لا تخونوا الله والرسول

صباح علي البيّاتي

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف:

صباح علي البيّاتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-291-1
الصفحات: ٣٣٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وهم الثقل الثاني الذي أمر النبي بالتمسك به بعد القرآن العزيز ، وإن وصف هذه الطائفة المؤمنة بمثل هذه الأوصاف البذيئة يتنافىٰ مع قوله سبحانه وتعالىٰ : ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

ولو أن الشيخ وأمثاله قرأوا آراء علماء الشيعة حول الرجعة لأدركوا بأنهم لا يلقون الكلام علىٰ عواهنه ـ كما يفعل هو وأمثاله ـ بل هم يستندون إلىٰ الكتاب والسنة اللذان أكدا علىٰ قضية الرجعة ، كما سوف يتبين من الأمثلة الآتية .

أ ـ في القرآن الكريم أمثلة وشواهد علىٰ أن رجعة الأموات قد حدثت في الأُمم السابقة لحكمة اقتضتها العناية الالهية ، ولتكون عبرة لأُولي الألباب حتىٰ قيام الساعة علىٰ قدرة الله سبحانه وتعالىٰ ، ورداً علىٰ الجاهلين الذين ينكرون إمكانية حدوث ذلك .

فمن الشواهد القرآنية علىٰ الرجعة في الأُمم السابقة .

١ ـ قوله تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ

_______________

(١) سورة الحجرات : ١١ .

٢٠١

الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّـهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) (١) .

٢ ـ قوله تعالىٰ : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) .

٣ ـ قوله تعالىٰ حكاية عن عيسىٰ عليه‌السلام : ( وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (٣) .

٤ ـ قوله تعالىٰ حكاية عن عزير عليه‌السلام : ( فَأَمَاتَهُ اللَّـهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) (٤) .

٥ ـ قوله تعالىٰ : ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) (٥) .

٦ ـ قوله تعالىٰ ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٦) .

ب ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتىٰ لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه » (٧) .

_______________

(١) سورة البقرة : ٢٤٣ .

(٢) سورة البقرة : ٥٥ ـ ٥٦ .

(٣) سورة آل عمران : ٤٩ .

(٤) سورة البقرة : ٢٥٩ .

(٥) سورة المائدة : ١١٠ .

(٦) سورة البقرة : ٧٣ .

(٧) مسند أحمد ٣ / ٨٤ ، ٨٩ ، ٢ / ٢٧ ، ٤٥٠ ، صحيح البخاري ٩ / ١٢٦ كتاب الاعتصام

٢٠٢

والسنن هنا تشمل القوانين الطبيعية التي أجراها الله سبحانه وتعالىٰ علىٰ الأُمم السابقة ومن بينها رجعة الاموات ، فما المانع من إجراء هذه السنة علىٰ أُمتنا أيضاً كما حدث لمن قبلهم ؟

هذا فيما يتعلق بما جرىٰ في الأُمم السابقة ، إلا أن في القرآن الكريم أدلة أُخرىٰ علىٰ إمكانية هذه الرجعة مرة أُخرىٰ قبل قيام الساعة في عدد من الآيات الشريفة ، منها قوله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

وقد اختلفت أقوال المفسرين من الطائفتين في مدلول هذه الآية ، فذهب أكثر مفسري أهل السنة إلىٰ أنها إخبار عن يوم القيامة وبيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها .

قال الآلوسي : إنها من الأًمور الواقعة بعد قيام القيامة وإن المراد بهذا الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق ، أي هو حشر بعد حشر (٢) .

_______________

بالكتاب والسنة ، باب قول النبي لتتبعن سنن من كان قبلكم ، صحيح مسلم ٤ / ٢٠٥٤ كتاب العلم ، سنن إبن ماجة : كتاب الفتن .

(١) سورة النمل : ٨٣ ـ ٨٤ .

(٢) روح المعاني ٢٠ / ٢٦ .

٢٠٣

لكن المفسرين من أهل السنة ينطلقون من نظرتهم المذهبيه الخاصة التي لا تعترف بامكانية الرجعة ، لذا نجد تفسيرهم للاية لا يستوعب مدلولها بشكل كامل ، كما أن هناك آيات أُخرىٰ تؤيد تفسير الشيعة في دلالة الآية وآيات أُخرىٰ علىٰ الرجعة ، وسوف أقتطف آراء بعض المفسرين والعلماء الشيعة لمدلول الآيات القرآنية علىٰ الرجعة حتىٰ يمكن مقارنة آراء الفريقين حول الرجعة :

١ ـ قال ابن شهر آشوب : لا خلاف أن الله يحيي الجملة يوم القيامة ، فالفوج إنما يكون في غير القيامة (١) .

٢ ـ قال السيد الطباطبائي : لو كان الحشر المراد ، الحشر إلىٰ العذاب ، لزم ذكر هذه الغاية دفعاً للابهام ، كما في قوله تعالىٰ ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّـهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا ) مع أنه لم يذكر فيما بعد هذه الآية إلّا العتاب والحكم الفصل دون العذاب .

والآية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلىٰ شيء يلوح إلىٰ هذا الحشر الخاص المذكور ، ويزيدها إطلاقاً قوله بعدها : ( حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا ) فلم يقل : حتىٰ إذا جاؤوا العذاب أو النار أو غيرها .

ويؤيد ذلك أيضاً وقوع الآية والآيتين بعدها بعد نبأ دابة الأرض ،

_______________

(١) متشابه القرآن ٢ / ٩٧ .

٢٠٤

وهي من أشراط الساعة ، وقبل قوله : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) إلىٰ آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة ، ولا معنىٰ لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة علىٰ ذكر مشروعه ووقوع عامة ما يقع فيه ، فان الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كلّ أُمة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين .

وقد تنبه لهذا الاشكال بعض من حمل الآية علىٰ الحشر يوم القيامة فقال : لعل تقديم ذكر هذه الواقعة علىٰ نفخ الصور ووقوع الواقعة للإيذان بأن كلاً مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرىٰ وداهية دهياء حقيقة بالتذكير علىٰ حيالها ، ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة .

وأنت خبير بأنه وجه مختلف غير مقنع ، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الابهام المذكور أولىٰ بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه .

فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة (١) .

_______________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١٥ / ٣٩٧ .

٢٠٥

٣ ـ قوله تعالىٰ (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) (١) .

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : قال سبحانه مخبراً عمن يحشر من الظالمين أنه يقول يوم الحشر الأكبر : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا ... ) الآية ، وللعامة في هذه الآية تأويل مردود ، وهو أن قالوا : إن المعني بقوله : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ... ) أنه خلقهم أمواتاً بعد الحياة ، وهذا باطل لا يجري علىٰ لسان العرب ، لأن الفعل لا يدخل إلّا علىٰ ما كان بغير الصفة التي انطوىٰ اللفظ علىٰ معناها ، ومن خلقه الله مواتاً لا يقال إنه أماته ، وإنما يدخل ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة ، كذلك لا يقال أحيا الله ميتاً إلّا أن يكون قبل إحيائه ميتاً ، وهذا بيّن لمن تأمله .

وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله : ( رَبَّنَا ... ) الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمساءلة ، فتكون الأولىٰ قبل الاقبار والثانية بعده .

وهذا أيضاً باطل من وجه آخر ، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف فيندم الانسان علىٰ ما فاته في حياته ، وندم القوم علىٰ ما فاتهم في حياتهم المرّتين يدل علىٰ أنه لم يرد حياة المساءلة ، لكنه

_______________

(١) سورة غافر : ١١ .

٢٠٦

أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم علىٰ تفريطهم ذلك فيندمون يوم العرض علىٰ ما فاتهم من ذلك (١) .

٤ ـ قوله تعالىٰ ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّـهُ مَن يَمُوتُ ) إلىٰ قوله تعالىٰ : ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ) (٢) .

روىٰ جمع من علماء الشيعة أنها نزلت في الرجعة ، ولا يخفىٰ أنها لا تستقيم في إنكار البعث ، لأنهم ما كانوا يقسمون بالله ، بل كانوا يقسمون باللات والعزىٰ ، ولأن التبيّن إنما يكون في الدنيا لا في الآخرة (٣) .

٥ ـ قوله تعالىٰ : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٤) .

قال ابن شهر آشوب : هذه الآية تدل علىٰ أن بين رجعة الآخرة والموت حياة أُخرىٰ ، ولا ينكر ذلك لأنه قد جرىٰ مثله في الزمن

_______________

(١) المسائل السروية : ٣٣ .

(٢) سورة النحل : ٣٨ ـ ٣٩ .

(٣) تفسير القمي ١ / ٣٨٥ ، تفسير العياشي ٢ / ٢٥٩ ، الاعتقادات : ٦٣ .

(٤) سورة البقرة : ٢٨ .

٢٠٧

الأول ... (١) .

وقال الحر العاملي : وجه الاستدلال بهذه الآية أنه أَثبت الإحياء مرتين ، ثم قال بعدها ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، والمراد به القيامة قطعاً ، والعطف ـ خصوصاً بثم ـ ظاهر في المغايرة ، فالإحياء الثاني إما في الرجعة أو نظير لها ، وبالجملة ففيها دلالة علىٰ وقوع الإحياء قبل القيامة (٢) .

_______________

(١) متشابه القرآن ٢ / ٩٧ .

(٢) الايقاظ من الهجعة ٨ / ٨٤ .

٢٠٨

الفصل الحادي عشر : الشهادة الثالثة في الأذان

قال الشيخ في « مطلب زيادتهم في الأذان » :

ومنها : زيادتهم في هذه الأزمنة في الأذان والاقامة وفي التشهد بعد الشهادتين أن علياً ولي الله ، وهذه بدعة مخالفة للدين لم يرد بها كتاب ولا سنة ولم يكن عليها إجماع ولا فيها قياس صحيح ومخالفة لأهل مذهبهم ، فردّها لا يحتاج إليه (١) .

أقول : ينبغي أولاً معرفة مشروعية الزيادة أو النقصان في الأذان أو عدمه ، ومن ثم التحقق من آراء الفريقين لمعرفة أيهما الذي قد زاد في الأذان ومدىٰ مشروعية هذه الزيادة .

بدءاً نقول : إن الشيعة تعتبر ألفاظ الأذان مسألة توقيفية من الله سبحانه وتعالىٰ ، وأن جبريل عليه‌السلام هو الذي علّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأذان

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٢ ـ ٣٣ .

٢٠٩

والاقامة ، وأنّ أي زيادة أو نقصان فيهما غير جائزة .

أما أهل السنة ، فيدّعون أن الأذان ليس توقيفياً ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أراد أن يتخذ البوق أو النار أو الناقوس ، ثم أخبره أحد الصحابة برؤياه في الأذان فأقرّه النبي :

أخرج جمع من المحدثين من أهل السنة ، واللفظ لأبي داود قال : حدثني أبو عبدالله بن زيد ، قال : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة ، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده ، فقلت : يا عبدالله ، أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ فقلت : ندعو به إلىٰ الصلاة ، قال : أفلا أدلك علىٰ ما هو خير من ذلك ؟ فقلت له : بلىٰ ، قال : تقول : الله أكبر ، الله اكبر ... فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال : « إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فانه أندىٰ صوتاً منك » ، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأىٰ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فلله الحمد » ... (١) .

وأخرج أبو داود ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من

_______________

(١) سنن أبي داود ١ / ١٣٥ باب كيف الأذان .

٢١٠

الأنصار ، قال : اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القنع ـ يعني الشبور ـ وقال زياد : شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ، وقال : « هو من أمر اليهود » ، قال : فذكر له الناقوس ، فقال : « هو من أمر النصارىٰ » ، فانصرف عبدالله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله ، فأُري الأذان في منامه ، قال : فغدا علىٰ رسول الله فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً ، قال : ثم أخبر النبي فقال له : « ما منعك أن تخبرني » ؟ فقال : سبقني عبدالله بن زيد فاستحييت ... (١) .

وأخرج عن عبدالله بن عمر أنه قال : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون ، فيتحينون الصلاة ، وليس ينادي به أحد ، فتكلموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارىٰ ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بلال ، قم فناد بالصلاة » (٢) .

_______________

(١) المصدر السابق : باب بدء الأذان .

(٢) صحيح البخاري ١ / ١٥٧ باب بدء الأذان ، صحيح مسلم ١ / ٢٨٥ باب بدء الأذان .

٢١١

كما أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : لما كثر الناس قال ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه ، فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً ، فأمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الاقامة (١) .

هذه أهم روايات بدء الأذان وصفته عند أهل السنة ، وفي المصادر الاُخرىٰ ما يشبهها أيضاً (٢) .

قال العلامة الحلي قدس‌سره : ـ بعد إيراد رواية محمد بن عبدالله بن زيد عن بدء الأذان ـ : وهذا الحديث مدفوع من وجوه :

أ ـ اختلاف الرواية فيه ، فان بعضهم روىٰ أن عبدالله بن زيد لما أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعليم بلال قال : إئذن لي حتىٰ أؤذن مرة فأكون أول مؤذن في الاسلام ، فاذن له فأذن .

ب ـ شهادة المرء لنفسه غير مسموعة ، وهذا منصب جليل فلا يسمع قوله عن نفسه فيه .

ج ـ كيف يصح أن يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناقوس مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسخ شريعة عيسىٰ .

د ـ كيف أمر بالناقوس ثم رجع عنه ؟! إن كان الأمر به مصلحة

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٥٧ ـ ١٥٨ .

(٢) انظر سنن ابن ماجه ١ / ٢٣٢ كتاب الاذان باب بدء الاذان ، سنن الترمذي ١ / ٣٥٨ ، سنن النسائي ٢ / ٢٠ ، وغيرها .

٢١٢

استحال نسخه قبل فعله ، وإلا استحال أمره به .

هـ ـ إن كان أمره بالناقوس بالوحي لم يكن له تغييره إلّا بوحي مثله ، فان كان الأذان بوحي فهو المطلوب وإلّا لزم الخطأ ، وإن لم يكن الأمر بالناقوس بالوحي كان منافياً لقوله تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ) (١) .

و ـ كيف يصح استناد هذه العبادة الشريفة العامة البلوىٰ المؤبدة الموضوعة علامة علىٰ أشرف العبادات وأهمها إلىٰ منام من يجوز عليه الغلط ! والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلق عليه ، ولا علىٰ أجلاء الصحابة ؟

ز ـ أهل البيت عليهم‌السلام أعرف بمواقع الوحي والتنزيل ، وقد نصوا علىٰ أنه بوحي .

قال الباقر عليه‌السلام : « لما أُسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذّن جبريل عليه‌السلام وأقام ، فتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصف الملائكة والنبيون خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » .

ومثل هذا الذي تعبّد به الملائكة وغيرهم يستحيل إستناده إلىٰ الاجتهاد الذي تجوزونه علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

_______________

(١) سورة النجم : ٣ .

(٢) تذكرة الفقهاء ٣ / ٣٨ ـ ٣٩ .

٢١٣

وإنطلاقاً من هاتين النظرتين المختلفتين ، فان أهل السنة يجيزون التصرف في الاذان ـ وقد حدث ذلك فعلاً ـ أما الشيعة فينفون إمكانية التصرف في الأذان بالزيادة والنقصان ، لأنه توقيفي كما قلنا .

وتبعاً لذلك فقد خضع الأذان عند أهل السنة للاجتهاد والرأي ، فزادوا فيه التثويب وهو قول المؤذن : ( الصلاة خير من النوم ) في أذان صلاة الفجر ، وأسقطوا منه : ( حي علىٰ خير العمل ) ، كما تعترف بذلك رواياتهم ، حتىٰ أنهم يعترفون بأن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون عند الأذان ( حي علىٰ خير العمل ) بعد الحيعلتين ، وكانوا يخرجون من المسجد إذا سمعوا التثويب ويعتبرونه بدعة :

روىٰ الترمذي عن مجاهد قال : دخلت مع عبدالله بن عمر مسجداً وقد أذَّن فيه ، ونحن نريد أن نصلي فيه ، فثوّب المؤذن ، فخرج عبدالله بن عمر من المسجد وقال : أخرج بنا من عند هذا المبتدع ، ولم يصل فيه ، قال : وإنما كره عبدالله التثويب الذي أحدثه الناس بعد .

وقد حاول البعض إلصاق بدعة التثويب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لتبرير هذه البدعة ، كماهي العادة عندهم دائماً :

روىٰ الترمذي قال : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا أبو أحمد

٢١٤

الزبيري ، حدثنا أبو إسرائيل ، عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلىٰ ، عن بلال قال : قال لي رسول الله : « لا تثوبن في شيء من الصلوات إلّا في صلاة الفجر » ، قال : وفي الباب عن أبي محذورة ، قال أبو عيسىٰ ( الترمذي ) : حديث بلال لا نعرفه إلّا من حديث أبي إسرائيل الملائي ، وأبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم بن عتيبة ، قال : إنما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة ، وأبو إسرائيل إسمه إسماعيل ابن أبي إسحاق ، وليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث (١) .

وقال أبو بكر بن العربي : وهو حديث معلول ، وقد شاهدتُ فنّاً من التثويب بمدينة السلام ، وهو أن يأتي المؤذن إلىٰ دار الخليفة فيقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، حي علىٰ الصلاة ( مرتين ) حي علىٰ الفلاح ( مرتين ) ، ورأيت الناس في مساجدهم في بلاد ، إذا قامت الصلاة يخرج إلىٰ باب المسجد من ينادي : الصلاة رحمكم الله ، وهذا كله تثويب مبتدع (٢) .

أما فيما يتعلق بحذف أجزاء من الأذان ، فان الخليفة الثاني عمر

_______________

(١) سنن الترمذي ١ / ٣٨١ ، وأخرجه ابن ماجة ١ / ٢٣٧ ، والبيهقي ١ / ٤٢٤ ، قال البيهقي : وهذا أيضاً مرسل ، فان عبد الرحمن بن أبي ليلىٰ لم يلق بلالاً . فالحديث ضعيف .

(٢) عارضة الأحوذي ١ / ٣١٢ ـ ٣١٤ .

٢١٥

ابن الخطاب قد أمر بحذف : ( حي علىٰ خير العمل ) بعد الحيعلتين ، وقد اعترف القوشجي بذلك ، ولكنه اعتبره اجتهاداً من الخليفة ، فقال : ومنها أنه منع المتعتين ، فانه صعد المنبر وقال : أيها الناس ثلاث كن علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهىٰ عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن ، وهي : متعة النساء ومتعة الحج وحي علىٰ خير العمل ... قال القوشجي تعليقاً علىٰ ذلك : إن ذلك ليس مما يوجب قدحاً فيه ، فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع ... (١) .

فالقوشجي يعتبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجتهداً كسائر المجتهدين ، هذا هو للأسف مذهب أهل السنة الذي يجوّز علىٰ النبي الخطأ والنسيان والاجتهاد وحتىٰ ارتكاب الذنوب ، وبالتالي فان مخالفة أي مجتهد له ليس ببدعة ، بل هو إجتهاد في مقابل إجتهاد النبي ليس إلّا .

لكن الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المطلقة لا يجوّزون ذلك عليه ، ولا يجوّزون مخالفته بأي حال من الأحوال ، فعصمة النبي المطلقة قد نطق الكتاب بها في قوله تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢) ، ولا يجوّزون مخالفته ، لقوله تعالىٰ : ( مَا آتَاكُمُ

_______________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ٣٧٤ .

(٢) سورة النجم : ٣ ـ ٤ .

٢١٦

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) .

وقد أحس أهل السنة بفداحة الأمر ، فحاولوا أن يخرجوا من هذه الورطة بنسبة هذا التصرف في الأذان ـ كما في غيره ـ إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لصرف التهمة عن عمر بن الخطاب :

أخرج البيهقي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه ، ثنا أبو محمد بن حيان أبو الشيخ الاصفهاني ، ثنا محمد بن عبدالله بن رسته ، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، ثنا عبد الرحمن بن سعد المؤذن ، عن عبدالله بن محمد بن عمار ، وعمار وعمر ابني حفص بن عمر بن سعد ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال : أنه كان ينادي بالصبح فيقول : حي علىٰ خير العمل ، فأمره النبي أن يجعل في مكانها : الصلاة خير من النوم وترك حي علىٰ خير العمل .

قال الشيخ : وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي فيما علّم بلالاً وأبا محذورة ، ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق (٢) .

أما بعض الصحابة والتابعين فقد استمرّوا علىٰ الحيعلة الثالثة ، فقد أخرج البيهقي أن ابن عمر كان يكبر في النداء ثلاثاً وشهد ثلاثاً وكان أحياناً إذا قال : حي علىٰ الفلاح ، قال علىٰ أثرها : حي علىٰ

_______________

(١) سورة الحشر : ٧ .

(٢) السنن الكبرىٰ ١ / ٤٢٥ .

٢١٧

خير العمل (١) .

وأخرج عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن علي بن الحسين كان يقول في أذانه إذا قال حي علىٰ الفلاح ، قال : حي علىٰ خير العمل ، ويقول : هو الأذان الأول (٢) .

وقال السهيلي : ونقل عن ابن عمر وعن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي علىٰ الفلاح : حي علىٰ خير العمل (٣) .

هذا هو ما أحدثه أهل السنة في الأذان ، وجعلوه جزءاً منه ، أما الشيعة فيعتبرون الأذان توقيفياً ـ كما قلنا ـ والنداء الثالث ليس عندهم من أجزاء الأذان ، بل أن إعتباره جزءاً من الأذان يبطله عندهم .

وإنّما يأتون به من باب الاستحباب ، وذلك لورود الروايات الكثيرة في مصادر الفريقين من المقارنة بين اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسم الامام علي عليه‌السلام ، ويكون كاستحباب الصلاة علىٰ النبي بعد الشهادة بالرسالة .

فلماذا يعاب علىٰ الشيعة ذلك ويتسامح مع غيرهم في ما هو أكبر ؟!

_______________

(١) السنن الكبرىٰ ١ / ٢٢٤ .

(٢) المصدر السابق .

(٣) السيرة الحلبية ٢ / ٩٨ .

٢١٨

الجمع بين الصلاتين :

قال الشيخ في « مطلب الجمع بين الصلاتين » :

ومنها تجويزهم الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير عذر ، وقد روىٰ الترمذي قال : قال رسول الله : « من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتىٰ باباً من الكبائر » ، وقد ورد أن من أشراط الساعة تأخير الصلاة عن أوقاتها ، وما روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه من الجمع بين العصرين والعشاءين فمؤول بتأخير الأولىٰ إلىٰ آخر وقتها وأداء الاُخرىٰ في أول وقتها والله اعلم .

قيل : إن سبب جمعهم بين الظهرين والمغربين طول الدهر مع إختيار التأخير فيهما هو : أنهم ينتظرون القائم المختفي في السرداب ليقتدوا به فيؤخرون الظهر إلىٰ العصر إلىٰ قريب غروب الشمس ، فاذا يئسوا من الامام واصفرّت الشمس وصارت بين قرني الشيطان نقروا عند ذلك كنقر الديك فصلوا الصلاتين من غير خشوع ولا طمأنينة فرادىٰ من غير جماعة ... » (١) .

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٣ .

٢١٩

هذه أُسطورة أُخرىٰ من أساطير الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي لا تنتهي أساطيره ، وكأنه يتحدّث عن أقوام بائدة ، أو عن سكان كوكب آخر يتعذر الوصول إليهم .

ولنا أن نسأل الشيخ : إذا كان الشيعة يربون علىٰ عشرات الملايين ، وهم منتشرون في كافة بقاع الأرض ، فكيف يتاح لهم الوقوف علىٰ ذلك السرداب والاجتماع عنده وقت الصلاة كل يوم ؟ كيف يستطيع الشيعي الهندي مثلاً أن يجيء لينتظر علىٰ باب السرداب كل يوم وهو يبعد عنه آلاف الأميال ؟ أم أن ذلك مختص بأهل مدينة سامراء التي يوجد فيها السرداب ، وهل أن هؤلاء هم الشيعة كلهم ؟!!

علىٰ أي حال لا أرىٰ حاجة للاسهاب في الكلام عن هذه الخرافة التي لا يقبلها إلّا عقل مريض .

أما فيما يتعلق بموضوع الجمع بين الصلاتين ، فلو كان الشيخ علىٰ شيء ولو يسير من العلم لما خاض هذه المخاضة وفضح نفسه بعد أن وردت به الآثار الصحاح ، وركن إليه العلماء من أهل السنة واعترفوا بمشروعيته ، رغم أن معاندة الحق والتعصب المذهبي قد يدفع البعض إلىٰ محاولة إيجاد تأويلات غير مقنعة لا تنهض أمام الحقائق الدامغة .

٢٢٠