شرح طيّبة النّشر في القراءات العشر

شهاب الدين أبي بكر بن أحمد بن محمّد بن محمّد ابن الجزري الدمشقي

شرح طيّبة النّشر في القراءات العشر

المؤلف:

شهاب الدين أبي بكر بن أحمد بن محمّد بن محمّد ابن الجزري الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٤

أي رمز هؤلاء الثلاثة ومعهم حفص صحب ، فيكون مدلول صحب لحمزة والكسائي وخلف وحفص وهو جمع صاحب كراكب وركب وهو أخف من صحاب الذي استعمله الشاطبي في مدلول حمزة والكسائي وحفص (قوله ثم صحبة) أي رمز صحبة للثلاثة المذكورين ومعهم شعبة فيكون مدلول صحبة لحمزة والكسائي وخلف وشعبة وهو أيضا جمع صاحب كفارة وفرهة وهو في الشاطبية لحمزة والكسائي وشعبة فوافقه الناظم أيضا (قوله وخلف الخ) وأول البيت الآتي يعني ورمز خلف وشعبة صفا ، لأنه يأتي في الشاطبية لشعبة ، ولأنه يأتي اسما مقصورا جمع صفاة : وهو الحجر الأملس ، وممدودا وهو خلاف الكدر وفعلا من ذلك ومن الخلاصة :

(صفا)وحمزة وبزّار (فتا)

حمزة مع عليهم (رضى)أتى

أي ورمز حمزة مع خلف فتا ، لأن الفاء لحمزة فيسهل استحضاره وخلف من جملة رواته ؛ والفتى الكريم والسخي والشاب ، ويستعمل في الكامل الأخلاق وذي الصفات الجميلة ، وقوله : رضى : يعني أن رمز حمزة إذا اتفق مع الكسائي (رضي) لأن الراء رمز الكسائي وهو صاحب حمزة وهو مصدر يوصف به للمبالغة في الثناء ويكون بمعنى المرضى.

وخلف مع الكسائيّ (روى)

وثامن مع تاسع فقل ثوى

أي رمز خلف مع الكسائي روى فإن الراء للكسائي وخلف من الآخذين عنه وروى يأتي اسما ممدودا بمعنى أنه حلو وعذب ولطيف ، يقال ماء روا إذا وصفته بذلك ، ويأتي فعلا من الرواية ومن الرواء أيضا على لغة طيء ، يقال رويت من الماء ورويت منه على قلب الياء ألفا في لغتهم (قوله وثامن الخ) أي ورمز أبي جعفر ويعقوب (ثوى) لأن الثاء رمز أبي جعفر فيسهل تناوله ومعناه أقام ؛ يقال ثوى بالمكان : إذا أقام به ثواء بالمد.

ومدن (مدا)وبصريّ (حما)

والمدني والمكّ والبصري (سما)

يعني رمز المدني وتقدم أنه عبارة عن نافع وأبي جعفر مدا من أجل سهولة النظم ومبادرة دلالته على ذلك من حيث الاشتقاق كما ذكره في كفا للكوفيين ومعناه كفاية (قوله : وبصرى) أي رمز البصرى الذي هو أبو عمرو ويعقوب حما ،

٢١

لأن الحاء رمز أبي عمرو فيبادر إليه ولأن يعقوب كثير الموافقة له ، ومعناه الممنوع من القرب منه والتعرض إليه ، ويجيء ممدودا ومعناه المدافع عنه ، يقال حاميت عن فلان حمى : أي ناءيت عنه ودافعت (قوله : والمدني الخ) أي رمز المدني والمكى والبصرى سما فيكون مدلوله لنافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب ، وقد وافق الشاطبية على ذلك إلا أنه أدخل فيهم أبا جعفر ويعقوب ومعناه علا وارتفع ، وقد يأتي اسما من الممدود وهو كل ما علاك ؛ والسماء أيضا المطر والسماء واحد السموات يذكّر ويؤنّث.

مكّ وبصر (حقّ)مكّ مدني

(حرم)و(عمّ)شامهم والمدني

أي رمز المكى والبصرى حق فيكون مدلوله لابن كثير وأبي عمرو ويعقوب وتبع فيه الشاطبية أيضا (معناه خلاف الباطل) قوله مك أي رمز المكى والمدني حرمى وهو مما تبع فيه الشاطبية أيضا إلا أنه أدخل فيه أبا جعفر وأصله حرمى نسبة إلى الحرمين الشريفين فخفف (١) كما خفف غيره من المكى والمدني ونحو وأجرى مجرى المنقوص ، ومن ذلك قول الشاعر :

وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها

لغيبة ما كانت من الوحي تعهد

(قوله : وعم) أي رمز لابن عامر ونافع وأبي جعفر تبع في ذلك الشاطبي أيضا وهو يأتي اسما وفعلا ومركبا من حرف واسم ؛ فمن الإسم العم أخو الأب والعم الجماعة من الناس والمحترم منهم ، والفعل من العموم ومن المركب « يتساءلون » أصله عن ما فأدغم وحذف ألف الاستفهام.

و (خبر)ثالث ومك (كنز)

كوف وشام ويجيء الرّمز

يعني ورمز (حبر) لأبي عمرو وابن كثير ومعناه العالم المقتدي به فوافق كون الحاء لأبي عمرو وهو أحد أصحاب ابن كثير الذي مادة قراءته منه فكأنهما واحد. قوله : (كنز) أي ورمز كنز للكوفيين وابن عامر ووافق أن الكاف لابن عامر فيبادر الفهم إليه ومعناه المال المجموع والمدفون والمدخر ؛ وفي الجملة فكل هذه

__________________

(١) لم يعد مشدّدا

٢٢

الكلمات دالة على الثناء بالكفاية والصحبة والاصطحاب والصفا والفتوة والرواية والثبات والحماية والسمو ، ونحو ذلك قوله : ويجيء الرمز. لما فرغ من الرموز الحرفية والكلمية أخذ في بيان فروعهما في كتابه ، ثم ذكر مصطلحه فقال ويجيء الرمز : يعني من الكلمى والحرفي بعد حرف القراءة وقبله كما سيأتي في البيت الآتي بعد.

قبل وبعد وبلفظ اغنى

عن قيده عند اتّضاح المعنى

مثاله بعد الحرف وهو الغالب قوله :

من الحرفى وأزال في أزل

فوز وآدم انتصاب الرفع دل

ومن الكلمى ينزل خف حق ، وقوله : والغيث مع منزلها حق شفا ، ومن الكلمى والحرفي جميعا : مالك نل ظلا روى ، وقوله ويكتمون حبر صف ، وقوله وكسر حج عن شفا ، ومثاله قبل الحرف في الحرفي قوله : وصف يمسك خف ، وفي الكلمى وعم يرتدد ومنهما جميعا ودم رضا حلا الذي يبشر قوله : (وبلفظ أغنى الخ) يعنى أنه ربما يلفظ بالقراءة في بعض المواضع من غير تقييد وذلك حيث المعنى وأمن اللبس إما بالوزن أو بالخط أو بهما فتارة يلفظ بإحداهما ولا يقيد الأخرى لشهرتها كقوله : مالك نل ظلا ، روى السراط مع سراط زن خلفا غلا كيف وقع وتارة يلفظ بإحداهما ويقيد الأخرى كقوله : تفجر الأولى كتقتل ظبا ، وتارة بلفظ بالقراءتين معا من غير تقييد لواحدة منهما ، كقوله وما يخادعون يخدعون كنز ثوى ، وتارة يلفظ بالقراءتين ويقيد بعض الأخرى كقوله : وفي وطأ وطاء واكسر أحزكم (١).

وأكتفي بضدّها عن ضدّ

كالحذف والجزم وهمز مدّ

يعني أنه إذا كان قيد القراءة ضد للقيد الآخر فإنه يكتفي بذكر أحدهما عن الآخر للاختصار فإن الضدين يدل على الآخر كالحذف مثلا ، فإن ضده الإثبات وبالعكس ؛ وفي معنى الإثبات قوله زد ، وفي معنى الحذف قوله دع ، وكالجزم

__________________

(١) هذه أمثلة من المتن على مجيء الرمز الكلمي والحرفي بعد حرف القراءة وقبله وسيأتي كل شاهد في موضعه وخاصة عند ما يشرع في الكلام عن باب فرش الحروف ص ـ ٢٠٤.

٢٣

ضده الرفع ولكنه لا ينعكس ، لأنه ذكر بعد ذلك أن الرفع ضده النصب وكالهمز ضده عدم الهمز وبالعكس وكالمد ضده القصر وبالعكس وكالتحريك ضده التسكين وبالعكس ، وكالتنوين ضده عدم التنوين وبالعكس ، وكالنقل ضده عدم النقل وبالعكس ، وكالإمالة ضدها الفتح ولا عكس لأنه ذكر أن ضد الفتح الكسر وسيأتي كالإدغام ضده الإظهار وبالعكس ، وكالجمع ضده التوحيد وبالعكس ، وكالغيب ضده الخطاب وبالعكس وكالتذكير ضده التأنيث وبالعكس وكالتخفيف ضده التشديد وبالعكس وكالاختلاس ضده الإتمام ؛ أي إتمام الحركة ولا ينعكس لاختلاف الحركات ، وكالتغليظ ضده الترقيق وبالعكس وكذلك التفخيم ، وكالقطع ضده الوصل وبالعكس ، وكالإهمال ضده الإعجام وتسمية الفاعل ضدها تجهيله وبالعكس ، وكل ذلك سيأتي في موضعه فلا حاجة إلى ذكر أمثلته هنا.

ومطلق التّحريك فهو فتح

وهو للاسكان كذاك الفتح

أي إذا أطلق التحريك فإن المراد به الفتح دون الضم والكسر كقوله وكسفا حركا عم نفس. يعني فتح السين بخلاف ما إذا قيد كقوله : نصب إضم حركا به عفا ومقابله الإسكان فيكون ضده سواء كان التحريك مطلقا أو مقيدا كالفتح مع الكسر وكالنصب مع الخفض وكالنون مع الياء ؛ فكل من هذه الأربعة يقابل الآخر ويكون ضدا له طردا وعكسا قوله : (وهو للإسكان) أي والتحريك المطلق طردا وعكسا كقوله : حسنا فضم اسكن نها حز عم دل ، قوله : والدرك سكن كفا قوله : (كذاك الفتح) أي مثل الفتح للكسر كما سيأتي طردا وعكسا كقوله ، واتخذوا بالفتح كم أصل ، وقوله : وفتح السلم حرم رشفا.

للكسر والنّصب لخفض إخوة

كالنّون لليا ولضمّ فتحة

أي النصب للخفض طردا وعكسا كقوله : وأرجلكم نصب ظبا عن كم أضا ، وقوله : أخفض نوره صحب دد ووجه كون هذه الأربعة إخوة لأضدادها جعل كل اثنين منهما يغنى ذكر أحدهما عن الآخر قوله : (كالنون) يعني كذلك النون أخ للياء طردا وعكسا كقوله : نجمعكم نون ظبا ، وقوله : ويا سنوتيهم فتا قوله : (ولضم فتحة) أي وجعل أيضا للضم الفتح ضدا طردا وعكسا كما سيأتي في البيت الآتي كقوله : ضم يخافا فز ثوى ، وليس في شيء من هذه إشكال لأن أضداد هذه

٢٤

الثلاثة لا يأتي بها إلا مقيدة كقوله : أولاد نصب شركائهم يجر ومثله لا يعقلون خاطبوا وتحت عم ، وقوله : يقبل أنث حق. فإن قيل ذكر هذا تكرار لأن قوله وبلفظ أغنى عن قيده عند اتضاح المعنى. فالجواب أن قوله عند اتضاح المعنى يرده ، وليعلم أيضا أن هذه الثلاثة لم تأت في جميع الكتاب مطلقة بل المراد أنها إذا أطلقت من غير قيد يكون كذلك وذلك بحسب ما تيسر في النظم ، وإلا فقد وردت مقيدة في كثير من المواضع كقوله : قتل ارفعوا يقول يا فز يعملو ، وقوله غيبا وما تشاءون ، وقوله خف تساقط في علا ذكر صدا.

كالرّفع للنّصب اطردن وأطلقا

رفعا وتذكيرا وغيبا حقّقا

أي كذل جعل الرفع ضد النصب كقوله : يقول ارفع ألا العفو حسنا. وقوله اطردا : يعني أن هاتين الحركتين المذكورتين (١) وهما الضم والرفع يكون ضدهما الفتح والنصب كما ذكر على وجه الطرد من غير عكس ؛ لأنه تقدم أن الفتح ضده الكسر والنصب ضده الخفض طردا وعكسا ، وقوله أطلقا الخ ؛ يعني أنه ذكر هذه الأحوال الثلاثة وهي الرفع والتذكير والغيب مطلقة ويريد بها التقييد : أي يعلم من إطلاقه لها أنها المرادة لا أضدادها كقوله : وصية حزم صفا ظلا رفه ، وقوله : يكون إذ حما نفا ، وقوله : ويغلبون يحشرون رد فتا ، وقد جمع الثلاثة في بعض بيت وهو قوله : خالصة إذ يعلموا الرابع صف يفتح في روى.

وهذه أرجوزة وجيزة

جمعت فيها طرقا عزيزه

ولما فرغ من اصطلاحه أخذ في ذكر منظومته وما ذكر فيها ، فقال وهذه إلى آخر الأبيات وأرجوزة أفعولة من الرجز ، وهو ضرب من الشعر ؛ سمى بذلك لتقارب أجزائه وقلة حروفه ، وجيزة : أي مختصرة من أوجزت الكلام : إذا اختصرته وقصرته مع توفية المعنى ، وطرقا : أي روايات ومذاهب ، وعزيزة : أي قليلة الوجود كثيرة الدلالة عظيمة القدر.

ولا أقول إنّها قد فضلت

حرز الأماني بل به قد كملت

فضلت : أي غلبت في الفضل ، من فاضله ففضلته إذا غلبته في الفضل ،

__________________

(١) في بعض النسخ بعد هذا البيت : وكل ذا اتبعت فيه الشاطبي ليسهل استحضار طالب ولم يذكره أحد من الشرح ا ه.

٢٥

وكملت : أي تمت انتهت وجاءت كاملة من غير نقص ، وفي كملت ثلاث لغات فتح الميم وضمها وكسرها وهو أقلها ، ووجه كما لها بحرز الأماني أن ناظمها هو المتقدم ، والفضل للمتقدم : وأنه الفاتح لهذا الباب والآخذ من كل فضل بأسباب ومقترح ذلك المصطلح ، وما وصل صاحب هذه الأرجوزة إلى ما وصل إلا ببركة ذلك الكتاب ، وحفظه له حالة الصغر منذ كان في الكتاب ، ولولاه لم يصل إلى هذه الرتبة ولم يكن له من هذا العلم نصيب ولا حبة ، فالله تعالى يتغمده بالرحمة والغفران ويبوئه في الدار الآخرة أعلى الجنان.

وحرز الأماني هي الشاطبية نظم الإمام ولى الله أبي القاسم بن فيرة ابن خلف الرّعينى الشاطبي شيخ الإقراء بالديار المصرية رحمه الله تعالى وجزاه عنا خيرا ، توفى في ثامن عشر جمادى الأخرى سنة خمسمائة وتسعين بقاهرة مصر.

حوت لما فيه مع التّيسير

وضعف ضعفه سوى التّحرير

أي جمعت هذه الأرجوزة لما في حرز الأماني ولما في كتاب التيسير من القراءات والطرق والروايات ومثله ومثل مثله ، وبيان ذلك تقدم عند قوله : وهذه الرواة عنهم طرق ، ويجوز في ضعف النصب عطفا على موضع لما فيه والخفض عطفا على ما والتيسير أيضا ، وضعف الشيء : مثله ، وضعف ضعفه : مثل مثله ، وضعفاه : مثلاه ، ولو قيل وضعف ضعيفه لجاز وصح ولعله أولى ، قوله سوى التحرير : أي غير ما فيها من الإتقان والتحقيق والتقويم ، ومن نظر في ذلك بعين الإنصاف علم ذلك بحقه.

ضمّنتها كتاب نشر العشر

فهي به (طيّبة)في النّشر

يعني كتاب نشر العشرة وهو كتاب القراءات الذي ألفه الناظم يرجو به رضى الله عنه جزيل ثوابه ، ولا حاجة إلى زيادة في وصفه وإطنابه ، فإن من وقف عليه علم مقداره حتى قال بعض العلماء من المصنفين : لا تصح رواية القراءة لأحد بعد تأليفه حتى يطلع عليه ، وسميت هذه الأرجوزة طيبة ؛ وفي تسميتها بذلك تورية حسنة تامة تخدم في معان من طيب الرائحة ومن الحياة ومن البسط ومن الإذاعة ومن كتاب النشر.

وها أنا مقدّم عليها

فوائدا مهمّة لديها

٢٦

ها حرف تنبيه وأنا ضمير للمتكلم وحده والمتكلمة أيضا ، والألف فيه زائدة عند البصريين تحذف منه وصلا عند الجادة وتثبت على إجرائه مجرى الوقف كما أتى هاهنا ، وقوله عليها : أي فيها ، ومجيء على بمعنى في شائع كقولهم كان هذا على عهد فلان : أي في عهده ، ويحتمل أن يكون في أصل معناها ، ويكون على حذف مضاف : أي القراءة المذكورة فيها ، وقوله فوائدا جمع فائدة : ما أستفيد من علم أو مال ، ومهمة : أي شديدة في الاحتياج إليها ، وقوله لديها : أي عندها ، يريد قارئها وحافظها والراغب فيها ، وهذه التي قدمها لا بد من معرفتها لطالب هذا العلم قبل شروعه فيه كما سيأتي :

كالقول في مخارج الحروف

وكيف يتلى الذّكر والوقوف

مخارج هي جمع مخرج : وهي عبارة عن موضع خروج الحرف من الفم ، وهي مختلة كما سيأتي بيانه : أي مثل الكلام في مخارج الحروف فإنه من أهم ما يحتاج إليه القارئ والمقرئ ، وإن كان أكثر مؤلفى القراءة لا يذكرونه فإنهم يحيلونه على كتب التجويد ، وقد ذكره الشاطبي رحمه الله تعالى في آخر كتابه. والأولى تقديمه ليحيط به المبتدئ علما قبل شروعه لما يتبنى على ذلك من الإظهار والإدغام والإمالة والترقيق والتفخيم ، وكذا ما يتعلق بصفات الحروف وتجويدها والوقف والابتداء وغير ذلك قوله : (وكيف يتلى الذكر) يعني من التجويد والتحقيق والتصحيح والحدر والترتيل والتدوير وغير ذلك على ما سيأتي ، وقوله والوقوف معطوف على مخارج الحروف : أي كالقول في مخارج الحروف وفي الوقوف وهو جمع وقف ويجمع أيضا على أوقاف مع كونه مصدرا لتنوعه.

(مخارج الحروف)سبعة عشر

على الّذي يختاره من اختبر

اختلف في عدد مخارج الحروف ؛ فالفصيح عند الناظم وجماعة من المحققين سبعة عشرة مخرجا وهو الذي اختير من حيث الاختبار. وقال كثير من النحاة والقراء ستة عشر لإسقاطهم مخرج الجوفية وهي حروف المد واللين ؛ فجعلوا مخرج الألف من أقصر الحلق والواو والياء من مخرج المتحركتين ؛ وذهب آخرون إلى أنها أربعة عشر لإسقاطهم مخرج النون واللام والراء فجعلوها من مخرج واحد ، وقوله من اختبر : أي من طلب خبر ذلك ومعرفته تحقيقا ،

٢٧

واختبار مخرج الحرف بحقه هو أن يلفظ بهمزة الوصل ويأتي بالحرف بعدها ساكنا أو مشددا وهو أبين مع ملاحظته صفات ذلك الحرف.

فالجوف للهاوى وأختيه وهي

حروف مدّ للهواء تنتهى

أي المخرج الأول الجوف وله الألف واسمه الهاوى والواو الساكنة المضموم ما قبلها والياء الساكنة المكسور ما قبلها وهي التي يقال لها حروف المد واللين وتسمى الجوفية ، قال الخليل : وإنما نسبن إلى الجوف لأنه آخر انقطاع مخرجهن وتسمى الهاوية أيضا لأنها تنتهي إلى الهواء : أي تتصل به بخلاف غيرها من الحروف ؛ وذكر سيبويه في تسميته الألف بالهاوي فقال هو حرف اتسع بهواء صوت مخرجه أشد من اتساع مخرج الياء والواو لأنك تضم شفتيك في الواو وترفع في الياء لسانك قبل الحنك. وقال العلامة أبو شامة : وتسمى هذه الحروف الثلاثة الهاوية ، لأنها تخرج من هواء الفم ، وقوله وأختيه : يعني أختي الألف الياء والواو في المد لمشاركتهما لها في كون كل واحدة منها حركة ما قبلها من جنسها ، وقوله تنتهي : أي انتهاء مقطعها الهواء ، فهي تتصل به وليس ذلك لغيرها من الحروف ولهذا امتازت بمخرج وحدها.

وقل لأقصى الحلق همز هاء

ثمّ لوسطه فعين حاء

وهذا المخرج الثاني وهو أقصى الحلق وله حرفان الهمزة والهاء قوله : (ثم لوسطه) أي يتلوه المخرج الثالث وهو وسط الحلق وله العين والحاء ، والضمير في لوسطه عائد إلى الحلق.

أدناه غين خاؤها والقاف

أقصى اللّسان فوق ثمّ الكاف

وهذا المخرج الرابع وهو أدنى الحلق : أي أقربه إلى اللسان وله حرفان وهما الغين والخاء وهذه الأحرف تسمى الحلقية لأنها تخرج من الحلق والمخرج الخامس أقصى اللسان مما يلي الحلق وما فوقه من الحنك وهو القاف قوله : (قوله ثم الكاف) ثم المخرج السادس وهو أقصى اللسان من أسفل وهو للكاف ويسمى كل منهما لهويا لأنه يخرج من اللهاة وهي بين الفم والحلق.

أسفل والوسط فجيم الشّين يا

والضّاد من حافته إذ وليا

قوله : (والوسط) أي المخرج السابع وسط اللسان ، وبينه وبين وسط الحنك

٢٨

وهو للجيم والشين والياء غير المدية ؛ وتسمى الشجرية ، لأنها تخرج من الشجر ؛ وهو عند الخليل مفرج الفم : أي مفتحه ، وقال غيره مجمع اللحيين ، والمخرج الثامن أول حافة اللسان وما يليه من الأيسر عند الجمهور ومن الأيمن عند الآخرين وهو للضاد ، وهو عند الخليل من الحروف الشجرية كما تقدم من تفسير الشجر.

لاضراس من أيسر أو يمناها

واللاّم أدناها لمنتهاها

أي الأضراس فنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها واعتدّ بالعارض كما سيأتي في النقل وهو منصوب بولى ، وقوله من أيسر : أي من الجانب الأيسر عند الجمهور أو من الجانب الأيمن عند الآخرين وقدم الأيسر لأنها منه أيسر ، وقوله : واللام الخ : أي المخرج التاسع وهو أدنى حافة اللسان إلى منتهى طرفه وهو اللام.

والنّون من طرفه تحت اجعلوا

والرّا يدانيه لظهر أدخل

أي المخرج العاشر : وهو طرف اللسان أسفل اللام للنون قوله : (والراء) أي المخرج الحادي عشر وهو طرف اللسان أيضا يداني مخرج النون ولكنه أدخل إلى ظهر اللسان قليلا ، وهذه الحروف الثلاثة تسمى الذلقية نسبة إلى ذلق اللسان : أي طرفه.

والطّاء والدّال وتا منه ومن

عليا الثّنايا والصّفير مستكن

أي المخرج الثاني عشر وهو طرف اللسان ومن أصول الثنايا العليا للطاء والدال والتاء وتسمى النطعية لأنها تخرج من نطع الغار الأعلى وهو سقفه. والثنايا قسمان عليا وسفلى ، فميز بالإضافة نحو على القوم وليس في كل جهة إلا ثنيتان لكن المجموعة أربع فعبروا عن المثنى بالجمع تخفيفا وهو هنا أولى من قولهم غليظ الحواجب عظيم المناكب قوله : (والصفير) أي المخرج الثالث عشر لحروف الصفير ، وهي الصاد والزاى والسين كما سيأتي في صفات الحروف وهو بين طرف اللسان وفويق الثنايا السفلى ؛ وتسمى الحروف الأسليّة لأنها تخرج من أسلته : أي مستدقّه.

منه ومن فوق الثّنايا السّفلى

والظّاء والذال وثا للعليا

٢٩

أي المخرج الرابع عشر لهذه الأحرف الثلاثة وهو بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا وتسمى اللثوية نسبة إلى اللثة وهي اللحم المركب فيه الأسنان.

من طرفيهما ومن بطن الشّفه

فالفا مع أطراف الثّنايا المشرفة

أي المخرج الخامس عشر : وهو باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا للفاء قوله : (من طرفيهما) أي من طرفي اللسان وأطراف الثنايا العليا ، وقوله الشفة ؛ أي الشفة السفلى بدليل قوله الثنايا المشرفة فإنه يريد العليا ، فتعين أن تكون الشفة السفلى.

للشفتين الواو باء ميم

وغنّة مخرجها الخيشوم

أي المخرج السادس عشر : وهو بين الشفتين العليا والسفلى للواو غير المدية والباء والميم فيطبقان في الباء والميم وهذه الثلاثة الأحرف تسمى الشفوية والشفهية لخروجها من الشفتين ؛ والمخرج السابع عشر الخيشوم وهو الغنة ، وقد تكون في الميم والنون الساكنتين حالة الإخفاء أو ما في حكمة من الإدغام بالغنة ، فإن مخرجهما يتحول في مخرجه في هذه الحالة عن مخرجهما الأصلى على القول الصحيح كما يتحول مخرج حروف المد من مخرجهما إلى الجوف على الصواب ، ولبعض هذه الحروف فروع صحت القراءة بها كالهمزة المسهلة بين بين فهي فرع عن المحققة وألفى الإمالة والتفخيم عن الألف المنتصبة والصاد المشمة بين الصاد والزاى واللام المفخمة. والله الموفق ، والخيشوم : هو الخرق المنجذب من الأنف داخل الأنف.

(صفاتها)جهر ورخو مستفل

منفتح مصمتة والضّدّ قل

لما فرغ من مخارج الحروف أخذ في بيان صفاتها وذلك مما يحتاج إلى معرفته بين القوي منه والضعيف فذكر في هذا خمسا منها وهو ما له ضد وهي الجهر والرخو والمستفل والمنفتح والمصمت ، وأشار إلى أضدادها بقوله : والضد قل ؛ ثم ذكر الأضداد المشار إليها عقب هذا البيت كما سيأتي قوله : (والضد قل) أي قل أو أذكر فيما يأتي عقبه.

مهموسها (فحثّه شخص سكت)

شديدها لفظ (أجد قط بكت)

أي مهموس الحروف ، ثم ذكر هذه الكلمات الثلاث وهي عشرة الفاء

٣٠

والحاء والثاء والهاء والشين والخاء والصاد والسين والكاف والتاء ، قيل لها مهموسة لضعفها ، ولذلك يضعف الصوت بها حين جرى النفس معها ، فلم يقو الصوت قوته في المجهورة فصار في الصوت بها نوع خفاء إذ كان الهمس من صفات الضعف ؛ كما أن الجهر الذي هو ضده من صفات القوت فالهمس الصوت الخفي ومنه قوله تعالى (فلا تسمع إلا همسا) (١) قيل هو صوت مشى الأقدام ، وأقوى المهموس الصاد والخاء لما فيهما من الاستعلاء وهو من صفات القوة. وغير المهموس مجهور من قوله جهرت بالشيء إذا أعلنته وذلك لما امتنع النفس أن يجري معها انحصر الصوت بها فقوى التصويت ،

ولما فرغ من بيان المهموسة أخذ في بيان الشديدة وهي ثمانية أحرف يجمعها لفظ الكلمات الثلاث ، وهي الهمزة والجيم والدال والقاف والطاء والباء والكاف والتاء قيل لها شديدة لامتناع الصوت أن يجري معها حال النطق بها لأن الصوت انحصر في المخرج فلم يجر : أي وامتنع قبوله للتليين ، بخلاف الرخوة وذلك من صفات القوة وهي ثمانية منها ستة من المجهورة واثنان من المهموسة التاء والكاف ، والستة الباقية اجتمع فيها أن النفس لا يجري معها ولا الصوت ، وذلك معنى الجهر والشدة جميعا.

وبين رخو والشّديد (لن عمر)

وسبع علو (خصّ ضغط قظ)حصر

أي الحروف التي بين الحروف الرخوة وبين الحروف الشديدة خمسة يجمعها حروف هاتين الكلمتين : وهي اللام والنون والعين والميم والراء. يعني أنها بين القبيلين الرخوة والشدة ، والباقي من الحروف رخو وهي ستة عشر ؛ ومعنى قوله « لن عمر » يا عمر لن فهو منادى حذف حرف ندائه : أي استعمل اللين في أمورك ولا تكن ذا عنف وفظاظة ، وفي الحديث « المؤمن هين لين » (٢) قوله : (وسبع علو) أي هذا الضد الثالث وهو ضد الحروف المستفلة. يعني والحروف المستعيلة سبع حصرتها هذه الكلمات الثلاث ، وهي : الخاء والصاد والضاد والغين والطاء والقاف والظاء ، وهي حروف التفخيم على الصحيح قوله : (سبع

__________________

(١) سورة طه الآية «١٠٨».

(٢) رواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه وقال حديث ضعيف.

٣١

علو) أي سبع أحرف كما تقدم من جواز تأنيث الحروف وتذكيرها ، وإنما ذكر عددها لئلا يتوهم دخول حصر فيها قوله : (حصر) أي حصرها هذا اللفظ من هذه الكمات ؛ ومعناها أقم في القيظ في خص ضغط : أي دنى ضغط : أي ضيق.

(وصاد ضاد طاء ظاء)مطبقة

و (فرّ من لبّ)الحروف المذلقة

يعنى هذه الأربعة أحرف هي الحروف المطبقة وهي ضد الحروف المنفتحة ، سميت لأنه انطبق على مخرجها من اللسان ما حاذاه من الحنك وذلك غاية القوة ، وقوله : وفر من لب : الأصل من لب بالتنوين فحذف الساكن تخفيفا كما قرئ (أحد. الله الصمد) وهو خبر مقدم والحروف مبتدأ والمذلقة صفة ؛ ومعنى اللب : العقل ، أي هرب من عقله حيث لم يطق الجور ، إذ الفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين. اللهم نجنا من القوم الظالمين. والمذلقة : أي المتطرفة وهي ستة يجمعها الكلمات الثلاث ، وهي : الفاء والراء والميم والنون والباء ، قيل لها مذلقة لتطرفها ، لأن ثلاثة منها من طرف اللسان وثلاثة من طرف الشفتين. وضدها المصمتة ؛ وسميت بذلك لثقلها وامتناع الكلام بها ، فلا توجد كلمة من كلام العرب رباعية فما فوقها بناؤها من الحروف المصمتة ، وندر عسجد وعسطوس ؛ وقيل إنهما غير أصليين في كلام العرب بل ملحقان فيه ؛ ولسهولة هذه الحروف وخفتها على اللسان لا يخلو منها الكلام إلا ما ندر فلذلك ينطق بها بسهولة بلا تكلف.

صفيرها (صاد وزي سين)

قلقلة (قطب جد)واللّين

لما فرغ من صفات ما ذكر لها وضده أخذ في صفات أخرى لأحرف مخصوصة لم يذكر لها ضدا ، منها حروف الصفير وهي الثلاثة المذكورة ؛ سميت حروف الصفير ، لأنها يصفر بها وغيرها من الحروف لا صفير فيها. قال مكي : والصفير حدة الصوت. ومنها حروف القلقلة وهي خمسة جمعها في كلمتين وهي : القاف والطاء والباء والجيم والدال ؛ سميت بذلك ، لأنها إذا سكنت ضعفت فاشتبهت بغيرها فتحتاج إلى إظهار صوت شبه النبرة حال سكونها وإلى زيادة إتمام النطق بها فذلك الصوت في سكونها أبين منه في حركتها ، وقوله : قطب جد ، يجوز أن يكون أصله قطب جدي فنقلت كسرة الياء إلى الدال على نية

٣٢

الوقف وعومل معاملة المنقوص فحذف الياء ، فيكون فيه إشارة إلى قطب الجدي ؛ وهو القطب الشمالي الذي بين الجدي والفرقدين. والجدي : هو النجم الذي إلى جانب القطب ، تعرف به القبلة (قوله : واللين) أي وحرفا اللين ، وهما : الواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما ؛ سميا بذلك ، لما فيهما من اللين القابل لمدهما كما في باب المد.

(واو وياء)سكنا وانفتحا

قبلهما والانحراف صحّحا

يعني وحروف الانحراف اللام والراء على الصحيح خلافا لمن جعله اللام فقط ؛ سميا لانحرافهما عن مخرجهما حتى اتصلا بمخرج غيرهما ، ويقال إن اللام فيها انحراف إلى ناحية طرف اللسان والراء : فيها انحراف قليل إلى ناحية اللام ، ولذلك يجعلها الألثغ لاما.

في (اللاّم والرّا)وبتكرير جعل

وللتّفشّي الشّين ضادا استطل

يعني وجعل في الراء صفة تكرير فهي صفة ذاتية لها ؛ فمعنى تكريرها : ربوها في اللفظ لا إعادتها بعد قطعها هنا ، ولذلك يجب أن يتحفظ من إظهار تكريرها لا سيما إذا شددت كما سيأتي النص عليه قريبا ، وفي تقديم تكريرها على جعل إشارة إلى أن الراء خص بذلك ، فجمع بين الانحراف والتكرير (قوله : وللتفشي) أي وجعل للتفشي الشين ؛ والتفشي هو الانتشار ، فسمي الشين بذلك ، لأنه انتشر صوتها حتى اتصل بمخرج الظاء ، وقوله : ضادا استطل : أي أجعلها مستطيلة ، أي موصوفة بالاستطالة ، وسمي الضاد مستطيلا ، لأنه استطال عن الفم عند النطق حتى اتصل بمخرج اللام وذلك لما فيه من القوة بالجهر والاستعلاء والإطباق.

(ويقرأ القرآن)بالتّحقيق مع

حدر وتدوير وكلّ متّبع

لما فرغ من الكلام على مخارج الحروف وصفاتها شرع في بيان كيف يقرأ القرآن ، فذكر أنه بالتحقيق وبالحدر والتدوير : أي التوسط بين حالي التحقيق والحدر. والتحقيق : هو المبالغة في الإتيان بالشيء على حقه من غير زيادة فيه ولا نقص منه ؛ وهو عند أئمة القراء : إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد وتحقيق الهمز وإتمام الحركات وإظهار الحروف وكمال التشديدات وتوفية

٣٣

الصفات وتفكيك الحروف وهو بيانها وإخراج بعضها عن بعض والسكت والترتيل والتؤدة وملاحظة الجائز من الوقوف من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط. والحدر : هو الإسراع وهو عندهم عبارة عن إدراج القراءة وسرعتها وتحقيقها بالقصر والاختلاس والإبدال والإدغام ونحو ذلك مما صحت به الرواية مع إيثار الوصل وإقامة الإعراب ، فهو ضد التحقيق ؛ لتكثير الحسنات وإحراز فضل كثرة التلاوة ، فليحترز فيه عن بتر الحروف المدية وإذهاب صوت الغنة وقصر المد المتصل واللازم ، وعن التفريط إلى حالة لا تجوز القراءة بها. والتدوير : عبارة عن التوسط بين المقامين كما هو مذهب أكثر القراء.

مع حسن صوت بلحون العرب

مرتّلا مجوّدا بالعربي

أي ويراعى هذه الأحوال الثلاثة مع حسن الصوت ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « زينوا القرآن بأصواتكم » (١) وقوله : « ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن » (٢) وغير ذلك من الأحاديث ، وقوله : « بلحون العرب » لما ورد عنه عليه الصلاة والسلام « اقرءوا القرآن بلحون العرب وإياكم ولحون أهل الفسق » (٣) وقوله : مرتلا ، لقوله تعالى : (ورتل القرآن ترتيلا) (٤) ، قال ابن عباس : بينه. وقال مجاهد : تأنّ فيه ، وقال غيره : تثبت في قراءته وتمهل فيها ؛ وعن علي رضي‌الله‌عنه : الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف (قوله : مجودا) أي في غاية الجودة كما سيأتي في البيت الآتي ، وقوله بالعربي : أي بلفظ العرب من اللغة العربية لا باللفظ العجمي من تفخيم الألفات وتصفير الصادات وتطنين النونات وتسمين الحروف. وترعيد المدات ، بل قراءة سهلة عذبة حلوة لطيفة لا مضغ فيها ولا لوك فيها ولا تعسف ولا تكلف ولا تصنع ولا تقطع (٥) غير خارجة عن طباع العرب وكلام الفصحاء.

__________________

(١) رواه البخاري «٧٩٢» والترمذي واحمد ورقمه في صحيح مسلم : «٤٧٣٦».

وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن البراءة رضي‌الله‌عنه وقالوا حديث صحيح.

(٢) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه وقال حديث صحيح. وكذا رواه مسلم / باب تحسين الصوت بالقرآن / ٢١١١ /

(٣) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن حذيفة رضي الله.

(٤) سورة المزّمّل الآية «٤».

(٥) تقطع : نحو تنطع.

٣٤

والأخذ بالتّجويد حتم لازم

من لم يصحّح القرآن آثم

أي القراءة والإقراء بالتجويد : وهو انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين ، من جوّد فلان كذا : أي فعله جيدا ، وهو ضد قوله : رديئا ، فلذلك كان عندهم عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة اللفظ بريئة من الرداءة في النطق وذلك واجب على من يقدر ؛ لأن الله تعالى أنزل به كتابه المجيد ووصل من نبيه عليه الصلاة والسلام متواترا بالتجويد قوله : (من لم يصحح القرآن) أي من لم يصحح القرآن مع قدرته على ذلك فهو آثم عاص بالتقصير غاشّ لكتاب الله تعالى على هذا التقدير. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم « الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله » (١) الحديث وقال عليه الصلاة والسلام « إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل ». (٢)

لأنّه به الإله أنزلا

وهكذا منه إلينا وصلا

أي لأن الله تعالى به : أي بالتصحيح أنزله ، والضمير ضمير الشأن ، ويجوز أن يعود على القرآن ، وهذا بيان لما قدمه واستدلال على ما ذكره من أنه من لم يصحح القرآن ؛ أي ألفاظه مع القدرة فهو آثم ، وذلك أن الله تعالى أنزل العظيم بهذا التصحيح من التجويد الذي تواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما تلقاه من الملك الكريم أمين الله على وحيه المجيد ، وكلامه القديم عن رب العالمين ، على هذا الوجه أجمع أئمة القراءة من أهل الأداء وتلقته الأمة المعصومة من الخطأ عنهم كذلك.

وهو إعطاء الحروف حقّها

من صفة لها ومستحقّها

مكمّلا من غير ما تكلّف

باللطف في النّطق بلا تعسّف

فرقّقن مستفلا من أحرف

وحاذرن تفخيم لفظ الألف

ثم شرع في النص على أمور مهمة تتعلق بتصحيح التلاوة وتجويد القراءة لا بد للقارئ من الوقوف عليها : منها أن الحروف المستفلة وهي ما عدا المستعيلة تكون أبدا مرققة إلا ما وردت الرواية بتفخيمه كاللام والراء في بعض الأحوال كما

__________________

(١) رواه مسلم (باب بيان أن الدين النصيحة) رقم / ٥٥ /.

(٢) رواه السجزي في الإبانة عن زيد ابن ثابت رضي‌الله‌عنه وقال حديث ضعيف.

٣٥

الأحوال كما سننبه عليه قريبا إن شاء الله تعالى قوله : (وحاذرا) أي احذر من تفخيم الألف وذلك مهم يجب التنبيه عليه ، فإن ذلك قد فشا كثيرا وأخذ عن العجم تقليدا وذلك لا يجوز ، والألف حرف هواء لا توصف بتفخيم ولا ترقيق بل تبع لما قبله إن كان مفخما فخم ، وإن كان مرققا رقق ، خلافا لمن أطلق ترقيقه وإن كان قبله حرف تفخيم.

كهمز الحمد أعوذ اهدنا

الله ثمّ لام لله لنا

وهذا أمثلة مما يتحفظ بترقيقه من حيث إن اللسان ربما سبق إلى تفخيمه وهو سر ما سرقته الطباع من العجم والنبط ؛ مثل الهمز في الحمد لله إذا ابتدأ بها وكذلك من أعوذ بالله واهدنا حالة الابتداء وكذا الله ، والتحفظ فيه آكد لوجود اللام المفخمة بعده ، وكذلك ينبغي أن يتحفظ بترقيق اللام من لله ولنا ، وكل ذلك مما تحكمه المشافهة وتسهله الرياضة.

وليتلطّف وعلى الله ولا الض

والميم من مخمصة ومن مرض

أي وكذلك يجب التحفظ بترقيق اللام من قوله : « وليتلطف » (١) أعني اللام بعد التاء ، فإن الطاء بعده لقوته وشدة تفخيمه يجذب اللسان إلى تفخيمه ، وما ذكره بعض المغاربة من تفخيمه لورش فخطأ كما نبه عليه في النشر. ورأيت في النوم سنة تسعين وسبعمائة وأنا أقرأ في النوم سورة الكهف ، فلما وصلت إلى هذه الكلمة فإذا شخص يلفظها إلى مرققة في غاية اللطف وكأنه يقول قل هكذا ، وكذا يجب ترقيق اللام الأولى من « وعلى الله » (٢) ومن « ولا الضالين » (٣) لأن تفخيم الحرف بعده يجذبه إلى التفخيم ، وكذلك يتحفظ بترقيق الميمين من « مخمصة » (٤) لأن الأولى بعدها خاء والثانية صاد وكلاهما حرف تفخيم وكذلك الميم من مرض يتحفظ بترقيقها ، فإن كثيرا من القراء لا يكادون يأتون بها إلا مفخمة بسبب تفخيم الراء وذلك خطأ فاحش.

وباء بسم باطل وبرق

وحاء حصحص أحطت الحقّ

__________________

(١) سورة الكهف الآية «١٩».

(٢) في كل المواضع في القرآن الكريم.

(٣) سورة الفاتحة الآية «٧».

(٤) سورة المائدة الآية «٣» وغيرها من السور.

٣٦

وكذا ينبغي أن يتحفظ بترقيق الباء من بسم فإن كثيرا من الناس يريد أن يبين صفة الشدة منها فيسبق لسانه إلى تفخيمها وهو لا يشعر ، وكذلك الباء من باطل من أجل الطاء فكثير من الناس لا يأتي بها إلا مفخمة مع الألف بعدها أيضا ، وكذلك يتعين التحفظ بترقيق الباء من برق والحاء من حصحص وكذا من أحطت ومن الحق ، فكل ذلك يسبق اللسان فيه إلى التفخيم من أجل الحرف المفخم بعده.

وبيّن الإطباق من أحطت مع

بسطت والخلف بنخلقكم وقع

فيه إشارة إلى مسألة يجب الاعتناء بمعرفتها ، وهي أنه إذا التقى متماثلان أو متجانسان وسبق إحداهما بالسكون فإنه يجب إدغامه كما سيأتي قريبا ؛ ولما التقت في أحطت (١) وبسطت (٢) الطاء والتاء وكان لا بد من الإدغام وكانت الطاء أقوى من التاء لما فيها من صفات القوة أدغمت وبقي من صفتها ما يدل عليها وهو الإطباق فليلفظ بالخاء والسين ثم يشار باللفظ إلى صفة الإطباق ثم يلفظ بالتاء مشددة ، ونظير ذلك إدغام النون الساكنة في الياء والواو مع بقاء الغنة ؛ وقد ذهب بعض أهل الأداء إلى أن ذلك في هذه الحروف ليس بإدغام لكنه إخفاء لوجود ما يمنع من الإدغام فيه وهو الصفة القائمة ، والصحيح أنه إدغام لكنه ليس بكامل ؛ ثم إن أهل الأداء اختلفوا في إدغام القاف الساكنة في الكاف من قوله : « ألم نخلقكم من ماء مهين » (٣) هل يلفظ بها كاملا من غير إبقاء صفة الاستعلاء من القاف أو ناقصا تبقيه للصفة لأجل قوة القاف بذلك؟ فذهب الداني وجماعة إلى الأول وهو الأصح ، وذهب مكي إلى الثاني ، وكلاهما مأخوذ به كما بينه في النشر ، وهذا معنى قوله : والخلف بنخلقكم وقع : أي كان ووجد وجرى.

وأظهر الغنّة من نون ومن

ميم إذا ما شدّدا وأخفين

يشير إلى فائدة يكثر دورها ويغفل عنها وهي أن النون والميم إذا وقعتا مشددتين نحو : إن و « منا بعد » وأما ومما ولما ، فإنه لا فرق بينهما وبين « عن

__________________

(١) سورة النمل الآية «٢٢».

(٢) سورة المائدة الآية «٢٨».

(٣) سورة المرسلات الآية «٢٠».

٣٧

نفس ، وهم من » فليعلم ذلك وليتحفظ به (قوله : وأخفين الخ) من البيت الثالث ذكر أحكام الميم الساكنة كما سيأتي.

الميم إن تسكن بغنّة لدى

باء على المختار من أهل الأدا

اعلم أن للميم الساكنة أحكاما كما للنون الساكنة ، وقد ذكر القراء أحكام النون الساكنة استطرادا لما وقع في بعضها من الخلاف ولم يذكروا الميم ، بل نبه بعض من ألف في التجويد على بعض أحكامها ووقع بسبب ذلك وهم كثير ، وقد استوفى الناظم ذكرها بأحسن بيان في كتاب النشر ، وأشار هنا إلى ما فيه كفاية فقال : وأخفين الميم إن تسكن بغنة الخ البيت الآتي بعد ، وأشار إلى تتميم ذلك في البيت الثالث ، ومراده أن للميم الساكنة أحكاما ثلاثة إدغام وإخفاء وإظهار ؛ فالإدغام إذا سكنت عند ميم مثلها كما يخرج من قوله فيما يأتي : وأولى مثل وجنس إن سكن ، وهذا الإدغام يكون بغنة كما تقدم من قوله السابق :

وأظهر الغنة من نون ومن ميم إذا ما شددا ...

الثاني الإخفاء ، يعني إذا سكنت الميم وأتى بعدها باء نحو : « ومن يعتصم بالله ، ربهم بهم » ، فإن أهل الأداء اختلفوا في اللفظ بها ، فقال بعضهم تكون مخفاة بغنة. وقال آخرون تكون مظهرة والأول هو المختار عند الناظم ؛ وعند أكثر المحققين كما أشار إليه عمرو كما سيأتي في بابه ، وعلى إخفائها إذا كانت مقلوبة من الساكنة كما سيأتي في بابها.

والحكم الثالث الإظهار كما سيأتي عند باقي الحروف في البيت الآتي.

أظهرنها عند باقي الأحرف

واحذر لدى واو وفا أن تختفي

وهذا الحكم الثالث من أحكام الميم وهو الإظهار عند سائر الحروف : أي سوى الباء كما تقدم وسوى الميم كما سيأتي في البيت الآتي نحو الحمد ، وأنعمت ، وعليهم غير ، وهم يوقنون ، ولهم عذاب أليم ، عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، وأنهم هم وليتحفظ بإظهارها إذا وقعت بعدها فاء أو واو نحو هم فيها ، عليهم ولا لئلا يسبق اللسان إلى إخفائها من أجل قرب المخرجين وهذا مما لا خلاف فيه ، وما وقع من حكاية الإخفاء عندهما عن السوسي وغيره فشاذ لا يقرأ به ، وكذلك ما يفهم من عبارة بعضهم من الإخفاء

٣٨

عند غيرهما فغلط فاحش لا يلتفت إليه كما حققنا ذلك في غير هذه المواضع.

وأوّلى مثل وجس إن سكن

أدغم كقل ربّ وبل لا وأبن

وهذه قاعدة كلية أشار إليها الناظم ؛ وهي أنه إذا التقى حرفان وكانا مثلين أو جنسين وكانا أولهما ساكنا وجب إدغام الأول منهما نحو : « فاضرب به ، وقد دخلوا ، وإذ ذهب ، وقل لهم ، وهم من ، عن نفس ، بل لا ، يدرككم ، يوجهه » والجنسان نحو : « قل رب ، (١) (قالت طائفة ،) (٢) (أثقلت دعوا الله ،) (٣) (إذ ظلمتم ،) (٤) (قد تبين » (٥) إلا يكون أول المثلين حرف مد وأول الجنسين حرف حلق كما سيأتي في البيت الآتي :

سبّحه فاصفح عنهم وقالوا وهم

في يوم لا تزغ قلوب قل نعم

أي وأظهر الحاء عند الهاء من سبحه : يعني من قوله تعالى (ومن الليل فسبحه) (٦) لأنها حرف حلق ، وكثير من الناس من سبق لسانهم إلى النطق بها حاء مشددة ، وذلك لأن الحاء حرف ضعيف والهاء أقوى منه فيجذب الحاء الهاء فيقلبها من جنسها ثم تدغم فيها وذلك لحن وخطأ فليحترز منه ، وكذلك قوله : (فاصفح عنهم) (٧) وإن كانا من مخرج واحد فإنه لا يجوز إدغام الحاء في العين فلذلك نص عليه ، وكذلك لا يجوز إدغام الواو المدية في واو بعدها نحو « قالوا وهم » ولا الياء المدية في ياء بعدها نحو « قالوا وهم » ولا الياء المدية في ياء بعدها نحو « في يوم » بخلاف الواو اللينة نحو « عصوا وكانوا » فإنه لا خلاف في إدغامها ولم تقع في القرآن المجيد ياء لينة بعدها ياء ولو وقع لوجب الإدغام أيضا نحو رأيت غلامي يوسف ؛ ثم نص على إظهار الغين عند القاف من قوله تعالى (لا تزغ قلوبنا) فإنه ربما نطق بإدغامها من لا يعلم لقرب المخرجين ، وكذلك يجب إظهار اللام الساكنة من قوله : قل نعم ، وإن كانا متجانسين عند بعضهم والله الموفق.

وبعد ما تحسن أن تجوّدا

لا بد أن تعرف وقفا وابتدأ

__________________

(١) سورة طه الآية «١١٤» وفي غيرها كذلك.

(٢) سورة الأحزاب الآية «١٣» وفي غيرها كذلك

(٣) سورة الأعراف الآية «١٨٩».

(٤) سورة الزخرف الآية «٣٩».

(٥) سورة البقرة الآية «٢٥٦».

(٦) سورة الطور الآية «٤٩».

(٧) سورة الزخرف الآية «٨٩».

٣٩

أي وبعد علمك بالتجويد يجب أن تعرف الوقف والابتداء لما نقل عن عليّ رضي‌الله‌عنه وقد سئل عن قوله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) فقال : الترتيل هنا تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ، فيلزم المقرئ أيضا أن يعرف الوقف والابتداء ؛ ولهما حالتان : إحداهما ما يوقف عليه ويبتدأ به ، وثانيهما كيف يوقف وكيف يبتدأ؟ وهذا يتعلق بالقراءة كما سيأتي في بابي الوقف على أواخر الكلام وعلى مرسوم الخط ، والكلام هنا على ما يوقف عليه ويبتدأ به ، وللناس في ذلك كتب ومصطلحات ، وأقربها ما قرره الناظم على مقتضى اصطلاح الحافظ أبي عمرو الداني ومن تبعه كما سيأتي في البيت الآتي بعده.

فاللّفظ إن تمّ ولا تعلّقا

تامّ وكاف إن بمعنى علّقا

يعني أن الكلام إما أن يتم أولا ؛ فإن تم ، فلا يخلو إما أن لا يكون له تعلق بما بعده لا لفظا ولا معنى أو يكون له تعلق ، والأمل الوقف المصطلح عليه بالتام فيوقف عليه ويبتدأ بما بعده ، وإن كان له تعلق ، فلا يخلو إما أن يكون تعلقه من جهة المعنى أو من جهة اللفظ ؛ فالأول الوقف المصطلح عليه بالكافي ، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده ، وإن كان متعلقا من جهة اللفظ فهو الوقف المصطلح عليه بالحسن ، فيجوز الوقف عليه لتمامه ولا يجوز الابتداء بما بعده لتعلقه بما قبله لفظا ومعنى ، إلا أن يكون رأس آية فإنه يجوز في اختيار الأكثر لمجيئه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سنذكره. وبقي القسم الثاني من التقسيم الأول وهو أن لا يتم الكلام عليه فهو الوقف القبيح في مصطلحهم لا يجوز الوقف عليه ولا الابتداء بما بعده قوله : (تام) خففه ضرورة وذلك جائز في الشعر ، وهذا القسم من الوقوف وهو التام أكثر ما يجيء في رءوس الآي وانقضاء القصص كالوقف على (بسم الله الرحمن الرحيم) والابتداء من (الحمد لله رب العالمين) والوقف على (مالك يوم الدين) والابتداء (بإياك نعبد) ونحو (وأولئك هم المفلحون) والابتداء بـ « إن الذين كفروا » وقد يكون قبل انقضاء الآية نحو (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) فإنه آخر حكاية كلام بلقيس ، ثم قال تعالى (وكذلك يفعلون) وقد يكون وسط الآية نحو : (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) وهو حكاية تمام قول الظالم ، ثم قال تعالى (وكان الشيطان للإنسان خذولا) وقد يكون بعد انقضاء الآية بكلمة نحو (لم نجعل لهم من دونها سترا) هذا آخر الآية

٤٠