لا تخونوا الله والرسول

صباح علي البيّاتي

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف:

صباح علي البيّاتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ينبغي أولاً أن نشير إلىٰ أن هناك فرقاً بين القول بسب الصحابة ، وبين تفصيل أحوالهم وبيان اتجاهاتهم وولاءاتهم المختلفة ، فالخلط بين المفهومين مغالطة كبيرة .

وعلىٰ هذا الأساس ـ وكما قد تبين من بعض المباحث المتقدمة ـ نقول : إن الشيعة لا يسبون الصحابة بهذا المفهوم الذي يذكره الشيخ ويدعيه ، وإنما يقولون : أن صفة العدالة المطلقة منتفية عنهم جميعاً ، فبعضهم عدول وبعضهم غير ذلك ، والقول بارتداد بعضهم ليس كلاماً اخترعته الشيعة ، بل هو مما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقه الوحي كما مر .

وبهذا يتبين أن القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة تؤيد قول الشيعة في الصحابة .

أما هذا التناقض الذي يلمسه المرء بين عبارات الثناء من جهة وعبارات التوبيخ وتهمة الارتداد والإحداث لبعض الصحابة ، فناشئ عن أمرين :

١ ـ إن النصوص التي ذكرت الصحابة بعبارات التبجيل ليست مطلقة بحيث تشمل كل من يحمل إسم صحابي ، بل فيها إشارات واضحة بأن هذه العبارات موجهة لفئات معينة من الصحابة ، لذا نجد أن بعض الكلمات أو العبارات التي ترد في نفس الآية أو في

١٠١

غيرها من الآيات تستهدف توضيح الأمر وبيان من هم المقصودون بعبارات الثناء .

ومن النصوص القرآنية التي طالما استشهد بها القائلون بعدالة الصحابة المطلقة :

قوله تعالىٰ ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (١) .

فان العبارة الاخيرة تشترط المغفرة والأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات من المؤمنين فقط وليس كلهم ، وقد أوقع ذلك بعض المفسرين في الحرج ، لأن ذلك يناقض الإدعاء بعدالة الصحابة أجمعين ، فحاولوا صرف العبارة عن معناها الحقيقي ، فتردد البعض في القطع بتفسير مدلولها ، كما يتضح من قول الرازي في بيان مدلول لفظة ( منهم ) حيث قال : بأنها لبيان الجنس لا للتبعيض ويحتمل أن يقال هو للتبعيض (٢) .

_______________

(١) سورة الفتح : ٢٩ .

(٢) التفسير الكبير ٢٨ / ١٠٩ .

١٠٢

وقوله تعالىٰ ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ) (١) .

ففي هذه الآية إشارة واضحة إلىٰ إمكان أن ينكث بعض الذين بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيعتهم ، وقد حدث ذلك فعلاً بشهادة كتب التاريخ والسيرة والحديث .

٢ ـ إن الروايات التي جاء فيها مدح الكثير من الصحابة ـ والتي كانت سبباً في انخداع المسلمين ـ هي ليست إلّا روايات مختلقة كانت تستهدف طمس فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأهل البيت عامة .

روىٰ أبو الحسن المدائني في كتاب الاحداث قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلىٰ عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روىٰ شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة وعلىٰ كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي عليه‌السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي

_______________

(١) سورة الفتح : ١٠ .

١٠٣

والأرجل وسمل العيون وصلبهم علىٰ جذوع النخل وطردهم وشردهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف فيهم .

وكتب معاوية إلىٰ عماله في جميع الآفاق : إلّا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته .

ففعلوا ذلك حتىٰ أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقربه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً .

ثم كتب إلىٰ عماله : أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية ، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلىٰ الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة أبي تراب

١٠٤

وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله .

فقرئت كتبه علىٰ الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرىٰ ، حتىٰ أشادوا بذكر ذلك علىٰ المنابر ، وأُلقي إلىٰ معلمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتىٰ رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتىٰ علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله...

فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضىٰ علىٰ ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتىٰ انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلىٰ أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق .

ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها...

وقد روىٰ ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية

١٠٥

تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم (١) .

فمعظم الفضائل التي جاءت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحابة ومدحهم هي في الحقيقة نصوص موضوعة نسبت إليه زوراً وبهتاناً ولا تمت إلىٰ الحقيقة بصلة ، وكان ذلك بوحي من معاوية الذي سخر أجهزته الاعلامية في خدمة هذا الغرض .

إن نظرة متفحصة لهذه الروايات المتكاثرة في فضائل الصحابة تكشف للباحث آثار الوضع عليها ، وقد وضعت روايات كثيرة في مقابل الروايات الصحيحة التي جاءت في فضائل أهل البيت وهي أكثر من أن تحصىٰ ، كرواية « أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة » والتي لا يجد الباحث عناءً في معرفة أنها قد وضعت في مقابل الحديث الصحيح « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » مثلاً .

وقد مرّ فيما سبق الاشارة إلىٰ بعض هذه الروايات التي وضعت في مقابل الروايات الصحيحة في فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كقصة المرأة التي جاءت إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأوصاها بأن تأتي أبا بكر إذا توفي النبي ... .

_______________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٤٤ ـ ٤٦ .

١٠٦

واستعراض هذه الروايات يحتاج إلىٰ الكثير من الوقت ، فنتركها إلىٰ فطنة القارئ وإرادته في البحث عن الحقيقة بعقل متفتح .

إن المتناقضات التي يلمسها الباحث في فضائل الصحابة ـ وبخاصة الخلفاء الثلاثة الأوائل ـ كافية لأن تكشف عن زيفها ، ومن الأمثلة علىٰ ذلك أنهم يروون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : « لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبابكر خليلاً... » ، وتجدهم في المقابل يروون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إن لكل نبي خليلاً من أُمته وإن خليلي عثمان بن عفان » !! (١) .

إن هذه الروايات المكذوبة ما هي إلا إفرازات الواقع الذي أراد معاوية تثبيته في أذهان الناس ، فانه أطلق العنان أولاً للرواية في فضائل عثمان فتسابق الوضاعون في إختلاقها ، حتىٰ إذا وجد أنها قد طغت كالسيل أمر بالرواية في فضائل الخليفتين السابقين له ، ولكن الوضاعين ـ رغم جهودهم غير المشكورة ـ لم يستطيعوا أن يخرجوا من المأزق الذي وضعوا فيه رغم إغراقهم في رواية الفضائل المكذوبة لبعض الصحابة .

وعلىٰ أي حال فنحن لا نريد الاطالة في هذا الموضوع ، إلّا أننا

_______________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٣٩ / ١٢٠ .

١٠٧

نشير إلىٰ أن هذه الروايات علىٰ كثرتها لم تستطع طمس الحقائق وقلبها كلية رغم أنها حققت نجاحاً كبيراً في هذا الشأن ، لكن الباحث المنصف يستطيع التوصل إلىٰ الحقيقة إذا ما تناول الأمر بشكل موضوعي وطرح رداء التعصب والتقليد الأعمىٰ .

أسماء الصحابة :

قال الشيخ في « مطلب استهانتهم بأسماء الصحابة » :

وقد تواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل علىٰ وجوب تعظيمهم وإكرامهم ، وقد أرشد الله تعالىٰ إلىٰ ذلك في مواضع من كتابه ، ويلزم من إهانة هؤلاء إياهم استخفافهم لذلك عندهم ، ومن اعتقد ما يوجب إهانتهم فقد كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر من وجوب إكرامهم وتعظيمهم ، ومن كذبه فيما ثبت عنه قطعاً فقد كفر .

ومن عجب أنهم يتجنبون التسمية بأسماء الأصحاب ويسمّون بأسماء الكلاب ، فما أبعدهم عن الصواب وأشبههم بأهل الضلال والعقاب (١) .

وهذا المطلب كما ذكرنا له صلة بمسألة أصل عدالة الصحابة جميعاً ، لتكون مناقشاتنا مبتنية علىٰ المباني والأسس الصحيحة ،

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٦ ـ ٢٧ .

١٠٨

لا كما فعله محمد بن عبد الوهاب وما شاكله من إيراد المطالب وسردها من دون البحث في المباني ، ولمّا أثبتنا فيما سبق بطلان القول بعدالة جميع الصحابة ، وأن قواعد الجرح والتعديل تجري عليهم ، فالشيعة وكل عاقل يبحثون في أحوالات الصحابة ، فمن ثبت علىٰ الايمان ولم يكن منافقاً ولم يغير ولم يبدّل ، فالشيعة وكل عاقل يحترمونه ويعطونه المقام العالي ويقتدون به ويسمّون اولادهم بأسمائهم .

١٠٩
١١٠

الفصل الرابع : أُمّ المؤمنين عائشة

قال الشيخ في « مطلب سبهم عائشة رضي الله عنها المبرأة » :

ومنها : نسبتهم الصديقة الطيبة المبرأة عما يقولون فيها إلىٰ الفاحشة ، وقد شاع في هذه الأزمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم . قال تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ... ) (١) .

وقد روىٰ عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عائشة رضي الله عنها أنها المبرأة المرادة من هذه الآيات .

_______________

(١) سورة النور : ١١ .

١١١

وروىٰ سعيد بن منصور وأحمد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أُم رومان رضي الله عنها ما يدل أن عائشة رضي الله عنها هي المبرأة المقصودة بهذه الآيات... (١) .

وفي مطلب « مشابهتهم اليهود » قال الشيخ :

ومن قبائحهم تشابههم باليهود ، ولهم بهم مشابهات ، منها : أنهم يضاهون اليهود الذين رموا مريم الطاهرة بالفاحشة بقذف زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة المبرأة بالبهتان وسلبوا بسبب ذلك الايمان... (٢) .

حديث الإفك :

إن قضية الافك تحتاج إلىٰ شيء من التفصيل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ كعادته ـ يخلط الأوراق بهدف إثارة الضجيج للتعمية علىٰ الحقائق وصرف الأُمور إلىٰ غير وجهها لينفذ بذلك إلىٰ غرضه الحقيقي ألا وهو إلصاق التهم بالشيعة جزافاً .

فقوله : ( وقد شاع في هذه الأزمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم )

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٢ ـ ٢٣ .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٣ .

١١٢

يحمل مغالطة كبيرة ، فهل أن الشيعة يتهمون أُم المؤمنين عائشة حقاً بهذه التهم الشنيعة ؟ ومن الذي نقل عنهم ؟ أما كان ينبغي للشيخ أن يذكر لنا مصدر هذا الخبر حتىٰ يتحقق القارئ الكريم من صحة دعواه هذه ؟ وكيف يسيغ الشيخ لنفسه أن يتهم أُمّةً مسلمة بقول مفترىٰ عليهم من حاقد قد أعمىٰ التعصب بصيرته ؟ أو ليس قد أمر الله تعالىٰ المسلمين أن يتثبتوا من صحة ما ينقل إليهم قبل أن يتهموا قوماً مؤمنين في قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (١) ؟ .

بعد هذه المقدمة نقول :

١ ـ إن إتهام الشيعة بنسبة الفاحشة إلىٰ زوج النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي محض افتراء لم يقل به أحد من الشيعة لا من السابقين ولا من اللاحقين ، بل إن الشيعة أكثر تنزيهاً وتقديساً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكلّ الأنبياء عليهم‌السلام من جميع الطوائف المنضوية تحت إسم الاسلام ، فعلماء الشيعة قد صنّفوا كتباً لإثبات قدسية ساحة الأنبياء وبراءة عرضهم من كلّ ما يشين ، وردّوا علىٰ كلّ من ادعىٰ بجواز مثل هذه الأُمور المشينة علىٰ الأنبياء ، والتي نجد البعض منها في روايات

_______________

(١) سورة الحجرات : ٦ .

١١٣

أهل السنة وبكل أسف .

وقد عبَّر السيد المرتضىٰ رحمه‌الله عن هذه الحقيقة فقال في معرض ردّه علىٰ المفسرين الذين نسبوا الخيانة الزوجية إلىٰ زوجة نوح عليه‌السلام مدّعين أن ابنه كان من سفاح ، فقال :

والوجه الثالث : أنه لم يكن ابنه علىٰ الحقيقة وإنما ولد علىٰ فراشه فقال عليه‌السلام : إن ابني ، علىٰ ظاهر الأمر ؛ فأعلمه الله تعالىٰ أن الأمر بخلاف الظاهر ونبهه علىٰ خيانة امرأته ، وليس في ذلك تكذيب خبره ، لأنه إنما أخبر عن ظنه وعما يقتضيه... وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريج .

قال المرتضىٰ : ولأن الأنبياء عليهم‌السلام يجب أن ينزهوا عن هذه الحال ، لأنها تعيير وتشيين ونقص في القَدْر ، وقد جنّبهم الله تعالىٰ ما دون ذلك تعظيماً لهم وتوقيراً ونفياً لكلّ ما ينفرّ عن القبول منهم (١) .

فهذا الكلام أكبر رد علىٰ من ينسب إلىٰ الشيعة الكلام بما يخل بالأدب تجاه الأنبياء عليهم‌السلام ، وذلك علىٰ العكس مما نجد في كتب وصحاح أهل السنة التي تنسب إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من الأنبياء أُموراً مشينة كالتبول من وقوف ، وخروج النبي إلىٰ المسجد وعلىٰ

_______________

(١) تنزيه الأنبياء : ١٨ .

١١٤

ثوبه آثار المني ، أو أنه كان يطوف علىٰ نسائه في الساعة من الليل أو النهار في غسل واحد ، وأنه كان يسابق نساءه في الصحراء علىٰ مرأىٰ من الجيش ، أو أنه كان يحضر حفلات العرس ويتناول النبيذ من أيدي النساء وهو جالس علىٰ فراشهن ، ويسمح لجواري الحبشة بالرقص في مسجده ، وما إلىٰ ذلك من الترهات التي يطير لها أعداء الاسلام فرحاً لما فيها من مطاعن شنيعة علىٰ شخص النبي الكريم (١) .

٢ ـ أما قول الشيخ بأن أُم المؤمنين عائشة هي المرادة من الآيات ، وأن هذا مشهور متواتر بين الشيعة ، فان هذا ما تدّعيه مصادر أهل السنة قاطبة ، وهي تكاد تكون مجمعة علىٰ ذلك فعلاً ، لكن لنا في كلّ ذلك نظر ، ونحن لا نلقي الكلام جزافاً بدون الاستناد إلىٰ الدليل ، ولأجل أن تتبين الحقيقة بشكل واضح ، فسوف نستعرض أهم روايتين وردتا في أقوىٰ مصادر أهل السنة فيما يتعلّق بحديث الافك ثم نناقشها مناقشة علمية علىٰ ضوء الأدلة والشواهد ، مع الاشارة إلىٰ أقوال بعض العلماء والشراح الذين وقعوا في حيرة وارتباك واضحين وهم يحاولون تصحيح حديث

_______________

(١) أُنظر صحيح البخاري ١ / ٦٦ ، ٦٧ ، ٧٦ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٧ / ٢٥ ، ٤٩ ، ٥٠ .

١١٥

الافك لمجرد وروده في صحيحي البخاري ومسلم ، وسوف يتبين لنا مدىٰ الاشكالات التي يطرحها هذا الحديث ، ولنبدأ بذكر الرواية الرئيسية المتفق عليها ، واللفظ فيها للبخاري :

قالت عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إِذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيه سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما أُنزل الحجاب ، فكنت أُحمل في هودجي وأُنزل فيه ، فسرنا حتىٰ إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته تلك وقَفَلَ دنونا من المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتىٰ جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلىٰ رحلي فلمست صدري فاذا عقدٌ لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه .

قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني ، فاحتملوا هودجي فرحلوه علىٰ بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه .

وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل فساروا .

ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها

١١٦

منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي .

فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي فرأىٰ سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني ، وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما تكلّمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوىٰ حتى أناخ راحلته فوطئ علىٰ يدها فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتىٰ أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ، قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولىٰ كبر الافك عبدالله بن أُبي بن سلول .

قال عروة : أُخبرت أنه كان يُشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه .

قال عروة أيضاً : لم يُسم من أهل الافك أيضاً إلّا حسان بن ثابت ومسطح بن أَثاثة وحمنه بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم ، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى ، وإن كبر ذلك يقال عبدالله بن أبي سلول .

قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه

١١٧

الذي قال :

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الافك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي كنت أرىٰ منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلم ثم يقول : « كيف تَيكُم » ثم ينصرف ، فذلك يريني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أُم مسطح قبل المناصع ، وكان مُتبرّزنا وكنا لا نخرج إلّا ليلاً إلىٰ ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا .

قالت : فانطلقت أنا وأُم مسطح وهي ابنة أبي رُهم بن المطلب بن عبد مناف وأُمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أُثاثة بن عبد المطلب ، فأقبلت أنا وأُم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أُم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، اتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أي هنتاه ولم تسمعي ما قال ؟ قالت : وقلت : ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الافك ، قالت : فازددت مرضاً علىٰ مرضي ، فلمّا رجعت إلىٰ بيتي دخلّ علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلم ثم قال : « كيف تيكم »

١١٨

فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لأُمي : يا أُمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلّا كثّرن عليها ، قالت : فقلت سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتىٰ أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي .

قالت : ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وأُسامة بن زيد ـ حين استلبث الوحي ـ يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله .

قالت : فأما أُسامة فأشار علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أُسامة : أهلك ، ولا نعلم إلّا خيراً ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك .

قالت : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة فقال : « أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك » ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه ، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله .

قالت : فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبي وهو علىٰ المنبر فقال : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل

١١٩

قد بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت علىٰ أهلي إلّا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل علىٰ أهلي إلّا معي » .

قالت : فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك .

قالت : فقام رجل من الخزرج وكانت أُم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج .

قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر علىٰ قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل .

فقام أُسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين .

قالت : فثار الحيّان الأوس والخزرج حتىٰ هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم علىٰ المنبر .

قالت : فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتىٰ سكتوا وسكت .

قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم .

قالت : وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا يرقأ لي

١٢٠