تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

فإنه يمثل الفتنة التي يختبر فيها عباده ، هل يشكرونه عليها ليزدادوا إيمانا وعملا ، أم يكفرون بها ليبتعدوا عن مواقع الإيمان والطاعة والرخاء؟!

(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) في ما يمثله الذكر من الشعور بحضور الله في حياته ، أو من المراقبة الروحية التي تمنعه عن العصيان في فعل المحرمات وترك الواجبات ، (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي شديدا ، لأن هذا الإعراض يؤدي به إلى الإعراض عن طاعة الله في أوامره ونواهيه ، مما يقتضيه الوقوع في دائرة غضب الله وسخطه.

* * *

١٦١

الآية

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨)

* * *

المساجد لله

ربما كان هذا من تتمة كلام الجن في ما يريدون أن يعبروا به عن توحيد الله ، وربما كان من كلام الله الذي يتدخل في هامش القصة ليقرر للناس هذه الحقيقة.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) الظاهر أن المراد بالكلمة الأمكنة التي يتخذها الناس أمكنة للعبادة في ما اصطلح عليه في الإسلام باسم المساجد ، فلا مجال لمشاركة غير الله فيها ، لأن طبيعة العبادة من مختصات الله الذي لا بد للناس من أن يوحّدوه في العقيدة ، (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فلا ترفعوا فيه إلا اسمه ، بكل الأساليب التي تتمثل فيها الأسماء والأوضاع التي قد يستعملها الناس فيمن يحبونه أو يقدّسونه ، فيرتفعون به إلى مستوى قريب من مستوى المثالية ،

١٦٢

إلى بعض الصفات التي ترتفع عن المستوى البشري ، أو بالقيام ببعض الطقوس المشابهة لطقوس عبادة الله ، مما يجعل الدعوات تتجه إلى هؤلاء كما تتجه إلى الله بطريقة قد لا تحمل في داخل العقيدة معنى الألوهية ، ولكنها تستغرق في أجوائها.

وهناك رواية تتجه بالآية اتجاها آخر ، وذلك بأن يكون المراد بالمساجد مواضع السجود ، وهي أعضاء السجود التي يسجد عليها وهي : الجبهة والكفان والركبتان وأصابع الرجلين ، وهي الرواية المروية عن الإمام محمد الجواد عليه‌السلام عند ما سأله المعتصم عن السارق من أيّ موضع يجب أن يقطع؟ فقال : «إن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ، فيترك الكف ، قال : وما الحجة في ذلك؟ قال : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع (١) أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تبارك وتعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وما كان لله لا يقطع ، قال الراوي : فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف» (٢). ونقل ذلك أيضا عن سعيد بن جبير والفراء والزجاج ، وعلى هذا فيكون المعنى أن أعضاء السجود تختص بالله تعالى فاسجدوا بها له لا لغيره ، ولكن هذه الرواية ضعيفة السند ، فلا حجة فيها.

* * *

__________________

(١) الكرسوع : طرف الزند الذي يلي الخنصر النّاتئ عند الرّسغ.

(٢) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : الأولى ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ١٦ ، ج : ٥٠ ، ص : ٤٢٤ ، باب : ٢٤ ، رواية : ٧.

١٦٣

الآيات

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) (٢٤)

* * *

معاني المفردات

(لِبَداً) : اللبد ـ بالكسر فالفتح ـ جمع لبدة بالضمة فالسكون : المجتمعة المتراكمة.

(يُجِيرَنِي) : إعطاء الجوار. وحكمه : حماية المجير للجار ، ومنعه ممن يقصده بسوء.

(مُلْتَحَداً) : اسم مكان ، وهو المكان الذي يعدل وينحرف إليه للتحرز من الشر. وقيل : المدخل.

* * *

١٦٤

لا أملك لكم ضرا ولا رشدا

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) وهو رسول الله (يَدْعُوهُ) أي يدعو به في صلاته أو في غيرها (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي كان المشركون يتجمعون حوله جماعات جماعات ، تماما كما هي اللبد الطبقات المتجمعة المتراكمة ، ليوقعوا الأذى به في إنكارهم عليه ، على أساس أن يكون هذا من قول الجن لقومهم في ما شاهدوه من سلوك المشركين العدواني ضد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أمّا إذا كان قولا ابتدائيا من الله ، فيمكن أن يكون حكاية عن الجن في اندفاعهم والتصاق بعضهم ببعض عند سماعهم القرآن ، كما يمكن أن يكون حكاية عن المشركين ، والله العالم.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) فهو المقصد لكل داع في كل ابتهالاته الروحية ، وفي حاجاته العامة والخاصة ، لأنه المهيمن على الأمر كله ، فلا أمر لغيره معه ، (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) لأن كل الذين يزعمهم الناس شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فلا معنى لاعتبارهم آلهة على أيّ مستوى من ذلك.

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) في ما يمكن أن يحصل لكم من ضرر أو نفع ، لأنني بشر مثلكم لا أملك أيّة قدرة بعيدا عن قدرة البشر ، فلا أتميز عنكم بشيء ، فلست أتقدم إليكم من موقع القدرات الخارقة المعجزة التي تضغط عليكم بطريقة غير عادية ، وليس من شأن الأنبياء أن يكونوا كذلك ، لأن مهمتهم لا تفرض عليهم هذا المستوى من القوة المادية الخارقة.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إذا أراد الله بي سوءا في أيّ موقع من مواقع الحياة ، (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي مكانا منغلقا أحترز به من عقوبته ، أو أجد فيه مفرّا من قدرته.

* * *

١٦٥

المهمة الموكولة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) فهو الملجأ الذي ألجأ إليه لأكون قريبا من رحمته ، فهذه هي الفرصة الوحيدة للنجاة من عقابه والحصول على ثوابه ، وهذه هي مهمتي الأولى والأخيرة التي كلفني بها لأؤديها بالوسائل البشرية التي أملكها في قدراتي الخاصة ، بالأساليب الحكمية التي تفتح عقولكم على أفكارها ، وقلوبكم على مواقع الشروق الروحي فيها.

وإذا كانت هذه هي المهمة الموكولة إليّ من الله ، فلا خيار لي إلا أن أقوم بها من موقع المسؤولية الملقاة على عاتقي ، ليبقى لكم بعد ذلك اختيار السير معي في خطها المستقيم ، والاستسلام لله في رحاب طاعته وفي مواقع رضاه ، فذلك وحده هو الذي يدخلكم جنته ويخلصكم من عقابه ، لأنه الملجأ الوحيد لكم ، كما كان البلاغ الذي يمثل معنى الطاعة في موقفي هو الملجأ الوحيد لي للقوّة وللنجاة.

* * *

جزاء العاصين

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) وينحرف عن خط رسالاته ، ويتمرد على أوامره ونواهيه (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جزاء على ذلك.

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) يوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) في مشاهد القيامة التي لا يملك أيّ واحد منهم أيّ موقع للقوة مما كانوا يستعرضونه في الدنيا في مواجهتهم للأنبياء ، في كثرة العدد ، وسعة الجاه ، (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) عند ما يقف الرسول والمؤمنون معه في ذلك الموقف العظيم ، وهم في الموقع الكبير من القوّة التي ينطلقون فيها من نصر الله الذي هو كل شيء بالنسبة إلى عباده المؤمنين.

* * *

١٦٦

الآيات

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨)

* * *

معاني المفردات

(أَمَداً) : الغاية التي ينتهي إليها الشيء.

(يُظْهِرُ) : الإظهار : الإعانة والتسليط.

(رَصَداً) : الرصد : المراقب للأمر ، الحارس له. والرصد : الراصد ، يطلق على الواحد والجماعة ، وهو في الأصل مصدر.

* * *

١٦٧

الغيب من اختصاص الله

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) من أمر الآخرة التي تواجهون فيها الموقف الحاسم بين يدي الله (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي غاية ينتهي إليها في ما يعلمه من غيب الآخرة (عالِمُ الْغَيْبِ) الذي يملك معرفة الغيب كله ، كما يملك معرفة الحسّ كله لأنه هو الخالق لذلك ، فلا يغيب عنه من أمر خلقه شيء ، ولا غيب بالنسبة إليه ، بل هو الحضور المطلق في كل الأشياء بدقائقها الخفية والظاهرة.

(فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) من خلقه ، لتكون لهم المعرفة الغيبية في ما يريد الله أن يختص به من علم الدنيا والآخرة مما لا يملك الناس وسائل معرفته.

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فإنه يلقي إليه بالوحي الذي هو من عالم الغيب ، كما يلقي إليه ما يتوقف عليه من الأمور التي قد يحتاج إليها في أمر الرسالة. ولكن هل يجعل لديه ملكة العلم بالغيب ، حتى إذا أراد علم شيء علمه ، أو يحدّد له بعض الأشياء بشكل خاص تفصيليّ ، أو يلهمه علم ما يحتاج إليه في بعض حالات الضرورة أو التحدي؟

هناك وجوه عديدة في المسألة ، وقد يأخذ بكل وجه قائل معيّن ، ولكن الظاهر من الآيات القرآنية أن المسألة ليست مسألة ملكة في داخل شخصية الرسول ، بل هي علم من ذي علم ، يحدّد الله له فيها خصوصيته في نطاق الرسالة لا في نطاق الذات. ولعلّ أبلغ آية دالة على ذلك هو قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف : ١٨٨] ، مما يوحي بأن النبي لا يملك علم الغيب الذي يقيه من مكاره الدهر من مرض أو

١٦٨

بلاء ونحوهما ، أو الذي يطلعه على مواقع الخير ، لأنه لو كان كذلك لاستطاع أن يتفادى السوء عن نفسه ، أو يجلب الخير لها ، وليس معنى ذلك أن النبيّ ليس في مستوى المعرفة الغيبية في ما يمكن أن يمنحه الله من ملكاته القدسية وفيوضاته الربانية ، ولكن قد لا تكون لذلك أيّة ضرورة في ما هي المهمة الموكولة إليه التي يراد من خلالها تأكيد عنصر البشرية فيه ، بما لا يتنافى مع طبيعة رسالاته ، ولا يعتبر مخالفا لصفة الكمال العملي والروحي في ما ينبغي أن تتّصف به شخصيته كنبيّ مرسل ، لأن الكمال في هذا المجال من الأمور النسبية في الدائرة البشرية من خلال القدرات الطبيعية فيها ، فلا بد من ثبوت أيّة صفة غير بشرية من خلال النصوص القطعية التي تثبت ذلك ، لنؤمن بها في هذه الدائرة الخاصة.

وقد يلاحظ المتأمّل في القرآن أن الآيات تؤكد دائما على جانب الوحي كفارق بين الناس وبين النبي ، كما تثير مسألة عجزه الذاتي عن القيام بكل الأمور الخارقة للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة في طبيعتها القريبة من مواقع التحدي الذي يجتذب ذلك ، للمحافظة على شخصية الرسالة وفاعليتها في المجتمع. كما أن هناك نقطة مهمة في سيرته ، وهي أنه لم يعهد عنه التحدث بالمغيّبات في مجتمع المسلمين في ما يتعلق بشؤونهم العامة والخاصة لأن رسالته لم تحتج إلى ذلك ، خلافا لما أخبر به القرآن عن عيسى عليه‌السلام.

* * *

رعاية الله لرسوله

(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ربما كان هذا شاهدا على أن الغيب الذي يظهر الله رسوله عليه هو الوحي الذي يمثل حالة غيبيّة بلحاظ طبيعته وطبيعة الملائكة الذين ينزلون به ، وطبيعة الأجواء المحيطة بذلك كله ، وبعض المفاهيم القرآنية المتصلة بالغيب في ما يتصل بالدنيا والآخرة. وهذا

١٦٩

هو الذي يضع الله له الرصد الذي يحفظه من بين يديه ومن خلفه لحمايته من الضياع ومن التحريف ومن الخطأ ، ليكون ذلك أساسا في الرقابة الدائمة التي تحمي الرسول في وعيه للرسالة ، وقدرته على إبلاغها ، وتحمي الرسالة من كل زيادة أو نقصان أو تحريف في ما يمكن أن يعرض لها من الطوارئ والعوارض المتنوعة في ذلك كله.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) في ما تثيره كلمة العلم من ظهور ذلك باعتباره سببا من أسباب العلم العادي للأشياء ، لا بمعنى توقف علم الله على ذلك (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) في ما يملكونه في داخلهم وفي خارج حياتهم ، مما يتصل بهم أو يحيط بأوضاعهم المتصلة بحركتهم في حركة الرسالة (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) في ما يحصيه الله من أعمال رسله بكل مفرداتها الجزئية والكلية ، وبكل الحالات النفسية التي يعيشها هؤلاء الرسل ، وبكل المواقف الجادّة في ساحة الدعوة أو في ساحة الجهاد.

وهكذا نرى أن الله يرعى رسوله ويراقبه ويحيط بما لديه ، ويحصي كل شيء عليه ، في ما يوحي به ذلك من معنى المسؤولية في كل حياة الرسول المتصلة برسالته في مواقفه الرسالية ، وفي نوازعه الذاتية ، لنستوحي منها الرقابة الدائمة على الدعاة إلى الله ، التابعين للرسول في خط الدعوة ، والسائرين على خطه في خط الجهاد في سبيل الله.

وقد فسر بعض المفسرين الآية بمعنى آخر ، فقد جاء في مجمع البيان أن «الرصد الطريق ، أي يجعل له إلى علم ما كان قبله من الأنبياء والسلف وعلم ما يكون بعده طريقا»(١). وما ذكرناه أقرب إلى الجو العام للسياق في السورة والله العالم.

وقد ذكر في تفسير قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أن المراد به

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٥ ، ص : ٥٦٣.

١٧٠

لا يختص بما يتعلق بالرسول ، بل يشمل كل شيء ، فالله قد «أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل» (١) ، وهذا ما رووه عن ابن عباس ، وقيل : «عدّ جميع المعلومات المعدومة والموجودة عدّا فعلم صغيرها وكبيرها ، وقليلها وكثيرها ، وما يكون ، وما لا يكون ، وما كان وما لم يكن ، وغير ذلك من الوجوه التي قد تكون مقصودة ، وقد يكون المقصود جميع الأشياء بحيث يشمل الوجوه كلها.

وهكذا تطوف بنا هذه السورة في أكثر من موضوع ، وفي أكثر من حقيقة إيمانية ، مما يمنحنا التحديد لكثرة من المفاهيم الإسلامية حول عدد من القضايا المرتبطة بالعقيدة والوجود وحركة الرسالة في الحياة.

* * *

__________________

(١) (م. س) ، ج : ١٠ ، ص : ٥٦٤.

١٧١
١٧٢

سورة المزمّل

مكيّة

وآياتها عشرون

١٧٣
١٧٤

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية هي من إحدى السور الأولى النازلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدايات الدعوة ، لتشد عزيمته على مواجهة المصاعب التي تفرضها الظروف القاسية في طريق الدعوة ، وذلك من خلال التعبئة الروحية التي تتمثل في قيام الليل وقراءة القرآن وذكر الله ، ليكون اللقاء بالله وسيلة من وسائل الشعور العميق بالحضور الإلهي في وجدانه ، مما يجعله في مستوى الإحساس بالقوّة أمام الناس الذين يحاولون زرع الخوف في نفس الداعية بما يثيرونه في حياته من التهاويل المرعبة ، ومن الاتهامات الباطلة بالكلمات غير المسؤولة التي يراد منها إسقاط روحه وإضعاف عزيمته.

وفي هذا الجو ، يطلق الله التهديد للمكذبين أولى النعمة الذين طغت بهم نعمتهم في المال والجاه ، فدفعتهم إلى الضلال والإضلال ، ويؤكد الله لهم أنه لن يهملهم طويلا ، وبذلك كانت هذه السورة من السور التي تريد أن تفتح قلوب الناس على الله ، ليتذكروا مقامه وموعد الوقوف بين يديه ، ليدفعهم ذلك إلى السير على الخط المستقيم.

١٧٥

وقد كان اسم «المزّمّل» الذي هو عنوان السورة مأخوذا من الآية الأولى التي بدأ بها الخطاب للنبي بهذا العنوان الذي يوحي بطبيعته بالاسترخاء والنوم ، فكانت السورة بمثابة هزّة روحية رسالية من أجل أن ينطلق للقيام بين يدي الله في الليل لعبادته واستلهام القوّة منه ، وللدعوة إلى دينه ، وللصبر على نتائج ذلك في ما يحدث له من مشاكل وتحديات من المجتمع الكافر المشرك الذي يواجهه بكل قسوة.

* * *

١٧٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٩)

* * *

معاني المفردات

(الْمُزَّمِّلُ) : بتشديد الزّاي والميم ، وأصله المتزمل ، اسم فاعل من التزمل بمعنى التلفف بالثوب لنوم ونحوه.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) : ترتيل القرآن : تلاوته بتبيين حروفه على تواليها. وقد يكون المراد هنا بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة ، أو المراد به الصلاة نفسها ، حيث عبّر سبحانه وتعالى عن الصلاة بنظير هذا التعبير ، كما في قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨].

(ثَقِيلاً) : الثقل : كيفية جسمانية ، من خاصته أنه يشق حمل الجسم

١٧٧

الثقيل ونقله من مكان إلى مكان. وربما يستعار للمعاني ، إذا شقّ على النفس تحملها أو لم تطقها. فربما أضيف إلى القول من جهة معناه ، فعدّ ثقيلا لتضمنه معنى يشق على النفس إدراكه ، أو لا تطيق فهمه ، أو تتحرج من تلقيه ، كدقائق الأنظار العلمية إذا ألقيت على الأفهام العامة ، أو لتضمنه حقائق يصعب التحقق بها ، أو تكاليف يشق الإتيان بها والمداومة عليها ، على ما في الميزان (١).

(ناشِئَةَ) : إما مصدر كالعاقبة والعافية بمعنى النشأة وهي الحدوث والتكوّن ، وإمّا اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه.

(سَبْحاً) : المشي السريع في الماء ، والسبح الطويل في النهار : كناية عن الغور في مهمات المعاش وأنواع التقلب في قضاء حوائج الحياة.

(وَتَبَتَّلْ) : التبتّل : الانقطاع إلى الله. وفي مرويات الأئمة عليهم‌السلام أن التبتل هو رفع اليد إلى الله والتضرع إليه.

(تَبْتِيلاً) : مفعول مطلق ظاهرا. وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وتبتل إليه تبتلا ، فالعدول إلى التبتيل ، قيل : لتضمين تبتل معنى بتل ، والمعنى : وقطّع نفسك من غيره إليه تقطيعا ، أو احمل نفسك على رفع اليد إليه والتضرع حملا ، وقيل : لمراعاة الفواصل (٢).

(وَكِيلاً) : الوكيل : هو من يقوم مقام النفس ، بحيث تقوم إرادة الوكيل مقام إرادة الموكل ، وعمله مقام عمله ، فاتخاذه تعالى وكيلا هو أن يرى الإنسان الأمر كله له وإليه تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٦٧ ـ ٦٨.

(٢) (م. ن) ، ج : ٢٠ ، ص : ٧٢.

١٧٨

قيام الليل تمهيدا للمواجهة

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) التزمّل هو التلفّف بثوب في حالة النوم ونحوه ، وهو كناية عن القعود والاسترخاء في أجواء الوضع الذاتي الذي يدفع الإنسان للاتقاء من الحر أو البرد ، وللسكون في مواقعه حذرا مما قد يحدث له من مشاكل وأحداث. وقد جاء هذا النداء ، وما يتبعه من الخطاب ، في بداية الوحي للإيحاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الوقت قد حان للانطلاق بعيدا عن مواقع الهدوء في الحركة أو الإخلاد للراحة ، لأن الرسالة تفرض الدخول إلى ساحة المواجهة في خط الصراع مع المشركين.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) في عبادة الله التي تعيش هدوء الليل الساجي الذي تصفو فيه الروح ، ويرقّ القلب ، ويشرق الفكر ، ويتروّح الإحساس ، فترتفع الروح إلى الله في لقاء روحيّ خاشع يشد الإنسان إلى ربّه ، فيلتقي بمواقع رحمته ومواضع رضاه ، وينفتح على الإحساس بالقوّة بفضل الارتباط بالله صاحب القوّة المطلقة التي هي من صفات الله ، وهذا ما يشعر كل المتعبدين له ، والخاشعين له ، والمرتبطين بمواقع القرب في دينه ، بأنهم في مركز القوّة الكبير لاعتمادهم على مصدر القوّة لكل شيء يوحي بالقوّة في الدنيا على مستوى الوجود كله.

وقد كانت المهمة أن يقوم نصف الليل على أن تكون كلمة (نِصْفَهُ) بدلا من الليل ، أو ينقص منه شيئا ، تبعا للحالة الصحية أو نحوها التي تفرض عليه الحاجة إلى الراحة بالنوم وغيره ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) إذا وجد نشاطا في جسده ، وعزيمة قويّة في روحه ليتجاوز نصف الليل في حركة العبادة ، لأن الله يريد للإنسان أن يعبده في نشاط الجسد وإقبال القلب وحيويّة الروح ، حتى لا تتحوّل العبادة إلى عبء ثقيل متعب ، أو حالة جامدة لا تتجاوب الروح معها ، ولعلّ هذا ما جعل المسألة تقف عند نصف الليل أو تنقص منه ، أو تتجاوزه.

١٧٩

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) سواء في الصلاة أو في غيرها ، لأن قراءة القرآن تدخل في المنهج التربوي الإسلامي الذي يريد الله ـ من خلاله ـ للإنسان المسلم أن يرتبط بالوحي في مفاهيم العقيدة والشريعة ، وفي حركة الدعوة والجهاد ، ليصوغ ذاته صياغة إسلامية كاملة ، بحيث لا يكون في داخله شيء لغير الإسلام ، ولا يكون ذلك إلا بالاستغراق في كل أجواء الوحي وآفاق العبادة ، ليرتفع به الوحي إلى رحاب الله في حركة الوجود من حوله ، وتطوف به العبادة في أجواء الروح التي تحلّق نحو الله لتلتقي به ، في عروجها إليه من خلال المعرفة الواعية المنفتحة على كل صفات الكمال والجلال والجمال في ذاته.

والمراد بترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه ، وذلك بمدّ الصوت به وتجويده بطريقة خاشعة متوازنة لا تحمل أجواء التغنّي ، ولا ميوعة التنغيم.

وقد جاء في الدر المنثور : «أخرج العسكري في المواعظ عن علي عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قول الله : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال : بيّنه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ، ولا تهذّه هذّ (١) الشّعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (٢).

وجاء فيه : «أخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي الناس أحسن قراءة؟ قال : الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله» (٣).

وعلى ضوء ذلك ، تؤكد التربية الإسلامية في قراءة القرآن على القراءة الهادئة الحلوة الخاشعة التي تفسح المجال للكلمة أن تنغرس في القلب ، وللفكرة أن تتعمق في الوجدان ، وللخشوع أن يهز الكيان كله ، حتى ليحسّ

__________________

(١) هذّ القرآن يهذّه هذا : أسرع في قراءته وقطعه.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٣١٤.

(٣) (م. ن) ، ج : ٨ ، ص : ٣١٤ ـ ٣١٥.

١٨٠