تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

وقوله تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) يعني خيبر.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠))

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يعني من أموال أهل خيبر وكانت خيبر ذات نخيل وعقار وأموال فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) يعني منيعا كامل العزة غنيا عن إعانتكم (حَكِيماً) حيث حكم لكم بالغنائم ولأعدائكم بالهلاك على أيديكم.

قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) يعني المغانم التي تغنمونها من الفتوحات التي تفتح لكم إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني مغانم خيبر وفيه إشارة إلى كثرة الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله عزوجل في المستقبل وإنما عجل لهم هذه كعجالة الراكب أعجلها الله لكم وهي في جنب ما وعدكم الله به من الغنائم كالقليل من الكثير (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها ، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله عزوجل أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل : المعنى إن الله عزوجل كف أيدي أهل مكة بالصلح عنكم لتمام المنّة عليكم (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) هو عطف على ما تقدم تقديره ، فعجل لكم الغنائم لتنتفعوا بها ، ولتكون آية للمؤمنين. يعني : ولتحصل من بعدكم آية تدلهم على أن ما وهبكم الله يحصل مثله لهم. وقيل : لتكون آية للمؤمنين دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إخباره عن الغيوب ، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) يعني ويهديكم إلى دين الإسلام ويثبتكم عليه ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر.

(ذكر غزوة خيبر)

وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع (ق). عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا غزا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم. وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. قال : فخرجنا إلى خيبر فلما انتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فخرجوا علينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا محمد والخميس فلما رآهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (م) عن سلمة بن الأركع قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم :

تالله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا

فثبت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من هذا؟» قال : أنا عامر. قال : «غفر لك ربك» قال : وما استغفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد. قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له : يا نبي الله لو لا متعتنا بعامر. قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلتهب

١٦١

قال : وبرز له عمي عامر فقال :

قد علمت خيبر أني عامر

شاكي السلاح بطل مغامر

قال : فاختلفا بضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر ، وذهب عامر يسفل له ، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ، فكانت فيها نفسه. قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أبكي فقلت : يا رسول الله بطل عمل عمي عامر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال ذلك؟ قلت : ناس من أصحابك. قال : كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين. ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال : فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فبصق في عينيه فبرأ ، وأعطاه الراية فخرج مرحب فقال :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلتهب

فقال علي رضي الله عنه :

أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظرة

أوفيهم بالصاع كيل السندره

قال فضرب مرحبا فقتله ثم كان الفتح على يده. أخرجه مسلم بهذا اللفظ وقد أخرج البخاري طرفا منه قال البغوي وقد روى حديث فتح خيبر جماعة منهم سهل بن سعد وأنس بن مالك وأبو هريرة يزيدون وينقصون فيه«أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ، ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول ، ثم رجع فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقال : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح الله على يديه ، فدعا عليا فأعطاه الراية وقال له : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فأتى خيبر فخرج مرحب صاحب الحصن وعلى رأسه مغفر من حجر قد نقبه مثل البيضة وهو يرتجز ، فخرج إليه علي بن أبي طالب ، فضربه فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس ، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز ، فخرج إليه الزبير بن العوام فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : يقتل ابني يا رسول الله؟ قال : ابنك يقتله إن شاء الله. ثم التقيا ، فقتله الزبير. ثم كان الفتح ثم لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتح الحصون ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويحوز الأموال» قال محمد بن إسحاق : فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقت اليهود عليه حجرا فقتله ثم فتح حصن ابن أبي الحقيق فأصاب سبايا منهم صفية بنت حيي بن أخطب جاء بها بلال وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية ، صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اعزبوا عني هذه الشيطانة» وأمر بصفية فجهزت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اصطفاها لنفسه وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها فقال : ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا ثم لطم وجهها لطمة اخضرت منها عينها ، فأتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبها أثر منها فسألها عن ذلك ما هو ، فأخبرته الخبر ، وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزوجها كنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله ، فجحد أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل من اليهود فقال لرسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني رأيت كنانة يطوف

١٦٢

بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك قال : نعم فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمبالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي ، فأبى أن يؤديه إليه فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمإلى الزبير بن العوام أن يعذبه حتى يستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزنده على صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة»(ق)عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمغزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلموركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجرى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمفي زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر بياض فخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما دخل القرية قال : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاثا. قال : وخرج القوم إلى أعمالهم فقالوا محمد والخميس يعني الجيش. قال : فأصبناها عنوة فجمع السبي فجاء دحية فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطني جارية من السبي. قال : اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال : ادعوها فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلمقال : خذ جارية من السبي غيرها ، فأعتقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلموتزوجها.فقال له ثابت : يا أبا حمزة ما أصدقهاقال نفسها أعتقها وتزوجها ، حتى إذا كان بالطريق ، جهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل وأصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عروسافقال : من كان عنده شيء فليجئ به. وبسط نطعا فجعل الرجل يجيء بالتمروجعل الآخر يجيء بالسمن قال : وأحسبه ذكر السويق. قال : فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (ق).عن عبد الله بن أبي أوفى قال : «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلماكان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أكفئوا القدور ولاتأكلوا من لحوم الحمر شيئا».فقال أناس : نهى عنها لأنها لم تخمس وقال آخرون : إنما نهى عنها البتة (ق)عن أنس : «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشاة مسمومة فجيء بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك فقال : ما كان الله ليسلطك على ذلك.أو قال علي قالوا أنقلتها قال لافما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

قال محمد بن إسماعيل قال يونس عن الزهري قال عروة قالت عائشة : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه : «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخبير فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم»(خ).عن عائشة قالت : «لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر»(ق)عن ابن عمر«أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجازوأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لماظهرعلى خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض لما ظهرعليها لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين فأراد إخراج اليهودمنها فسألت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرهم بهاعلى أن يكفوا العمل ولهم نصف التمر ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نقركم بهاعلى ذلك ماشئنا فقروا بها.حتى أجلاهم عمرفي إمارته إلى تيماء وأريحاء. قال محمدبن إسحاق : لما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم ويخلوا له الأموال ففعل بهم ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعاملهم على النصف ففعل على أن لنا إذا شئنا إخراجكم فصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت خيبرللمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب ، فلمااطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مصلية ، يعني مشوية ، وسألت أي عضومن الشاة أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، وسمّت سائرالشاة ، ثم جاءت بهافلماوضعتهابين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناول الذراع فأخذها ، فلاك منها قطعة فلم يسغها ومعه بشر بن البراءبن معرور ، فأخذ منها كماأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمابشرفأساغها يعني ابتلعها وأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم.ثم دعا بها فاعترفت فقال : ما حملك على ذلك؟فقالت : بلغت من قومي ما لا يخفى عليك فقلت إن كان ملكا استرحنا منه وإن كان نبيا فيسخبرنا.فتجاوز عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومات بشر

١٦٣

على مرضه الذي توفي فيه. فقال : يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري». فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماتت شهيدا مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوة.

عن عبيد الله بن سلمان أن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي فجعل الناس يتبايعون غنائمهم فجاء رجل فقال : يا رسول الله لقد ربحت اليوم ربحا ما ربحه أحد من أهل هذا الوادي. قال : ويحك وما ربحت قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أنبئك بخير ربح؟ قال : وما هو يا رسول الله قال : ركعتان بعد الصلاة» أخرجه أبو داود.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

قوله تعالى : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) يعني وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) يعني حفظها لكم حتى تفتحوها ومنعها من غيركم حتى تأخذوها ، وقال ابن عباس : علم الله أن يفتحها لكم واختلفوا فيها فقال ابن عباس : هي فارس والروم وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم بل كانوا خولا لهم حتى أقدرهم الله عليها بشرف الإسلام وعزه. وقيل : هي خيبر وعدها الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها ففتحها الله لهم. وقيل : هي مكة. وقيل : هو كل فتح فتحه المسلمون أو يفتحونه إلى آخر الزمان (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي : من فتح القرى والبلدان لكم وغير ذلك (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أسد وغطفان وأهل خيبر (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) أي لانهزموا عنكم (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) يعني من تولى الله خذلانه فلا ناصر له ولا مساعد (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) يعني هذه سنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) قوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) سبب نزول هذه الآية ما روي عن أنس بن مالك : «أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ؛ فأخذهم سبايا فاستحياهم فأنزل الله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم» انفرد بإخراجه مسلم وقال عبد الله بن مغفل المزني : «كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أمانا قالوا اللهم لا فخلى سبيلهم».

ومعنى الآية ، أن الله تعالى ذكر منته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلوا وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح وهو قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) يعني أيدي أهل مكة (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) أي قضى بينهم وبينكم بالمكافة والمحاجزة (بِبَطْنِ مَكَّةَ) قيل : أراد به الحديبية. وقيل : التنعيم. وقيل : وادي مكة (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي مكنكم منهم حتى ظفرتم بهم (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) قوله عزوجل : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

(ذكر صلح الحديبية)

روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث

١٦٤

صاحبه قالا : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتى عتبة الخزاعي. وقال : إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أشيروا عليّ أيها الناس أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما جئت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربا فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال : امضوا على اسم الله فنفذوا. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال الناس : حل حل. فألحت فقالوا خلأت القصواء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال : والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال : فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضا فلم يلبث الناس أن نزحوه. وشكا الناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العطش ، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل في البئر فغرزه في جوفه. فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر.

فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره. فقال بديل : سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته. قال : سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أي قوم ، ألستم بالولد؟ قالوا : بلى. قال : أو لست بالوالد؟ قالوا : بلى. قال : فهل تتهموني؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ؟ فلما ألحّوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا : بلى. قال : فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها ودعوني آتية قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال عروة عند ذلك : يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه : امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه؟ فقال : من ذا؟ قالوا : أبو بكر. قال : أما والذي نفسي بيده لو لا يد لك عندي ولم أجزك بها لأجبتك. قال وجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب يده بنصل السيف. وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فرفع عروة رأسه ، فقال : من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء.

١٦٥

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعينه قال : فو الله ما تنخم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون في وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه وقال : أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره.

وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له وقد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها فقال رجل من كنانة : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأصحابه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعث له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل إليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعظاما لما رأى فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله قالوا له : اجلس فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك. فغضب الحليس عند ذلك وقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحبيش نفرة رجل واحد. فقالوا : مه كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال : دعوني آته. فقال : ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد سهل لكم من أمركم قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات أكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب فقال : اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم. فقال سهيل : أما الرّحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله ما نكتبها إلا بسم الله الرّحمن الرّحيم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : اكتب باسمك اللهم. ثم قال له : اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقال سهيل لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن هذا البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري وذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وعلي أن يخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل : والله لأتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلي أن لا يأتيك منا رجلا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلما.

وروي عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولكن أنت محمد بن عبد الله قال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي : امح رسول الله. قال : لا والله لا أمحوك أبدا قال : فأرنيه ، فأراه إياه فمحاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده. وفي رواية ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قال البراء : على ثلاثة أشياء على أن من أتاه من المشركين رده إليهم

١٦٦

ومن أتاه من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلباب السلاح السيف والقوس ونحوه.

وروى ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشترطوا أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا : يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال : نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا.

(رجعنا إلى حديث الزهري)

قال بينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا : يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد قال فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأجره لي. قال : ما أنا بمجيره لك. قال : بلى فافعل. قال : ما أنا بفاعل. ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش. فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت ، وكان قد عذب في الله عذابا شديدا ، وفي الحديث ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك في المستضعفين فرجا ومخرجا إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا وإنا لا نغدر ، فوثب عمر إلى جنب أبي جندل وجعل يقول : اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون ودم أحدهم دم كلب ويدني السيف منه.

قال عمر : ورجوت أن يأخذ السيف فيضربه به فضن الرجل بأبيه وقد كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوا ذلك ، دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون وزادهم أمر أبي جندل شرّا إلى ما بهم.

قال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ قال الزهري في حديثه عن مروان والمسور وروى أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقلت : ألست نبي الله حقا؟ قال : بلى. قلنا : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل. قال : بلى. قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال : بلى. قلت : فلم نعط الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أولست كنت تحدثنا إنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال : بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنك آتيه وتطوف به. قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال : بلى قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى. قلت : فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه ، فو الله إنه على الحق. قلت : أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال : بلى. أفأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنك تأتيه وتطوف به. قال عمر : فعملت لذلك أعمالا ، فلما فرغ من قضية الكتاب. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا فو الله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. قالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ونحر بدنة ودعا حالقا فحلقه ، فلما رأوا ذلك ، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما قال ابن عمر وابن عباس : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يرحم الله المحلقين. قالوا : يا رسول الله والمقصرين؟ قال : يرحم المحلقين. قالوا : يا رسول الله والمقصرين؟ قال : يرحم الله المحلقين والمقصرين قالوا : يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين. قال : لأنهم لم يشكوا.

١٦٧

قال ابن عمر : وذلك أنه تربص قوم وقالوا : لعلنا نطوف بالبيت.

قال ابن عباس : وأهدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك. قال الزهري في حديثه : ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) حتى بلغ (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فطلق عمر امرأتين يومئذ كانتا في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية قال : فنهاهم أن يردوا النساء وأمرهم أن يردوا الصداق. قال : ثم رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد رجل من قريش وهو مسلم ؛ وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثا في طلبه رجلا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالا : العهد الذي جعلت لنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح في ديننا الغدر وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيد ، فاستله الآخر ، فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به. فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأخذه ، منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ويلك ما لك؟ قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشح السيف حتى وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد.

فلما سمع ذلك ، عرف أن يرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بصير ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد فخرج عصابة منهم إليه فانفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناشده الله والرحم لما أرسلت إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدموا إليه المدينة وأنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) حتى بلغ (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرّحمن الرّحيم وحالوا بينه وبين هذا البيت أخرجه البخاري بطوله سوى ألفاظ منه وهي مستثناة في الحديث. منها قوله : فنزع سهما من كنانته ، وأعطاه رجلا من أصحابه ، إلى قوله : فو الله ما زال يجيش لهم بالري ومنها قوله ثم بعثوا الحليس بن علقمة إلى قوله فقالوا كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به ومنها قوله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، إلى قوله : وعليّ أن يخلوا بيننا وبين البيت. ومنها قوله : وروي عن البراء قصة الصلح ، إلى قوله : رجعنا إلى حديث الزهري. ومنها قوله : وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا أبا جندل ، إلى قوله : قال عمر فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت ألست نبي الله حقا؟ ومنها قوله : قال ابن عمر وابن عباس ، إلى قوله : وقال الزهري في حديثه ثم جاء نسوة مؤمنات فهذه الألفاظ لم يخرجها البخاري في صحيحه.

(شرح غريب ألفاظ الحديث)

قوله : بضع عشرة ، البضع : في العدد بالكسر وقد يفتح هو ما بين الثلاثة إلى التسعة. وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة. قوله : وبعث عينا له أي جاسوسا. قوله : وقد جمعوا لك الأحابيش : هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشا. وقيل : هم حلفاء قريش وهم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة وبنو المصطلق من خزاعة تحالفوا تحت جبل يقال له : حبش فسموا بذلك. وقيل : هو اسم واد بأسفل مكة.

١٦٨

وقيل : سموا بذلك لتجمعهم. والتحبيش : التجمع. قوله : فإن قعدوا قعدوا موتورين ، أي منقوصين. قوله : فنفذوا : أي مضوا وتخلصوا. قوله : إن خالد بن الوليد بالغميم ، اسم موضع ومنه كراع الغميم. وقوله : طليعة الطليعة ، الجماعة يبعثون بين يدي الجيش ليطلعوا على أخبار العدو. قوله : وقترة الجيش : هو الغبار الساطع معه سواد. قوله : يركض نذير ، النذير : الذي يعلم القوم بالأمر الحادث. قوله : حل حل : هو زجر للناقة. قوله خلأت القصوا : يعني أنها لما توقفت عن المشي وتقهقرت ظنوا ذلك خللا في خلقها وهو كالحران للفرس فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما خلأت أي ليس ذلك من خلقها ولكن حبسها حابس الفيل ، أي منعها عن المسير. والذي منع الفيل عن مكة هو الله تعالى والقصوا اسم ناقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم تكن قصوا وهو شق الأذن. قوله : خطة ، أي حالة وقضية يعظمون فيها حرمات الله جمع حرمة وهي فروضه وما يجب القيام به يريد بذلك حرمة الحرم ونحوه. قوله : حتى نزل بأقصى الحديبية بتخفيف الياء وتشديدها ، وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة وبين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل. وقال ما لك : هي من الحرم. وقال ابن القصار : بعضها من الحل حكاه في المطالع. والثمد : الماء القليل الذي لا مادة له. والتربص : أخذ الشيء قليلا قليلا. وقوله : فما زال يجيش بالري ، يقال : جاشت البئر بالماء إذا ارتفعت وفاضت. والري ضد العطش ، والصد الرجوع بعد الورود. وقوله : وكانت خزاعة عيبة ، نصح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال فلان عيبة نصح فلان إذا كان موضع سره وثقته في ذلك. قوله : نزلوا على أعداد مياه الحديبية ، الماء العد : الكثير الذي لا انقطاع له كالعيون وجمعه أعداد. قوله : ومعهم العوذ المطافيل ، العوذ : جمع عائذ وهي الناقة إذا وضعت إلى أن يقوى ولدها ، وقيل : هي كل أنثى لها سبع ليال منذ وضعت. والمطافيل : جمع مطفل وهي الناقة معها فصيلها وهذه استعارة استعار ذلك للناس وأراد بهم أن معهم النساء والصبيان. قوله : وإن قريشا قد نهكتهم الحرب أي ، أضرت بهم وأثّرت فيهم. وقوله : ماددتهم أي جعلت بيني وبينهم مدة. قوله : وإلا فقد جموا ، أي : استراحوا. والجمام : بالجيم الراحة بعد التعب. قوله : تنفرد سالفتي السالفة الصفحة والسالفتان صفحتا العنق. وقيل : السالفة حبل العنق وهو ما بينه وبين الكتف وهو كناية عن الموت لأنها لا تنفرد عنه إلا بالموت. قوله : إني استنفرت ، يقال : استنفر القوم إذا دعاهم إلى قتال العدو ، وعكاظ : اسم سوق كانت في الجاهلية معروفة. وقوله : بلحوا على فيه لغتان التخفيف والتشديد وأصل التبليح : الإعياء والفتور. والمراد : امتناعهم من إجابته وتقاعدهم عنه. قوله : استأصلت قومك. واجتاح : أصله من الاجتياح إيقاع المكروه بالإنسان ومنه الجائحة والاستئصال والاجتياح متقاربان في مبالغة الأذى. قوله : إني لأرى وجوها وأشوابا : الأشواب ، مثل الأوباش وهم الأخلاط من الناس والرعاع. يقال : فلان خليق بذلك أي جدير لا يبعد ذلك من خلقه قوله امصص بظر اللات وهي اسم صنم لهم كانوا يعبدونه والبظر ما تقطعه الخافضة وهي الخاتنة من الهنة التي تكون في فرج المرأة وكان هذا اللفظ شتما لهم يدور في ألسنتهم.

قوله : لو لا يدلك عندي اليد النعمة وما يمتن به الإنسان على غيره. قوله : أي غدر معدول عن غادر وهو للمبالغة. وقوله : قد عرض عليكم خطة رشد ، يقال : خطة رشد وخطة غيّ. والرشد والرشاد خلاف الغي والمراد منه أنه قد طلب منكم طريقا واضحا في هدى واستقامة. قوله : وهو من قوم يعظمون البدن أي الإبل تهدى إلى البيت في حج أو عمرة ، وتقليدها : هو أن يجعل في رقابها شيء كالقلادة من لحاء الشجر أو نعل أو غيره ليعلم بذلك أنه هدى. والإشعار : هو أن يشق جانب السنام فيسيل دمه عليه وقوله لما رأى الهدى يسيل عليه أي يقبل عليه كالسيل من عرض الوادي أي جانبه. وقوله : هذا مكرز وهو رجل فاجر. الفجور : الميل عن الحق وكل انبعاث في شر فهو فجور. قوله : هذا ما قاضى عليه ، أي فاعل من القضاء وهو إحكام الأمر وإمضاؤه وهو في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وإتمامه. قوله : ضغطة ، هو كناية عن القهر والضيق. قوله : بجلباب السلاح ، بضم الجيم وسكون اللام مع تخفيف الباء ويروى بضم اللام أيضا مع التشديد وهو وعاء من

١٦٩

أدم شبه الجراب يوضع فيه السيف مغمودا ويعلق في مؤخرة الرحل. قوله : يرسف بضم السين وكسرها لغتان ، وهو : مشي المقيد. قوله : فأجره لي. قال ابن الأثير : يجوز أن يكون بالزاي من الإجازة أي اجعله جائزا غير ممنوع ولا محرم أو أطلقه لي وإن كان بالراء المهملة فهو من الإجارة والحماية والحفظ وكلاهما صالح في هذا الموضوع.

قوله : فلم نعطى الدنية ، أي القضية التي لا نرضى بها أي لم نرض بالأدون والأقل في ديننا؟ قوله : فاستمسك بغرزه الغرز لكور الناقة كالركاب لسرج الفرس والمعنى : فاستمسك به ولا تفارقه ساعة كما لا تفارق رجل الراكب غرز رحله فإنه على الحق الذي لا يجوز لأحد تركه. قوله : ويل أمه ، هذه كلمة تقال للواقع فيما يكره ويتعجب بها أيضا ، ومسعر الحرب أي موقدها. يقال : سعرت النار وأسعرتها إذا أوقدتها. والمسعر : الخشب الذي توقد به النار وسيف البحر بكسر السين جانبه وساحله والله أعلم وأما تفسير الآية فقوله عزوجل :

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥))

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، يعني كفار مكة ، (وَصَدُّوكُمْ) أي منعوكم (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تطوفوا به (وَالْهَدْيَ) أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت سبعين بدنة (مَعْكُوفاً) أي محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي منحره وحيث يحل نحره وهو الحرم (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) يعني المستضعفين بمكة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي لم تعرفوهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي بالقتل وتوقعوا بهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي إثم وقيل : غرم الدية ، وقيل : كفارة قتل الخطأ ، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية. وقيل : هو أن المشركين يعتبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم.

والمعرة : المشقة يقول : لو لا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم به كفارة أو سيئة وجواب لو لا محذوف تقديره لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك لهذا السبب (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح وقيل دخولها (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي لو تميزوا المؤمنين من الكفار (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي بالسبي والقتل بأيديكم وقيل : لعذبنا جواب لكلامين أحدهما لو لا رجال. والثاني : لو تزيلوا. ثم قال : ليدخل الله في رحمته من يشاء يعني المؤمنين والمؤمنات في رحمته أي في جنته. قال قتادة : في الآية إن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) أي الأنفة والغضب وذلك حين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عن البيت ومنعوا الهدي محله ولم يقروا ببسم الله الرّحمن الرّحيم وأنكروا أن يكون محمد رسول

١٧٠

الله. وقيل : قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا ، فتحدث العرب أنهم دخلوا علينا رغما منا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فكانت هذه (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) التي دخلت قلوبهم (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : حتى لا يدخلهم ما دخلهم في الحمية فيعصون الله في قتالهم (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى).

قال ابن عباس : «كلمة التقوى لا إله إلا الله» وأخرجه الترمذي. وقال : حديث غريب. وقال علي وابن عمر : كلمة التقوى لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزهري : هي بسم الله الرّحمن الرّحيم (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) أي من كفار مكة (وَأَهْلَها) أي كانوا أهلها في علم الله ، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الخير والصلاح (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعني من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير.

قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ويحلقوا رؤوسهم فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا ، شق عليهم ذلك وقال المنافقون : أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا في العام المقبل.

وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال : «شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس؟ قال : أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فخرجنا نرجف فوجدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع الناس قرأ «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» فقال عمر : أهو فتح يا رسول الله؟ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم والذي نفسي بيده» ففيه دليل على أن المراد من الفتح هو صلح الحديبية ، وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل. وقوله : لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق ، أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد حق وصدق بالحق أي الذي رآه حق وصدق وقيل : يجوز أن يكون بالحق قسما لأن الحق من أسماء الله تعالى أو قسما بالحق الذي هو ضد الباطل وجوابه (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) وقيل : لتدخلن من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه فأخبر الله عزوجل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ذلك (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) قيل : إنما استثني مع علمه بدخوله تعليما لعباده الأدب وتأكيدا لقوله : «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله» وقيل : إن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. وقيل : لما لم يقع الدخول في عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ويأبون الصلح قال : لتدخلن المسجد الحرام لا بقوتكم وإرادتكم ولكن بمشيئة الله تعالى ، وقيل : الاستثناء واقع على إلا من لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك فهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع أنه لا يشك في الموت (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) أي كلها (وَمُقَصِّرِينَ) أي تأخذون بعض شعوركم (لا تَخافُونَ) أي من عدو في رجوعكم لأن قوله آمنين في حال الإحرام لأنه لا قتال فيه. وقوله : لا تخافون يرجع إلى كمال الأمن بعد الإحرام في حال الرجوع (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) يعني علم أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول وكان ذلك سببا لوطء المؤمنين والمؤمنات. وقيل : علم أن دخولكم في السنة الثانية ولم تعلموا أنتم فظننتم أنه في السنة الأولى (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي من قبل دخولكم الحرم (فَتْحاً قَرِيباً) يعني صلح الحديبية قاله الأكثرون. وقيل : هو فتح خيبر قوله عزوجل :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ

١٧١

رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) هذا البيان صدق الرؤيا وذلك أن الله تعالى لا يرى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يكون فيحدث الناس فيقع خلافه فيكون سببا للضلال فحقق الله أمر الرؤيا بقوله : «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق» وبقوله «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق» وفيه بيان وقوع الفتح ودخول مكة وهو قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي يعليه ويقويه على الأديان كلها فتصير الأديان كلها دونه (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي في أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه تسلية لقلوب المؤمنين وذلك أنهم تأذوا من قول الكفار لو نعلم أنه رسول الله ما صددناه عن البيت فقال الله تعالى : وكفى بالله شهيدا. أي : في أنه رسول الله ، ثم قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) أي هو محمد رسول الله الذي سبق ذكره في قوله أرسل رسوله. قال ابن عباس : شهد له بالرسالة ثم ابتدأ فقال (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني أصحابه المؤمنين (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أي غلاظ أقوياء كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي : متعاطفون متوادّون بعضهم لبعض كالولد مع الوالد. كما قال في حقهم : «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين» (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) يعني الجنة (وَرِضْواناً) أي أن يرضى عنهم. وفيه لطيفة وهو أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله تعالى والمرائي بعمله لا يبتغي له أجرا وذكر بعضهم في قوله : والذين معه يعني أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب رحماء بينهم عثمان بن عفان تراهما ركعا سجدا علي بن أبي طالب يبتغون فضلا من الله ورضوانا بقية الصحابة (سِيماهُمْ) أي علامتهم (فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) واختلفوا في هذه السيما على قولين : أحدهما : أن المراد في يوم القيامة قيل : هي نور وبياض في وجوههم يعرفون به يوم القيامة أنهم سجدوا لله في الدنيا وهي رواية عن ابن عباس. وقيل : تكون مواضع السجود في وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقيل : يبعثون غرا محجلين يوم القيامة يعرفون بذلك. والقول الثاني : إن ذلك في الدنيا وذلك أنهم استنارت وجوههم بالنهار من كثرة صلاتهم بالليل. وقيل : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع.

قال ابن عباس : ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه. والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن يعرفون به وقيل هو صفوة الوجه من سهر الليل ويعرف ذلك في رجلين أحدهما سهر الليل في الصلاة والعبادة والآخر في اللهو واللعب فإذا أصبحا ظهر الفرق بينهما فيظهر في وجه المصلي نور وضياء وعلى وجه اللاعب ظلمة. وقيل : هو أثر التراب على الجباه لأنهم كانوا يصلّون على التراب لا على الأثواب. قال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) يعني ذلك الذي ذكر صفتهم في التوراة وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ بذكر نعتهم وصفتهم في الإنجيل فقال تعالى : (وَمَثَلُهُمْ) أي صفتهم (فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي إفراطه قبل فراخه. قيل : هو نبت فما خرج بعده شطؤه (فَآزَرَهُ) أي : قوّاه وأعانه وشد أزره (فَاسْتَغْلَظَ) أي غلظ ذلك الزرع وقوي (فَاسْتَوى) أي تم وتلاحق نباته وقام (عَلى سُوقِهِ) جمع ساق أي على أصوله (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي يعجب ذلك الزرع زراعة وهو مثل ضربه الله عزوجل لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكتوب في الإنجيل أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون قال

١٧٢

قتادة : مثل أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكتوب في الإنجيل أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قيل الزرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشطء أصحابه والمؤمنون وقيل : الزرع هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شطأه أبو بكر فآزره عمر فاستغلظ عثمان فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب يعجب الزراع يعني جميع المؤمنين (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قيل : هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعد ما أسلم لا يبعد الله سرا بعد اليوم. وقيل : قوتهم وكثرتهم ليغيظ بهم الكفار. قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أصابته هذه الآية.

(فصل في فضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم)

(ق) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» (م).

عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «سأل رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الناس خير؟ قال : القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث». قوله : خير الناس قرني ثم الذين يلونهم يعني الصحابة ثم التابعين وتابعيهم والقرن كل أهل زمان قيل هو أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة سنة عن عبد الرّحمن بن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أبو بكر في الجنة وعمر بن الخطاب في الجنة وعثمان بن عفان في الجنة وعلي بن أبي طالب في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرّحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة». أخرجه الترمذي.

وأخرج عن سعيد بن زيد نحوه وقال : هذا أصح من الحديث الأول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه قال عمر فنعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم» أخرجه الترمذي مفرقا في موضعين ، أحدهما : إلى قوله أبو عبيدة بن الجراح ، والآخر إلى أبي ذر (خ).

عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد أحدا أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال : اثبت أحد أراه ضربه برجله فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان».

عن ابن مسعود : «عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : اقتدوا بالذين بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدى عثمان وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. (ق) عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه في جيش ذات السلاسل قال : فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة فقلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من؟ قال ثم عمر بن الخطاب فعد رجالا» عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار وأعتق بلالا من ماله رحم الله عمرا ليقولن الحق وإن كان مرا تركه الحق وما له من صديق. رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة ، رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. (م) عن زر بن حبيش قال : سمعت عليا يقول : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. عن. عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من أحد يموت من أصحابي بأرض إلا بعثه الله قائدا ونورا لهم يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقد روي عن أبي بريدة مرسلا وهو أصح. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وعن أبي هريرة نحوه أخرجه مسلم عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال رسول الله

١٧٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) لفظة من في قوله منهم لبيان الجنس لا للتبعيض. كقوله : فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، فيكون معنى الآية وعد الله الذين آمنوا من جنس الصحابة. وقال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة ورد الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه ولذلك لم يقل منه (مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) يعني الجنة. وقيل : إن المغفرة جزاء الإيمان فإن لكل مؤمن مغفرة والأجر العظيم جزاء العمل الصالح والله تعالى أعلم بمراده.

١٧٤

سورة الحجرات

(مدنية وهي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) من التقديم أي لا ينبغي لكم أن يصدر منكم تقديم أصلا. وقيل : لا تقدموا فعلا بين يدي الله ورسوله. والمعنى : لا تقدموا بين يدي أمر الله ورسوله ولا نهيهما. وقيل : لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه إشارة إلى احترام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد لأوامره ونواهيه والمعنى : لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قبل أن يفعله. وقيل : لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة واختلفوا في معنى الآية فروي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى أي : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن أناسا ذبحوا قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمروا أن يعيدوا الذبح. (ق) عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء» زاد الترمذي في أوله : قال خطبنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر وذكر الحديث.

وروي عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك أي لا تصوموا قبل نبيكم عن عمار بن ياسر قال : «من صام في اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح. وقيل في سبب نزول هذه الآية : ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه قدم وفد من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي. وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) حتى انقضت زاد في رواية فما كان عمر يسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه حتى يستفهمه أخرجه البخاري. وقيل : نزلت الآية في ناس كانوا يقولون : لو نزل في كذا أو صنع كذا وكذا ، فكره الله ذلك وقيل في معنى الآية لا تفتئتوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقيل في القتال وشرائع الدين : لا تقضوا أمرا من دون الله ورسوله (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في تضييع حقه بمخالفة أمره (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أي لأقوالكم (عَلِيمٌ) أي بأفعالكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢))

١٧٥

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) أي لا تجعلوا كلامكم مرتفعا على كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخطاب وذلك ، لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام. وقوله : لا تقدموا نهي عن فعل وقوله لا ترفعوا أصواتكم نهي عن قول (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ويعظموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ولا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا فيقول يا محمد بل يقولون يا رسول الله يا نبي الله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) أي لئلا تحبط. وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي بذلك. (ق) عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت أيشتكي؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى. قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هو من أهل الجنة.

زاد في رواية : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة مسلم وللبخاري نحوه. وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت؟ قال : هذه الآية أتخوف أن تكون أنزلت فيّ وأنا رفيع الصوت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخاف أن يحبط عملي وأن أكون من أهل النار. فمضى عاصم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلب ثابتا البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار فضربتها بمسمار. وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره قال اذهب فادعه فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس. فقال له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوك فقال اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك يا ثابت؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أرفع صوتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا فأنزل الله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤))

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الآية. قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض انكسار وانهزمت طائفة منهم فقال : أف لهؤلاء. ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلانا رجلا من المسلمين نزع درعي فذهب به وهو في ناحية من المعسكر عند فرس يستن في طيله وقد وضع على درعي برمته فأت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقل له : إن علي دينا حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق فأخبر الرجل خالدا فوجد الدرع والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا كأخي السرار. وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك فسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ) أي يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي

١٧٦

إجلالا له وتعظيما (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار ليخرج خالصه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ). قال ابن عباس : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري فلما علموا أنه توجه نحوهم ، هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجاءه بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما في أهله ، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجرة فعجلوا قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا. حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبريل عليه‌السلام فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ قالوا : نعم. قال سبرة : أنا لا أحكم إلا وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة ، فرضوا به ، فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد رضيت. ففادى نصفهم ، وأعتق نصفهم فأنزل الله عزوجل : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وصفهم بالجهل وقلة العقل. وقيل في معنى الآية : أكثرهم إشارة إلى من يرجع منهم عن ذلك الأمر ومن لا يرجع فيستمر على حاله وهم الأكثر.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) فيه بيان لحسن الأدب وهو خلاف ما جاءوا به من سوء الأدب وطلب العجلة في الخروج (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي الصبر لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء. وقيل : لكان حسن الأدب في طاعة الله وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا لهم : وقيل : نزلت الآية في ناس من أعراب تميم وكأن فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر فنادوا على الباب. ويروى ذلك عن جابر قال : جاءت بنو تميم فنادوا على الباب فقالوا : يا محمد اخرج علينا فإن مدحنا زين وذمنا شين فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين قالوا نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا جئنا نشاعرك ونفاخرك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت ، ولكن هاتوا. فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم فأجبه. فقام فأجابه وقام شاعرهم فذكر أبياتا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت : أجبه. فأجابه فقام الأقرع بن حابس فقال : إن محمد المؤتى له تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن شعرا وقولا ثم دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يضرك ما كان قبل هذا. ثم أعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكساهم وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) الآيات إلى قوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب منهم. وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعش في جنابه فجاؤوا فجعلوا ينادونه : يا محمد يا محمد فأنزل الله هذه الآيات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ

١٧٧

وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوع الوليد فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي له ما قبلناه من حق الله فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك ، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد. فوافاهم فسمع منهم أذان المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) يعني الوليد بن عقبة.

وقيل : هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهو أولى من حكم الآية على رجل بعينه ، لأن الفسوق خروج عن الحق ولا يظن بالوليد ذلك إلا أنه ظن وتوهم فأخطأ ، فعلى هذا يكون معنى الآية : إن جاءكم فاسق بنبإ ، أي بخبر ، فتبينوا. وقرئ : فتثبتوا ، أي : فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق (أَنْ تُصِيبُوا) أي كيلا تصيبوا بالقتل والسبي (قَوْماً بِجَهالَةٍ) أي جاهلين حاله وحقيقة أمرهم (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) أي من إصابتكم بالخطإ (نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي : فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه فإن الله يخبره ويعرفه حالكم فتفتضحوا (لَوْ يُطِيعُكُمْ) أي الرسول (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي مما تخبرونه به فيحكم برأيكم (لَعَنِتُّمْ) أي لأثمتم وهلكتم عن أبي سعيد الخدري «أنه قرأ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم قال : هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي جعله أحب الأديان إليكم (وَزَيَّنَهُ) أي حسنه وقربه منكم وأدخله (فِي قُلُوبِكُمْ) حتى اخترتموه لأن من أحب شيئا إذا طال عليه قد يسأم منه والإيمان في كل يوم يزداد في القلب حسنا وثباتا وبذلك تطيعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) قال ابن عباس : يريد الكذب (وَالْعِصْيانَ) جميع معاصي الله تعالى وفي هذه لطيفة ، وهو أن الله تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزين في القلب المحبب إليه. والإيمان الكامل : ما اجتمع فيه ثلاثة أمور : تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان. فقوله : وكره إليكم الكفر في مقابله.

قوله : حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وهو التصديق بالجنان والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان فكره إلى عبده المؤمن الكذب وهو الجحود وحبب إليه الإقرار بشهادة الحق والصدق وهو : لا إله إلا الله. والعصيان في مقابلة العمل بالأركان فكره إليه العصيان وحبب إليه العمل الصالح بالأركان ثم قال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) إشارة إلى المؤمنين المحبب إليهم الإيمان المزين في قلوبهم أي : أولئك هم المهتدون

١٧٨

إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق (فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي فعل ذلك بكم فضلا منه (وَنِعْمَةً) عليكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بكم وبما في قلوبكم (حَكِيمٌ) في أمره بما تقتضيه الحكمة وقيل عليم بما في خزائنه من الخير والرحمة والفضل والنعمة حكيم بما ينزل من الخير بقدر الحاجة إليه على وفق الحكم.

قوله عزوجل : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا). (ق) عن أنس قال : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فانطلق إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه ، فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما.

ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم فأصلحوا وكف بعضهم عن بعض. (ق) عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال : فسار حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبيّ. وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأصنام واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال : لا تغيروا علينا. فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذونا به في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دابته.

وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف. وقيل : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية فحبسها فيها ، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء معه قومه ، فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل الله عزوجل : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. وقيل : المراد من الطائفتين الأوس والخزرج. (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما (فَإِنْ بَغَتْ) أي تعدت (إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) أي إلى كتابه الذي جعله حكما بين خلقه. وقيل : ترجع إلى طاعته في الصلح الذي أمر به (فَإِنْ فاءَتْ) أي رجعت إلى الحق (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي الذي يحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله (وَأَقْسِطُوا) أي اعدلوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي في الدين والولاية ذلك أن الإيمان وقد عقد بين أهله من السبب والقرابة كعقد النسب الملاصق وإن بينهم ما بين الإخوة من النسب والإسلام لهم كالأب قال بعضهم :

أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) أي إذا اختلفا واقتتلا (وَاتَّقُوا اللهَ) أي فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (ق).

١٧٩

عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله تعالى يوم القيامة» والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

(فصل في حكم قتال البغاة)

قال العلماء : في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ويدل عليه ما روي عن علي بن أبي طالب ، وهو القدوة في قتال أهل البغي ، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين أمشركون هم؟ فقال : لا إنهم من الشرك فروا. فقيل : أمنافقون هم؟ فقال : لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل : فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا. والباغي في الشرع : هو الخارج على الإمام العدل فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم إماما فالحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام ويدعوهم إلى طاعته ، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمة وأصروا على البغي قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته. ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم نادى منادي على يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يقتل أسير ولا يذفف على جريح ، وهو بذال معجمة ، وهو الإجهاز على الجريح وتحرير قتله وتتميمه. وأتي علي يوم صفين بأسير فقال : لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين. وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس ومال فلا ضمان عليها قال ابن شهاب كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالا. أما من لم تجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة : بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم ، أو لم يكن لهم تأويل ، أو لم ينصبوا إماما ، فلا يتعرض لهم إذا لم ينصبوا قتالا ولم يتعرضوا للمسلمين فإن فعلوا ذلك فهم كقطاع الطريق في الحكم.

وروي أن عليا سمع رجلا يقول في ناحية المسجد : لا حكم إلا الله. فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل. لكم علينا ثلاثة : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) الآية نزلت في ثلاثة أسباب : السبب الأول : من أولها إلى قوله خيرا منهم. قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة ، أخذ أصحابه مجالسهم فظل كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد وكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا قام قائما كما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخطى رقاب الناس ثم يقول : تفسحوا تفسحوا. فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينه وبينه رجل فقال : تفسح. فقال له الرجل : أصبت مجلسا فاجلس. فجلس ثابت خلفه مغضبا ، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال : من هذا؟ قال أنا فلان. قال له ثابت : ابن فلانة وذكر أما له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيا فأنزل الله هذه الآية.

١٨٠