تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد في أسفاركم وحاجاتكم (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي دلائل قدرته (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) يعني أن هذه الآيات التي ذكرها ظاهرة باهرة فليس شيء منها يمكن إنكاره.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) يعني مصانعهم وقصورهم والمعنى لو سار هؤلاء في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة هؤلاء المنكرين المتمردين الهلاك والبوار مع أنهم كانوا أكثر عددا وأموالا من هؤلاء (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) أي لم ينفعهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أي شيء أغنى عنهم كسبهم (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا) أي رضوا (بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) قيل هو قولهم لن نبعث ولن نعذب وقيل هو علمهم بأحوال الدنيا سمي ذلك علما على ما يدعونه ويزعمونه وهو في الحقيقة جهل (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) يعني أن سنة الله قد جرت في الأمم الخالية بعدم قبول الإيمان عند معاينة البأس وهو العذاب يعني بتلك السنة أنهم إذا رأوا العذاب آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) يعني بذهاب الدارين قيل الكافر خاسر في كل وقت ولكنه يتبين خسرانه إذا رأى العذاب والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٨١

سورة فصلت

وتسمى سورة السجدة وسورة المصابيح مكية وهي أربع وخمسون آية وسبعمائة وست وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧))

قوله عزوجل : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بينت وميزت وجعلت معاني مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي باللسان العربي (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إنما أنزلناه على العرب بلغتهم ليفهموا منه والمراد ولو كان بغير لسانهم ما فهموه (بَشِيراً وَنَذِيراً) نعتان للقرآن أي بشيرا لأولياء الله بالثواب ونذيرا لأعدائه بالعقاب (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) أي عنه (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يصغون إليه تكبرا (وَقالُوا) يعني مشركي مكة (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي أغطية (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي فلا نفقه ما تقول (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم فلا نسمع ما تقول والمعنى أنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي خلاف في الدين وحاجز في الملة فلا نوافقك على ما تقول (فَاعْمَلْ) أي أنت على دينك (إِنَّنا عامِلُونَ) أي على ديننا (قُلْ) يا محمد (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي كواحد منكم (يُوحى إِلَيَ) أي لو لا الوحي ما دعوتكم ، قال الحسن : علمه الله تعالى التواضع (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي توجهوا إليه بطاعته ولا تميلوا عن سبيله (وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي من ذنوبكم وشرككم (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قال ابن عباس : لا يقولون لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس ، والمعنى لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد. وقيل : لا يقرون بالزكاة المفروضة ولا يرون إتيانها واجبا يقال الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك ، وقيل : معناه لا ينفقون في طاعة الله ولا يتصدقون ، وقيل : لا يزكون أعمالهم (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي جاحدون بالبعث بعد الموت.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها

٨٢

فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال ابن عباس : غير مقطوع ، وقيل : غير منقوص ، وقيل : غير ممنون عليهم به ، وقيل : غير محسوب. قيل نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن العمل والطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه (خ) عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرة ولا مرتين يقول «إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر كتب الله تعالى له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم».

قوله عزوجل : (قُلْ أَإِنَّكُمْ) استفهام بمعنى الإنكار وذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما الكفر بالله تعالى وهو قوله تعالى (لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وثانيهما (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) إثبات الشركاء والأنداد له والمعنى كيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا لله تعالى مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين يعني الأحد والاثنين (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي هو رب العالمين وخالقهم المستحق للعبادة لا الأصنام المنحوتة من الخشب والحجر (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت (مِنْ فَوْقِها) أي من فوق الأرض (وَبارَكَ فِيها) أي في الأرض بكثرة الخيرات الحاصلة فيها وهو ما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم وقيل قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة وقيل قدر البر لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر والذرة لأهل قطر والسمك لأهل قطر وكذلك سائر الأقوات.

قيل إن الزراعة أكثر الحرف بركة لأن الله تعالى وضع الأقوات في الأرض قال الله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي مع اليومين الأولين فخلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وهما يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فصارت أربعة أيام رد الآخر على الأول في الذكر (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) معناه سواء لمن سأل عن ذلك أي فهكذا الأمر سواء لا زيادة فيه ولا نقصان جوابا لمن سأل في كم خلقت الأرض والأقوات (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي عمد إلى خلق السماء (وَهِيَ دُخانٌ) ذلك الدخان كان بخار الماء ، قيل كان العرش قبل خلق السموات والأرض على الماء فلما أراد الله تعالى أن يخلق السموات والأرض أمر الريح فضربت الماء فارتفع منه بخار كالدخان فخلق منه السماء ثم أيبس الماء فخلقه أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبعا.

فإن قلت هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل خلق السماء وقوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء فكيف الجمع بينهما.

قلت الجواب المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولا ثم خلق السماء بعدها ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها.

وجواب آخر وهو أن يقال إن خلق السماء مقدم على خلق الأرض فعلى هذا يكون معنى الآية خلق الأرض في يومين ، وليس الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط بل هو عبارة عن التقدير أيضا فيكون المعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء فعلى هذا يزول الإشكال والله أعلم بالحقيقة (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي ائتيا ما أمرتكما به أي افعلاه وقيل افعلا ما أمرتكما طوعا وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه كرها فأجابتا بالطوع (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) معناه أتينا بما فينا طائعين فلما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل.

٨٣

قيل قال الله تعالى لهما أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمرك ونباتك.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤))

وقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي أتمهن وفرغ من خلقهن (فِي يَوْمَيْنِ) وهما الخميس والجمعة (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) قال ابن عباس خلق في كل سماء خلقا من الملائكة وخلق ما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى وقيل أوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي التي تلي الأرض (بِمَصابِيحَ) أي بكواكب تشرق كالمصابيح (وَحِفْظاً) أي وجعلناها يعني الكواكب حفظا للسماء من الشياطين الذين يسترقون السمع (ذلِكَ) أي الذي ذكر من صنعه وخلقه (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي في ملكه (الْعَلِيمِ) أي بخلقه وفيه إشارة إلى كمال القدرة والعلم.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) يعني هؤلاء المشركين عن الإيمان بعد هذا البيان (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) أي خوفتكم (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي هلاكا مثل هلاكهم والصاعقة المهلكة من كل شيء (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) يعني إلى عاد وثمود (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) يعني الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يعني ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم وهم الرسل الذين أرسلوا إليهم وهما هود وصالح وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم (أَلَّا) أي بأن لا (تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) يعني لو شاء ربنا دعوة الخلق لأنزل ملائكة بدل هؤلاء الرسل (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله قال : «قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فأتاه فكلمه ثم أتينا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك ، فأتاه فلما خرج إليه قال : يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسا ما بقيت وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) إلى قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب» وقال محمد بن كعب القرظي : حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيدا حليما قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس وحده في المسجد يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا

٨٤

لعله يقبل منا بعضها فنعطيه ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزيدون ويكثرون قالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه وكلمه فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت جماعتهم وسفهت أحلامهم وعيبت آلهتهم وكفرت من مضى من آبائهم فاستمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا أبا الوليد فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب أو لعل هذا شعر جاش به صدرك فنعذرك فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا يقدر عليه أحد حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم ، قال : فاستمع مني ، قال : فافعل ، فقال : بسم الله الرّحمن الرّحيم (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) ثم مضى فيها يقرأ فلما سمعها عتبة أنصت وألقى يده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السجدة فسجد ثم قال أسمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط ما هو بشعر ولا بسحر ولا كهانة يا معشر قريش أطيعوني يا معشر قريش خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وأنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله محمد يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم».

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦))

قوله عزوجل : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) وذلك أن هودا هددهم بالعذاب فقالوا نحن نقدر على دفع العذاب عنا بفضل قوتنا وكانوا ذوي أجسام طوال قال الله تعالى ردا عليهم (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أو لم يعلموا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي عاصف شديد الصوت وقيل هي الريح الباردة فقيل إن الريح ثمانية ، فأربع منها عذاب وهي الريح الصرصر والعاصف والقاصف والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات قيل أرسل عليهم من الريح على قدر خرق الخاتم فأهلكوا جميعا (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي نكدات مشؤومات ذات نحس وقيل ذات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه وقيل أمسك الله عزوجل عنهم المطر ثلاث سنين ودأبت عليهم الريح من غير مطر (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) أي عذاب الذل والهوان وذلك مقابل لقوله (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ذلك الذي نزل بهم من الخزي والهوان في الحياة الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) أي أشد إهانة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي لا يمنعون من العذاب.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧))

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) قال ابن عباس بينا لهم سبيل الهدى وقيل دللناهم على الخير والشر (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي اختاروا الكفر على الإيمان (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي ذي الهوان (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من الشرك.

٨٥

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي يتقون الشرك والأعمال الخبيثة وهم صالح ومن آمن معه من قومه.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يساقون ويدفعون وقيل يحبس أولهم حتى يلحق آخرهم (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) يعني النار (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) أي بشراتهم وقيل فروجهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) معناه أن الجوارح تنطق بما كتمت الألسن من عملهم (م) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال «كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك فقال : هل تدرون مم أضحك قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه عزوجل يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ، قال فيقول بلى فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين عليك شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأعضائه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل» (وَقالُوا) يعني الكفار الذين يجرون إلى النار (لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) معناه أن القادر الذي خلقكم أول مرة في الدنيا وأنطقكم ثم أعادكم بعد الموت قادر على إنطاق الأعضاء والجوارح وهو قوله تعالى : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقيل تم الكلام عند قوله (الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ثم ابتدأ بقوله (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقيل إنه ليس من جواب الجلود (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) أي تستخفون وقيل معناه تظنون (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) والمعنى أنكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ولا تظنون أنها تشهد عليكم (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان الكفار يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر (ق). عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون أن الله تعالى يسمع ما نقول قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) قيل الثقفي هو عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.

قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (أَرْداكُمْ) أي أهلككم قال ابن عباس طرحكم في النار (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) ثم أخبر عن حالهم بقوله تعالى (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي مسكن (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي يسترضوا ويطلبوا العتبى والمعتب هو الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي المرضيين.

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ

٨٦

قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ) أي بعثنا ووكلنا وقيل هيأنا لهم وسببنا لهم (قُرَناءَ) أي نظراء من الشياطين حتى أضلوهم (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي من أمر الدنيا حتى آثروهم على الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) أي فدعوهم إلى التكذيب بالآخرة وإنكار البعث وقيل حسنوا لهم أعمالهم القبيحة الماضية والمستقبلة (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي وجب (فِي أُمَمٍ) أي مع أمم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي قريش (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) قال ابن عباس : والغطوا فيه من اللغط وهو كثرة الأصوات كان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر وقيل أكثروا الكلام حتى يتخلط عليه ما يقول وقيل والغوا فيه بالمكاء والصفير وقيل صيحوا في وجهه (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) يعني محمدا على قراءته (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ) يعني بأسوأ (الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي في الدنيا وهو الشرك (ذلِكَ) أي الذي ذكر من العذاب (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) ثم بين ذلك الجزاء فقال (النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي دار الإقامة لا انتقال لهم عنها (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي في النار (رَبَّنا) أي يقولون يا ربنا (أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعنون إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه لأنهما سنّا المعصية (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) أي في النار (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي في الدرك الأسفل من النار وقال ابن عباس : ليكونا أشد عذاب منا.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣))

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال أهل التحقيق كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته لأجل العمل به ، ورأس المعرفة اليقينية معرفة الله تعالى وإليه الإشارة بقوله (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) ورأس الأعمال الصالحة أن يكون الإنسان مستقيما في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط فتكون الاستقامة في أمر الدين والتوحيد فتكون في الأعمال الصالحة. سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئا وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب.

وقال عثمان رضي الله تعالى عنه : استقاموا أخلصوا في العمل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أدوا الفرائض ، وهو قول ابن عباس. وقيل استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه ، وقيل : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله وكان الحسن إذا تلا هذه الآية قال اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال ابن عباس عند الموت وقيل إذا قاموا من قبورهم وقيل البشرى تكون في

٨٧

ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث (أَلَّا تَخافُوا) أي من الموت وقيل لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة (وَلا تَحْزَنُوا) أي على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك كله وقيل لا تخافوا من ذنوبكم ولا تحزنوا فأنا أغفرها لكم (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) أي تقول الملائكة عند نزولهم بالبشرى نحن أولياؤكم أي أنصاركم وأحباؤكم وقيل تقول لهم الحفظة نحن كنا معكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ) نحن أولياؤكم (فِي الْآخِرَةِ) لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة (وَلَكُمْ فِيها) أي في الجنة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي من الكرامات واللذات (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي تتمنون (نُزُلاً) أي رزقا والنزل رزق النزيل والنزيل هو الضيف (مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) قال أهل المعاني كل هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية جارية مجرى النزل والكريم إذا أعطى هذا النزل فما ظنك بما بعده من الألطاف والكرامة.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أي إلى طاعة الله تعالى وقيل هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وقيل : هو المؤمن أجاب الله تعالى فيما دعاه إليه ودعا الناس إلى ما أجاب إليه (وَعَمِلَ صالِحاً) في إجابته وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : أرى أن هذه الآية نزلت في المؤذنين وقيل إن كل من دعا إلى الله تعالى بطريق من الطرق فهو داخل في هذه الآية.

وللدعوة إلى الله تعالى مراتب :

الأولى : دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الله تعالى بالمعجزات وبالحجج والبراهين وبالسيف وهذه المرتبة لم تتفق لغير الأنبياء.

المرتبة الثانية : دعوة العلماء إلى الله تعالى بالحجج والبراهين فقط والعلماء أقسام علماء بالله وعلماء بصفات الله وعلماء بأحكام الله.

المرتبة الثالثة : دعوة المجاهدين إلى الله تعالى بالسيف فهم يجاهدون الكفار حتى يدخلوا في دين الله وطاعته.

المرتبة الرابعة : دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم أيضا دعاة إلى الله تعالى وإلى طاعته ، وعمل صالحا ، قيل : العمل الصالح على قسمين قسم يكون من أعمال القلوب وهو معرفة الله تعالى وقسم يكون بالجوارح وهو سائر الطاعات وقيل : وعمل صالحا صلّى ركعتين بين الأذان والإقامة (ق). عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة وقال في الثالثة لمن شاء» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» أخرجه أبو داود والترمذي ، وقال هذا حديث حسن. (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قيل ليس الغرض منه القول فقط بل يضم إليه اعتقاد القلب فيعتقد بقلبه دين الإسلام مع التلفظ به.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) يعني الصبر والغضب والحلم والجهل والعفو والإساءة

٨٨

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال ابن عباس أمره بالصبر عند الغضب وبالحلم عند الجهل وبالعفو عند الإساءة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي صديق قريب ، قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب وذلك حيث لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة (وَما يُلَقَّاها) أي وما يلقى هذه الخصلة والفعلة وهي دفع السيئة بالحسنة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام وما يلقاها (إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي من الخير والثواب وقيل الحظ العظيم الجنة يعني ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه أي يبعثه إلى ما لا ينبغي ومعنى الآية وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي من شره (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) أي لاستعاذتك (الْعَلِيمُ) بأحوالك.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) أي إنهما مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أي المستحق للسجود والتعظيم هو الله خالق الليل والنهار والشمس والقمر (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يعني أن ناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويزعمون أن سجودهم لهذه الكواكب هو سجود لله عزوجل فنهوا عن السجود لهذه الوسائط وأمروا بالسجود لله الذي خلق هذه الأشياء كلها (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي عن السجود لله (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يفترون ولا يملون.

(فصل)

وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة وفي موضع السجود فيها قولان للعلماء وهما وجهان لأصحاب الشافعي أحدهما أنه عند قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وهو قول ابن مسعود والحسن وحكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد لأن ذكر السجدة قبله والثاني وهو الأصح عند أصحاب الشافعي وكذلك نقله الرافعي أنه عند قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة لأن عنده يتم الكلام.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) أي يميلون عن الحق (فِي آياتِنا) أي في أدلتنا قيل بالمكاء والتصدية واللغو واللغط وقيل يكذبون بآياتنا ويعاندون ويشاقون (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) تهديد ووعيد قيل نزلت في أبي جهل (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) هو أبو جهل (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) المعنى الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار والذين يؤمنون بآياتنا آمنون يوم القيامة قيل هو حمزة وقيل عثمان وقيل عمار بن ياسر (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) أمر تهديد ووعيد (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه عالم بأعمالكم فيجازيكم عليها(إِنَّ الَّذِينَ

٨٩

كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) يعني القرآن وفي جواب إن وجهان أحدهما أنه محذوف تقديره إن الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم ، والثاني جوابه أولئك ينادون من مكان بعيد ثم أخذ في وصف الذكر فقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) قال ابن عباس : كريم على الله تعالى ، وقيل : العزيز العديم النظير وذلك أن الخلق عجزوا عن معارضته وقيل أعزه الله بمعنى منعه فلا يجد الباطل إليه سبيلا وهو قوله تعالى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) قيل الباطل هو الشيطان فلا يستطيع أن يغيره وقيل إنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيأتيه الباطل من خلفه فعلى هذا يكون معنى الباطل الزيادة والنقصان وقيل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب فيبطله وقيل معناه أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه وقيل : لا يأتيه الباطل عما أخبر فيما تقدم من الزمان ولا فيما تأخر (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) أي في جميع أفعاله (حَمِيدٍ) أي إلى جميع خلقه بسبب نعمه عليهم ثم عزى الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيبهم إياه فقال عزوجل : (ما يُقالُ لَكَ) أي من الأذى والتكذيب (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) يعني أنه قد قيل للأنبياء قبلك ساحر كما يقال لك وكذبوا كما كذبت (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي لمن تاب وآمن بك (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي لمن أصر على التكذيب.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧))

قوله عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) يعني بغير لغة العرب (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) يعني هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) يعني أكتاب أعجمي ورسول عربي وهذا استفهام إنكار والمعنى لو نزل الكتاب بلغة العجم لقالوا كيف يكون المنزل عليه عربيا والمنزل أعجميا ، وقيل في معنى الآية : أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أنزلنا الكلام العجمي إلى القوم العرب ولصح قولهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه ، وأنا لما أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب وهم يفهمونه فكيف يمكنهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر وقيل إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي وكان يهوديا أعجميا يكنى أبا فكيهة فقال المشركون إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال إنك تعلم محمدا فقال هو والله يعلمني فأنزل الله تعالى هذه الآية (قُلْ) يا محمد (هُوَ) يعني القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) يعني من الضلالة (وَشِفاءٌ) يعني لما في القلوب من مرض الشرك والشك وقيل شفاء من الأوجاع والأسقام (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) يعني صموا عن استماع القرآن وعموا عنه فلا ينتفعون به (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم كذلك هؤلاء في قلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) يعني فمصدق به ومكذب كما اختلف قومك في كتابك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يعني في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يعني لفرغ من عذابهم وعجل

٩٠

إهلاكهم (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يعني من كتابك وصدقك (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) يعني يعود نفع إيمانه وعمله لنفسه (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) يعني ضرر إساءته أو كفره يعود على نفسه أيضا (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يعني فيعذب غير المسيء.

قوله عزوجل : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) يعني إذا سأل عنها سائل قيل له لا يعلم وقت قيام الساعة إلا الله تعالى ولا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أي من أوعيتها ، وقال ابن عباس : هو الكفرى قبل أن ينشق (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي يعلم قدر أيام الحمل وساعاته ومتى يكون الوضع وذكر الحمل هو أم أنثى ومعنى الآية كما يرد إليه علم الساعة فكذلك يرد إليه علم ما يحدث من كل شيء كالثمار والنتاج وغيره.

فإن قلت قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشف قولا فيصيب فيه وكذلك الكهان والمنجمون.

قلت أما أصحاب الكشف إذا قالوا قولا فهو من إلهام الله تعالى واطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة ، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد لا يصيب وعلم الله تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي ينادي الله تعالى المشركين فيقول (أَيْنَ شُرَكائِي) أي الذين تدعون أنها آلهة (قالُوا) يعني المشركين (آذَنَّاكَ) أي أعلمناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي يشهد أن لك شريكا وذلك لما رأوا العذاب تبرؤوا من الأصنام.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣))

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي يعبدون في الدنيا (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي مهرب.

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) أي لا يمل الكافر (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) يعني لا يزال يسأل ربه الخير وهو المال والغنى والصحة (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الشدة والفقر (فَيَؤُسٌ) أي من روح الله تعالى (قَنُوطٌ) أي من رحمته (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) أي آتيناه خيرا وعافية وغنى (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي من بعد شدة وبلاء أصابه (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي أستحقه بعملي (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي ولست على يقين من البعث (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) يقول هذا الكافر أي فإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربي (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي الجنة والمعنى كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) قال ابن عباس لنوقفنهم على مساوي أعمالهم (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الشدة والفقر (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي كثير (قُلْ) أي قل يا محمد لكفار مكة (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي هذا القرآن (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) أي جحدتموه (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف للحق بعيد عنه والمعنى فلا أحد أضل منكم (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) قال ابن عباس يعني منازل

٩١

الأمم الخالية (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي البلاء والأمراض وقيل ما نزل بهم يوم بدر وقيل في الآفاق هو ما يفتح من القرى والبلاد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وفي أنفسهم هو فتح مكة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) يعني دين الإسلام ، وقيل يتبين القرآن أنه من عند الله وقيل يتبين لهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيد من قبل الله تعالى وقيل في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والأنهار والنبات وفي أنفسهم يعني من لطيف الحكمة وبديع الصنعة حتى يتبين لهم أنه الحق يعني لا يقدر على هذه الأشياء إلا الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يعني يشهد أن القرآن من عند الله تعالى ، وقيل أولم يكفهم الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله لهم على التوحيد وأنه شاهد لا يغيب عنه شيء.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي في شك عظيم من القيامة (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٩٢

سورة حم عسق

وتسمى سورة الشورى وهي مكية ، في قول ابن عباس والجمهور وحكي عن ابن عباس إلا أربع آيات نزلت بالمدينة أولها (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وقيل فيها من المدني (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) إلى قوله تعالى : (بِذاتِ الصُّدُورِ) وقوله (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) إلى قوله (مِنْ سَبِيلٍ) وهي ثلاث وخمسون آية وثمانمائة وستون كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا والله أعلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

قوله عزوجل : (حم عسق) سئل الحسين بن الفضل لم قطع حروف حم عسق ولم يقطع حروف المص والمر وكهيعص ، فقال : لأنها بين سور أوائلها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ وعسق خبره لأن حم عسق عدت آيتين وعدت أخواتها التي لم تقطع آية واحدة. وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي واختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلا فقال معناها حم الأمر أي قضى وبقي عسق على أصله. وقال ابن عباس ح حلمه م مجده ع علمه س سناه ق قدرته أقسم الله عزوجل بها. وقيل إن العين من العزيز والسين من قدوس والقاف من قاهر وقيل ح حرب في قريش يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز م ملك يتحول من قوم إلى قوم ع عدو لقريش يقصدهم س سنون كسني يوسف ق قدرة الله في خلقه ، وقيل هذا في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالحاء حوضه المورود والميم ملكه الممدود والعين عزه الموجود والسين سناؤه المشهود والقاف قيامه في المقام المحمود وقربه من الملك المعبود وقال ابن عباس ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق فلذلك قال الله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) وقيل معناه كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى الذين من قبلك (اللهُ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) في صنعه ، والمعنى كأنه قيل من يوحي فقال الله العزيز الحكيم ثم وصف نفسه وسعة ملكه فقال تعالى :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧))

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) أي من فوق الأرضين وقيل تنفطر كل واحدة فوق التي تليها من عظمة الله تعالى وقيل من قول المشركين اتخذ الله ولدا

٩٣

(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزهونه عما لا يليق بجلاله وقيل يصلون بأمر ربهم (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من المؤمنين دون الكفار ، لأن الكافر لا يستحق أن تستغفر له الملائكة ، وقيل يحتمل أن يكون لجميع من في الأرض أما في حق الكافرين فبواسطة طلب الإيمان لهم ويحتمل أن يكون المراد من الاستغفار لا يعاجلهم بالعقاب وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم ، وقيل استغفارهم لمن في الأرض هو سؤال الرزق لهم فيدخل فيه المؤمن والكافر (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يعني أنه تعالى يعطي المغفرة التي سألوها ويضم إليها بمنه وكرمه الرحمة العامة الشاملة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي جعلوا له شركاء وأندادا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) يعني رقيب على أحوالهم وأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) يعني لم توكل بهم حتى تؤخذ بهم إنما أنت نذير (وَكَذلِكَ) أي ومثل ما ذكرنا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) يعني مكة والمراد أهلها (وَمَنْ حَوْلَها) يعني قرى الأرض كلها (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي وتنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله سبحانه وتعالى فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد ذلك يتفرقون وهو قوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم قابضا على كفه ومعه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة ، ثم قال للذي في يساره هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة فقال عبد الله بن عمرو ففيم العمل إذا؟ قال اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ثم قال فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله تعالى» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١))

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قال ابن عباس : على دين واحد وقيل على ملة الإسلام (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في دين الإسلام (وَالظَّالِمُونَ) أي الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) أي يدفع عنهم العذاب (وَلا نَصِيرٍ) أي يمنعهم من العذاب (أَمِ اتَّخَذُوا) يعني الكفار (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) قال ابن عباس هو وليك يا محمد وولي من تبعك (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعني أن من يكون بهذه الصفة فهو الحقيق بأن يتخذ وليا ومن لا يكون بهذه الصفة فليس بولي (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من أمر الدين (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب وقيل علمه إلى الله وقيل تحاكموا فيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن حكمه من حكم الله تعالى ولا تؤثروا حكومة غيره على حكومته (ذلِكُمُ اللهُ) يعني الذي يحكم بين المختلفين هو الله (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) يعني في جميع أموري (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)

٩٤

يعني وإليه أرجع في كل المهمات (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يعني من جنسكم (أَزْواجاً) يعني حلائل ، وإنما قال من أنفسكم لأن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) يعني أصنافا ذكرانا وإناثا (يَذْرَؤُكُمْ) يعني يخلقكم وقيل يكثركم (فِيهِ) يعني في الرحم وقيل في البطن لأنه قد تقدم ذكر الأزواج وقيل نسلا بعد نسل حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل وقيل الضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطب من الناس والأنعام إلا أنه غلب جانب الناس وهم العقلاء على غير العقلاء من الأنعام ، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به أي يكثركم بالتزويج (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) المثل صلة أي ليس كهو شيء وقيل الكاف صلة مجازه ليس مثله شيء ، قال ابن عباس : ليس له نظير.

فإن قلت هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقتضي إثبات المثل فما الفرق.

قلت المثل الذي يكون مساويا في بعض الصفات الخارجية على الماهية فقوله ليس كمثله شيء معناه ليس له نظير ، كما قاله ابن عباس أو يكون معناه ليس لذاته سبحانه وتعالى مثل وقوله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) معناه وله الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ولا يشاركه فيه أحد فقد ظهر بهذا التفسير معنى الآيتين وحصل الفرق بينهما (وَهُوَ السَّمِيعُ) يعني لسائر المسموعات (الْبَصِيرُ) يعني المبصرات.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني مفاتيح الرزق في السموات يعني المطر وفي الأرض يعني النبات يدل عليه قوله تعالى : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي أنه يوسع على ن يشاء ويضيق على من يشاء لأن مفاتيح الرزق بيده (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي من البسط والتضييق.

قوله عزوجل : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي ما بين وسن لكم طريقا واضحا من الدين ، أي دينا تطابقت على صحته الأنبياء وهو قوله تعالى : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) أي أنه أول الأنبياء أصحاب الشرائع والمعنى قد وصيناه وإياك يا محمد دينا واحدا (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي من القرآن وشرائع الإسلام (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع المعظمة والأتباع الكثيرة وأولو العزم.

ثم فسر المشروع الذي اشترك فيه هؤلاء الأعلام من رسله بقوله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) والمراد بإقامة الدين هو توحيد الله والإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر وطاعة الله في أوامره ونواهيه وسائر ما يكون الرجل به مسلما ، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها فإنها مختلفة متفاوتة قال الله

٩٥

تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وقيل أراد تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وقيل تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنه مجمع على تحريمهن ، وقيل لم يبعث الله نبيا إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله تعالى بالوحدانية والطاعة وقيل بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي من التوحيد ورفض الأوثان (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي يصطفي لدينه من يشاء من عباده (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي يقبل على طاعته (وَما تَفَرَّقُوا) يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس : يعني أهل الكتاب (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي بأن الفرقة ضلالة (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وقيل بغيا منهم على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي في تأخير العذاب عنهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين من آمن وكفر يعني لأنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد أنبيائهم وقيل الأمم الخالية (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يؤمنون به (مُرِيبٍ) يعني مرتابين شاكين فيه (فَلِذلِكَ) أي إلى ذلك (فَادْعُ) أي إلى ما وصى الله تعالى به الأنبياء من التوحيد وقيل لأجل ما حدث به من الاختلاف في الدين الكثير فادع أنت إلى الاتفاق على الملة الحنيفية (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي أثبت على الدين الذي أمرت به (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي المختلفة الباطلة (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي آمنت بكتب الله المنزلة كلها وذلك لأن المتفرقين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) قال ابن عباس أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام وقيل لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء وقيل لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم وتحاكمتم إلى (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) يعني أن إله الكل واحد وكل أحد مخصوص بعمل نفسه وإن اختلفت أعمالنا فكل يجازي بعمله (لا حُجَّةَ) أي لا خصومة (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) وهذه الآية منسوخة بآية القتال إذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة فلم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي في المعاد لفصل القضاء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يخاصمون في دين الله قيل هم اليهود قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي من بعد ما استجاب الناس لدين الله تعالى فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي خصومتهم باطلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي في الآخرة (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والأحكام (وَالْمِيزانَ) أي العدل سمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي وقت إتيانها قريب وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا تكذيبا له متى تكون الساعة فأنزل الله تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) أي ظنا منهم أنها غير آتية (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ) أي خائفون (مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي أنها آتية لا شك فيها (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ) أي يخاصمون (فِي السَّاعَةِ) وقيل يشكون فيها (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) قوله عزوجل :

٩٦

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) أي كثير الإحسان إليهم ، قال ابن عباس : حفي بهم وقيل رفيق وقيل لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعا بمعاصيهم يدل عليه قوله تعالى : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) يعني أن الإحسان والبر إنعام في حق كل العباد وهو إعطاء ما لا بد منه فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله أن يرزقه ، وقيل لطفه في الرزق من وجهين أحدهما أنه جعل رزقكم من الطيبات والثاني أنه لم يدفعه إليكم مرة واحدة (وَهُوَ الْقَوِيُ) أي القادر على كل ما يشاء (الْعَزِيزُ) أي الذي لا يغالب ولا يدافع (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي كسب الآخرة والمعنى من كان يريد بعمله الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي بالتضعيف الواحدة إلى عشرة إلى ما يشاء الله تعالى من الزيادة ، وقيل إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعة إليه (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) يعني يريد بعمله الدنيا مؤثرا لها على الآخرة (نُؤْتِهِ مِنْها) أي ما قدر وقسم له منها (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) يعني لأنه لم يعمل لها ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» ذكره في جامع الأصول ولم يعزه إلى أحد من الكتب الستة وأخرجه البغوي بإسناده.

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ) يعني كفار مكة (شُرَكاءُ) يعني الأصنام وقيل الشياطين (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) قال ابن عباس شرعوا لهم غير دين الإسلام (ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) يعني أن تلك الشرائع بأسرها على خلاف دين الله تعالى الذي أمر به وذلك أنهم زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم لا يعلمون غيرها (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) يعني أن الله حكم بين الخلق بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يعني المشركين (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة (تَرَى الظَّالِمِينَ) يعني يوم القيامة (مُشْفِقِينَ) أي وجلين خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) أي من الشرك والأعمال الخبيثة (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي جزاء كسبهم واقع بهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) لأن هذه الروضات أطيب بقاع الجنة فلذلك خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بها وفيه تنبيه على أن الجنة منازل غير الروضات هي لمن هو دون الذين عملوا الصالحات من أهل القبلة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي من الكرامة (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ) أي الذي ذكر من نعيم الجنة الذي يبشر الله به عباده (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قوله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ الرسالة (أَجْراً) أي جزاء (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عباس : عجبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن بطن من قريش إلا وله فيهم قرابة فقال ألا تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، وعن ابن عباس أيضا في قوله (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) : يعني أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي ، وإليه

٩٧

ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضحاك (خ) عن ابن عمر أن أبا بكر قال : ارقبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل بيته واختلفوا في قرابته ، فقيل علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وقيل أهل بيته من تحرم عليه الصدقة من أقاربه وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام (م). عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به» فحثّ على كتاب الله ورغب فيه ثم قال «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين من أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرمت عليهم الصدقة بعده قال ومن هم قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس».

فإن قلت طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي لا يجوز لقوله في قصة نوح عليه‌السلام وغيره من الأنبياء (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).

قلت لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة.

بقي الجواب عن قوله (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

فالجواب عنه من وجهين : الأول معناه لا أطلب منكم إلا هذه وهذا في الحقيقة ليس بأجر ومنه قول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

معناه إذا كان هذا عيبهم فليس فيهم عيب بل هو مدح فيهم ولأن المودة بين المسلمين أمر واجب وإذا كان كذلك في حق جميع المسلمين كان في أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى فقوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) المودة في القربى ليست أجرا في الحقيقة لأن قرابته قرابتهم فكانت مودتهم وصلتهم لازمة لهم فثبت أن لا أجر البتة ، والوجه الثاني أن هذا الاستثناء منقطع وتم الكلام عند قوله قل لا أسألكم عليه أجرا ثم ابتدأ فقال إلا المودة في القربى أي لكن أذكركم المودة في قرابتي الذين هم قرابتكم فلا تؤذوهم ؛ وقيل : إن هذه الآية منسوخة وذلك لأنها نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرهم فيها بمودة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلة رحمه فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار ونصروه أحب الله تعالى أن يلحقه بإخوانه من النبيين فأنزل الله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فصارت هذه الآية ناسخة لقوله (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وإليه ذهب الضحاك والحسين بن الفضل ، والقول بنسخ هذه الآية غير مرضي لأن مودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه من فرائض الدين وهو قول السلف فلا يجوز المصير إلى نسخ هذه الآية. وروي عن ابن عباس في معنى الآية قول آخر قال : إلا أن توادوا الله وتتقربوا إليه بطاعته وهو قول الحسن قال هو القربى إلى الله يقول إلا التقرب إلى الله تعالى والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي يكتسب طاعة (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي بالتضعيف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (شَكُورٌ) أي للقليل من الأعمال حتى يضاعفها.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥))

(أَمْ يَقُولُونَ) أي بل يقول كفار مكة (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيه توبيخ لهم معناه أيقع في قلوبهم ويجري

٩٨

على لسانهم أن ينسبوا مثله إلى الكذب وأنه افترى على الله كذبا وهو أقبح أنواع الكذب (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم وقولهم إنه مفتر وقيل معناه يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما أتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله بالفعل به ما أخبر به في هذه الآية (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أخبره الله تعالى أن ما يقولونه الباطل والله عزوجل يمحوه (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يحق الإسلام بما أنزل من كتابه وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قال ابن عباس : لما نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره أنهم اتهموه وأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق فنزل قوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أولياؤه وأهل طاعته.

(فصل في ذكر التوبة وحكمها)

قال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط :

أحدها : أن يقلع عن المعصية.

والثاني : أن يندم على فعلها.

والثالث : أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا.

فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة وإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة والشرط الرابع أن يبرأ من حق صاحبها فهذه شروط التوبة وقيل التوبة الانتقال عن المعاصي نية وفعلا والإقبال على الطاعات نية وفعلا ، وقال سهل بن عبد الله التستري : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة (خ). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (م) عن الأغر بن بشار المزني قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (ق) عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقذ ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده الدوية الفلاة والمفازة» (ق) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» ولمسلم عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها») الآية أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله عزوجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م). عن أبي موسى

٩٩

الأشعري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله عزوجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وقوله عزوجل : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي يمحوها إذا تابوا (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) يعين من خير وشر فيجازيهم عليهم.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨))

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعني يجيب المؤمنون الله تعالى فيما دعاهم لطاعته وقيل معناه ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا دعوه ، وقال ابن عباس : ويثبت الذين آمنوا (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه ، وقال ابن عباس : يشفعهم في إخوانهم ويزيدهم من فضله ، قال في إخوان إخوانهم (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) قوله عزوجل : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) قال خباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) أي وسع الله الرزق لعباده (لَبَغَوْا) أي لطغوا وعتوا (فِي الْأَرْضِ) قال ابن عباس : بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس ، وقيل : إن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة رجع إلى مقتضى طبعه وهو التكبر وإذا وقع في شدة ومكروه وفقر انكسر فرجع إلى الطاعة والتواضع ، وقيل : إن البغي مع القبض والفقر أقل ومع البسط والغنى أكثر لأن النفس مائلة إلى الشر لكنها إذا كانت فاقدة لآلاته كان الشر أقل وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) يعني الأرزاق نظرا لمصالح عباده وهو قوله تعالى : (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) والمعنى أنه تعالى عالم بأحوال عباده وبطبائعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم يدل على ذلك ما روى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبريل عن الله عزوجل قال «يقول الله عزوجل من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد ، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى لو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» أخرجه البغوي بإسناده.

قوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي يئس الناس منه وذلك أدعى لهم إلى الشكر قيل حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا ثم أنزل الله عزوجل المطر فذكرهم نعمته لأن الفرح بحصول النعمة بعد الشدة أتم (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي يبسط بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب (وَهُوَ الْوَلِيُ) أي لأهل طاعته (الْحَمِيدُ) أي المحمود على ما يوصل إلى الخلق من أقسام رحمته.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما

١٠٠