لا تخونوا الله والرسول

صباح علي البيّاتي

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف:

صباح علي البيّاتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أولىٰ . وأما حديث المتلاعنين فغير لازم لأن الفرقة لم تقع بالطلاق وإنما وقعت بمجرد لعانها فلا حجة فيه ، وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي رسول الله حتىٰ يكون مقراً عليه . علىٰ أن حديث فاطمة بنت قيس أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وحديث إمرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات . متفق عليه ، ولم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث (١) .

ومن عجب أن يخالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهب أُستاذه ابن تيمية الذي لم يجز إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، حيث قال : وأمّا جمع الثلاث بكلمة ، فهذا كان منكراً عندهم إنما يقع قليلاً فلا يجوز حمل اللفظ المطلق علىٰ القليل المنكر دون الكثير الحق ولا يجوز أن يقال يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا ، بل هذا قول بلا دليل بل هو خلاف الدليل (٢) .

ومعلوم أن إمضاء الطلاق الثلاث كان من عند عمر بن الخطاب ، فقد أخرج مسلم عن ابن عباس قال : كان الطلاق علىٰ عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة ، فقال

_______________

(١) العدة شرح العمدة : ٤٨٧ كتاب الطلاق .

(٢) مجموعة فتاوىٰ ابن تيمية ٣ / ١٤ .

٣٠١

عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم (١) .

وبهذا يتبين أن الامامية ليسوا هم الخارجون عن السنة المخالفون لها كما يدعي الشيخ !

إتيان النساء :

قال الشيخ في « مطلب إباحتهم ... إتيان المرأة في دبرها » :

ومنها : إباحتهم إتيان الزوجة والمملوكة في الدبر ، وقد صح عن النبي وأصحابه ما يدل علىٰ أن المراد من قوله : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) هو الاتيان في القبل ، وإليه يرشد لفظ الحرث بل هو نص علىٰ ذلك ، وقد ورد عنه لعن من فعل ذلك في الدبر ، وإطلاق الكفر عليه ، فهو خليق أن يكون حراماً قطعياً يخاف علىٰ مستحله الكفر ، الله الحافظ (٢) .

وقال في « مطلب مشابهتهم النصارىٰ » :

ومنها : جماعهم النساء في الأدبار حالة الحيض ،

_______________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٩٩ كتاب الطلاق باب الطلاق الثلاث .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٠ .

٣٠٢

وكانت النصارىٰ تجامع النساء في المحيض (١) .

هذه مسألة أُخرىٰ من مسائل الخلاف ليس بين الشيعة والسنة وحدهم ، بل هي محل خلاف بين فقهاء الطائفة الواحدة أيضاً .

أما الشيعة ، فقال جمهورهم بكراهية وطء المرأة في الدبر كراهية شديدة ، بينما قال بعضهم بتحريم ذلك إستناداً إلىٰ الأدلة المتوفرة لدىٰ كل من الطرفين .

قال الشيخ يوسف البحراني : المشهور بين الأصحاب رضي الله عنهم كراهية الوطء في الدبر كراهية مؤكدة ، ونقل في المختلف عن ابن حمزة القول بالتحريم ، ونقل هذا القول في المسالك أيضاً عن جماعة من علمائنا منهم القميّون وابن حمزة (٢) .

أما أهل السنة ، فذهب جمهورهم إلىٰ تحريم ذلك ، ولكن نقل عن عدد من الصحابة والتابعين وكبار الفقهاء وأئمة المذاهب القول بحليته مطلقاً .

وإدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن المراد من آية الحرث هو الاتيان في القبل وأن النص يرشد علىٰ ذلك ، فيرده روايات عديدة :

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٦ .

(٢) الحدائق الناضرة ٢٣ / ٨٠ .

٣٠٣

أخرج البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر رضي‌الله‌عنه إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتىٰ يفرغ منه ، فأخذت عليه يوماً ، فقرأ سورة البقرة حتىٰ انتهىٰ إلىٰ مكان ، قال : تدري فيما أُنزلت ؟ قلت : لا ، قال : أُنزلت في كذا وكذا ، ثم مضىٰ ، وعن عبد الصمد حدثني أبي حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) قال : يأتيها في ... رواه محمد بن يحيىٰ عن أبيه عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر (١) .

وأخرج الطبري الرواية أيضاً كما في البخاري ـ إلىٰ أن قال ـ قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن (٢) .

قال ابن حجر العسقلاني ـ في معرض شرحه لحديث البخاري ـ : اختلف في معنىٰ ( أَنَّىٰ ) فقيل : كيف ، وقيل : حيث ، وقيل : متىٰ ، وبحسب هذا الاختلاف جاء الاختلاف في تأويل الآية ... وقد قال أبوبكر بن العربي في سراج المريدين : أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال : يأتيها في ، وترك بياضاً ، والمسألة مشهورة صنف فيها محمد بن سحنون جزءاً وصنف فيها محمد بن شعبان كتاباً ، وتبين أن حديث ابن عمر في إتيان المرأة في دبرها ...

_______________

(١) صحيح البخاري ٦ / ٣٥ كتاب التفسير باب : نساؤكم حرث لكم ...

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٢٣٣ .

٣٠٤

وأما رواية محمد بن يحيىٰ بن سعيد القطان فوصلها الطبراني في الأوسط من طريق أبي بكر الأعين عن محمد بن يحيىٰ المذكور إلىٰ عمر ، قال : إنما نزلت علىٰ رسول الله : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ) رخصة في إتيان الدبر ... وقد روىٰ هذا الحديث عن نافع أيضاً جماعة غير من ذكرنا ورواياتهم بذلك ثابتة عند ابن مردويه في تفسيره وفي فوائد الاصبهانيين لأبي الشيخ وتاريخ نيسابور للحاكم وغرائب مالك للدارقطني وغيرها . وقد عاب الاسماعيلي صنيع البخاري فقال : جميع ما أخرج البخاري عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه ...

ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول ، فقد أخرج أبو يعلىٰ وابن مردويه وابن جرير والطحاوي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أصاب إمرأته في دبرها ، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : نعيّرها ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، وعلّقه النسائي عن هشام بن سعيد بن زيد ، وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور ... (١) .

كما أخرج الطبري في سبب نزول هذه الآية عن ابن عمر : أن رجلاً أتىٰ إمرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله :

_______________

(١) فتح الباري ٨ / ١٥٢ ـ ١٥٣ .

٣٠٥

( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ... ) .

وأخرج عن عطاء بن يسار : أن رجلاً أصاب إمرأته في دبرها علىٰ عهد رسول الله فأنكر الناس ذلك وقالوا : أثفره ، فأنزل الله : ( نِسَاؤُكُمْ ... ) (١) .

وأخرج جمع من الحفاظ عن أبي سعيد الخدري قال : أبعر رجل إمرأته علىٰ عهد رسول الله فقالوا : أبعر فلان إمرأته ، فأنزل الله : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ... ) (٢) .

يتبين مما سبق أن إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن سبب نزول الآية غير صحيح ، وأن بعض الصحابة والتابعين قد أثبتوا نزولها في حلية إتيان النساء في الأدبار .

وإستناداً إلىٰ ذلك فان عدداً كبيراً من الفقهاء قد أجاز إتيان النساء في أدبارهن ، بل واعترف بعضهم بأنه يفعل ذلك بنفسه .

فعن أبي سعيد بن يسار ، أنه سأل ابن عمر عنه ، يعني وطء النساء في أدبارهن ، فقال : لا بأس به .

_______________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ .

(٢) مسند أبي يعلىٰ ٢ / ٣٥٥ ، شرح معاني الآثار ٣ / ٤٠ وقال : قال أبو جعفر : فذهب قوم إلىٰ أن وطء المرأة في دبرها جائز ، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث ، وتأولوا هذه الآية علىٰ إباحة ذلك .

٣٠٦

وعن محمد بن كعب القرظي : أنه كان لا يرىٰ بأساً باتيان النساء في أدبارهن ، ويحتج في ذلك بقوله عزوجل ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) أي : من أزواجكم مثل ذلك إن كنتم تشتهون .

وعن طريق إصبغ بن الفرج عن عبدالله بن القاسم قال : ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك فيَ أنه حلال ، يعني وطء المرأة في دبرها ، ثم قرأ : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ... ) ثم قال : فأي شيء أبين من هذا (١) .

وأخرج الطبري ، قيل لزيد بن أسلم : أن محمد بن المنكدر ينهىٰ عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال زيد : أشهد علىٰ محمد لأخبرني أنه يفعله .

وعن قتادة قال : سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن فقال : هل يفعل ذلك إلّا كافر ؟ قال روح : فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك ، فقال : قد أردته من جارية لي البارحة فاعتاص علي فاستعنت بدهن أو بشحم .

ومن المعلوم أن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر وعبدالله بن

_______________

(١) شرح معاني الآثار للطحاوي ٣ / ٤١ ، ٤٥ .

٣٠٧

القاسم كلهم من فقهاء المدينة .

بل إن بعض أئمة المذاهب الأربعة قد صرحوا بحليته واعترف أحدهم بأنه يفعل ذلك أيضاً ، فقد أخرج الطحاوي والحاكم في مناقب الشافعي والخطيب عن محمد بن عبدالله بن عبد الحكم : أن الشافعي سئل عنه فقال : ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء ، والقياس أنه حلال .

وأخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجرجاني قال : سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر ، فقال لي : الساعة غسلت رأسي منه .

وأخرج ابن جرير في كتاب النكاح من طريق ابن وهب عن مالك : إنه مباح (١) .

وقد اعترف ابن تيمية الحراني بأن ذلك معروف عن الامام مالك ، فقال في معرض رده علىٰ العلامة الحلي قدس‌سره : وأما ما حكاه من إباحة اللواط بالعبيد ، فهذا كذب لم يقله أحد من علماء أهل السنة ، وأظنه قصد التشنيع به علىٰ مالك ، فاني رأيت من الجهال من يحكي هذا عن مالك ، وأصل ذلك ما يحكىٰ عنه في حشوش النساء ، فانه لما

_______________

(١) الدر المنثور ١ / ٦٣٨ .

٣٠٨

حكي عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك ، وحكي عن مالك فيه روايتان ، ظن الجاهل أن أدبار المماليك كذلك (١) .

فابن تيمية يعترف صراحة بأن مذهب مالك كان إباحة إتيان النساء في حشوشهن .

هذه بعض الحقائق واعترافات بعض الصحابة والتابعين والفقهاء من أهل السنة ، أضعها بين يدي القارئ الكريم رغم شناعة هذا الموضوع . إلّا أنني وجدت نفسي مضطراً للكلام فيه رداً علىٰ تخرصات خصوم الشيعة الذين يستغلون مثل هذه الأُمور للتشنيع عليهم ، ولكنهم يغضون الطرف عما عندهم ومما ورد عن أئمتهم وفقهائهم !! .

_______________

(١) منهاج السنة النبوية ٢ / ٩٧ .

٣٠٩
٣١٠

الفصل الثالث عشر : القضاء والقدر

قال الشيخ في « مطلب نفي القدر » :

ومنها : قولهم : إن الله لم يقدر شيئاً في الأزل ، وأن الله لم يرد شراً ولا يريده ، وقد روىٰ مسلم أن قوله تعالىٰ : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) نزل حين نازل المشركون فيه ، وقد قال بعض السادة : قد رويت في إثبات القدر ومايتعلق به أحاديث رويت عن أكثر من مائة صحابي رضي الله عنهم ، وقد ورد عنه : « لكل أُمة مجوس ومجوس هذه الاُمة الذين يقولون لا قدر » ... (١) .

إن موضوع القدر من المواضيع الشائكة التي اختلفت فيها أقول

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٢ ـ ٤٣ .

٣١١

الفلاسفة والمتكلمين ، ولكن ينبغي أن أُشير أولاً إلىٰ بطلان إدعاء الشيخ أن الشيعة يقولون في القدر بمثل مقالته ، وليس هذا بأول إفتراء له علىٰ اتباع أهل البيت عليهم‌السلام .

لقد انقسمت آراء المسلمين في القدر إلىٰ ثلاثة مذاهب :

المذهب الأول : وملخصه أن الانسان محكوم بالقدر حكماً باتاً لا مجال فيه للاختيار ، وهو ما يعطي معنىٰ ( الجبر ) ، وهو الذي ذهب إليه جمهور أهل السنة تبعاً لأبي الحسن الأشعري .

المذهب الثاني : وهو عكس المذهب الأول ، وملخصه أن الانسان مطلق الحرية غير محكوم بالقدر ، وهو ما يعطي معنىٰ ( التفويض ) ، الذي ذهب إليه المعتزلة .

المذهب الثالث : وهو مذهب وسط بين المذهبين الأولين حيث لا يقول بالجبر المطلق ولا بالتفويض المطلق ، بل هو أمر بين أمرين ، وهو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، حيث لا إفراط ولا تفريط .

فالجبر الذي يقول به الاشاعرة يسلب الانسان إرادته ويجعله كالريشة في مهب الريح ، مسيّراً بقدره المحتوم ، وعلىٰ هذا الاساس فلا عبرة للطاعة أو المعصية ، فالعبد قد يكون مطيعاً لله ، لكن مآله يكون إلىٰ النار ، والعكس أيضاً ، إذ قد يكون العبد عاصياً لله ، ولكن يسبق قدره المحتوم عمله فيصبح من أهل الجنة ، وفي هذا القول

٣١٢

مافيه من نسبة الظلم لله سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علواً كبيراً .

أما مذهب التفويض فهو يطلق إرادة الانسان إطلاقاً غير محدود وبشكل يسلب إرادة الباري عزوجل ، وفي هذا ما لا يخفىٰ من زلل قد يصل إلىٰ حد الكفر .

ولو أننا بحثنا هذا الموضوع بأُسلوب علمي محايد لاكتشفنا أن السياسة قد لعبت دوراً مهماً في نشوء الاتجاهين الاولين : الجبر والتفويض ، لأن الفتنة التي اشتعلت بين المسلمين في عهد عثمان بن عفان وما جرته بعد ذلك من حدوث الاقتتال بين المسلمين ـ وفيهم كبار الصحابة ـ في معارك الجمل وصفين ، وما أعقب ذلك من إستيلاء بني أُمية علىٰ الحكم بالقهر والغلبة ، تطلب كل ذلك ايجاد نظرية في القضاء والقدر ترفع الأوزار عن كاهل أُولئك الصحابة والتابعين ، وتعطي للفئة الباغية غطاءً شرعياً يبرر كل تصرفاتها اللاحقة ، فاخترعت نظرية الجبر ـ ووضعت الأحاديث المناسبة لها ـ لتثبت أن الانسان مسوق إلىٰ قدره بلا إرادة منه ولا حول ، فهو يفعل ما يفعل ويرتكب ما يرتكب من المعاصي بقدره المحتوم الذي سلبه حرية التصرف والاختيار .

قال أبو هلال العسكري : إن معاوية أول من زعم أن الله يريد

٣١٣

أفعال العباد كلها (١) .

فمعاوية كان بحاجة إلىٰ ما يبرر أعماله الشنيعة وقتله الصحابة والتابعين ـ كحجر بن عدي وغيره ـ فاخترع هذه النظرية ، وقد انساق جمهور أهل السنة ـ تبعاً للنظرية القائلة بضرورة الخضوع للحاكم وإن كان فاجراً وحرمة الخروج عليه ـ وراء هذه الخدعة ، ولم يعدم معاوية وأعوانه من يتصدىٰ لوضع بعض الأحاديث المكذوبة المنسوبة إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتكريس هذا الاتجاه ، وانبرى البعض لتأويل بعض الايات المتشابهات من القرآن الكريم دعماً لهذا الاتجاه الجديد .

أمام هذه الموجة كان لابد وأن يظهر إتجاه معاكس كرد فعل لهذه النظرية ، تزعّمها بعض التابعين ـ الذين سموا معتزلة فيما بعد ـ فظهرت نظرية التفويض .

روىٰ ابن قتيبة أن عطاء بن يسار كان قاضياً للأمويين ، ويرىٰ رأي معبد الجهني ، فدخل علىٰ الحسن البصري وقال له : يا أبا سعيد ، إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون : إنما تجري أعمالنا علىٰ قضاء الله وقدره ؛ فقال له الحسن

_______________

(١) الأوائل ٢ / ١٢٥ .

٣١٤

البصري : كذب أعداء الله (١) .

وقد اخترع أبو الحسن الأشعري ـ الذي كان معتزلياً ثم انقلب عليهم ـ نظرية ( الكسب ) لتبرير أفعال العباد ، وهي النظرية التي حيّرت حتىٰ أتباعه ولم تزد الأمر إلّا تعقيداً .

وقد رد عليه العلامة الحلي قدس‌سره حيث لخص رأي أتباع أهل البيت عليهم‌السلام في مسألة القضاء والقدر بقوله :

يطلق القضاء علىٰ الخلق والاتمام . قال تعالىٰ ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) أي خلقهن وأتمهن .

وعلىٰ الحكم والايجاب ، لقوله تعالىٰ ( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ ) أي أعلمناهم وأخبرناهم .

ويطلق القدر علىٰ الخلق ، كقوله تعالىٰ (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) .

والكتابة ، كقول الشاعر :

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولىٰ التي كان سطر

والبيان ، كقوله تعالىٰ ( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ) ، أي بيّنا وأخبرنا بذلك .

_______________

(١) الخطط للمقريزي ٢ / ٣٥٦ .

٣١٥

إذا ظهر هذا فنقول للأشعري : ما تعني بقولك إنه تعالىٰ قضىٰ أعمال العباد وقدرها ؟

إن أردت به الخلق والايجاد ، فقد بينا بطلانه وأن الافعال مستندة إلينا ، وإن عنىٰ به الالزام ، لم يصح إلّا في الواجب خاصة ، وإن عنىٰ به أنه تعالىٰ بيّنها وكتبها وَأعلَمَ أنهم سيفعلونها فهو صحيح ، لأنه تعالىٰ قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبينه لملائكته ، وهذا المعنىٰ الأخير هو المتعين ، للاجماع علىٰ وجوب الرضا بقضاء الله تعالىٰ وقدره ، ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح ، ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا من حيث أنه فعله تعالى وعدم الرضا به من حيث الكسب ، لبطلان الكسب أولاً ، وثانياً فلأنا نقول : إن كان كون الكفر كسباً بقضائه تعالىٰ وقدره وجب به الرضا من حيث هو كسب ، وهو خلاف قولكم ، وإن يكن بقضاء وقدر ، بطل استناد الكائنات بأجمعها إلىٰ القضاء والقدر .

واعلم ، أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد بيّن معنىٰ القضاء والقدر وشرحهما شرحاً وافياً في حديث الأصبغ بن نباته لمّا انصرف من صفين ، فانه قام إليه شيخ فقال له : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلىٰ الشام ، أكان بقضاء الله وقدره ؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما

٣١٦

وطأنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلّا بقضاء وقدر » .

فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ، ما أرىٰ لي من الأجر شيئاً .

فقال له : « مه أيها الشيخ ، بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين » .

فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا ؟

فقال : « ويحك ، لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولىٰ بالمدح من المسيء ولا المسيء أولىٰ بالذم من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمىٰ عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأُمة ومجوسها ، إن الله تعالىٰ أمر تخييراً ونهىٰ تحذيراً وكلّف يسيراً ، لم يُعص مغلوباً ولم يُطع مكرهاً ولم يُرسل الرسل عبثاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار » .

فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلّا بهما ؟

فقال : « هو الأمر من الله تعالىٰ والحكم » وتلا قوله تعالىٰ :

٣١٧

( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) ، فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول :

أنت الامام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي : وجه تشبيهه عليه‌السلام المجبرة بالمجوس من وجوه :

أحدها : أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية معلومة البطلان وكذلك المجبرة .

وثانيها : أن مذهب المجوس أن الله تعالىٰ يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق إبليس ثم انتفىٰ منه ، وكذلك المجبرة قالوا أنه تعالىٰ يفعل القبائح ثم يتبرأ منها .

وثالثها : أن المجوس قالوا إن نكاح الأخوات والأُمهات بقضاء الله وقدره وإرادته ، ووافقهم المجبرة حيث قالوا : إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم بقضاء الله وقدره وإرادته .

ورابعها : أن المجوس قالوا : إن القادر علىٰ الخير لا يقدر علىٰ الشر وبالعكس ، والمجبرة قالوا : إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة

٣١٨

عليه ، فالانسان القادر علىٰ الخير لا يقدر علىٰ ضده وبالعكس (١) .

اما استشهاد الشيخ بحديث « لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر » فهذا الحديث وأمثاله من الاحاديث التي حرّفها البعض من السائرين في ركب بني أُمية ، لأن بني أُمية كانوا قدرية ، إذ أثبتوا القدر لتبرير جرائمهم ، ولأجل أن تنطلي الحيلة علىٰ الناس قلبوا حديث « القدرية مجوس هذه الأُمة » فجاؤوا بهذه الصيغة التي ذكرها الشيخ أو بصيغة « القدرية يقولون : الخير والشر بايدينا » أو « القدرية يقولون : لا قدر » وقد أورد ابن الجوزي هذه الأحاديث في كتابه العلل المتناهية (٢) وبيّن ضعفها .

والحديث الذي استشهد به الشيخ موجود في سنن أبي داود (٣) .

وفي سنده عمر مولىٰ غفرة ، عن رجل من الانصار ، عن حذيفة ، فالانصاري هذا مجهول ، وأما عمر مولىٰ غفرة فقد ضعفه ابن معين والنسائي وتركه مالك ، وقال : فيه ابن حبان : كان يقلب الأخبار ، لا يحتج بحديثه (٤) وعبارة ابن حبان واضحة في أن هذا الراوي كان

_______________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٣١٥ ـ ٣١٧ .

(٢) العلل المتناهية ١ / ١٥٢ ، ١٦٢ .

(٣) سنن أبي داود حديث ٤٦٩٢ .

(٤) تهذيب التهذيب ٧ / ٤١٥ .

٣١٩

يقلب الأخبار ، فهذا الحديث الذي يحتج به الشيخ هو من الأخبار التي قلبها عمر مولىٰ غفرة هذا وحرَّف النص الأصلي .

ومن هذا كلّه يتبيّن أنّ القائلين بحتمية القدر وسلب إرادة الانسان كلية ، هم في الحقيقة المتشبهون بالمجوس ، وهم المجبّرة ، تصديقاً لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدرية مجوس هذه الاُمة » (١) .

( إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) (٢)

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

_______________

(١) سنن أبي داود ، الحديث رقم ٤٦٩١ .

(٢) سورة المزمل : ١٩ .

٣٢٠