تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(٣٣))

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَ) أي أوجد (فِيهِما) أي في السموات والأرض (مِنْ دابَّةٍ).

فإن قلت كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة.

قلت الدبيب في اللغة المشي الخفيف على الأرض ، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفون بالدبيب كما يوصف به الإنسان ، وقيل : يحتمل أن الله تعالى خلق في السموات أنواعا من الحيوانات يدبون دبيب الإنسان (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) يعني يوم القيامة.

قوله عزوجل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الأوجاع والأسقام والقحط والغلاء والغرق والصواعق وغير ذلك من المصائب فبما كسبت أيديكم من الذنوب والمعاصي (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سخيلة قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وسأفسرها لكم يا علي (ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» وقال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها أو درجة لم يكن الله ليرفعه لها إلا بها (ق). عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة» (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين (فِي الْأَرْضِ) هربا يعني لا تعجزوني حيثما كنتم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قوله عزوجل : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) يعني السفن وهي السيارة (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي كالقصور وكل شيء مرتفع عند العرب فهو علم (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) أي التي تجري بها السفن (فَيَظْلَلْنَ) يعني السفن الجواري (رَواكِدَ) أي ثوابت (عَلى ظَهْرِهِ) أي ظهر البحر لا تجري (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وهذه صفة المؤمن لأنه يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))

(أَوْ يُوبِقْهُنَ) أي يغرقهن ويهلكهن (بِما كَسَبُوا) أي بما كسبت ركابها من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي من ذنوبهم فلا يعاقب عليها (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) يعني يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله تعالى ما لهم من مهرب من عذابه (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي من زينة الدنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ليس هو من زاد المعاد (وَما عِنْدَ اللهِ) أي من الثواب (خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

١٠١

والمعنى أن المؤمن والكافر يستويان في متاع الحياة الدنيا فإذا صارا إلى الله تعالى كان ما عند الله من الثواب خيرا وأبقى للمؤمن (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) يعني كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة وشبه ذلك (وَالْفَواحِشَ) يعني ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) يعني يكظمون الغيظ ويجهلون (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) يعني أجابوا إلى ما دعاهم إليه من طاعته (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) يعني المفروضة (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) يعني يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون ولا ينفردون برأي ما لم يجتمعوا عليه قيل.

ما تشاور قوم إلا هدوا إلى أرشد أمرهم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) يعني الظلم والعدوان (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) يعني ينتقمون من ظالمهم من غير تعد قال ابن زيد جعل الله تعالى المؤمنين صنفين صنف يعفون عمن ظلمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) وصنف ينتصرون من ظالمهم وهم الذين ذكروا في هذه الآية ، وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فإذا قدروا عفوا. وقيل : إن العفو إغراء للسفيه وقال عطاء : هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ثم مكنهم الله عزوجل في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم ثم بين الله تعالى أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال تعالى :

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤))

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة وقيل لأن الجزاء يسوء من ينزل به ، وقيل هو جزاء القبيح إذا قال أخزاك الله فقل له أخزاك الله ولا تزد وإذا شتمك فاشتمه بمثلها ولا تعتدوا وقيل هو في القصاص في الجراحات والدماء يقتص بمثل ما جنى عليه وقيل إن الله تعالى لم يرغب في الانتصار بل بين أنه مشروع ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى : (فَمَنْ عَفا) أي عمن ظلمه (وَأَصْلَحَ) أي بالعفو بينه وبين الظالم (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) قال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا من عفا ثم قرأ هذه الآية (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) قال ابن عباس : الذين يبدؤون بالظلم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي بعد ظلم الظالم إياه (فَأُولئِكَ) يعني المنتصرين (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي بعقوبة ومؤاخذة (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي يبدؤون بالظالم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يعملون فيها بالمعاصي (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ) أي لم ينتصر (وَغَفَرَ) تجاوز عن ظالمه (إِنَّ ذلِكَ) أي الصبر والتجاوز (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يعني تركه الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة التي أمر الله عزوجل بها وقيل إن الصابر يؤتي بصبره الثواب فالرغبة في الثواب أتم عزما (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) يعني ماله من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه أو يمنعه من عذابه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) يعني يوم القيامة (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) يعني أنهم يسألون الرجعة إلى الدنيا.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ

١٠٢

مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩))

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) أي خاضعين متواضعين (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) يعني يسارقون النظر إلى النار خوفا منها وذلة في أنفسهم ، وقيل ينظرون بطرف خفي أي ضعيف من الذل ، وقيل ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا والنظر بالقلب خفي (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) يعني بأن صاروا إلى النار. (وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني وخسروا أهليهم بأن صاروا لغيرهم في الجنة (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي وصول إلى الحق في الدنيا والجنة في العقبى فقد استدت عليهم طرق الخير (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي أجيبوا داعي الله يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا يقدر أحد على دفعه وهو يوم القيامة وقيل هو يوم الموت (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي ما لكم من مخلص من العذاب وقيل من الموت (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي ينكر حالكم وقيل النكير الإنكار يعني لا تقدرون أن تنكروا من أعمالكم شيئا (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي عن الإجابة (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي تحفظ أعمالهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي ليس عليك إلا البلاغ وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) قال ابن عباس : يعني الغنى والصحة (فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي قحط (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي من الأعمال الخبيثة (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي لما تقدم من نعمة الله تعالى عليه.

قوله عزوجل : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني له التصرف فيهما بما يريد (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لا يقدر أحد أن يعترض عليه في ملكه وإرادته (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) أي فلا يولد له ذكر (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أي فلا يولد له أنثى.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢))

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) أي يجمع بينهما فيولد له الذكور والإناث (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي فلا يولد له ولد ، وقيل هذا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فقوله يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا لم يولد له ذكر إنما ولد له ابنتان ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد له أربع بنين وأربع بنات ويجعل من يشاء عقيما يعني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لم يولد لهما وهذا على وجه التمثيل وإلا فالآية عامة في جميع الناس (إِنَّهُ عَلِيمٌ) أي بما يخلق (قَدِيرٌ) أي على ما يريد أن يخلق.

١٠٣

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) قيل في سبب نزولها : إن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونظر إليه فقال لم ينظر موسى إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام كما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده وهو وحي وكما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي يسمعه كلامه من وراء حجاب ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) يعني من الملائكة إما جبريل أو غيره (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) يعني يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب في الدنيا ويأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله تعالى في سورة النجم (إِنَّهُ عَلِيٌ) أي عن صفات المخلوقين (حَكِيمٌ) أي في جميع أفعاله.

قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ) أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) قال ابن عباس : نبوة ، وقيل : قرآنا لأن به حياة الأرواح ، وقيل : رحمة وقيل جبريل (ما كُنْتَ تَدْرِي) أي قبل الوحي (مَا الْكِتابُ) يعني القرآن (وَلَا الْإِيمانُ) اختلف العلماء في هذه الآية مع اتفاقهم على أن الأنبياء قبل النبوة كانوا مؤمنين فقيل معناه ما كنت تدري قبل الوحي شرائع الإيمان ومعالمه.

وقال محمد بن إسحاق عن ابن خزيمة الإيمان في هذا الموضع الصلاة دليله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) يعني صلاتكم ولم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار بالله تعالى لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قبل النبوة يوحد الله تعالى ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب وكان يتعبد على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم تتبين له شرائع دينه إلا بعد الوحي إليه (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) قال ابن عباس يعني الإيمان وقيل القرآن لأنه يهتدي به من الضلالة وهو قوله تعالى : (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) أي لتدعو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعني إلى دين الإسلام.

(صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

(صِراطِ اللهِ) يعني دين الله الذي شرعه لعباده (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) يعني أمور الخلائق في الآخرة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

١٠٤

سورة الزخرف

مكية وهي تسع وثمانون آية وثلاث وثلاثون كلمة (١) وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥))

قوله عزوجل : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أقسم بالكتاب وهو القرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة وقيل المبين يعني الواضح للمتدبرين وجواب القسم (إِنَّا جَعَلْناهُ) أي صيرنا هذا الكتاب عربيا وقيل بيناه وقيل سميناه وقيل وصفناه وقيل أنزلناه (قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يعني معانيه وأحكامه (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي في اللوح المحفوظ ، قال ابن عباس : أول ما خلق الله عزوجل القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق في الكتاب عنده ثم قرأ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) أي عندنا فالقرآن مثبت عند الله تعالى في اللوح المحفوظ (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أخبر عن شرفه وعلو منزلته ، والمعنى إن كذبتم يا أهل مكة بالقرآن فإنه عندنا لعليّ أي رفيع شريف ، وقيل على علي جميع الكتب حكيم أي محكم لا يتطرق إليه الفساد والبطلان.

قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) معناه أفنترك عنكم الوحي ونمسك عن إنزال القرآن فلا نأمر ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان وهو قوله تعالى : (أَنْ كُنْتُمْ) أي لأن كنتم (قَوْماً مُسْرِفِينَ) والمعنى لا نفعل ذلك قال قتادة والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله عزوجل عاد بعائدته وكرامته فكرره عليهم عشرين سنة أو ما شاء الله ، وقيل : معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين أي معرضين عنكم ، وقيل : معناه أفنطوي الذكر عنكم طيا فلا تدعون ولا توعظون وقيل أفنترككم فلا نعاقبكم على كفركم.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢))

__________________

(١) (قوله وثلاث وثلاثون كلمة) كذا بالأصل ولا يخفى ما فيه ا ه مصححه.

١٠٥

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني كاستهزاء قومك بك وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي أقوى من قومك قوة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي صفتهم والمعنى أن كفار قريش سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين من الخزي والعقوبة.

قوله عزوجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي ولئن سألت يا محمد قومك (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) يعني أنهم أقروا بأن الله تعالى خلقهما وأقروا بعزته وعلمه ومع إقرارهم بذلك عبدوا غيره وأنكروا قدرته على البعث لفرط جهلهم ثم ابتدأ تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) معناه واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها ولما كان المهد موضع راحة الصبي فلذلك سمى الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحة للخلق (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) يعني إلى مقاصدكم في أسفاركم (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بقدر حاجاتكم إليه لا كما أنزل على قوم نوح حتى أهلكهم (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أي بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً) أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي من قبوركم أحياء (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي الأصناف والأنواع كلها قيل إن كل ما سوى الله تعالى فهو زوج وهو الفرد المنزه عن الأضداد والأنداد والزوجية (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) يعني في البر والبحر.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨))

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) أي على ظهور الفلك والأنعام (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) يعني بتسخير المركب في البر والبحر (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي ذلل لنا هذا (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين وقيل ضابطين (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي لمنصرفون في المعاد (م) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد وإذا رجع قالهن وزاد فيهم آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» قوله وعثاء السفر : يعني تعبه وشدته ومشقته وكآبة المنظر وسوء المنقلب الكآبة الحزن والمنقلب المرجع وذلك أن يعود من سفره حزينا كئيبا أو يصادف ما يحزنه في أهل أو مال.

عن علي بن أبي ربيعة قال «شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على ظهرها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد لله ثلاث مرات ثم قال الله أكبر ثلاث مرات ثم قال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقلت يا أمير المؤمنين مم ضحكك قال رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل كما فعلت فقلت يا رسول الله من أي شيء ضحكت قال إن ربك يعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك» أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب.

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) يعني ولدا وهو قولهم الملائكة بنات الله لأن الولد جزء من الأب

١٠٦

ومعنى جعلوا هنا حكموا وأثبتوا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي لجحود نعم الله تعالى عليه (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) هذا استفهام إنكار وتوبيخ يقول اتخذ ربكم لنفسه البنات (وَأَصْفاكُمْ) أي أخلصكم (بِالْبَنِينَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي بالجنس الذي جعله للرحمن شبها لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد والمعنى أنهم نسبوا إليه البنات ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له وقد ولد لك بنت اغتم وتربد وجهه غيظا وأسفا وهو قوله تعالى : (ظَلَّ وَجْهُهُ) أي صار وجهه (مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) أي من الحزن والغيظ قيل إن بعض العرب ولد له أنثى فهجر بيت امرأته التي ولدت فيه الأنثى فقالت المرأة :

ما لأبي حمزة لا يأتينا

يظل في البيت الذي يلينا

غضبان أن لا نلد البنينا

ليس لنا من أمرنا ما شينا

وإنما نأخذ ما أعطينا

حكمة ربي ذي اقتدار فينا

قوله عزوجل : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) يعني أو من يتربى (فِي الْحِلْيَةِ) يعني في الزينة والنعمة والمعنى أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته ولو لا نقصانها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ثم بين نقصان حالها بوجه آخر وهو قوله (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) أي المخاصمة (غَيْرُ مُبِينٍ) للحجة وذلك لضعف حالها وقلة عقلها قال قتادة قلما تكلمت امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣))

(وَجَعَلُوا) أي وحكموا وأثبتوا (الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ) وقرئ عند (الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي حضروا خلقهم حين خلقوا وهذا استفهام إنكار أي لم يشهدوا ذلك (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) أي على الملائكة أنهم بنات الله (وَيُسْئَلُونَ) أي عنها ، قيل لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : وما يدريكم أنهم بنات الله ، قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا ، فقال الله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) ويسألون عنها في الآخرة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) يعني الملائكة وقيل الأصنام وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بذلك قال الله تعالى ردا عليهم.

(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي فيما يقولون (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يعني ما هم إلا كاذبون في قولهم إن الله رضي منا بعبادتها ، وقيل يكذبون في قولهم إن الملائكة إناث وإنهم بنات الله (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي يأخذون بما فيه (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على دين وملة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) يعني أنهم جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع آبائهم وتقليدهم من غير حجة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذه المقالة بقوله تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أغنياؤها ورؤساؤها (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي بهم.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي

١٠٧

فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١))

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى) أي بدين هو أصوب (مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) فأبوا أن يقبلوا (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ) أي بريء (مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) معناه أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله الذي خلقني (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي يرشدني إلى دينه (وَجَعَلَها) أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي لا إله إلا الله (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم وقيل لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه من الشرك إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) يعني كفار مكة (وَآباءَهُمْ) في الدنيا بالمد في العمر والنعمة ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) يعني القرآن وقيل الإسلام (وَرَسُولٌ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُبِينٌ) أي يبين لهم الأحكام وقيل بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والمعجزات وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوه فلم يفعلوا بل كذبوا وعصوا وسموه ساحرا وهو قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) يعني القرآن (قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) قوله عزوجل : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) معناه أنهم قالوا منصب النبوة منصب عظيم شريف لا يليق إلا برجل شريف عظيم كثير المال والجاه من إحدى القريتين وهما مكة والطائف واختلفوا في هذا الرجل العظيم قيل الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف وقيل عتبة بن ربيعة من مكة وكنانة بن عبد ياليل الثقفي من الطائف ، وقال ابن عباس : الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمير الثقفي قال الله تعالى ردا عليهم.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) معناه أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعوها حيث شاؤوا وفيه الإنكار الدال على تجهيلهم والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة ثم ضرب لهذا مثلا فقال تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا مالكا وهذا مملوكا وهذا قويا وهذا ضعيفا ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا فإذا عجزوا عن الاعتراض في حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها وذلتها فكيف يقدرون على الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض عبادنا بمنصب النبوة والرسالة والمعنى كما فضلنا بعضهم على بعض كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا ثم قال تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) يعني لو أننا سوينا بينهم في كل الأحوال لم يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره ، وحينئذ يقضي ذلك إلى خراب العالم وفساد حال الدنيا ولكنا فعلنا ذلك ليستخدم بعضهم بعضا فتسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش فهذا بماله وهذا بعمله فيلتئم قوام العالم وقيل يملك

١٠٨

بعضهم بما له بعضا بالملك (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) يعني الجنة (خَيْرٌ) يعني للمؤمنين (مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي يجمع الكفار من الأموال لأن الدنيا على شرف الزوال والانقراض وفضل الله ورحمته يبقى أبد الآبدين.

قوله عزوجل : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي لو لا أن يصيروا كلهم كفارا فيجتمعون على الكفر ويرغبون فيه إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيت الكفار أكثر الأسباب المفيدة للتنعم وهو قوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) يعني مصاعد ودرجات من فضة (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) يصعدون ويرتقون عليها (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً) أي من فضة (وَسُرُراً) أي ولجعلنا لهم سررا من فضة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً) أي ولجعلنا من ذلك زخرفا وهو الذهب وقيل الزخرف الزينة من كل شيء (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني أن الإنسان يستمتع بذلك قليلا ثم ينقضي لأن الدنيا سريعة الزوال والذهاب (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) يعني الجنة خاصة للمتقين الذين تركوا الدنيا.

عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو كانت الدنيا عند الله تزن جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

وعن المستورد بن شداد جد بني فهر قال «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله قال فإن الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا أحبّ الله عبدا حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ) أي يعرض (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي فلم يخف عقابه ولم يرد ثوابه وقيل يول ظهره عن القرآن (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) أي نسبب له شيطانا ونضمه إليه ونسلطه عليه (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يعني لا يفارقه يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى (وَإِنَّهُمْ) يعني الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) يعني يمنعونهم عن الهدى (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) يعني ويحسب كفار بني آدم أنهم على الهدى (حَتَّى إِذا جاءَنا) يعني الكافر وحده وقرئ جاءنا على التثنية يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة (قالَ) الكافر لقرينه الشيطان (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر القمران ولأبي بكر وعمر العمران ، وقيل : أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والقول الأول أصح (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) يعني الشيطان قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) يعني أشركتم (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) يعني لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف عنكم شيئا ، لأن كل واحد من الكفار والشياطين له الحظ الأوفر من العذاب وقيل لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ

١٠٩

مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤))

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب أنهم لا يؤمنون.

قوله عزوجل : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) أي بأن نميتك قبل أن نعذبهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) أي بالقتل بعدك (أَوْ نُرِيَنَّكَ) أي في حياتك (الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أي من العذاب (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي قادرون على ذلك متى شئنا عذبناهم ، وأراد به مشركي مكة وقد انتقم منهم يوم بدر وهذا يفيد التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه وعده الانتقام له منهم إما حال حياته أو بعد وفاته ، وهذا قول أكثر المفسرين وقيل عني به ما يكون في أمته وقد كان بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقمة شديدة في أمته ولكن أكرم الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تقربه عينه وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) يعني القرآن (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على دين مستقيم لا يميل عنه إلا الضال (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَذِكْرٌ) أي لشرف عظيم (لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) يعني عن حقه وأداء شكره وروى ابن عباس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل قال لقريش» (ق). عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» (خ) عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» وقيل القوم هم العرب والقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم ، وقيل ذكر لك أي ذلك شرف لك بما أعطاك الله من النبوة والحكمة ولقومك يعني المؤمنين بما هداهم الله تعالى به وسوف تسألون عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) اختلف العلماء من هؤلاء والمسؤولون فروي عن ابن عباس في رواية عنه «لما أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الله عزوجل له آدم وولده من المرسلين فأذن جبريل ثم أقام وقال يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من أرسلنا الآية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أسأل قد اكتفيت. وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسأل فلم يشك ولم يسأل فعلى هذا القول قال بعضهم هذه الآية نزلت ببيت المقدس ليلة أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال أكثر المفسرين معناه سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول ابن عباس في أكثر الروايات عنه ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن ومقاتل ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عزوجل.

١١٠

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي يسخرون (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي قرينتها التي قبلها (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس ، فكانت هذه آيات ودلالات لموسى عليه الصلاة والسلام وعذابا لهم وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي عن كفرهم (وَقالُوا) يعني لموسى عليه الصلاة والسلام لما عاينوا العذاب (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي العالم الكامل الحاذق وإنما قالوا ذلك له تعظيما وتوقيرا لأن السحر كان عندهم علما عظيما وصنعة ممدوحة وقيل معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما أخبرتنا عن عهده إليك أنا إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله أن يكشفه عنا (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي لمؤمنون فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا فذلك قوله سبحانه وتعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧))

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) يعني أنهار النيل الكبار وكانت تجري تحت قصره وقيل معناه تجري بين يدي جناني وبساتيني ، وقيل تجري بأمري (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي عظمتي وشدة ملكي (أَمْ أَنَا) أي بل أنا (خَيْرٌ) وليس بحرف عطف على قول أكثر المفسرين وقيل فيه إضمار مجازه أفلا تبصرون أم تبصرون ثم ابتدأ فقال أنا خير (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي ضعيف حقير يعني موسى (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي يفصح بكلامه للثغته التي كانت في لسانه وإنما عابه بذلك لما كان عليه أولا وقيل معناه ولا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد به أنه لا قدرة له على الكلام (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ) أي إن كان صادقا (أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) قيل إنهم كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته ، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيدا تجب طاعته (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي متتابعين يقارن بعضهم بعضا يشهدون له بصدقه ويعينوه على أمره.

قال الله تعالى : (فَاسْتَخَفَ) يعني فرعون (قَوْمَهُ) يعني القبط أي وجدهم جهالا وقيل حملهم على الخفة والجهل (فَأَطاعُوهُ) أي على تكذيب موسى (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) يعني حيث أطاعوا فرعون فيما استخفهم به (فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا وهو في حق الله وإرادته العقاب وهو قوله تعالى : (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) يعني جعلنا المتقدمين الماضين عبرة وموعظة لمن يجيء من بعدهم.

قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وذلك لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقد تقدم ذكره في سورة الأنبياء ومعنى الآية ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا وجادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبادة النصارى إياه (إِذا قَوْمُكَ) يعني قريشا (مِنْهُ) أي من المثل (يَصِدُّونَ) أي

١١١

يرتفع لهم ضجيج وصياح وفرح وقيل يقولون إن محمدا ما يريد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١))

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا وقيل معنى أم هو يعني عيسى والمعنى قالوا يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار فنحن قد رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ) يعني هذا المثل (لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي خصومة بالباطل وقد علموا أن المراد من قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) هؤلاء الأصنام (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي بالباطل. عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح ثم ذكر عيسى فقال تعالى : (إِنْ هُوَ) أي ما عيسى (إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) أي بالنبوة (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) أي آية وعبرة (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خلقه من غير أب (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) الخطاب لأهل مكة (مَلائِكَةً) معناه لو نشاء لأهلكناكم ولجعلنا بدلا منكم ملائكة (فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي يكونون خلفا منكم يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني ، وقيل يخلف بعضهم بعضا (وَإِنَّهُ) يعني عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) يعني نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها (ق). عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عادلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» وفي رواية أبي داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس بيني وبين عيسى نبي وإنه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون» (ق) عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم» وفي رواية فأمكم منكم قال ابن أبي ذؤيب فأمكم بكتاب ربكم عزوجل وسنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويروى أنه ينزل عيسى وبيده حربة وهي التي يقتل بها الدجال ، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام ليقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن وقيل في معنى الآية وإنه أي وإن القرآن لعلم للساعة أي يعلم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي لا تشكن فيها ، وقال ابن عباس : لا تكذبوا بها (وَاتَّبِعُونِ) أي على التوحيد (هذا) أي الذي أنا عليه (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

١١٢

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ) أي لا يصرفنكم (الشَّيْطانُ) أي عن دين الله الذي أمر به (إِنَّهُ) يعني الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي بالنبوة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي من أحكام التوراة وقيل من اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى وقيل الذي جاء به عيسى الإنجيل وهو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم عيسى في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي فيما آمركم به (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي اختلف الفرق المتحزبة بعد عيسى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة والمعنى أنها تأتيهم لا محالة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١))

(الْأَخِلَّاءُ) أي على الكفر والمعصية في الدنيا (يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي إن الخلة إذا كانت كذلك صارت عداوة يوم القيامة (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي إلا الموحدين المتحابين في الله عزوجل المجتمعين على طاعته ، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية قال : «خليلان مؤمنان وخليلان كافران مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب ، قال ويموت أحد الكافرين فيقول رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب».

قوله عزوجل : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) قيل إن الناس حين يبعثون ليس أحد منهم إلا فزع فينادي مناد يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيرجوها الناس كلهم فيتبعها (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) فييأس الناس كلهم غير المسلمين فيقال لهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي تسرون وتنعمون (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) جمع صحفة وهي القصعة الواسعة (وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو إناء مستدير بلا عروة (وَفِيها) أي في الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) عن عبد الرّحمن بن سابط قال «قال رجل يا رسول الله هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت وسأله آخر فقال يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل قال فلم يقل ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» أخرجه الترمذي (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ).

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١))

١١٣

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) ورد في الحديث «أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها» قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) يعني المشركين (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي لا يخفف عنهم (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من رحمة الله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي وما عذبناهم بغير ذنب (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي لأنفسهم بما جنوا عليها (وَنادَوْا يا مالِكُ) يعني يدعون مالكا خازن النار يستغيثون به فيقولون (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي ليمتنا بل لنستريح والمعنى توسلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيجيبهم بعد ألف سنة قاله ابن عباس ، وقيل بعد مائة سنة ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم» (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) قال هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك ومعنى ماكثون مقيمون في العذاب (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) يقول أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا بالحق (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) أي أحكموا أمرا في المكر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي محكمون أمرا في مجازاتهم إن كاد شرا كدتهم بمثله (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي ما يسرونه من غيرهم ويتناجون به بينهم (بَلى) نسمع ذلك كله ونعلمه (وَرُسُلُنا) يعني الحفظة من الملائكة (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) قوله عزوجل : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) معناه إن كان للرحمن ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الرّحمن فإنه لا شريك له ولا ولد له ، وقال ابن عباس : إن كان أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك. وقيل : معناه لو كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده بذلك ولكن لا ولد له ، وقيل : العابدين بمعنى الآنفين أي أنا أول الجاحدين المنكرين لما قلتم وأنا أول من غضب للرحمن أن يقال له ولد. وقال الزمخشري في معنى الآية : إن كان للرحمن ولد وصح وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق عليها محالا مثلها ثم نزه نفسه عن الولد فقال تعالى :

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨))

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عما يقولونه من الكذب (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) أي في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) أي في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) يعني هو الإله الذي يعبد في السماء وفي الأرض لا إله إلا هو (وَهُوَ الْحَكِيمُ) يعني في تدبير خلقه (الْعَلِيمُ) يعني بمصالحهم (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) قيل سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية وأراد بالذين يدعون من دونه آلهتهم ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة بقوله (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) لأنهم عبدوا من دون الله ولهم شفاعة وقيل المراد بالذين يدعون من دونه عيسى وعزير والملائكة فإن الله تعالى لا يملك لأحد من هؤلاء

١١٤

الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وهي كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله فمن شهدها بقلبه شفعوا له وهو قوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وقيل يعلمون أن الله عزوجل خلق عيسى وعزيرا والملائكة ويعلمون أنهم عباده (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) يعني أنهم إذا أقروا بأن الله خالق العالم بأسره فكيف قدموا عبادة غيره (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يعني يصرفون عن عبادته إلى غيره (وَقِيلِهِ يا رَبِ) يعني قوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاكيا الله ربه يا رب (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) قال ابن عباس : شكا إلى الله تعالى تخلف قومه عن الإيمان ، وقال قتادة : هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه.

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) يعني أعرض عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب (وَقُلْ سَلامٌ) معناه المتاركة ، وقيل معناه قل خيرا بدلا من شرهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يعني عاقبة كفرهم وفيه تهديد لهم وقيل معناه يعلمون أنك صادق ، قال مقاتل : نسختها آية السيف والله تعالى أعلم.

١١٥

سورة الدخان

مكية وهي سبع وقيل تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وأحد وثلاثون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥))

قوله عزوجل : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) يعني المبين ما يحتاج الناس إليه من حلال وحرام وغير ذلك من الأحكام (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) قيل هي ليلة القدر أنزل الله تعالى فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوما على حسب الوقائع في عشرين سنة ، وقيل هي ليلة النصف من شعبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب» أخرجه الترمذي. (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي مخوفين عقابنا (فِيها) أي في تلك الليلة المباركة (يُفْرَقُ) أي يفصل (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي محكم ، قال ابن عباس : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال : يحج فلان ويحج فلان وقيل هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ، وروى البغوي بسنده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى» وعن ابن عباس «إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر» (أَمْراً) أي أنزلنا أمرا (مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قبله من الأنبياء.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١))

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قال ابن عباس رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل وقيل أنزلناه في ليلة مباركة رحمة من ربك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) أي لأقوالهم (الْعَلِيمُ) أي بأحوالهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن الله رب السموات والأرض وما بينهما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) أي من هذا القرآن (يَلْعَبُونَ) أي يهزئون به لاهون عنه (فَارْتَقِبْ) أي يا محمد (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (ق) عن مسروق قال : كنا

١١٦

جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو مضطجع بيننا فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرّحمن إن قاصا عند باب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منها كهيئة الزكام فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم فإن الله عزوجل قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين» «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال اللهم سبعا كسبع يوسف» وفي رواية «لما دعا قريشا فكذبوه واستعصوا عليه قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرّحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم قال الله عزوجل : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) إلى قوله (عائِدُونَ) قال عبد الله فيكشف عذاب الآخرة يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فالبطشة يوم بدر وفي رواية للبخاري قالوا :

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) فقيل له إن كشفناه عنهم عادوا فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) إلى قوله (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) قوله حصت كل شيء بالحاء والصاد المهملتين أي أهلكت واستأصلت كل شيء (ق). عن عبد الله بن مسعود قال : «خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان قيل أصابهم من الجوع كالظلمة في أبصارهم وسبب ذلك أن في سنة القحط العظيم تيبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار ويظلم الهواء والجو وذلك يشبه الدخان وقيل هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون الرجل رأسه كالرأس الحنيذ يعني المشوي ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ، قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي كيف يتذكرون ويتعظون بهذه الحالة (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) معناه وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات الظاهرات والآيات البينات الباهرة (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي أعرضوا عنه (وَقالُوا مُعَلَّمٌ) أي يعلمه بشر (مَجْنُونٌ) أي تلقي إليه الجن هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) أي الجوع (قَلِيلاً) أي زمنا يسيرا قيل إلى يوم بدر (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي إلى كفركم (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) هو يوم بدر (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي منكم في ذلك اليوم ، وهو قول ابن مسعود وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس أنه يوم القيامة.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ

١١٧

جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء (قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يعني على الله وهو موسى بن عمران عليه‌السلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) يعني أطلقوا إلي بني إسرائيل ولا تعذبوهم (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) يعني على الوحي (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) يعني لا تتجبروا عليه بترك طاعته (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) يعني ببرهان بيّن على صدق قولي فلما قال ذلك توعده بالقتل فقال (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أن تقتلون وقال ابن عباس : تشتمون وتقولوا هو ساحر وقيل ترجموني بالحجارة (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي فاتركون لا معي ولا عليّ ، وقال ابن عباس : اعتزلوا أذاي باليد واللسان فلم يؤمنوا (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي مشركون (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي أجاب الله دعاءه وأمره أن يسري ببني إسرائيل بالليل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي يتبعكم فرعون وقومه (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ) أي إذا قطعته أنت وأصحابك (رَهْواً) أي ساكنا والمعنى لا تأمره أن يرجع بل اتركه على حالته حتى يدخله فرعون وقومه ، وقيل اتركه طريقا يابسا وذلك أنه لما قطع موسى البحر رجع ليضربه بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون بجنوده فقيل لموسى اترك البحر كما هو (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) يعني أخبر موسى بإغراقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما هو (كَمْ تَرَكُوا) أي بعد الغرق (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي مجلس شريف حسن (وَنَعْمَةٍ) أي وعيش لين رغد (كانُوا فِيها) أي في تلك النعمة (فاكِهِينَ) أي ناعمين وقرئ فكهين أي أشرين بطرين.

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))

(كَذلِكَ) أي أفعل بمن عصاني (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) يعني بني إسرائيل (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه.

عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ما من مؤمن إلا وله بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه» فذلك قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، قيل : بكاء السماء حمرة أطرافها ، وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا فقيل : أو تبكي ، فقال : وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل وقيل المراد أهل السماء وأهل الأرض (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي لم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها قوله عزوجل : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي من قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي جبارا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) أي علمه الله تعالى فيهم (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمنا بها عليهم وقيل ابتلاؤهم بالرخاء والشدة (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني

١١٨

مشركي مكة (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي لا موتة لنا إلا هذه التي نموتها في الدنيا ولا بعث بعدها وهو قوله (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بمبعوثين بعد موتتنا هذه (فَأْتُوا بِآبائِنا) أي الذين ماتوا قبل (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إنا نبعث أحياء بعد الموت قيل طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحيي لهم قصي بن كلاب ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) أم ليسوا خيرا من قوم تبع يعني في الشدة والقوة والكثرة قيل هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي تبعا لكثرة أتباعه وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعا لأنه يتبع صاحبه الذي قبله كما يسمى في الإسلام خليفة وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه.

عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا» وكان من قصته على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره ، وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا : كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق حتى حير الحيرة وبنى سمرقند ورجع من قبل المشرق فجعل طريقه على المدينة وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها ، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره فخرجوا لقتاله فكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل ، فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام فبينا هو كذلك إذ جاءه حبران عالمان من أحبار بني قريظة وكانا ابني عم اسم أحدهما كعب والآخر أسد حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له : أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإن هذه المدينة مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده بمكة وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت فيه يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم ، قال تبع ومن يقاتله وهو نبي قالا يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة ، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا له إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال أي بيت هذا قالوا بيت بمكة وإنما أراد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك فذكر الملك ذلك للأحبار ، فقالوا : ما نعلم لله في الأرض بيتا غير هذا البيت الذي بمكة فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك. وما ناوأه أحد قط إلا هلك فأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله فلما قالوا له ذلك أخذ أولئك النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم فلما قدم مكة شرفها الله تعالى نزل بالشعب شعب البطائح وكسا البيت الوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف ، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا له لا تدخلها علينا وأنت قد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال : إنه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم. قال تبع أنصفتم فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه وخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما يتلوان التوراة تعرق جباههما لم تضرهما النار ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينها فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن ، وقال الرياشي كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ممن آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة.

١١٩

وقال كعب ذم الله قومه ولم يذمه.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم الكافرة (أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ).

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦))

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي بالعدل وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قوله عزوجل : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي الذي يفصل الله فيه بين العباد (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) أي لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي يمنعون من عذاب الله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) يعني المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي في انتقامه من أعدائه (الرَّحِيمُ) أي بأوليائه المؤمنين ، قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) أي ذي الإثم وهو أبو جهل (كَالْمُهْلِ) أي كدردي الزيت الأسود (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) أي في بطون الكفار (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) يعني كالماء الحار إذا اشتد غليانه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في قوله كالمهل ؛ قال كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه» أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث رشدين سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه.

عن ابن عباس «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦))

قوله تعالى : (خُذُوهُ) أي يقال للزبانية خذوه يعني الأثيم (فَاعْتِلُوهُ) أي دافعوه وسوقوه بالعنف (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي إلى وسط النار (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) قيل إن خازن النار يضرب على رأسه فينقب رأسه من دماغه ثم يصب فيه ماء حميما قد انتهى حره ثم يقال له (ذُقْ) أي هذا العذاب (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي عند قومك بزعمك وذلك أن أبا جهل لعنه الله كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقول له خزنة النار هذا على طريق الاستخفاف والتوبيخ (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي تشكون فيه ولا تؤمنون به ثم ذكر مستقر المتقين (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي في مجلس أمنوا فيه من الغير (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) قيل السندس ما رق من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو معرب إستبر.

فإن قلت كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي.

قلت إذا عرب خرج من أن يكون أعجميا لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه وتغييره عن

١٢٠