لا تخونوا الله والرسول

صباح علي البيّاتي

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف:

صباح علي البيّاتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وسوف استعرض جملة من الروايات التي وردت في كتب أهل السنة وصحاحهم مع الاشارة إلىٰ بعض تعليقات الشراح والعلماء عليها :

عن ابن عباس قال : صلىٰ رسول الله الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، في غير خوف ولا سفر (١) .

وعن عبدالله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتىٰ غربت الشمس وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة ، الصلاة ، قال : فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني فقال : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنّة ؟ لا أُم لك ! ثم قال : رأيت رسول الله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء . قال عبدالله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدّق مقالته (٢) .

_______________

(١) صحيح مسلم ١ / ٤٨٩ ، ٤٩٠ ، وفي حديث وكيع قال : قلت لابن عباس : لم فعل ذلك ؟ قال : كي لا يحرج أُمته ، وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس : ما أراد إلىٰ ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أُمته ، وعن جابر بن يزيد عن ابن عباس : أن رسول الله صلىٰ بالمدينة سبعاً وثمانياً ، الظهر والعصر والمغرب والعشاء .

(٢) صحيح مسلم ١ / ٤٩١ ، ٤٩٢ باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، سنن النسائي ٢ / ٢٩٠ باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، سنن أبي داود ٢ / ٦ ، مصنف عبد الرزاق ٢ / ٥٥٦ ، المعجم الكبير ١٠ / ٢٦٩ ، المعجم الأوسط ٣ / ١٧٦ ، الصغير ٢ / ٩٤ .

٢٢١

قال النووي : وأما حديث ابن عباس ، فلم يجمعوا علىٰ ترك العمل به ، بل لهم أقوال : منهم من تأوّله علىٰ أنه جمع بعذر المطر ، هذا مشهور عن جماعة من المتقدمين ، وهو ضعيف بالرواية الاُخرىٰ : من غير خوف ولا مطر . ومنهم من تأوّله علىٰ أنه كان في غيم فصلىٰ الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلّاها ، وهذا أيضاً باطل ، لأنه وإن كان فيه أدنىٰ إحتمال في الظهر والعصر ، لا إحتمال فيه في المغرب والعشاء . ومنهم من تأوّله علىٰ تأخير الأولىٰ إلىٰ آخر وقتها فصلّاها فيه فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلّاها فصارت صلاته صورة جمع ، وهذا أيضاً ضعيف أو باطل ، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في ردّ التأويل . ومنهم من قال : هو محمول علىٰ الجمع بعذر المرض أو نحوه فما في معناه من الاعذار ، هذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا ، وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ، ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة ، ولأن المشقة

٢٢٢

فيه أشد من المطر (١) .

ولكن الوجه الذي اختاره النووي ومن سبقه غير صحيح ، لأن فعل ابن عباس لا يوحي بالمرض ، إذ كيف يتسنىٰ لمريض أن يخطب منذ العصر وحتىٰ ظهور النجوم ، فاذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمع بسبب المرض فما عذر ابن عباس في الجمع ، ولا أدري ما وجه موافقة أبي هريرة في الدلالة علىٰ المرض ؟!

وقد رد القسطلاني هذا العذر بقوله :

وحمله بعضهم علىٰ الجمع للمرض وقوّاه النووي رحمه الله تعالىٰ بأن المشقة فيه أشد من المطر ... وتعقب بأنه مخالف لظاهر الحديث ، وتقييده به ترجيح بلا مرجح وتخصيص بلا مخصّص ، وقد أخذ آخرون بظاهر الحديث فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وبه قال أشهب والقفال الشاشي وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث ، وتأوله آخرون علىٰ الجمع الصوري بأن يكون آخر الظهر إلىٰ آخر وقتها وعجّل العصر في أول وقتها ، وضعّف لمخالفته الظاهر (٢) .

_______________

(١) شرح صحيح مسلم ٥ / ٢١٨ .

(٢) إرشاد الساري ١ / ٤٩١ .

٢٢٣

أما الترمذي ، فقد أورد هذه الروايات في جامعه وادعىٰ في كتاب العلل أن هذا الحديث غير معمول به ، ولكن المباركفوري قال في مقدمة شرحه لصحيح الترمذي :

اعلم بارك الله بك أن الترمذي قال في كتاب العلل الذي في آخر جامعه : جميع ما في هذا الكتاب ـ يعني جامعه من الحديث ـ هو معمول به ، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين : حديث ابن عباس رضي‌الله‌عنه أن النبي جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ولا سفر ، وحديث النبي أنه قال : « من شرب الخمرة فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه » ، قال : وقد بينا علّة الحديثين جميعاً في الكتاب ، انتهى .

قلت : وقد تعصب الملّا معين في كتابه دراسات اللبيب علىٰ كلام الترمذي هذا ، وقد أثبت أن هذين الحديثين كليهما معمول بهما ، والحق مع الملا معين عندي والله تعالىٰ أعلم (١) .

أما استشهاد الشيخ برواية « من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتىٰ باباً من الكبائر » فيدل علىٰ جهله المطبق بعلوم الحديث ، أو معاندته للحق ليس إلّا ، لأن الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث

_______________

(١) مقدمة تحفة الاحوذي : ٣٦٧ .

٢٢٤

قال : أما حديث حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي قال : « من جمع ... » الحديث ، وحنش هذا هو أبو علي الرجبي وهو حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث (١) .

وقال ابن حجر في ترجمة حنش : قال البخاري : أحاديثه منكرة ولا يكتب حديثه ، وقال العقيلي : في حديثه « من جمع بين صلاتين ... » لا يتابع عليه ولا يعرف إلّا به ولا أصل له ، وقد صح أن النبي جمع بين الظهر والعصر ... (٢) .

أما إدعاء الشيخ أن الشيعة يؤخرون الصلاة ، فالحقيقة هي عكس ذلك ، ويشهد علىٰ ذلك :

ما أخرجه أئمة أهل السنة في صحاحهم ، فقد أخرج المحدثون ـ واللفظ للبخاري ـ عن أنس بن مالك قال : ما أعرف شيئاً مما كان علىٰ عهد النبى ، قيل : الصلاة ! قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها ؟

وعن عثمان بن أبي رود أخي عبد العزيز ، قال : سمعت الزهري يقول : دخلت علىٰ أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلّا هذه الصلاة ، وهذه

_______________

(١) جامع الترمذي ١ / ٣٥٦ .

(٢) تهذيب التهذيب ١ / ٥٣٨ .

٢٢٥

الصلاة قد ضُيّعت (١) !

وعن عثمان بن سعد قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ما أعرف شيئاً مما عهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم ، فقال أبو رافع : يا أبا حمزة الصلاة ، فقال : أوليس قد علمت ما صنع الحجاج في الصلاة (٢) .

فهذه الشهادات من صحابي عاش طويلاً حتىٰ أدرك ما أحدث الأمويون وولاتهم في الصلاة من التضييع والتأخير تثبت صحة عمل الشيعة في الجمع بين الصلاتين في أول وقتها ، وبخاصة صلاة العصر ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبكر بصلاة العصر ، لكن أهل السنة اختاروا تأخيرها إقتداء ببني أُمية ، ويدل علىٰ ذلك الرواية المتفق عليها الآتية :

عن أبي بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف قال : سمعت أبا أُمامة يقول : صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتىٰ دخلنا علىٰ أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر ، فقلت : يا عم ما هذه الصلاة التي صليت ؟ قال : العصر ، وهذه صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كنا نصلي معه (٣) .

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٤١ باب تضييع الصلاة ، الترمذي ٤ / ٦٣٢ .

(٢) مسند أحمد ٣ / ٢٠٨ و ٣ / ١٠٢ و ١٨٥ .

(٣) صحيح البخاري ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ، صحيح مسلم ١ / ٤٣٤ باب استحباب التبكير بالعصر .

٢٢٦

أوقات الصلاة عند الشيعة :

أما عن رأي الشيعة في الصلاة وأوقاتها ، ومسألة الجمع والتفريق بينها ، فسوف أكتفي بذكر أراء علمائهم بهذا الشأن :

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : ولكلّ صلاة من الفرائض الخمس وقتان : أول وآخر ؛ فالأول لمن لا عذر له ، والثاني لأصحاب الاعذار ، ولا ينبغي لأحد أن يؤخر الصلاة عن أول وقتها وهو ذاكر لها غير ممنوع عنها ، فإن أخّرها ثم اخترم الوقت قبل أن يؤديها كان مضيّعاً لها ، فان بقي حتىٰ يؤديها في آخر الوقت أو فيمابين الأول والآخر منه عفي عن ذنبه في تأخيرها إن شاء الله .

ولا يجوز لاحد أن يصلي شيئاً من الفرائض قبل وقتها ، ولا يجوز له تأخيرها عن وقتها (١) .

وقال الشهيد قدس‌سره : وبالجملة كما علم من مذهب الامامية جواز الجمع بين الصلاتين مطلقاً ، عُلم منه إستحباب التفريق بينهما بشهادة النصوص والمصنفات بذلك (٢) .

_______________

(١) المقنعة : ٩٤ باب أوقات الصلوات وعلامة كل وقت منها .

(٢) ذكرىٰ الشيعة : ١١٩ .

٢٢٧

يستحب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشاءين (١) .

وبعض علماء أهل السنة ومفسريهم متفقون مع الشيعة في أوقات الصلوات ، فمما قاله الفخر الرازي في تفسير قوله تعالىٰ : ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) (٢) .

قال : فان فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة ـ وحكاه عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل ـ كان الغسق عبارة عن أول المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات : وقت الزوال ، ووقت أول المغرب ، ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مطلقاً ، إلا أنه دل الدليل علىٰ أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز ، فوجب أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر وعند المطر وغيره !! (٣) .

نلاحظ أن الرازي بعد ما ينطق بالحق ، يعود فيخالف العقل والنقل

_______________

(١) العروة الوثقىٰ : كتاب الصلاة ، فصل أوقات اليومية ونوافلها ( مسأله ٧ ) .

(٢) سورة الاسراء : ٧٨ .

(٣) التفسير الكبير ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧ .

٢٢٨

تعصباً لمذهبه ومخالفة للشيعة ليس إلّا ، رغم أنه لا يذكر الدليل الذي دل علىٰ عدم جواز الجمع في الحضر من غير عذر ، وإدعاؤه جواز الجمع لعذر السفر والمطر وغيره ، يرده الأحاديث الصحيحة التي أوردناها ، واعتراف غيره من العلماء ببطلان هذه الحجة ، فلا حول ولا قوة إلّا بالله .

مسح الرجلين :

قال الشيخ في « مطلب مسح الرجلين » :

ومنها إيجابهم المسح علىٰ الرجلين ومنعهم غسلها والمسح علىٰ الخفين ، وقد صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال الله فيه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) برواية علي رضي‌الله‌عنه غسلهما والأمر به وكذا عنه برواية عثمان وابن عباس وزيد بن عاصم ومعاوية بن مرة والمقداد بن معديكرب وأنس وعائشة وأبي هريرة وعبدالله بن عمر وعمرو بن عنبسة وغيرهم ، وقد صح عنه « ويل للأعقاب من النار » ، فمجموع ما ورد عنه في غسلهما فعلاً وقولاً يفيد العلم الضروري اليقيني ، ومن أنكر ذلك فقد أنكر المتواتر ، وحال منكره معلوم أقل مراتبه أن يكون فاسقاً ، بل تكون صلاته باطلة ، فيبعث يوم

٢٢٩

القيامة بلا طهارة شرعية ... (١) .

هذه واحدة من المسائل الفقهية التي اختلف فيها المسلمون أيضاً ، فجمهور أهل السنة يدعي وجوب غسل القدمين ـ مع خلاف بينهم ـ ويستندون في ذلك إلىٰ بعض الأدلة ، بينما يقول الشيعة بوجوب المسح ـ بلا خلاف بينهم ـ وعدم جواز الغسل ، ويستندون في ذلك أيضاً إلىٰ بعض الأدلة التي تؤيد وجهة نظرهم .

أما إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن الروايات قد جاءت عن أُولئك الصحابة بغسل القدمين فهو إدعاء غير صحيح ، لأن الروايات قد جاءت عن كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء بالمسح علىٰ القدمين أيضاً ، وهي مسألة خلافية في الفروع ولا ينبغي التشنيع فيها ، لأنها مسألة اجتهادية ، والاجتهاد في الفروع والخلاف بين أئمة أهل السنة أنفسهم معروف .

إن من الملاحظ أن أهل السنة مختلفون في هذا الباب رغم المحاولات التي يبذلونها لتصحيح وجهة نظرهم ـ تأييداً للمذهب ـ إلّا أن الملاحظ أنهم كثيراً ما يترددون في القطع ، فيذهب البعض منهم إلىٰ جواز المسح ، بينما يقول آخرون بوجوب أو استحباب

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٠ .

٢٣٠

الجمع بين الغسل والمسح ، وحيرتهم في هذا الباب تضعف حجتهم أمام الشيعة .

وسوف أتناول أقوال بعض العلماء والشراح من أهل السنة وإستدلالاتهم في تفسير آية الوضوء أولاً ومحاولتهم الجمع بين القراءتين ( النصب والخفض ) ، وكذلك محاولتهم الجمع بين الروايات المتعارضة مع ذكر بعض آرائهم والتعليق عليها ، متوخياً الاختصار جهد الامكان وبالله التوفيق :

قال ابن حجر العسقلاني : تمسك من اكتفىٰ بالمسح بقوله تعالىٰ ( وَأَرْجُلَكُمْ ) عطفاً علىٰ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) ، فذهب إلىٰ ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين ، فحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة ، والثابت عنه خلافه ، وعن عكرمة والشعبي وقتادة ـ وهو قول الشيعة ـ وعن الحسن البصري : الواجب الغسل أو المسح ، وعن بعض أهل الظاهر : يجب الجمع بينهما ، وحجة الجمهور الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانه بيان المراد ، وأجابوا عن الآية بأجوبة منها : أنه قريء وأرجلكم بالنصب عطفاً علىٰ أيديكم ، وقيل معطوف علىٰ محل برؤوسكم ، كقوله : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) بالنصب ، وقيل : المسح في الآية محمول لمشروعية المسح علىٰ الخفين ، فحملوا قراءة الجر علىٰ مسح الخفين ، وقراءة

٢٣١

النصب علىٰ غسل الرجلين ، وقرر ذلك أبو بكر بن العربي تقريراً حسناً فقال ما ملخصه : بين القراءتين تعارض ظاهر ، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بها وجب ، وإلّا عُمل بالقدر الممكن ، ولا يتأتىٰ الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد ، في حالة واحدة لأنه يؤدي إلىٰ تكرار المسح ، لأن الغسل يتضمن المسح والأمر المطلق لا يقتضي التكرار ، فبقي أن يعمل بها في حالين توفيقاً بين القراءتين وعملاً بالقدر الممكن ، وقيل إنما عطفت علىٰ الرؤوس الممسوحة لأنها مظنة لكثرة صب الماء عليها ، فلمنع الاسراف عطفت ، وليس المراد أنها تمسح حقيقةً ، ويدل علىٰ ذلك المراد قوله : ( إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ، لأن المسح رخصة فلا يقيد بالغاية ، ولأن المسح يطلق علىٰ الغسل الخفيف ... (١) .

نلاحظ أن ابن حجر يعترف بأن القول بالمسح هو مذهب عدد كبير من الصحابة والتابعين ، لكن إدعاؤه أن المشهور عن ابن عباس خلاف المسح فهو خلاف للواقع ، لأن المشهور عن ابن عباس هو القول بالمسح ، كما أننا نلاحظ أن ابن حجر يتهرب من الاستدلال بالآية إلىٰ الركون إلىٰ الروايات التي تؤيد وجهة نظره ، مع أن القرآن

_______________

(١) فتح الباري ١ / ٢١٥ .

٢٣٢

الكريم هو الأصل ، والسنة لا ينبغي أن تعارضه ، وادعاء أن الآية تعني المسح علىٰ الخفين لا دليل عليه .

أما إدعاء ابن العربي ـ فيما ينقل عنه ابن حجر ـ أن المسح رخصة ، فلا حجة له في ذلك .

ونقل القرطبي عن النحاس قوله : ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعاً ، فالمسح واجب علىٰ قراءة من قرأ بالخفض ، والغسل واجب علىٰ قراءة من قرأ بالنصب ، والقراءتان بمنزلة آيتين ... (١) .

إن هذا يفترض وجود فقهين في الباب أحدهما يوجب الغسل والآخر يوجب المسح تبعاً للقراءة التي يتبناها قارئ القرآن ، وهذا أمر غير صحيح ، وإن صح فالشيعة محقون بتمسكهم بالمسح ، لأن قراءة الخفض تبيح لهم ذلك .

وقال الطبري : اختلفت قراءة القراء في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلىٰ أن الفرض فيهما الغسل وإنكاراً منه المسح عليهما ، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله بعموم مسحهما بالماء ، وخفضها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلىٰ أن الفرض فيهما

_______________

(١) الجامع لاحكام القرآن ٦ / ٩٢ .

٢٣٣

المسح ... وكانت القراءتان كلتاهما حسناً وصواباً ، فأَعجب القراءتين إِليَّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضاً لما وصفت من جمع المسح المعنيين الذين وصفت ، ولأنه بعد قوله : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فالعطف به علىٰ الرؤوس مع قربه منه أولىٰ من العطف به علىٰ الأيدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) (١) .

الملاحظ علىٰ كلام الطبري هو ترجيح المسح في كلتا القراءتين ( النصب والخفض ) مع اعترافه بتظاهر الاخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعموم المسح .

وقال النووي : وأما الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالىٰ ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فقد قرئت بالنصب والجر ، فالنصب صريح في الغسل ، ويكون معطوفه علىٰ الوجه واليدين ، وأما الجر فأجاب أصحابنا وغيرهم عنه بأجوبة أشهرها : أن الجر علىٰ مجاورة الرؤوس ، مع أن الأرجل منصوبة ، هذا مشهور في لغة العرب ، وفيه أشعار كثيرة مشهورة ، وفيه من منثور كلامهم كثير ، من ذلك قولهم : هذا جحر ضب خرب ، بجر خرب علىٰ جواب ضب وهو مرفوع صفة لجحر (٢) .

_______________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٧٢ .

(٢) المجموع شرح المهذب ١ / ٤٨٠ .

٢٣٤

لكن إستدلال النووي ليس في محله ، وتكفي شهادة أحد علماء السنة الفطاحل ومفسريهم الكبار في إبطال دعوىٰ النووي ، وهو قول الفخر الرازي :

حجة من قال المسح مبني علىٰ القراءتين المشهورتين في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبى بكر عنه بالجر ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب ، فنقول : أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة علىٰ الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل !

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال هذا كسر علىٰ الجوار كما في قوله : جحر ضب خرب ، وقوله : كبير أناس في بجاد مزمل ، قلنا : هذا باطل من وجوه :

الأول : أن الكسر علىٰ الجوار معدود في اللحن الذي قد يحتمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه عنه .

وثانيهما : أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : جحر ضب خرب ، فان من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل .

وثالثها : أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف عطف ، وأما

٢٣٥

مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب ، وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً : أنها توجب المسح ، وذلك لأن قوله : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء ، فاذا عطفت الأرجل علىٰ الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً علىٰ محل الرؤوس ، والجر عطفاً علىٰ الظاهر ، وهذا مذهب مشهور للنحاة ... (١) .

نلاحظ أن جميع محاولات علماء السنة تطويع النص القرآني وإخضاعه لقياسات لغوية مبنية علىٰ أقوال قالها أعرابي بوال علىٰ عقبيه لم تنجح ، واضطروا في النهاية إلىٰ الاعتراف بأن الآية سواء قرئت بالخفض أو بالنصب فهي تدل علىٰ المسح .

أمام هذه الحقيقة الساطعة لم يجد القوم مهرباً إلّا التمسك ببعض الروايات التي ظنوا أنها تنقذ الموقف ، وسوف نستعرض أهم الروايات التي يتمسك بها أهل السنة ، ونحاول مناقشتها ، محتجين عليهم بأقوال علمائهم أحياناً في تفنيد دعاواهم .

لا شك أن أقوىٰ الروايات التي يستشهد بها أهل السنة علىٰ وجوب غسل القدمين هي الروايات التي جاءت في صحاح أهل السنة ـ وبخاصة صحيحي البخاري ومسلم ـ عن عبدالله بن عمرو ،

_______________

(١) التفسير الكبير ١١ / ١٦١ .

٢٣٦

وسأورد هذه الرواية كما أخرجها كل منهما .

١ ـ عن عبدالله بن عمرو ، قال : تخلف النبي عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح علىٰ أرجلنا ، فنادىٰ بأعلىٰ صوته : « ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثاً » (١) .

وقد أخرج البيهقي الرواية أيضاً ، وقال علاء الدين المارديني في شرحه لها :

إستدل علىٰ ذلك بعدة أحاديث ، أولها : « ويل للأعقاب من النار » ، قلت : في الاستدلال بها نظر ، فان من يرىٰ مسحهما يفرض في جميعها ، وظاهر الآية يدل علىٰ ذلك ، وهو قوله تعالىٰ : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فالوعيد لهما ترتب علىٰ ترك تعميم المسح ، وتدل علىٰ ذلك رواية مسلم ، فانتهىٰ إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء ، فتبين بذلك أن العقب محل التطهير فلا يكتفىٰ بما دونه ، فليس الوعيد علىٰ المسح ، بل علىٰ ترك التعميم ... وهذا الكلام علىٰ أمر أبي هريرة وعائشة باسباغ الوضوء ، وكذا حديث عبدالله بن الحارث وعمرو

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ٥٢ باب غسل الرجلين ولا يمسح علىٰ القدمين ، صحيح مسلم ١ / ٢١٤ باب وجوب غسل الرجلين بكمالها .

٢٣٧

وأنس رضي الله عنهما (١) .

أقول : إذا كان أولئك الصحابة قد مسحوا علىٰ أرجلهم ، فممن تعلموا ذلك ؟ هل كانوا مخطئين في فهم آية الوضوء لقصورهم في العربية ، أم أنهم لم يكونوا قد شاهدوا وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم صحبتهم له ومرافقته في أسفاره وغزواته ؟ وإذا كان أُولئك الصحابة بتلك الدرجة من الجهل أو قلة الاهتمام بالسنة النبوية الفعلية فكيف يجوز لنا تقليدهم وأخذ أحكام ديننا منهم ؟!!

إن من الغريب أن يصل التعصب المذهبي ببعض الحفاظ والمحدثين إلىٰ حد إخفاء الحقائق أو محاولة التعمية عليها عن طريق إيراد روايات ضعيفة مستدلين بها ـ تأييداً للمذهب ـ دون الاشارة إلىٰ ضعف رواتها ، رغم أنهم يفعلون ذلك في موارد أُخرىٰ .

وإليك بعض النماذج مما أخرجه البيهقي من تلك الروايات مع ذكر تعليق المارديني عليها :

١ ـ عن عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ أنه كان يقرأ ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قال : رجع الأمر إلىٰ الغسل .

قال المارديني : في سنده قيس بن الربيع ، فسكت عنه البيهقي ،

_______________

(١) الجوهر النقي بذيل السنن الكبرىٰ ٨ / ٦٩ .

٢٣٨

وقال في باب ( من زرع أرض غيره بغير إذنه ) : إنه ضعيف عند أهل العلم بالحديث .

٢ ـ عمر بن قيس عن عطاء ، أنه كان يقرأها ( وَأَرْجُلَكُمْ ) نصباً .

قال المارديني : عمر بن قيس هو المكي ، سكت عنه أيضاً ، وقال في باب ( من بنىٰ أو غرس بغير أرضه ) : ضعيف لا يحتج به .

٣ ـ عن علي ، أنه قال : اغسلوا القدمين إلىٰ الكعبين كما أُمرتم ، وروينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عنبسة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الوضوء : ثم يغسل قدميه إلىٰ الكعبين كما أمره الله تعالىٰ ، وفي ذلك دلالة علىٰ أن الله تعالىٰ أمر بغسلها .

قال المارديني : عن علي : اغسلوا القدمين ، من رواية الحارث ، فسكت عنه ، وحكىٰ في باب ( أصل القسامة ) عن الشعبي : إنه كان كذاباً !!!

٤ ـ عن ابن عباس قال : ما أجد في الكتاب إلّا غسلتين ومسحتين ، ثم قال : إن صح يحتمل أنه كان يرىٰ القراءة بالخفض وأنها تقتضي المسح ، ثم لما بلغه أنه عليه‌السلام توعد علىٰ ترك غسلهما أو ترك شيء منهما ذهب إلىٰ وجوب غسلهما (١) .

نقول : إذا كان ابن عباس وهو حبر الأُمة وترجمان القرآن قد

_______________

(١) السنن الكبرىٰ مع الجوهر النقي ١ / ٧٠ ـ ٧١ .

٢٣٩

أعياه فهم الآية ، ولم يعرف طيلة هذا الوقت كيف يكون وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهنيئاً للمسلمين !!!

أما الدارقطني فيورد رواية في باب ( وجوب غسل القدمين والعقبين ) يقول فيها : عن رفاعة بن رافع قال : كان رفاعة ومالك بن رافع أخوين من أهل بدر ، قال بينما نحن جلوس عند رسول الله ، أو رسول الله جالس ونحن حوله ، إذ دخل عليه رجل فاستقبل القبلة وصلىٰ ، فلما قضىٰ الصلاة جاء فسلم علىٰ رسول الله وعلىٰ القوم ، فقال له رسول الله : « وعليك ، ارجع فصلِّ فانك لم تصلِّ » ، فجعل الرجل يصلي ونحن نرمق صلاته لا ندري ما يعيب فيها ، فلما صلىٰ جاء فسلم علىٰ النبي وعلىٰ القوم فقال له النبي : « وعليك ، ارجع فصل فانك لم تصل » ، قال همام : فلا أدري أمره بذلك مرتين أو ثلاثاً ، فقال الرجل : ما ألوتُ فلا أدري ما عبت علي من صلاتي ، فقال رسول الله : « إنها لا تتم صلاة أحدكم حتىٰ يسبغ الوضوء كما أمره الله ، فيغسل وجهه ويديه إلىٰ المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلىٰ الكعبين ، ثم يكبر الله ويثني عليه ... » فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتىٰ فرغ ثم قال : « لا تتم صلاة أحدكم حتىٰ يفعل ذلك » (١) !

_______________

(١) سنن الدارقطني ١ / ٩٥ ـ ٩٦ .

٢٤٠