لا تخونوا الله والرسول

صباح علي البيّاتي

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف:

صباح علي البيّاتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

دمع ولا أكتحل بنوم حتىٰ إني لأظن أن البكاء فالق كبدي .

فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت علي إمرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي .

قالت : فبينا نحن علىٰ ذلك دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا فسلم ثم جلس .

قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهراً لا يوحىٰ إليه في شأني بشيء .

قالت : فتشهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جلس ثم قال : « أما بعد ، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا ، فان كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فان العبد إذا اعترف ثم تاب ، تاب الله عليه » .

قالت : فلما قضىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته قلص دمعي حتىٰ ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عني فيما قال .

فقال أبي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عني فيما قاله ، قالت أُمّي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتىٰ استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم أني بريئة لا تصدقوني

١٢١

ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلّا أبا يوسف حين قال : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) .

ثم تحولت فاضطجعت علىٰ فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلىٰ ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها .

فوالله مارام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتىٰ أُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتىٰ أنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي أُنزل عليه .

قالت : فسري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يضحك ، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : « يا عائشه ، أما الله فقد برأك » .

قالت : فقالت لي أُمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه فاني لا أحمد إلّا الله عزوجل .

قالت : وأنزل الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ... ) العشر الآيات ، ثم أنزل الله هذا في براءتي .

١٢٢

قال أبو بكر الصديق ـ وكان ينفق علىٰ مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق علىٰ مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ ) إلىٰ قوله ( غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، قال أبو بكر الصديق : بلىٰ والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلىٰ مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : والله لا أنزعها منه أبداً .

قالت عائشة : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : « ما ذا علمت أو رأيت » ؟ فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلّا خيراً .

قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعصمها الله بالورع .

قالت : وطفقت أُختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك .

قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، ثم قال عروة : قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ، ليقول : سبحان الله ، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أُنثىٰ قط .

قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله (١) .

وأخرج البخاري عن مسروق بن الاجدع قال : حدثتني أُم

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٤٨ ـ ١٥٤ باب حديث الافك ، صحيح مسلم ٤ / ٢١٢٩ ـ ٢١٣٧ كتاب التوبة ، باب حديث الافك وقبول توبة القاذف .

١٢٣

رومان وهي أم عائشة رضي الله عنها قالت : بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بفلان وفعل ، فقالت أُم رومان : وماذاك ؟ قالت : ابني فيمن حدث الحديث ، قالت : وماذاك ؟ قالت كذا وكذا ، قالت عائشة : سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ قالت : نعم ، قالت : وأبو بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت مغشياً عليها ، فما أفاقت إلّا وعليها حمىٰ بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : « ما شأن هذه » ؟ قلت : يا رسول الله أخذتها الحمىٰ بنافض ، قال : « فلعلّ في حديث تحدث عنه » ؟ قالت : نعم ، فقعدت عائشة فقالت : لئن حلفت لا تصدقوني ، ولئن قلت لا تعذروني ، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان علىٰ ما تصفون ، قالت : وانصرف ولم يقل شيئاً ، فأنزل الله عذرها ، قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك (١) .

وأخرج البخاري عن مسروق أيضاً قال : دخلنا علىٰ عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً يشبب بأبيات له وقال :

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثىٰ من لحوم الغوافل

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٥٤ .

١٢٤

فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق : فقلت لها : لم تأذني له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالىٰ ( وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ؟ فقالت : وأي عذاب أشد من العمىٰ ؟ قالت له إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) .

وأخرج البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : والذي تولىٰ كبره ، قالت : عبدالله بن أُبي بن سلول (٢) .

هذه هي أهم الروايات التي ذكرت حديث الافك في الصحيحين ، وسنكتفي بها ونعرض عن باقي الروايات التي في المصادر الأُخرىٰ ، وسوف يتبين للقارئ الكريم أن هذه الروايات تطرح إشكالات معضلة ربما تنسف نظرية جمهور أهل السنة بنسبة القضية إلىٰ أُم المؤمنين عائشة .

الاشكالات علىٰ حديث الافك :

١ ـ قول عائشة : بعد ما أُنزل الحجاب

من المعلوم أن قضية الافك التي ترويها عائشة قد وقعت في غزوة المريسيع والتي كانت إما في السنة الخامسة أو السادسة من

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٥٥ ، ٦ / ١٣٣ .

(٢) صحيح البخاري ٦ / ١٢٧ .

١٢٥

الهجرة ، أما آيات فرض الحجاب ـ التي هي في سورة النور ـ التي نزلت كلها دفعة واحدة ففي السنة الثامنة من الهجرة ، والمؤرخون وأصحاب السير يكادون يجمعون علىٰ ذلك .

٢ ـ قول عائشة : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل زينب... .

وقد صحت الروايات بأن فرض الحجاب نزل يوم زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زينب ، ونزل في قضيتها ، وكان ذلك بعد المريسيع وبعد خيبر التي وقعت في العام السابع من الهجرة النبوية الشريفة .

فعن ابن شهاب قال : أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فخدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشراً حياته ، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أُنزل ، وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه ، وكان أول ما نزل في مبتنىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش : أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ، ثم خرجوا وبقي منهم رهط عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطالوا المكث ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج وخرجت معه كي يخرجوا ، فمشىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومشيت معه حتىٰ جاء عتبة حجرة عائشة ، ثم ظن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتىٰ دخل علىٰ زينب فإذا هم جلوس لم يتفرقوا ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجعت معه حتىٰ بلغ عتبة حجرة عائشة ، فظن أن قد خرجوا

١٢٦

فرجع ورجعت معه فاذا هم قد خرجوا ، فأنزل الحجاب ، فضرب بيني وبينه ستراً (١) .

٣ ـ قول عائشة : وكانت النساء خفافاً لم يهبلن ... .

لا يعقل أبداً أن لا يشعر حاملو الهودج بعدم وجودها فيه مهما كانت خفيفة الوزن ، خصوصاً وأنه قد ذكر بأن الذي كان يحمل هودجها رجلان فقط أحدهما أبو موهبة ، وفي بعض الروايات أبو مويهبة وحده (٢) .

٤ ـ قول عائشة : وكان الذي تولىٰ كبر الافك عبد الله بن أُبي .

هذا يناقض ما ورد في رواية مسروق من إتهام حسان بن ثابت بأنه هو الذي تولىٰ كبره ، وقول عائشة : وأي عذاب أشدّ من العمىٰ ، يدلّ علىٰ أن الآية قد نزلت في حسّان .

٥ ـ قول أُم رومان لعائشة : هوني عليك فوالله لقلّما كانت إمرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلّا كثّرن عليها .

_______________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٦٦ باب آية الحجاب ، وفيه روايات أُخرىٰ بنفس المعنىٰ عن أبي مجلز وعن أبي قلابة وعبد العزيز بن صهيب كلهم عن أنس ، وفي صحيح مسلم ٢ / ١٠٤٨ عن أبي قلابة عن أنس بنفس المعنىٰ .

(٢) السيرة الحلبية ٢ / ٢٩٢ ، فتح الباري ٨ / ٣٤٧ ، إرشاد الساري ٤ / ٣٩١ ، البداية والنهاية ٥ / ٣٢٤ .

١٢٧

يدل علىٰ إتهام أُم رومان أزواج النبي الأُخريات بأنهن قد اشتركن في حديث الافك ، أو ربما افتعلنه ، فيكن المتهمات فيه أولاً وآخراً .

٦ ـ قول عائشة : ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وأُسامة بن زيد ـ حين استلبث الوحي ـ يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله... .

إذا علمنا أن أُسامة بن زيد كان في السابعة عشرة من عمره حين أمّره النبي علىٰ الجيش قبل وفاته بأيام قليلة في العام الحادي عشر من الهجرة ، فيكون عمر أُسامة في السنة السادسة من الهجرة ـ عام المريسيع ـ علىٰ أبعد التقديرات ، لا يزيد علىٰ إثنتي عشرة سنة ، وهذا السن لا يؤهله لأن يكون مستشاراً في قضية بالغة الحساسية ، وذلك يناقض قول ابن حجر بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستشير في الأمور العامة ذوي الأسنان من أكابر الصحابة (١) .

فكيف يتركهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه القضية الخطيرة ويستشير طفلاً لا خبرة عنده في هذه الأمور ؟ ولماذا لم يستشر عمر بن الخطاب صاحب الموافقات الذي ينزل القرآن بموافقته دائماً كما يقال ؟!!

_______________

(١) فتح الباري ٨ / ٣٧٨ .

١٢٨

٧ ـ قول عائشة : فدعا بريرة... .

لقد وردت الروايات من مصادر أهل السنة الموثوقة بأن عائشة قد اشترت بريرة بعد فتح مكة ، لأنه لما خيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريرة فاختارت نفسها ، كان زوجها يبكي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعباس : « يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة... » (١) .

٨ ـ ورد في حديث الافك قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ المنبر .

بينما تدل الروايات الصحيحة أن المنبر لم يكن قد اتخذ بعد في عام غزوة المريسيع ، كما تذكر الروايات أن الذي أشار علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتخاذ المنبر هو تميم الداري ، وقد أحس الشراح بتلك الغلطة وحاولوا أن يجدوا لها مخرجاً .

فقد قال ابن حجر العسقلاني ، وجزم به ابن سعد : بأن ذلك كان في السنة السابعة ، وفيه نظر ، لذكر العباس وتميم فيه ، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان وقدوم تميم سنة تسع ، وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان ، وفيه نظر أيضاً لما ورد في حديث الافك في الصحيحين عن عائشة قالت : فثار الحيّان الأوس والخزرج حتىٰ كادوا يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىٰ المنبر فنزل فخفضهم حتىٰ سكتوا ، فإن حمل التجوز في ذكر المنبر وإلّا فهو

_______________

(١) صحيح البخاري ٧ / ٦٢ ، إرشاد الساري ٤ / ٣٩٤ ، ٧ / ٢٦١ ، فتح الباري ٨ / ٣٧٩ .

١٢٩

أصح مضىٰ ، وحكىٰ بعض أهل السير أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب علىٰ منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب ، ويعكّر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلىٰ الجذع إذا خطب... (١) .

٩ ـ ورد في الرواية ذكر الصحابي سعد بن معاذ .

والمعلوم أن سعد بن معاذ قد قُتل في معركة الاحزاب ( الخندق ) ، وهي قبل المريسيع ، إذ ذهب أكثر المؤرخين والمحدثين إلىٰ أن غزوة الخندق كانت سنة أربع ، ومنهم البخاري الذي روىٰ في باب غزوة الخندق قال : قال موسىٰ بن عقبة : كانت في شوال سنة أربع (٢) .

وقال القاضي عياض : في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال لم يتكلم الناس عليه ، ونبهنا عليه بعض شيوخنا ، وذلك أن الافك كان في المريسيع وكانت سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق ، وسعد بن معاذ مات في الرمية التي رُميها بالخندق ، فدعا الله فأبقاه حتىٰ حكم في بني قريظة ، ثم انفجر جرحه فمات منها ، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع ، إلّا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس (٣) .

_______________

(١) فتح الباري ٢ / ٣١٨ .

(٢) صحيح البخاري ٥ / ١٣٧ باب غزوة الخندق .

(٣) فتح الباري ٨ / ٣٨١ .

١٣٠

١٠ ـ ومن الأمور الملفتة للنظر في حديث الافك ، المحاوة الكلامية العنيفة التي دارت بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وقول عائشة عن سعد بن عبادة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً... ، وقول أُسيد بن حضير لسعد بن عبادة : فانك منافق تجادل عن المنافقين .

وهذا يتنافىٰ مع القول بعدالة الصحابة المطلقة أولاً ، وثانياً فان سعد بن عبادة صحابي عظيم وهو زعيم الأنصار ، وهو الذي كان بادر إلىٰ عقد إجتماع السقيفة علىٰ أمل أن ينال الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن مجيء المهاجرين الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ـ إلىٰ السقيفة أفشل مخططه ، فانصرفت الخلافة إلىٰ أبي بكر ، وأيده عليها من الانصار أُسيد بن حضير الذي حرض قومه علىٰ بيعة أبي بكر ، كما هو معروف ، بينما خرج سعد بن عبادة مغاضباً ولم يبايع أبا بكر ، ولا كان يجمع معهم في صلاة أو حج حتىٰ خرج إلىٰ الشام وقُتل هناك ، وقيل أن الجن قتلته ، وهي خرافة لا يصدقها عاقل ، فلتراجع (١) .

ومن هذا تبين لنا أن يد السياسة قد تلاعبت في الأمر ، وأن

_______________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٢١٨ ـ ٢٢٢ ، تاريخ الاسلام ٣ / ١٤٨ ، الامامة والسياسة ١ / ٢٧ ـ ٢٨ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٦١٦ ـ ٦١٧ ، الاستيعاب ٢ / ٥٥٩ ، الاصابة ٢ / ٣٠ ، أسد الغابة ٢ / ٢٠٥ .

١٣١

حديث الافك هو إحدىٰ إفرازات السياسة وانعكاس لآثارها ، فعائشة تصف سعداً بأنه كان رجلاً صالحاً قبل ذلك ، لكن هذا الصحابي العظيم صار رجلاً غير صالح لأنه امتنع عن بيعة أبي بكر ، فكان لابد أن يقحم اسمه في حديث الافك بما يسيء إلىٰ سمعته .

١١ ـ قول عائشة : فتشهّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جلس ثم قال : « أما بعد يا عائشة ، إنه بلغني منك كذا وكذا فان كنت بريئة فسيبرئك الله... إلخ » .

نقول أولاً ، إن كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمل في طيّاته إتهاماً لعائشة ، وهذا عجيب جداً ، إذ كيف يتفق موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الآيات الكريمة التي تعيب علىٰ المؤمنين سوء ظنهم ؟! وذلك في قوله تعالى ( لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ) الآية ، فكيف فات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ولم يظن خيراً ؟!!

والعجيب أن يذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رواية ابن عساكر عن أشرس مرفوعاً قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ما بغت إمرأة نبي قط » ، وعن مجاهد : « لا ينبغي لامرأة كانت تحت نبي أن تفجر » .

فاذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف كل ذلك ، فما باله يساوره القلق فيذهب ليستشير الصبيان فيما يجب علمه ، ثم يغضب من عائشة ولا تجد منه ذلك اللطف الذي كانت تعهده منه قبل ذلك حتىٰ قالت

١٣٢

له عائشة ولأبويها أيضاً : لقد سمعتم هذا الحديث حتىٰ استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني... ، وفي هذا إشارة صريحة إلىٰ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر وأم رومان كانوا متيقنين من صحة ما يقال عن عائشة !!!

وفضلاً عن هذا ، فان إدعاء عائشة أنها كانت جارية صغيرة السن فعجيب أيضاً ، إذ أن الحادثة كانت في السنة السادسة من الهجرة وعمر عائشة ينبغي أن لا يقل عن خمسة عشر عاماً علىٰ أقل تقدير ، والمرأة المتزوجة منذ سنوات لا يقال لها جارية صغيرة .

كما أن قولها أنها كانت لا تقرأ من القرآن كثيراً فأعجب وأغرب بعد مضي أكثر من خمس سنوات لها في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مهبط الوحي ، وكأن النبي كان مقصّراً في تعليم ـ نسائه القرآن !!!

ولا ندري كيف أصبحت عائشة بعد ذلك مرجعاً دينياً مهماً تفتي وترد علىٰ الصحابة وتخطئهم ؟! بل كيف يُدّعىٰ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا بأن نأخذ شطر ديننا منها !!!

١٢ ـ قول عائشة : وكان أبو بكر ينفق علىٰ مسطح بن أثاثة... .

لقد وردت الروايات بأن مسطح بن أثاثة كان من أصحاب الافك ، وأن أبا بكر كان ينفق عليه قبل الحادثة هذه لقرابته من أبي

١٣٣

بكر وفقره ، وأن أبابكر امتنع عن التصدق عليه حتىٰ أنزل الله : ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ ) الآية ، فعاد إلىٰ النفقة علىٰ مسطح .

لكن الشواهد الصحيحة من التاريخ والسيرة والأثر تنافي أن يكون أبو بكر قد أنفق علىٰ أحد بعد الهجرة علىٰ الأقل ، وليس هناك ما يثبت أن أبا بكر كان في سعة من العيش بحيث يسمح له وضعه بالانفاق علىٰ غيره ، لأن عائشة ابنته وهي زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت أنها والنبي كانا يتضوران جوعاً ويعانيان من ضيق العيش ، ومع ذلك فان أبا بكر لم ينفق عليها شيئاً ولا أرسل لها ما يقيم أودها كما كان يفعل غيره كسعد بن عبادة الذي كانت جفنته تدور مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيوت أزواجه (١) .

إن قضية إنفاق أبي بكر علىٰ مسطح ماهي إلّا فضيلة أُخرى مفتعلة وضعتها أيدي الكذابين ليتقرّبوا إلىٰ السلطة الحاكمة ، كما اختلقت حديث الإفك المعروف كلّه .

ومَن أراد المزيد من التفصيل فعليه بكتاب حديث الإفك للسيد جعفر مرتضى العاملي ، الذي أوفى فيه علىٰ الغاية .

_______________

(١) الطبقات الكبرىٰ ٣ / ٦١٤ ، الاصابة ٢ / ٣٠ ، أُسد الغابة ٢ / ٢٠٤ .

١٣٤

الفصل الخامس : نقص القرآن

قال في « مطلب دعواهم نقص القرآن » :

ومنها ما ذكروه في كتبهم الحديثية والكلامية : أن عثمان رضي‌الله‌عنه نقص من القرآن ، فانه كان في سورة « الم نشرح » بعد قوله تعالىٰ : ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) وعلياً صهرك ، فأسقطها بحسد اشتراك الصهرية ، قالوا : وكانت سورة الأحزاب مقدار سورة الأنعام فأسقط عثمان منها ما كان في فضل ذوي القربىٰ ، قيل : أظهروا في هذه الأزمنة سورتين يزعمون أنهما من القرآن الذي أخفاه عثمان كل سورة مقدار جزء وألحقوهما بآخر المصحف سموا إحداهما سورة النورين وأُخرىٰ سورة الولاء ، يلزم من هذا تكفير الصحابة حتىٰ علي ، حيث رضوا بذلك ، فهي كالتي

١٣٥

قبلها في المفاسد وتكذيب قوله تعالىٰ ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (١) ، وقوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢) ، ومن اعتقد عدم صحة حفظه من الاسقاط واعتقد ما ليس منه أنه منه فقد كفر ، ويلزم من هذا رفع الوثوق بالقرآن كله وهو يؤدي إلىٰ هدم الدين ويلزمهم عدم الاستدلال به والتعبد بتلاوته لاحتمال التبدل ، ما أخبث قول قوم يهدم دينهم ، روىٰ البخاري أنه قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا ما بين الدفتين (٣) .

من المؤسف جداً أن يضطر المرء إلىٰ الخوض في موضوع لا يجدي الكلام فيه شيئاً ولا يأتي بخير علىٰ أحد سوىٰ أعداء الاسلام والمسلمين الذين يبحثون عن أية ثغرة ينفذون منها للطعن علىٰ الاسلام والمسلمين ، وليس ثمة ثغرة ينفذون منها أفضل عندهم من موضوع تحريف القرآن ، لأن القرآن الكريم هو الجامع لشمل المسلمين حتىٰ قيام الساعة ، فالمسلمون مهما اختلفوا في

_______________

(١) سورة فصلت : ٤٢ .

(٢) سورة الحجر : ٩ .

(٣) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ١٤ ـ ١٥ .

١٣٦

شيء من العقائد أو الأحكام فيما يتعلّق بالأصول أو الفروع ، أو في السنة النبوية ، فهم لا يمكن أن يختلفوا في كتاب الله العزيز .

ولكن من المؤسف حقاً أن تتخذ بعض الجهات هذا القرآن العظيم وسيلة للطعن والتشنيع علىٰ إخوانهم المسلمين وباسم الاسلام ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ولا يلتفتون إلىٰ أنهم يضعون في أيدي أعداء المسلمين أمضىٰ الأسلحة وأقواها لضرب الاسلام .

قلنا : إن إتهام المسلمين بعضهم لبعض بتحريف القرآن لا يخدم إلّا أعداء الاسلام ، وهذا السبب وحده كافٍ للاعراض عن هذا الموضوع لو كان الأمر يتعلّق بمقولة قالها شيخ الوهابية منذ ما يقرب من قرنين من الزمان وانتهت بانتهائه .

لكن من المؤسف إننا نجد أن هذا الاتجاه لم يقتصر علىٰ ذلك الوقت ، بل هو مستمر إلىٰ يومنا هذا ، فتجد الكتّاب والمؤلّفين السائرين في هذا الركب لا يفتؤون يطلقون هذه الصيحات المتحشرجة ، ويفرغون كل ما في صدورهم من حقد وضغينة علىٰ مذهب أهل البيت وأتباعهم .

وقد بزّ المدعو إحسان إلهي ظهير من سبقه في هذا المضمار ، فراح يطلق الصيحات المحمومة ويبحث في بطون الكتب عن أية

١٣٧

رواية ضعيفة أو موضوعة أو قابلة للتأويل في كتب الشيعة توحي بأن في القرآن تحريفاً أو زيادة أو نقصاً ، لينسب إلىٰ الشيعة القول بتحريف القرآن .

وكأَن هذا القول هو أحد معتقدات الشيعة التي يتعبدون بها ويعتقدون صحتها ، دون الالتفات إلىٰ ما يقول به جمهور الامامية وصفوة أئمتهم الأعلام في نفي هذه التهمة الشنيعة عن كتاب الله العزيز .

فهذا القرآن الموجود بين الدفتين ، والذي يتعبد به أهل السنة في مختلف أقطارهم ، هو نفس الكتاب الموجود في أيدي الشيعة ـ علىٰ اختلاف أقطارهم ـ لا يزيد عنه حرفاً ولا ينقص ، وبمختلف الطبعات ، سواء منها ما طبع قديماً أو حديثاً ، وسواء منها ما طبع في بلاد الشيعة أو ما طبع منها في البلاد التي أغلب أهلها علىٰ مذهب أهل السنة .

أما إذا كانت الحجة التي يتذرع بها أُولئك المتعصبون هي وجود مثل هذه الروايات في بعض كتب الشيعة ، فنقول :

إن مثل هذه الروايات موجودة وبأعداد مضاعفة عما في كتب الشيعة في كتب أهل السنة ، بل وفي أوثق كتبهم والتي عندهم الصحاح كما يسمونها وفي مقدمتها البخاري ومسلم ، ومع ذلك فان

١٣٨

الشيعة لا يتهمون إخوانهم من أهل السنة بالقول بتحريف القرآن لمجرد وجود هذه الروايات في كتبهم وصحاحهم ، لسبب بسيط وهو ـ كما قلنا سابقاً ـ أنّ الشيعة لا يؤمنون بوجود كتاب صحيح تماماً غير كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وما عداه فلا يمكن أن يكون صحيحاً تماماً .

فهذا كتاب ( الكافي ) مثلاً ، وهو من أهم المصادر الحديثية لدىٰ الشيعة ، ويحوي أكثر من ( ١٦ ) ألف رواية وبالتحديد ( ١٦١٩٩ ) حديثاً ، فانهم لا يصححون منها سوىٰ ( ٥٠٧٢ ) حديثاً ، ويضعفون ( ٩٤٨٠ ) حديثاً ويحسّنون ( ١٤٤ ) حديثاً ، والباقي عندهم من الأحاديث يسمون بعضه موثّقاً ، والآخر قوياً (١) .

ولو أننا نظرنا إلىٰ روايات التحريف في كتب الشيعة لوجدناها في الأعم الأغلب قابلة الحمل علىٰ التأويل ، وغير القابلة الحمل علىٰ التأويل أكثرها من النوع الضعيف الذي لا يعتمده جمهور الشيعة ولا يبنون عليه حكماً ، وإن أكثر روايات التحريف مسندة إلىٰ رجال من أمثال :

أحمد بن محمد السياري ، الذي يقول فيه الشيخ النجاشي :

_______________

(١) دراسات في الحديث والمحدثين ؛ هاشم معروف الحسني ١٣٦ ـ ١٣٧ .

١٣٩

ضعيف الحديث فاسد المذهب (١) .

أو يونس بن ظبيان ، الذي يقول فيه النجاشي : ضعيف جداً لا يلتفت إلىٰ ما رواه كل كتبه تخليط ، ويقول عنه ابن الغضائري : ابن ظبيان كوفي غالٍ كذاب وضَاع للحديث (٢) .

أو منخل بن جميل الكوفي ، الذي قال فيه علماء الشيعة : ضعيف فاسد الرواية ، وإنه من الغلاة المنحرفين (٣) .

وغير أولئك من نصّ علماء الجرح والتعديل علىٰ تضعيفهم والطعن فيهم ونسبتهم إلىٰ الكذب والغلو .

روايات أهل السنة :

أما فيما يتعلق بالروايات الموجودة في كتب أهل السنة وصحاحهم حول تحريف القرآن ، فهي كثيرة جداً لا يسعنا الاحاطة بها في هذا المبحث ، ولكننا سنذكر طرفاً منها علىٰ وجه الاختصار ، وإن كان يؤسفنا ذلك ، مع التنبيه إلىٰ أننا نحن الشيعة لا نعتقد بصحة هذه الروايات ، لأننا لا نعتقد بصحة كل ما جاء في صحاح أهل

_______________

(١) رجال النجاشي ١ / ٢١١ ـ ٢١٢ .

(٢) رجال النجاشي ٢ / ٤٢٣ .

(٣) دراسات في الحديث والمحدثين ١٩٨ ، رجال النجاشي ٢ / ٣٧٢ .

١٤٠