ثلاثة أبواب : الباب الأول في إثبات خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلىٰ تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن الامامة ، والباب الثاني : بيّن فيه إجماع الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد علىٰ ذلك ، كما أثبت في الباب الثالث ضعف الروايات التي ذكرت تقدم أبي بكر في تلك الصلاة ، ووصف القائلين بها بالعناد واتباع الهوىٰ (١) .

وقال ابن حجر العسقلاني : تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل علىٰ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هو الامام في تلك الصلاة (٢) .

ولو كانت إمامة أبي بكر للصلاة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتركه علىٰ إمامته وصلىٰ خلفه ، كما صلىٰ خلف عبد الرحمن بن عوف ، كما أن هذا الخبر لم يصح إلّا من طريق عائشة ، لذا لم تقم حجته (٣) .

وفوق هذا وذاك ، فان أصحاب التاريخ والسير قد أثبتوا أن أبا بكر كان أيام مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأموراً بالخروج في جيش أُسامة بن زيد ، فلا ينسجم ذلك قطعاً مع الأمر بتقديمه في الصلاة ،

_______________

(١) تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي للاستاذ صائب عبد الحميد : ١٩٠ وما بعدها ، عن آفة أصحاب الحديث .

(٢) فتح الباري ٢ / ١٢٣ .

(٣) المعيار والموازنة لابن الاسكافي : ٤١ ـ ٤٢ .

٦٥

ناهيك عن الاستخلاف (١) .

يتبين بعد كل هذا ، أن جميع الأدلة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاثبات صحة خلافة أبي بكر أدلة واهية لا تقوم بها حجة .

_______________

(١) انظر فتح الباري ٨ / ١٢٤ ، الطبقات الكبرىٰ لابن سعد ٤ / ٦٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٧٧ ، تاريخ الخميس ٢ / ١٥٤ وغيرها من المصادر .

٦٦

الفصل الثالث : الصحابة

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في « مطلب دعواهم ارتداد الصحابة » :

ومنها أنه روىٰ الكشي منهم ـ وهو عندهم أعرفهم بحال الرجال وأوثقهم في رجاله ـ وغيره عن الامام جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه ـ وحاشاه من ذلك ـ أنه قال : « لما مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتد الصحابة كلهم إلّا أربعة : المقداد وحذيفة وسلمان وأبوذر (رضي الله عنهم) ، فقيل له : كيف حال عمار بن ياسر ؟ قال « حاص حيصة ثم رجع » .

هذا العموم المؤكد يقتضي ارتداد علي وأهل البيت ، وهم لا يقولون بذلك ، وهذا هدم لأساس الدين ، لان أساسه القرآن والحديث ، فاذا فرض

٦٧

ارتداد من أخذ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث ، نعوذ بالله من إعتقاد يوجب هدم الدين .

وقد اتخذ الملاحدة كلام هؤلاء الرافضة حجة لهم فقالوا : كيف يقول الله تعالىٰ : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ للنَّاسِ ) ، وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم إلّا نحو خمسة أو ستة أنفس منهم ، لامتناعهم من تقديم أبي بكر علىٰ علي وهو الموصىٰ به .

فانظر إلىٰ كلام هذا الملحد تجده من كلام الرافضة ، فهؤلاء أشد ضرراً علىٰ الدين من اليهود والنصارىٰ ، وفي هذه الهفوة فساد من وجوه : فانها توجب إبطال الدين والشك فيه ، وتجوّز كتمان ما عورض به القرآن ، وتجوّز تغيير القرآن ، وتخالف قوله تعالىٰ : ( رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) وقوله تعالىٰ : ( رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) وقوله فيمن آمن قبل الفتح وبعده : ( وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ ) وقوله في حق المهاجرين والأنصار : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) و : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وقوله : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) وقوله : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث الناصة علىٰ أفضلية الصحابة واستقامتهم على

٦٨

الدين ، ومن اعتقد ما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كفر . ما أشنع مذهب قوم يعتقدون إرتداد من اختارهم الله لصحبة رسوله ونصرة دينه... (١)

قبل أن أشرع بالرد علىٰ ما جاء في كلام محمد بن عبد الوهاب المتعلق بهذا المطلب ، أودّ أَن أنوّه إلىٰ أمر مهم جداً ألا وهو : أن الشيعة لا يعتقدون بوجود كتاب صحيح تماماً غير كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وما عداه من كتب فانها تحوي الصحيح وغيره مهما كانت منزلة هذه الكتب أو مصنفيها ، وعلىٰ هذا الأساس فان وجود رواية في أي من كتبهم لا تعني بالضرورة أنهم يقولون بصحتها ، وأمثال هذه الروايات موجودة فعلاً في كثير من كتب الشيعة رغم عدم اعتقادهم بصحتها ، وذلك علىٰ العكس من الإخوة من أهل السنة الذين يضفون علىٰ بعض كتبهم ـ وبخاصة تلك التي يسمونها ( الصحاح ) وعلىٰ رأسها كتابي البخاري ومسلم ـ رداء القدسية ، حتىٰ قالوا عن صحيحي البخاري ومسلم : أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله (٢) ، وأنه لو حلف

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ١٢ ـ ١٣ .

(٢) تدريب الراوي : ٩١ ، علوم الحديث : ١٤ ، الخلاصة في أصول الحديث : ٣٦ ، مقدمة أبي الصلاح : ٩ .

٦٩

رجل بطلاق امرأته على أن كل ما في الصحيحين هو من أقوال وأفعال وتقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحنث ، وأن من روىٰ له البخاري فقد جاز القنطرة (١)... .

وقد تبين ممّا سبق أن هذا الاعتقاد فيه الكثير من الغلو والشطط ـ بعد ما تبين حال بعض الرواة والروايات التي ذكرناها ـ وسيأتي المزيد مما يثبت أن الصحاح هي كأيّ كتاب آخر فيها الغث والسمين .

وتبعاً لذلك فلو آخذ الشيعة أهل السنة بكل رواية وردت في كتبهم وصحاحهم وادعوا ضلالتهم تبعاً لذلك ، لانفتح علىٰ أهل السنة باب يستحيل غلقه ، ولكن الشيعة لا يفكرون بمثل عقلية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من المتعصبين الذين يضللون المسلمين ويتهمون مخالفيهم بالفسق والكفر وغير ذلك ، وهم إذ يستشهدون ببعض الروايات التي في كتب أهل السنة وصحاحهم ، فهي من باب إقامة الحجة عليهم بما عندهم ، ولتنبيه إخوانهم من أهل السنة إلىٰ المحاولات التي تبذلها بعض الجهات الحاقدة التي تريد أن تفرق شمل المسلمين وتضعف شوكتهم بالقاء البغضاء فيما بينهم .

_______________

(١) مقدمة فتح الباري : ٣٨١ .

٧٠

وإن من المؤسف حقاً أن نجد بعض البسطاء يتأثرون بهذه المحاولات ، حتىٰ تحول الأمر إلىٰ عداء مستحكم بين المسلمين أثلج صدور أعدائهم الذين وجدوا في بث الفرقة بين المسلمين أفضل وسيلة لمحاربتهم وإضعافهم .

أما فيما يتعلق بالصحابة ـ وهو موضوع في غاية الحساسية ـ فان الشيعة ينظرون إليهم بأُسلوب عقلاني لا يخالف كتاب الله ولا سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشواهد التاريخية تثبت صحة نظرية الشيعة فيما يتعلق بالصحابة ، وسوف نحاول أن نبين موقف القرآن الكريم ومن ثم السنة النبوية الشريفة والتاريخ من الصحابة ـ بالاعتماد علىٰ مصادر أهل السنة ـ حتىٰ يتبين لكل ذي بصيرة أن الشيعة لا يقولون في الصحابة ما يخالف الكتاب والسنة والواقع .

الصحابة في القرآن :

لقد استشهد الشيخ ابن عبد الوهاب بجملة من الآيات الكريمة للتدليل علىٰ عدالة الصحابة ، لكنه أغفل أُموراً عديدة :

منها : إنه أَخذ من تفاسير هذه الآيات ما يوافق غرضه وأعرض عن غيرها .

ومنها : لقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة توضح

٧١

الموقف من بعض الصحابة ، وربما اشتملت بعض هذه الآيات علىٰ لهجة فيها التهديد والوعيد للبعض منهم ، وفي أُخرىٰ إتهام صريح بمخالفة أمر الله ورسوله ، بل أن بعضها أشار إلىٰ نفاق بعض الصحابة وارتداد البعض الآخر عن دينه .

أما الآيات التي استشهد الشيخ بها ، فسوف أورد بعض ما قيل في تفسيرها :

١ ـ قوله تعالىٰ ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ) (١) .

قال السيوطي : أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في الآية قال : نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولىٰ أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل .

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ... ) ثم قال : يا أيها الناس ، من سرّه أن يكون من تلكم الاُمة فليؤد شرط الله منها .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : ( كُنتُمْ... ) يقول : علىٰ هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله ، يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه كقوله : ( وَلَقَدِ

_______________

(١) سورة آل عمران : ١١٠ .

٧٢

اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) .

وأخرج أحمد بسند حسن عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أُعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء ، نُصرت بالرعب ، وأُعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجُعلت أُمتي خير الأمم » .

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر : ( كُنتُمْ... ) الآية ، قال : أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) .

٢ ـ قوله تعالىٰ ( رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (٢) .

أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله ، قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل عليٌّ ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » ، ونزلت ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : علي خير البرية .

وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا... ) الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : « هو أنت وشيعتك يوم

_______________

(١) الدر المنثور ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ .

(٢) سورة البينة : ٨ .

٧٣

القيامة راضين مرضيين » .

وأخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ألم تسمع قول الله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا... ) أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غراً محجلين » (١) .

أما قوله تعالىٰ ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) فهو مخصوص بالمؤمنين الذين لم يغيِّروا ولم يبدّلوا ، كما سوف يتبين فيما بعد .

وقوله تعالىٰ : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فان هذه العبارة قد وردت في عدد من الآيات ، وبما أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً ، فقد قال تعالىٰ : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (٢) .

فالمؤمنون الذين تنطبق عليهم هذه الصفات المذكورة في الآية هم الصادقون .

وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالىٰ : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ، يعني : أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين

_______________

(١) الدر المنثور ٨ / ٥٨٩ .

(٢) الحجرات : ١٥ .

٧٤

ظهر صدقهم في دينهم (١) .

لكن بعض الصحابة ومنهم بعض المهاجرين الأولين قد تغيروا فيما بعد وأقبلوا علىٰ الدنيا ولذاتها وتعاظمت ثرواتهم حتىٰ كان الذهب الذي خلّفه بعضهم يقطّع بالفؤوس ، كما هو مذكور في أخبارهم لمن راجع كتب التاريخ ، كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حذّر من أن هجرة البعض قد لا تكون لله خالصة .

فعن عمر بن الخطاب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « العمل بالنية ، وإنما لامرىء ما نوىٰ ، فمن كانت هجرته إلىٰ الله ورسوله فهجرته إلىٰ الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن كانت هجرته إلىٰ دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلىٰ ما هاجر إليه » (٢) .

٤ ـ أما قوله تعالىٰ : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٣) ، فان المقطع الذي يسبقها في نفس الآية هو قوله تعالىٰ : ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، كما بينت بعض الآيات الأُخرىٰ صفة المفلحين في قوله تعالىٰ : ( لَـٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ

_______________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٨٦ .

(٢) صحيح البخاري ٧ / ٤ كتاب النكاح .

(٣) سورة الحشر : ٩ .

٧٥

الْخَيْرَاتُ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

فالمفلحون هنا هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون الصادقون الذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم ، وليس الذين تخلّفوا عنه طائعين .

والآيات السابقة لهذه الآية تبيّن لنا حال أُولئك ـ مع العلم أنهم كانوا من الصحابة ـ في قوله تعالىٰ : ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّـهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ) (٢) .

وفي تفسيرها قال السيوطي : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( أُولُو الطَّوْلِ ) قال : أهل الغنىٰ .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ) قال : مع النساء .

وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص : أن علي بن أبي طالب خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتىٰ جاء ثنية الوداع يريد تبوك ، وعلي يبكي ويقول : تخلفني مع الخوالف ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ألا

_______________

(١) سورة التوبة : ٨٨ .

(٢) سورة التوبة : ٨٦ و ٨٧ .

٧٦

ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ إلّا النبوة ؟ » (١) .

وهذه الآيات تشكل أكبر رد علىٰ ادعاءات الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذ تثبت أن جميع الصحابة ليسوا سواء ، كما سوف يتبين بشكل أكثر وضوحاً فيما بعد .

٥ ـ أما قوله تعالىٰ : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (٢) .

فقد أخرج ابن كثير عن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبناوة يقول : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم » ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : « بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الأرض » (٣) .

فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خياركم من شراركم » ، يدل علىٰ وجود الأخيار والأشرار ضمن الصحابة .

هذا فيما يتعلق بالآيات التي استشهد بها الشيخ علىٰ صحة إدعائه ، وقد تبين ما فيها ، ولكن الشيخ فاته أن في القرآن الكريم آيات أُخرىٰ تقلب نظريته رأساً علىٰ عقب ، وإليك جملة منها :

_______________

(١) الدر المنثور ٤ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ .

(٢) سورة البقرة : ١٤٣ .

(٣) تفسير القرآن العظيم ١ / ١٩٧ .

٧٧

١ ـ قوله تعالىٰ : ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّـهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّـهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) (١) .

أجمع المفسرون علىٰ أن الآيات نزلت في ثعلبة بن حاطب في قصة مشهورة ، وثعلبة هذا صحابي أنصاري بدري أُحدي ، لكنه خان عهد الله ورسوله وما أعطىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مواثيق ، فختم له بالنفاق وطبع علىٰ قلبه إلىٰ يوم القيامة .

قال إبن عبد البر ـ في ترجمة ثعلبة بن حاطب : شهد بدراً وأُحداً ، وهو مانع الصدقة فيما قال قتادة وسعيد بن جبير ، وفيه نزلت ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّـهَ... ) الآية (٢) .

٢ ـ قوله تعالىٰ : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمًا ) (٣) .

قال السيوطي : أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي‌الله‌عنه قال : بلغنا أن طلحة بن عبيدالله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا ؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده .

_______________

(١) سورة التوبة : ٧٥ ـ ٧٧ .

(٢) الاستيعاب ١ / ٢١٠ .

(٣) سورة الأحزاب : ٥٣ .

٧٨

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي‌الله‌عنه قال : قال طلحة بن عبيدالله : لو قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجت عائشة رضي الله عنها .

وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في قوله : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ ) الآية ، قال : نزلت في طلحة بن عبيدالله ، لأنه قال : إذا توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجت عائشة (١) .

فطلحة بن عبيدالله صحابي من السابقين ، وممن شهد المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ كما يزعمون ـ ومع ذلك فقد آذىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآيات في توبيخه .

٣ ـ قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

أخرج جمع من المحدّثين والمفسرين في تفسير هذه الآية بأن المخاطب في هذه الآيات هما الصحابيان الشيخان أبو بكر وعمر

_______________

(١) الدر المنثور ٦ / ٦٤٣ .

(٢) سورة الحجرات : ٢ ـ ٣ .

٧٩

ابن الخطاب ، كما تثبت الرواية الآتية واللفظ للبخاري :

عن أبي مليكة ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا : أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ـ قال نافع لا أحفظ إسمه ـ فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلّا خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فانزل الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ... ) الآية ، قال إبن الزبير : فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية حتىٰ يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه ، يعني أبا بكر (١) .

٤ ـ قوله تعالىٰ : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ ) (٢) .

أخرج الطبري عن سلمة عن ابن إسحاق... أن هذه الآية أُنزلت علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن انهزم عنه بأُحد من الصحابة ، قال : أي أفئن مات أو قتل نبيكم رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم وتركتم

_______________

(١) صحيح البخاري ٦ / ١٧١ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٨٧ ، الدر المنثور ٧ / ٥٤٦ ، سنن النسائي ٨ / ٢٢٦ وغيرهم .

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤ .

٨٠